هموم منهجية (4)

هموم منهجية (4)

من أبرز تقريرات الإمام ابن القيم رحمه الله ما رَقَمَه في "إعلام الموقعين" بقوله: "ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفَهم: أحدهما: فَهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علمِ حقيقةِ ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط به علمًا، والنوع الثاني: فَهم الواجب في الواقع، وهو فَهم حُكْم الله الذي حَكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يُطبق أحدهما على الآخر"[1].

هذا النقل من العلَّامة ابن القيم ما قصدنا بسوقه بيانَ مسائل في الفقه وأصوله، وما يتعلق بها من مناهج أصولية استدلالية؛ وإنما مقصودُنا به التنبيهُ على إشكالية مستحكمة في مناهجنا الشرعية في غالب مؤسَّساتنا التعليمية؛ معاهد وجامعات، وهي تعد واحدًا من همومنا المنهجية التي يلزم بثُّها بين أيدي النُّخَب العلمية والفكرية المختصَّة، ولا شك أن هذا الهم لا يبتعد كثيرًا عن الهم الذي بثَثْناه في الحلقة السابقة من همومنا المنهجية، بل يعد مُكملًا له من زاوية أخرى تمثل نِتاجًا لسياسات العَزْل الممنهجة، التي مارسها المستشرقون والمستغربون على حد سواء بحق الشريعة وعلومها في سياقاتها التعليمية والتربوية، علمًا أن غايتنا في أدنى درجاتها استفزازُ العقول الواعية؛ بأن هناك إشكالية في مناهجنا، يَلزَم الوقوفُ عندها، وإعادة النظر في مضامينها.

فهذه المناهج ما عادت تفي في غالبها بمقتضيات واقع الأمة المعاصر، وما تواجهه من أزمات وإشكاليات، بمختلف أبعادها ومظاهرها، ولا يعدو (ما يُحصِّله المتخرِّجُ) كونَه مجموعةً من المعارف والمعلومات الشرعية المَحْضَة، التي يتم تلقينُها للطالب في مراحل دراسته، عاريًا عن القدرة والاستطاعة في توظيفها في قراءة وتحليل أزمات الواقع المعاصر، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن الإشكال ليس في المعارف التي يُلقَّنها الطالب؛ وإنما في منهجية الفَهم عند اقتران الحكم بعوارض التنزيل، وهذا الذي نلمسه في أثناء كلام ابن القيم؛ حيث اشترط لإحسان الفتوى والحكم - سواء من المفتي أو الحاكم (القاضي) - معرفةَ الواقع بأماراته وعلاماته وقرائنه، وهي إشارةٌ ظاهرة إلى منهجية الاستقراء والإحصاء، التي يلزم اتِّباعُها في بحث مشكلةٍ أو أزمةٍ ما في الواقع المعيش، وهذا الفهم لم يكن بعيدًا عن العلماء في الصَّدر الأول والذي تَلاه من مراحل زمنية؛ فهذا الإمام البخاري رحمه الله يُترجم في صحيحه: "باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقصُر فَهم بعض الناس عنه، فيَقَعُوا في أشد منه"، تعليقًا على حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، لولا قومُك حديثٌ عهدُهم بكفرٍ، لنقضْتُ الكعبة؛ فجعلْتُ لها بابين: بابٌ يَدخُل الناسُ، وبابٌ يَخرُجون))[2].

وما يستلزمه فَهمُ الواقع - فيما يظهر لنا - بِناءُ مناهج شرعية، مقرونة بعلوم اجتماعية وكونية، لا تأتي على علوم التخصُّص بالإبطال، بل تكون عونًا في استخراج مكنونات الهداية فيها، دورها يكمن في إعانة الطالب في فَهمه عوارضَ التنزيل؛ إذ لا يخفى أنَّ الوحيَ مقصودُ واضعِه تنزيلُه في الواقع، وأن هذا الواقعَ يحتاج - حتى يستقيم على المنهج - الاسترشادَ بالوحي، وبهذا تتكامل منهجية الفَهم التي صاغها ابن القيم وقصدَها فيما يبدو.

ومن روائع التقريرات المنهجية في هذا السياق قولُ الخطيب البغداديِّ - وهو يُقدِّم توصيفًا للفقيه والمفتي المقصودِ تكوينُه، بعد ذكره لشرائط العِلم والنظر والفقه والتثبُّت وقوة الاستنباط -: "واعلم أن العلوم كلها أَبازِير الفقه، وليس دون الفقه علمٌ إلا وصاحبُه يحتاج إلى دون ما يحتاجُ إليه الفقيه؛ لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرَف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجدِّ والهَزْل، والخِلاف والضِّد، والنفع والضَّر، وأمورِ الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي: النظرُ في جميع ما ذكرناه، ولن يُدرِك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النِّحَل والمقالات المختلفة، ومساءلتِهم وكثرة المذاكرة لهم، وجَمْع الكتب ودَرْسها، ودوام مطالعتها"[3].

والصياغة اللُّغوية المعاصرة للفقه عند بعض العلماء يَظهَر أنَّ لها سهمًا من ذلك في إثارة ذلك المُشكل، لتكون عاضدة لنا فيما طرحناه من هم منهجي؛ لنجمع أقوال المتحققين بالعلم من السلف والخلف، إذ يقول العلامة الراشد وهو يؤصِّل لفقه الدعوة المعاصرة: "على فقيه الدعوة أن يتعرَّف على شيء من علوم الاقتصاد والإدارة والاجتماع والفلسفة - بحدود ما ينفع، وإلا فإن غالب الفلسفة ضارٌّ - وأن يطَّلع على التاريخ وخبايا زوايا السياسة، فيُنمِّي ثقافتَه العامة؛ عن طريق تمييز تجارب الأمم وحوادث العالم، وكيف يكون المفتي مُفتِيًا وهو غير قارئ أو سامع عن الطاقة الزراعية في السودان، ومسألة التعريب في شمال إفريقيا، والتحوُّل الاجتماعي في الجزيرة العربية، ومُشكِلة الانفجار السكاني في مصر، وآثار الحرب العِراقية الإيرانية، في عشرات القضايا الأخرى المثيلة؟"[4].

إنها عزمة إذًا يلزم في رأينا النفيرُ لها - لإصلاح مناهجنا التعليمية؛ باعتبارها وسائل إحسان قراءة الشريعة ومصادرها المرجعية - وضرورةُ تنزيلها في الواقع، بما يستوعب حاجات هذه المرحلة الزمنية ومثيلاتها من قسيماتها، وما هي إلا إشاراتُ تنبيهٍ قصَدنا إثارتَها؛ بُغية التداعي، نصرةً للحق وأهله، والقيام بوظيفة النذارة التي حُمِّلناها بمقتضى واجب البلاغ الذي لا يَسَع أحدًا تركُه أو التقصير فيه، ولعل لنا وقفةً قادمة مع همٍّ من همومنا المنهجية التي لها تعلُّق بقراءاتنا لمضامين الشرع ومكوناته.