كيف يفيد المتقاعد السعيد من وقته ويخفف ألم الوحدة؟

كيف يفيد المتقاعد السعيد من وقته ويخفف ألم الوحدة؟

تجارب وخبرات عالمية مختارة

يعتبر التواصل والاختلاط بالآخَرين من أهم المنافع التي يحظى بها المرء في سِنِي العمل النظامي، وهذه فائدة ومزيَّة للعمل النظامي، لا تُقدَّرُ حقَّ قدرِها إلا بعد فقدانها؛ بسبب التقاعد عن العمل عند بلوغ السن النظامية، أو ترك العمل لأسباب أخرى؛ إذ يُنتِجُ التقاعدُ انسحابًا كبيرًا من نسيج اجتماعي معقَّد ومتشابك، اعتاده العامل سنين طويلة، وبالرغم مما قد يدَّعيه البعض من سطحيَّةِ ونفعيَّةِ أغلبِ عَلاقات التواصل في بيئة العمل، لكنها في مجموعها وتنوُّعِها وتفاوتها ووتيرتها تكون نسيجًا قِوامُه عدد كبير من الشبكات التواصلية، والتي تلبي حاجات عدة مركوزة في الفِطرة الإنسانية.

حفل تقاعد، وأمنيات بالسعادة، وخطابات من رؤساء وأصدقاء، وهدية ثمينة، وصور للذكرى، وبطاقات جميلة ومزركشة تحفُّها كلمات رقيقة، ووعود جميلة من رفاق العمل، يتلوها فرح بهذه الحرية المفاجئة، وأيام معدودة من السفر والراحة والاستجمام، وأمل في تقاعد هانئٍ، وبعدها يبدأ الإحساس بالتغيير بهذه النَّقْلة الحياتية إلى نسَق مختلف عن سابقه، نسق هلامي لا حدود له ولا ضوابط، وقالب فضفاض من الفراغ الطويل والتخفف من كثير من الالتزامات، ورويدًا تَقِلُّ الزيارات، ويقل معها عدد المكالمات الهاتفية من رفاق العمل وبعض الأصدقاء القدامى، وتكاد تنقطع تمامًا، ويكبر الأولاد ويغادرون منزل الوالدين، ويتسلل لأعماقِ نفس المتقاعد بلا استئذان شعورٌ محيِّر ومؤلم، إنها الوَحدة والشعور بفقدان شيء عزيز وغالٍ، وتنمو الوحدة، ولعلها تستفحِلُ، مؤدية لعللٍ جُسمانية، واضطرابات نفسية مثل الكآبة.

ليست هذه القصة كابوسًا مزعجًا، أو خيالاً جامحًا، أو مبالغة وتهويلاً، بل هي معاناة يومية حقيقية للملايين من المتقاعدين رجالاً ونساء حول العالم، معاناة تبحث عن حل، كما تتفاوت الشعوب والأعراق في التعامل مع معاناة وحدة المتقاعد، فهنالك من أهمل أمْرَها تمامًا، ولهذا أضرارٌ لا تُنكَرُ، وفي المقابل هنالك تجارب إنسانية مختلفة تختلف من جهة الفهم والنضج والنشاط والأثر، ولعلنا نجد تجاربَ أكثرَ نجاحًا لدى الشعوب التي تُولِي كبارَ السنِّ مزيدَ عناية وخدمة، وتلك التي تتميز بقدم ونضج مؤسسات المجتمع المدني، وتجذر العمل التطوعي وانتشاره، وسوف نعرض طائفة مختارة من التجارب الناجحة لدى أولئك القوم، وننتقي منها بعض الأفكار والمناشط النافعة في علاج وحدة المتقاعد في بلادنا.

العمل التطوعي (شارك بشيء تحبه):

إن عمل المتقاعد تطوعًا في جمعيات خيرية يتيح له فرصًا ثمينة من التواصل مع الآخرين في أعمار مختلفة، ومن خلاله يشارك المتقاعد بخبراته ومهاراته وما يحبه خصوصًا، فلعله يشارك في زيارة المرضى، أو يزور دُور رعاية الأيتام لتعليمهم بعض المهارات، أو يعلم الأطفال بعض دروسهم في مسجد الحي، أو يقرأ كتبًا مسلية للصغار في مكتبة المدينة، أو يشارك في الجمعيات الخيرية التي توفر خدمات عدة للمجتمع، والغرض الأساس من تطوع المتقاعد ومشاركته بما يحب تخفيفُ ما قد يسبِّبه التقاعد من انسحاب، ووحدة، وعزلة عن المجتمع، وكل هذه الأعمال التطوعية من أعمال الخير والصدقات، التي يؤجر المسلم عليها بالنية الصالحة، كما تجلب البركة والانشراح للنفس، ولقد أخبرَنا ربُّنا عز وجل أن نفع الخلق طريق نوال محبته وتوفيقه وعونه.

المدخل للتعارف مع الآخرين:

إن الهوايات من المداخل للتعارف مع الآخرين، وإذا لم يكن لديك هواية فابحث في ماضيك، هل كان لديك هواية قديمة تحب أن ترجع إليها؛ مثل الرسم أو النحت، وكتابة النثر أو الشعر، أو التدريب...؟ جرِّب ولا تَخَفْ، فلن تخسر شيئًا، ولسوف تكسب، ومِن حُسن الحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة تمهِّد وتجسر تواصلك مع من يشارك هواياتك في محيطك أو في العالم أجمع.

نوادي القراءة (Book Clubs):

يفيد المتقاعدون من إنشاء ومشاركة جمعيات خاصة وغير رسمية للقراءة، تنتقي كتابًا للقراءة والتحليل، ثم تلتقي في مطعم أو مقهى لمناقشته، فيتحدث كل مشارك عن انطباعه والمشاعر التي تملكته خلال القراءة.

نوادي زيارة المطاعم:

فكر بعض المتقاعدين في إنشاء مجموعات صغيرة تلتقي مرةً كل شهر أو شهرين للعشاء في مطعم جديد، يقترحه أحد المشاركين بعد تجربته له، ولا يخفى ما في هذه الفكرة من التجديد والتشويق والاكتشاف والإثارة، ومن نافلة القول: التذكير بأهمية اختيار المتقاعد للطعام الصحي والمتوازن، وبُعده عن اللحوم الحمراء والدهون والسكريات والنشويات.

جمعيات المتقاعدين:

ليس هذا مقام الحكم على جمعيات المتقاعدين في بلادنا، ولعلنا نوجه الحديث نحو سبل الإفادة من بعض التجارب الغربية المتميزة في هذا المجال، وليست هذه دعوة مفتوحة للتقليد الأعمى والنسخ بلا مراعاة للفروق والاعتبارات الأخرى، لكن الحكمة ضالة المؤمن، وفي دين الإسلام - مع ثباث أصوله - من السَّعة والمرونة ما يجذب ويستوعب التجاربَ الإنسانية الناجحة، ويحورها لمساره، ويطورها، ويبني عليها، وسوف نذكر عددًا محدودًا من الأمثلة، ولعل القراء يضيفون إليها قطافًا من تجاربهم الناجحة واطلاعاتهم المميزة، والله أعلى وأعلم.

مشاريع غربية لإبعاد الوحدة عن المتقاعدين والمسنين:

1- مجموعة 60 and ME :

أسَّست إحدى المتقاعدات موقعًا تواصليًّا وثقافيًّا على شبكة المعلومات العلمية، ويخدم هذا الموقع النسوة في عمر الستين سنة وما فوقها، ويوفر معلومات ونصائح وأبحاثًا وندوات ولقاءات حول الحياة في هذه المرحلة العمرية المهمة، ويقارب عدد المشاركين في هذه المجموعة خمسين ألفًا من النسوة في عدد من الدول الغربية، ولعل هذا الموقع من جهة تصميمه يُفيد الراغبين في بناء مواقع مماثلة تخدم المتقاعدين في بلادنا.

2- جمعية Civil Service Retirement Fellowship:

توفر هذه الجمعية خدمات عدة، منها ما يثري التواصل بين المتقاعدين ويخفف وحدتهم، فتُعينُ البعض على المحافظة على صداقاتهم القديمة، أو توفر بطرق منظمة فرصًا جديدة للتعارف على أصدقاء جدد من أعضاء الجمعية، كما توفر خدمة إبداعية جميلة توفر للمسنين المقعدين وغيرهم فرصًا منظمة للتواصل بالهاتف مع أصدقاء آخرين؛ إذ يتعهد مجموعة بالتواصل في أوقات محددة، وتسمَّى هذه الخدمة أصدقاء الهاتف (Phone Buddies)، ولدى هذه الجمعية برنامج للتزاور بين المتقاعدين.

3- جمعيات Associate and Retired Members (ARMs).

4- الجمعية الوطنية لعلم الشيخوخة (National Institute on Aging: NIA): هذه جمعية أمريكية حكومية تتخصص في أبحاث الشيخوخة، وتوفر للباحثين والمتابعين نتائج أبحاثها، وتقدم خدمات تعليمية حول التقاعد والشيخوخة وأمراض الشيخوخة، كما تعرض بالمجان كتبًا إليكترونية يمكن لزوار موقعهم تحميلُها والإفادة منها.

5- قرى الرعاية المستمرة للمتقاعدين (CCRC: Continuing Care Retirement Communities): وتتلخص فكرة هذه القرى في بناء مجمعات سكنية خاصة للمتقاعدين في مواقع جميلة في الأرياف، وتوفر هذه القرى السكن الملائم مصحوبًا بالرعاية الكاملة والمستمرة لاحتياجات المتقاعدين، وبها مرافق ترفيهية ورياضية مناسبة، ويعمل بها فرق طبية متكاملة من الممرضين المؤهلين والأطباء المتخصصين، وتُعطَى خدماتُها وفق احتياج كل مشارك، لعل هذا المثال يفيد - خاصة - الغربيين الذين يعانون من مقاطعة أولادهم وأقربائهم، ونحمد الله على نعمة الإسلام التي تحث على صلة الأرحام والاعتناء بالوالدين والمسنين في أحضان أسر أبنائهم أو أحفادهم بلا وحدة، ولكنني ذكرتُه ليستفيدَ المهتم بالموضوع؛ فلعل في ثنايا هذه الفكرة ما نفيد منه في بلادنا.

6- المركز العالمي للمعرفة التقاعدية http://www.retirement-resource-center.com: تأسس هذا المركز في عام 2006، ويعنى بتوفير المعارف النظرية والتطبيقية المتعلقة بجوانب متعددة من حياة التقاعد، ولا ينحصر اهتمامه في الأمور المالية والاستثمار، ولكنه يشمل الدراسات النفسية المتعلقة بسبل تحسين الحياة في هذه المرحلة.

7- برامج التعليم الجامعي للمتقاعدين، تخصص بعض الجامعات في العالم الغربي جزءا من أنشطتها التعليمية للمتقاعدين، فتعرض بعضها - مقابل أجور زهيدة - موادا تعليمية تم اختيارها بعناية لتناسب أذواق المتقاعدين، وتتم الدراسة وفق أسلوب التعليم المهجن (Blended Leaning)، الذي يثري التعلم بالجمع بين أسلوبين:

1- التعلم عن بعد المتزامن والمسجل سلفا (Distance Learning: synchronized and un-synchronized).

و2- الأسلوب التقليدي الصفي للتعليم، ويراعي الأسلوب الأول بعض الفروق الفردية لدى المتلقين، فيحدد المتقاعد المتعلم عن بعد زمن وطريقة التلقي وسرعته من خلال استعمال البرامج العلمية المسجلة والمصورة سلفاً، والتي تحويها وتنظم عرضها والتعامل معها برامج حاسوبية متخصصة في تسهيل التعلم عن بعد باستخدام وسائط العرض المتعددة (Multimedia)، وكما تحوي هذه البرامج محاضرات ولقاءات علمية صفية وتقليدية، ويوفر هذا الأسلوب الثاني فرصا للقاء والتواصل والتعارف بين المتقاعدي.

a- أنتج بحث سريع (وغير مفصل) على محرك البحث جوجل عن مفردات عربية مثل: معاهد التعلم للمتقاعدين، التعليم المستمر للمتقاعدين، برامج جامعية للمتقاعدين، جامعة المتقاعدين، كورسات علمية ودورات تدريبية للمتقاعدين وغيرها عن النتائج الملخصة أدناه:
i. أول ما يعرض من النتائج لا يتعلق بمادة البحث، ولكنه يعرض لقاءات تحتفي بالمتقاعدين وتكرم عطاءهم.

ii. يعرض البحث العجل وغير المفصل نتائج تتعلق بجمعيات المتقاعدين ولقاءاتها وأنشطتها وآمالاها وبعض أزماتها المالية.

iii. يكاد يندر عرض نتائج مباشرة ووثيقة الصلة بمفردات البحث.

iv. هذه أمثلة لنتائج حديثة ومباشرة لبعض مفردات البحث:
1. دورة تدريبية على الحاسوب أعدتها كلية عجلون بالأردن للمتقاعدين العسكريين وأبنائهم.

2. كما لاحظت في شهر أغسطس 2014 وجود نشاط مماثل لما سبق في الأردن كذلك، فلقد قامت محطة المعرفة التكنولوجية في محافظة الطفيلة بعقد دورات تدريبية للمتقاعدين العسكريين في مجال الرخصة الدولية لقيادة الحاسوب، بالتعاون مع المؤسسة الاقتصادية الاجتماعية للمتقاعدين العسكريين بالأردن.

v. لاحظت في البحث وجود عروض لعدد من الوظائف الشاغرة في مجال التدريس الجامعي بالعراق لأكاديميين "متقاعدين" (لم أبحث مقدارها بالتحديد) في شهر أكتوبر 2014.

b- في المقابل أنتج البحث عن مفردات مماثلة باللغة الانجليزية نتائجا كثيرة جدا ومباشرة، وبعضها يتبع العشرات من الجامعات الشهيرة وأخرى صغيرة وأقل شهرة في الولايات المتحدة وأوروبا، ونذكر بعض الأمثلة:
i. معهد التقاعد المبدع التابع لكلية ايدموند في ولاية واشنطن، بأقصى الشمال الغربي بالولايات المتحدة الأمريكية، واسمه بالإنجليزية:

Creative Retirement Institute: CRI، http://www.edcc.edu/cri/، cri@email.edcc.edu

 
ii. جمعية التعلم في مرحلة التقاعد التابعة لمؤسسة جامعة ويستمينسترفي جمهورية كندا، واسمها باللغة الانجليزية:

THE SOCIETY FOR LEARNING IN RETIREMENT: SLR))

iii. جامعة الجيل الثالث بالمملكة المتحدة : University of Third Age: U3A
1. http://www.u3a.org.uk/

2. تعرض هذه الجامعة موادا تعليمية بالأسلوب الصفي التقليدي وأسلوب التعلم عن بعد.

3. courseadmin@u3a.org.uk: هذا هو البريد الإلكتروني لمنسق التعليم بهذه الجامعة.

iv. مركز التعلم طوال الحياة بجامعة تافت: The Osher Lifelong Learning Institute.

v. معهد جامعة هارفارد للتعلم في مرحلة التقاعد:
1. اسمه باللغة الانجليزية: HILR: Harvard Institute for Learning in Retirement

2. أسس في عام 1977 ويتبع قسم التعلم المستمر بالجامعة، ولا يمنح المشاركين درجات علمية، ويبدو من خلال المعلومات المعروضة عنه أنه يتبع أسلوب التعيلم الصفي والتقليدي، والذي يعتمد على حضور المشاركين للموقع المخصص للمعهد سواءا من سكان الولاية أو خارجها.

3. hilr@dcemail.harvard.edu

4. http://hilr.dce.harvard.edu/