البلوغ وبداية الرشد: حين يكون الزواج عند البلوغ محور الإصلاح التربوي

البلوغ وبداية الرشد: حين يكون الزواج عند البلوغ محور الإصلاح التربوي

من أعظم الحقائق التي يجب أن يستحضرها الآباء والمربون أن الإنسان مخلوق يجمع بين الضعف والعظمة. ضعفه في حاجاته الفطرية والنفسية، وعظمته في تكوينه وقدرته واستعداده لحمل المسؤولية. وتتجلى هذه الحقيقة بوضوح عند بلوغ الإنسان، فهو في تلك اللحظة لا يعود طفلًا صغيرًا، بل يصبح كائنًا ناضجًا مكتملًا في إنسانيته، بحاجة إلى ما يلبي فطرته ويقيم توازنه، وأهم تلك الحاجات: الزواج عند البلوغ.

البلوغ ليس مجرد تغير جسدي:

كثيرون اختزلوا البلوغ في بعده البيولوجي، وتناسوا أن البلوغ هو إعلان شرعي وفطري بأن هذا الإنسان أصبح أهلًا لتحمل مسؤوليات الحياة، وبحاجة لمن يسكن إليه، كما قال الله تعالى:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ [الروم: 21].

لكن في ظل هيمنة ثقافة مستوردة، صار الناس ينتظرون "سن 18" ليبدؤوا الاعتراف برشد الإنسان، وكأن البلوغ الطبيعي لا يعني شيئًا، وهذا التسلل المفاهيمي الخطير جعل الآباء يتجاهلون احتياجات أبنائهم الفطرية بعد بلوغهم، وعلى رأسها: الزواج.

الزواج عند البلوغ مقياس صحة المجتمع:

الحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح:

المجتمع السليم هو الذي يستطيع تزويج أبنائه عند بلوغهم، والمجتمع المريض هو الذي يعجز عن ذلك، أو يؤجله، أو لا يعترف به أصلًا.

حين يبلغ الشاب أو الفتاة، فإن حاجتهما للزواج لا تكون ترفًا، ولا خيارًا كماليًا، بل ضرورة وجودية. فالشاب عند بلوغه يصبح رجلًا كاملًا في تكوينه، والفتاة امرأة كاملة في أنوثتها، وأي محاولة لتجاهل هذا التحول أو تأجيل الاستجابة له، تؤدي إلى اضطراب نفسي، وعاطفي، وسلوكي، مهما حاول الأهل تعويضه ببدائل كالدراسة أو السفر أو الأنشطة.

تأخير الزواج عند البلوغ - سواء بسبب مفاهيم خاطئة أو عجز اقتصادي أو تخبط اجتماعي - ليس مجرد تقصير فردي، بل هو عرض لخلل أعمق في البنية التربوية للمجتمع.

تصحيح المفاهيم يبدأ من هنا:

لن يكون هناك إصلاح تربوي حقيقي ما لم نعد الاعتبار لهذا المبدأ:

أن الزواج عند البلوغ هو الأصل، وأن على المجتمع أن يهيئ له الطريق، لا أن يغلقه.

الآباء الذين يربّون أبناءهم على أن البلوغ لا يعني شيئًا إلا ازديادًا في المراقبة والضغط، دون فتح باب الزواج، إنما يربّونهم على التناقض، ويضعونهم في صراع داخلي لا يُحتمل. وفي المقابل، من يزوّجون أبناءهم عند البلوغ، ويصاحبونهم بعد ذلك كما قيل: "إذا كبر ابنك فصاحبه"، فهم يضعون أبناءهم على الطريق الصحيح، ويشاركون في بناء مجتمع صحي ومتوازن.

ثمرة الزواج عند البلوغ:

أسر مترابطة ومجتمعات متساندة: حين يتم الزواج عند البلوغ، تنشأ أسر جديدة، وتتشكل شبكة رحمية واجتماعية قوية، تُسهم في دعم بعضها البعض، وتبني نسيجًا متماسكًا في وجه تقلبات الحياة. بينما حين يؤخَّر الزواج، يظل الشاب أو الفتاة في حالة انتظار وقلق وتشتت، وقد يصل بهما الحال إلى الاغتراب داخل بيوتهما، بل داخل أنفسهما.

والمؤلم أن بعض المجتمعات لم تعد تعجز فقط عن تزويج أبنائها عند البلوغ، بل عجزت عن تزويجهم مطلقًا، حتى بعد الثلاثين، وهذا مؤشّر خطير على خلل عميق يتطلب مراجعة شاملة للقيم والأولويات والأنظمة.

مقترحات عملية لتحقيق الزواج عند البلوغ:

أولًا: ما يجب على الآباء والمربين:

1- تهيئة الأبناء نفسيًا منذ الصغر لفكرة الزواج عند البلوغ:

لا يُفاجأ الشاب أو الفتاة عند البلوغ بهذه الحاجة، بل يُرَبّيان من البداية على أن الزواج مقصد طبيعي، واستحقاق ينتظرهما لا شيء غريب عنهما.

2- المبادرة إلى تزويج الأبناء فور البلوغ متى ما توفرت بوادر الرشد:

لا يشترط الكمال ولا الاستقلال الكامل، بل يُزَوَّج الشاب وهو ينمو، ويُبنى البيت الصغير تحت نظر البيت الكبير، بدلًا من الانتظار غير المحدود.

3- التحول من عقلية “التحكم” إلى عقلية “المصاحبة” بعد الزواج:

من الخطأ التعامل مع الابن المتزوج بنفس أدوات التوجيه القديمة. بعد الزواج يجب أن نتحول إلى أصدقاء وداعمين.

4- تخفيف الاشتراطات الاجتماعية والمالية للزواج:

كثير من العوائق ليست شرعية، بل عادات متكلفة أو كماليات يمكن تجاوزها إذا وُجدت الإرادة.

ثانيًا: ما يجب على المجتمع والجهات الرسمية:

1- إطلاق برامج تمويل ودعم للزواج عند البلوغ:

على غرار برامج الإسكان والدعم الاجتماعي، يجب أن يكون هناك دعم حقيقي للزواج، خاصة في سن البلوغ، سواء عبر جمعيات أو صناديق مجتمعية أو إعفاءات.

2- إدراج التهيئة للزواج ضمن المناهج الدراسية:

نحتاج لمقررات واقعية تُدرّس فيها مفاهيم الزواج، الرغبة، الحياء، الحقوق، المهارات النفسية، بلغة تناسب المرحلة العمرية.

3- تحفيز النماذج المجتمعية الناجحة في تزويج أبنائها عند البلوغ:

عبر التكريم الإعلامي، والدعم، وإبرازهم كنموذج يُحتذى في الصحف والمناسبات.

4- سنّ تشريعات تسهّل الزواج وتحد من المعوقات النظامية والإدارية:

مثل تسهيل إجراءات النكاح، أو تخفيف شروط الشهود، أو تسهيل دعم السكن للمتزوجين في هذه المرحلة.

ختامًا:

إذا أردنا إصلاحًا حقيقيًا في مجتمعاتنا، فعلينا أن نبدأ من نقطة البلوغ، ونجعل الزواج عند البلوغ هو المحور الذي يُبنى عليه الإصلاح التربوي والاجتماعي. فكل القيم التي نُعلّمها، وكل المهارات التي نغرسها، وكل الخطط التي نعدّها لأبنائنا، ستكون ناقصة ما لم نفتح لهم هذا الباب العظيم، ونهيئ لهم سُبله، وندرك أن الله حين جعل الزواج سكنًا، جعله في الوقت الذي يبدأ فيه الإنسان بالشعور بالحاجة، لا بعد أن تذبل الفطرة أو تتبلد المشاعر.