من أحكام الوديعة في الشريعة الإسلامية

من أحكام الوديعة في الشريعة الإسلامية

"تلف الوديعة"

المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع

قوله: (وإذا تلفت الوديعة من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن...) إلى آخره[1].

قال في ((المقنع)): ((وهي أمانة لا ضمان عليه فيها إلا بعد أن يتعدَّى، وإن تلفت من بين ماله لم يضمن في أصح الروايتين[2] ويلزمه حفظها في حرز مثلها))[3].

وقال في ((الإفصاح)): ((واتفقوا على أنَّ الوديعة أمانة محضة[4]، وأنها من القُرَب المندوب إليها، وأن في حفظها ثوابًا[5]، وأن الضمان لا يجب على المودع إلا بالتعدِّي[6]، وأن القول قول المودَع في التلف والرد على الإطلاق مع يمينه[7].

ثم اختلفوا فيما إذا كان المودَع قبضها ببينة، فهل يُقبل قوله في ردِّها بغير بينة؟

فقال أبو حنيفة[8] والشافعي[9]: يقبل قوله بغير بينة.

وقال مالك[10]: لا يقبل قوله في ردها إلا ببينة.

وعن أحمد روايتان: أظهرهما[11] كمذهب أبي حنيفة والشافعي، والأخرى[12] كمذهب مالك.

واتفقوا على أنه متى طلبها صاحبها وجب على المودَع ألاّ يمنعها مع الإمكان، فإن لم يفعل فهو ضامن[13].

واتفقوا على أنه إذا طالبه فقال: ما أودعتني، ثم قال بعد ذلك: ضاعت، أنه ضامن[14]؛ لأنه خرج عن حد الأمانة بذلك، وأنه لو قال: ما يستحق عندي شيئًا، ثم قال: ضاعت، كان القول قوله.

واختلفوا فيما إذا سلم الوديعة إلى عياله أو زوجته في داره:

فقال أبو حنيفة[15] ومالك[16] وأحمد[17]: إذا أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن، وإن كان من غير عذر.

وقال الشافعي[18]: متى أودعها عند غيره من غير عذر فتلفت ضمن.

واختلفوا فيما إذا سافر المودِع والطريق غير مأمون، هل يجوز له أن يودع الوديعة غير الحاكم؟

فقال أبو حنيفة[19]: ليس له أن يودعها إلا الحاكم أو عياله.

وقال مالك[20]: له إيداعها عند ثقة من أهل البلد وإن قدر على الحاكم ولا ضمان عليه.

واختلف أصحاب الشافعي[21] على وجهين لهم كالمذهبين.

وقال أحمد[22]: متى قدر على الحاكم فلا يجوز له إيداعها عند غيره.

واختلفوا فيما إذا كان الطريق آمنًا فهل له أن يسافر بها؟

فقال أبو حنيفة[23] وأحمد[24]: إذا سافر بها والطريق آمن ولم يكن المودِع نهاه أن يسافر بها فلا ضمان عليه إن تلفت.

وقال مالك[25] والشافعي[26]: ليس له ذلك على الإطلاق ومتى فعل وتلفت ضمن.

واختلفوا فيما إذا أقر بوديعة في يده لنفسين لا يعرف عين مالكها:

فقال الشافعي[27] وأحمد[28]: القول قوله من غير يمين إن لم يدَّعيا عليه العلم بمالكها فإن ادَّعيا عليه العلم وأنكره استحلف.

وقال أبو حنيفة[29]: يستحلف لكل واحدٍ منهما بكل حال على البت أنه ما أودعه، وقال مالك[30]: يُحَلِّفهُما ويسلم إليهما الوديعة يقتسمانها.

وهل يغرم لهما مثل الوديعة؟ على روايتين[31].

واختلفوا ماذا يصنع بها في كلا الحالين؟

فقال أبو حنيفة[32]: توقف حتى يتبين أمرها إلا أن ينكل عن اليمين لأحدهما فيقضى له بها.

وقال أحمد[33]: يقرع بينهما، فمن وقعت القرعة عليه حلف أنها له وسلمت إليه.

وقال الشافعي[34]: لا يقرع بينهما.

واختلف قوله ماذا يصنع به على قولين، مرة قال: تنزع من يد المودع، ومرة قال: تقر في يده حتى يتبين أمرها [451ب].

واختلفوا فيما إذا أخرج المودع من الوديعة شيئًا بنية الخيانة فأنفقه ثم إنه ثاب إليه إيمانه فأعاد مثله ثم تلفت الوديعة:

فقال أبو حنيفة[35]: إن ردها بعينها لم يضمن، وإن رد مثلها وهي تتميز من الباقي فتلفت الوديعة كلها ضمن بمقدار ما كان أخذ، وإن كان الذي أعاده لا يتميز من الباقي فتلفت الوديعة ضمن الجميع.

وقال مالك[36]: إن ردها بعينها أو مثلها إن كان لها مثل لم يضمن.

وعنه[37]: أنه يضمن.

وقال الشافعي[38]: يضمن على كل حال.

وقال أحمد[39] فيما رواه الخرقي: يضمن قدر ما كان أخذ وإن كان رده أو مثله.

واختلفوا فيما إذا قال صاحب الوديعة: ضعها في هذا البيت دون هذا البيت فخالف:

فقال أبو حنيفة[40]: إن وضعها في بيت آخر من الدار مساوٍ للأول في الحرز لم يضمن وإن وضعها في موضع دون الأول في الحِرْز في دار أخرى ضمن.

وقال مالك[41] والشافعي[42] وأحمد[43]: يضمن مع المخالفة بكل حال.

ومن أصحاب الشافعي[44] من قال: إذا نقلها من بيت إلى بيت ومن دار إلى دارٍ مساوية لها في الحرز فلا ضمان.

واختلفوا في المودَع إذا أودع الوديعة من غير إذن المودِع من غير ضرورة:

فقال أبو حنيفة[45]: الضمان على الأول.

وقال مالك[46] والشافعي[47] وأحمد[48]: لصاحبها تضمين أيهما شاء.

واختلفوا فيما إذا أودع رجل رجلاً كيسًا مختومًا أو صندوقًا مقفلاً فحل الكيس أو فتح القفل:

فقال أبو حنيفة[49]: لا ضمان عليه إن تلف.

وقال الشافعي[50]: عليه الضمان.

وعن أحمد روايتان: إحداهما[51]: وجوب الضمان.

وعن مالك[52] روايتان كالمذهبين.

واختلفوا فيما إذا أودع بهيمة عند إنسان ولم يأمره بالإنفاق عليها:

فقال مالك[53] والشافعي[54] وأحمد[55]: يلزم المودَع أن يعلفها أو يرفعها إلى الحاكم، ليتدين على صاحبها ما تحتاج إليه أو يبيعها عليه وإن كان غائبًا، فإن تركها المودع ولم يفعل ذلك ضمن.

وقال أبو حنيفة[56]: لا يلزمه من ذلك شيء.

واتفقوا على أنه إذا أودعه على شرط الضمان فإنه لا يضمن والشرط باطل[57].

واختلفوا في الوديعة إذا سرقت، فهل للمودَع أن يخاصم سارقها من غير توكيل من المالك؟

فقال مالك[58] والشافعي[59] وأحمد[60]: ليس له أن يخاصم إلا أن يوكله المالك.

وقال أبو حنيفة[61]: له ذلك بغير توكيل.

واختلفوا فيما إذا وجد للرجل بعد موته في دفتر حسابه بخطه: أن لفلان بن فلان عندي وديعة أو عليَّ كذا وكذا:

فقال أبو حنيفة[62] وأصحاب الشافعي[63]: لا يجب الدفع إلى من هو مكتوب باسمه ما لم يكن من الميت إقرار بذلك.

وقال أحمد[64]: يجب ذلك كما لو أقر به في حياته.

ومن أصحاب أبي حنيفة المتأخرين[65] من قال: يجب دفع ذلك كما لو أقر به، والقائل هو صاعد بن أحمد، والله أعلم))[66].

وقال ابن رشد: ((كتاب الوديعة: وجُلُّ المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب هي في أحكام الوديعة، فمنها: أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة[67]، إلا ما حكي عن عمر بن الخطاب، قال المالكيون[68]: والدليل على أنها أمانة: أن الله أمر برد الأمانات ولم يأمر بالإشهاد...

إلى أن قال: واختلفوا في فرعٍ مشهورٍ وهو في من أُودع مالاً فتعدى فيه واتجر به فربح فيه هل ذلك الربح [452ب] حلال له أم لا؟

فقال مالك[69] والليث وأبو يوسف[70] وجماعة: إذا رد المال طاب له الربح، وإن كان غاصبًا للمال فضلاً عن أن يكون مستودعًا عنده.

وقال أبو حنيفة[71] وزفر ومحمد بن الحسن: يؤدي الأصل ويتصدق بالربح.

وقال قوم: لرب الوديعة الأصل والربح.

وقال قوم: هو مخير بين الأصل والربح.

وقال قوم: البيع الواقع في تلك التجارة فاسد. وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات، فمن اعتبر التصرف قال: الربح للمتصرف. ومن اعتبر الأصل قال: الربح لصاحب المال. ولذلك لما أمر عمر رضي الله عنه ابنيه عبدالله وعبيدالله أن يصرفا المال الذي أسلفهما أبو موسى الأشعري من بيت المال فتجرا فيه فربحا قيل له: لو جعلته قراضًا فأجاب إلى ذلك؛ لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء، ولصاحب المال جزء، وأن ذلك عدل))[72].

وقال في ((الاختيارات)): ((ولو أودع المودَع بلا عُذر ضمن، والمودع الثاني لا يضمن إن جهل، وهو رواية عن أحمد[73]، وكذا المرتهن منه، وهو وجه في المذهب[74]، ولو قال المودَع: أودعنيها الميت وقال: هي لفلان وقال ورثته: بل هي له وليست لفلان ولم تقم بينة على أنها كانت للميت ولا على الإيداع، قال أبو العباس: أفتيت أن القول قول المودَع مع يمينه؛ لأنه قد ثبتت له اليد وإذا تلفت الوديعة فللمودِع قبض البدل؛ لأن من يملك قبض العين يملك قبض البدل كالوكيل وأَولى))[75].

وقال الشيخ ابن سعدي:

((سؤال: إذا كان بيده مال لغيره وهو لا يعرف صاحبه فما يصنع؟ الجواب: لا يخلو ذلك من أمرين:

أحدهما: أن يكون قد وجده فهذا لقطة له أحكام اللقطة.

الثاني: أن يكون غصبًا أو أمانة أو عارية أو رهنًا أو نحوها، فهذا متى أيس من وجود صاحبه ومن يقوم مقامه من وكيل ووارث خُيِّرَ بين أمرين:

إما أن يدفعه لولي الأمر؛ لأنه ولي من لا ولي له، والمتعذر علمه كالمعدوم وإذا دفعه لولي الأمر برِئ من عهدته حتى لو وجد بعد تسليمه لولي الأمر لم يلزمه شيء؛ لأن هذا نهاية المحتاج ما يقدر عليه حيث دفعه للولي العام، وإما أن يتصدق به عن صاحبه، ويكون فضوليًّا لو جاء بعد ذلك، فإن أجاز صدقته فذاك وإلا فله تغريمه ويكون الأجر للمُتَصَدِّق، وإنما أُبيح له في هذه الحال أن ينوب عنه من غير استنابة خاصة ولا عامة للحاجة إلى ذلك، ولتعذر إيصالها إليه فبذلها في الصدقة منه التي هي أفضل ما بذل الإنسان ماله فيه؛ للآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم))[76].