• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / تربية / التربية الخاصة
علامة باركود

الصورة البصرية في شعر العميان

د. عبدالله الفيفي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/5/2011 ميلادي - 1/6/1432 هجري

الزيارات: 50212

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الصورة البصرية  في شعر العميان

ألقاها

الدكتور / عبد الله الفيفي

في مبنى المكتبة المركزية الناطقة

بالرياض بتاريخ 3/7/1416هـ

رئيس الجلسة: الدكتور/ محمد بن سعد بن حسين

 

ترجمة للمحاضر:

يسر المكتبة المركزية الناطقة بالرياض أن تقدم ضمن نشاطها الثقافي لهذا العام محاضرة بعنوان: (الصورة البصرية في شعر العميان) يلقيها الدكتور: (عبد الله بن أحمد المغامري الفيفي).

 

ومحاضرنا حصل على البكالوريوس من جامعة الملك سعود عام (1403هـ) بتقدير (ممتاز) مع مرتبة الشرف من قسم اللغة العربية، ثم حصل على الماجستير من جامعة الملك سعود عام (1408هـ) موضوعها: (شعر تميم بن أبي مقبل العجلاني - دراسة تحليلية)، التخصص العام: (الأدب والنقد)، التخصص الدقيق: (دراسة في الشعر الجاهلي).

 

حصل على الدكتوراه من جامعة الملك سعود أيضاً عام (1413هـ)، وكان موضوعها: (الصورة البصرية في شعر العميان - دراسة فنية)، التخصص العام: (الأدب والنقد)، التخصص الدقيق: (دراسة الصورة الشعرية والخيال الفني)، وتقديره في شهادتي الماجستير والدكتوراة: (ممتاز - مع مرتبة الشرف الأولى).

 

عمل معيدًا عام (1404هـ)، ثم محاضرًا عام (1409هـ)، ثم عمل وكيلاً لقسم اللغة العربية، وأمينًا لمجلس القسم إلى نهاية عام (1415هـ)، ويعمل مديرًا لندوة النص في قسم اللغة العربية وآدابها.

 

محاضرنا له دراسات أكاديمية متنوعة، ومشاركات كتابية وإبداعية: نثرية، وشعرية مستمرة، ولديه مشاريع بحثية في طور الإعداد والنشر.

 

له زاوية أسبوعية في جريرة (الجزيرة)، بعنوان: (مساقات)، وله ديوان مطبوع صدر عام (1411هـ) بعنوان: (إذا ما الليل أغرقني).

 

سوف يدير ندوتنا هذه الأستاذ الدكتور: (محمد بن سعد بن حسين)، وهو غني عن التعريف.

 

الدكتور: ابن حسين:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، وجعلنا منهم آمين.

 

مما أعتز به أن أكون أول من تحدث في محاضرة في مواسم هذه المكتبة الناطقة، وكان ذلك قبل ثلاث سنوات تقريبًا، وهي محاضرة لم آتي فيها بجديد، ومع ذلك كان لها قبول والحمد لله، وهذا مما يؤنسني.

 

ولقد آنسني كثيرًا أن أدعى للمؤانسة في هذه الجلسة المباركة الطيبة إن شاء الله، وبخاصة أن هذه المحاضرة يلقيها أستاذ نظر إلى ميدان أدب المكفوفين بصفة خاصة نظرة فيها اعتدال وصدق، وفيها تبين لما يجب أن يقول الباحث في أدب المكفوفين، منحِّياً من طريقه كل ما قام في أذهان الآخرين عن المكفوفين، وهي أمور أنتم تعلمونها، وقد تناولتم وتبادلتم الأحاديث فيها كثيراً، وهي شعور عامة الناس، ومنهم عامة المثقفين: بأن المكفوف قد لا يدرك إدراكاً كافياً تلك الأمور التي ينظر إليها المبصر بعينه الباصرة، ونسوا أن الله - تبارك وتعالى - يعوض الكفوف بقوى قادرة على إدراك الأشياء إدراكاً واقعياً، وإدراكا فنياً أيضاً، أي أن الكفيف يضيف على المبصرات من حسه وشعوره ما يجلو جمالها أكثر، وذلك ما تناوله الدكتور (عبد الله الفيفي) في دراسته.

 

والدكتور (عبد الله الفيفي) تناول شعر المكفوفين، وأدرك تلك التصورات التي تبرزها شاعرية الشعراء المكفوفين من أمثال: (المعري)، وبشار بن برد، وربما أعانه على ذلك الحس الأدبي، والموهبة الشعرية التي يتمتع بها هذا الرجل.

 

لقد قرأت ديوان الدكتور (عبد الله)، وقرأت رسالته؛ فوجدته أديباً عالماً بكل ما تعنيه الكلمتان من دلالة، وأضيف أديباً ماهراً لبقاً ذوَّاقاً، وعالماً معتدلاً متزناً في أحكامه، ولذلك فإننا إذا سمعنا منه الآن الحديث الذي سيتحدث به إلينا؛ نستمع حديث رجل تمكن تمكناً كافياً من أدوات الأديب العالم.

 

أنتم تعلمون أن المكفوفين كانت لهم نظرات، ووقفات مع المبصرات حتى البعيدة منها، كالنجوم والكواكب والأفلاك العليا، ولو أنَّا سمعنا ما قاله (المعري) في هذا المجال لعجبنا كثيراً، وتساءلنا: كيف أدرك هذا الرجل تلك المبصرات البعيدة، التي لا يمكن حتى لمسها بالحس؟!


وأحسبكم تعلمون ذلك جيداً، وتعلمون أيضاً أن للكفيف مواهب خاصة أمده الله بها؛ تعويضاً لما فقده من البصر.

 

لا أريد أن أطيل الحديث؛ فالدكتور عبد الله سيقدم ما هو أجدى وأفضل بكثير مما أتحدث به إليكم فليتفضل، ولنسمع حديثه عن هؤلاء المكفوفين الذين غمطهم أهل الأدب عندما تحدثوا عن الصور البصرية في شعرهم.

 

الدكتور: عبد الله الفيفي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

 

وبعد:

أشكر المكتبة المركزية الناطقة بالرياض على إتاحة هذه الفرصة وعلى رأسها الشيخ (عبد الرحمن الخلف)، كما أشكر أستاذنا الدكتور (محمد بن سعيد بن حسين) الذي شرفني برئاسة هذه الجلسة، وأشكره على ما أضفاه علي من ثوب فضفاض، أرجو أن أكون في مستوى بعض ما قاله.

 

أود أن أقدم ما لدي من حديث دون إطالة في المقدمات؛ لأن الموضوع يحتاج إلى وقت وإلى عرض للأمثلة والنماذج، ولهذا سأتجاوز كثيراً من الأشياء التي أجد أنها تحتاج إلى مزيد من الوقوف معها.

 

الصورة البصرية في شعر العميان تطرح علينا بادئ ذي بدء سؤالاً هو الذي تبدأ به هذه الدراسة حول معنى أن يكون الأعمى مصوراً بصرياً، بل ماذا يعني أن يغلب الحس الفني بتصويره؟ هذا سؤال ردد بين المبصرين على مر العصور، لكنه لم يحظى بإجابة شافية على أن الصورة البصرية في شعر العميان تطرح ما هو أبعد من مضمون ذلك التساؤل المبدئي، مما هو في صميم تركيبة الذهن الإنساني وقدرته على التخيل والتعبير.

 

لكن الإجابات ظلت تراوح في نطاق المستوى السطحي، دون مجابهة العمق الحقيقي للإشكالية التي يثيرها تصوير العميان البصري؛ لأن تلك الإجابات رضيت أن تنظر إلى الموضوع من زاوية حسية بحته، توازن بين الأعمى والمبصر؛ لتفك مغاليق هذا اللغز بقياس النسبة ما بين تصوير الأعمى والواقع المبصر، فتصم العميان بالوهم، أو بالسرقة، أو بالعجز، والشعور بالنقص في كلا الحالتين، وكأنما الفن ليس بأكثر من سياق في رصد المحسوسات، وإعادة تمثيلها للحس كَرَّة أخرى، ومن ثم يفسر الماء بعد الجهد بالماء، فالأعمى أعمى، والمبصر مبصر،  ولا سبيل للإبداع الفني إلا بالعين، أو الأذن، والشم، واللمس، والذوق، وما تلك الإبداعات إذن سوى خيالات وهمية، أو اقتباسات وصفية، يدفع العميان إليها حب التعويض وتحدي المبصرين.

 

أما إن لم نكن حسِّيين في النظرة إلى الإبداع الفني؛ فسنجد أنفسنا إزاء فن حقيقي يقتضينا التأمل والتأويل، وهنا لا يعود مفهوم الصورة البصرية قاصراً على الصور الوصفية العينية، بل يشمل مختلف الصور التي تكون وسيلة استقبالها حاسة البصر، واقعية كانت أم غير واقعية؛ لما بينها من واشجة التخيُّل البصري بطبيعته الفسيولوجية والفنية، حيث لا انفصام بين الصورة المتخيلة ومكوناتها في التصور الحسي إلا بمثل ما بين الرؤية البصرية في اليقظة، والرؤية البصرية في الأحلام، فكلاهما ينتمي إلى التصور الحسي وآثاره على عملية التخيل والإبداع.

 

إن أهمية الصورة البصرية في شعر العميان لا تتمثل في ضرورة استكشاف النسق النمطي الذي يفترض تميزها به؛ بما أنها نتاج مغاير لعالم المبصرين فحسب، بل في أنها أيضاً تعيد المسألة حول عدد من القضايا في نظرية الخيال والإبداع، مما درج على النظر إليه من زاوية حادة لا تشمل العميان، أو بالأحرى لا تستفيد من ظاهر التصوير البصري في شعر العميان؛ لرؤيتها النظرية عن الخيال والإبداع، فتقع أحياناً في مسلمات في الحكم على العمل الفني وتقويمه، ومن ذلك ما تفترضه من ضرورة التجربة الحسية للفن، وهو ما تثبت الصورة البصرية في شعر العميان بطلانه، بل قد تدل أكثر من هذا على أن من الخير للشاعر أن يكون أعمى، إذا كان البصر سيحول بينه و الرؤيا الداخلية، التي عليها مدار الفن، ومنها نبع روحية الكشفية عما وراء المظاهر من قيم وأسرار.

 

وبذا يتحدد للدراسة هدفان أساسيان:

1- استنتاج النماذج النمطية لصور العميان البصرية، وسنوضح معنى هذا المصطلح فيما بعد، ومن هناك التعرف على خصائصها موازنة بالمبصرين، والمنطق الفني والنفسي الذي يحكم نظامها.

 

2- استغلال ما توفره دراسة صور العميان البصرية من حقل اختياري مباشر، لما يطول حوله الجدل من قضايا الخيال والإبداع النظرية، ولاسيما العلاقة بالواقع الحسي من جهة، وبالتمثل الثقافي من جهة أخرى، بما تضعه الصورة البصرية  في شعر العميان بأيدينا بغياب أحد قطبيها في بناء الخيال الواقع الحسي البصري من شريحة نموذجية لمراجعة وسائل التخيل والإبداع، في مسعى للنفاد آخر المطاف من هذه الدراسة إلى رؤية وثوقية حول آفاق خيال الإنسان وإبداعه.

 

الشعراء العميان في الدراسة

الشرط العلمي يقضي بأن يكون المدروس من الشعراء العميان:

• أكمه: ولد أعمى.

 

• أو ضريراً: أصيب بالعمى في سنوات صباه الأولى.

 

أما من ليس من هاتين الفئتين من العميان فلا يفيد القضية التي قامت الدراسة بصددها في شيء، فهو قد خبر الإبصار، وكون من الذكريات البصرية قبل عماه ما يجعل حكمه حكم المبصر حين يغمض عينيه، أو يدنو به شيء من ذاك.

 

ومن ينطبق عليهم هذا الشرط من شعراء العربية البارزين عند التحقيق ستة:

1- بشار بن برد، المتوفى سنة (167هـ).

2- علي بن جبلة العكوك، المتوفى سنة (213هـ).

3- أبو العلاء (المعري)، المتوفى سنة (449هـ).

4- علي بن عبد الغني الحصري القيرواني، المتوفى سنة (488هـ).

5- أبو جعفر أحمد بن عبد الله التوطيلي، المتوفى سنة (525هـ).

6- عبد الله البردوني، معاصر.

 

وفي تشكيلة هذه المجموعة مادة مثالية لإتاحة الموازنة من عدة أوجه؛ لما تحويه من شعر الأكمه والضرير والأندلس والمشرق والقديم والمحدث، بحيث تمكننا من تبين مختلف الخطوط، خروجاً برؤية تكاملية واضحة تصلح مقياساً شمولياً عن صور العميان البصرية.

 

منهج البحث:

يمر المنهج البحثي بمرحلتين:

• تقوم المرحلة الأولى على وصف مادة الصورة البصرية في ذاتها تحليلاً لمستوياتها، ثم موازنة بين مكنوناتها الداخلية وعلائقها الخارجية.

 

•- ثم تأتي المرحلة الثانية؛ حيث محاولة التعليل والاستنباط؛ لفرز الخيوط المتصلة من المرحلة الأولى، وتدبر الدلالات الكامنة وراءها.

 

الدراسة الوصفية الإحصائية

أولًا: المعجم الفني:

في الخطوة الأولى نحو تحليل الصورة البصرية في شعر العميان؛ تطلعنا الدراسة الوصفية الإحصائية لمعجمها الفني على معطيات جوهرية في الإشارة إلى ماهية هذا التصوير، ومصادره، ووسائله، ودلالاته.

 

وتندرج مفردات المعجم في ثلاث مجموعات:

1- العناصر الحسية.

2- التداخل الثقافي.

3- الأدوات الفنية.

 

1- العناصر الحسية:

ونقصد بها الألوان والحركة وما إلى ذلك من عناصر الحس، ويمكن إرجاع العناصر الحسية إلى ثلاث مفردات أساسية هي حسب حجمها في صورهم:

أ- اللون

ب- الحركة

ج- الضوء

 

أ- اللون:

وتشكل الألوان الأربعة: الأبيض والأسود والمائي والأحمر قاسماً مشتركاً بينهم، غير أن الموازنة تظهر ميل الكمه منهم - وهم الذي ولدوا عمياناً - إلى كثافة استعمالها، مثل ما هم يميلون إلى كثافة التلوين عموماً.

 

ب- الحركة:

ويلحظ فيها ما في الألوان من علو الكثافة عند الكمه، لولا تقدم البردوني الضرير عليهم، ولهذا تعليل سنشير إليه.

 

ج- الضوء:

أما الضوء فيتفاوتون في توظيفه.

 

2- التداخل الثقافي:

يتوزع التداخل الثقافي على ثلاث مفردات:

أ- التناص

ب- الثقافة

ج- الميثولوجيا

 

ويلفت في التناص خصوصاً ما كان يربط بين صورهم نفسها من صلات قوية، أي: بين صور العميان، فضلاً عن تناجيهم الواسع مع غيرهم من الشعراء.

 

أما (الميثولوجيا) فنقصد بها الرموز الأسطورية والتراثية المترددة عند الشعراء منذ القدم.

 

3- الأدوات الفنية:

الأدوات الفنية أكثرها: التشبيه، ثم الاستعارة، ثم الموسيقى التصويرية، ويخص المصطلح هنا من موسيقى الشعر تلك المؤثرات الصوتية التي يوظفها الشاعر إسهاماً في تمثيل صوره البصرية، وأكثر استعارتهم المكنية التخيلية، ومن كثافتها يتجلى أنها تزداد كلما تأخر الشاعر في زمنه حتى تقفز إلى غايتها في صور الشاعر المعاصر.

 

نظرة شاملة:

وبنظرة شاملة إلى المعجم الفني؛ يلمح خيطان غالبان، وإن لم يكونا مطردين:

أ- ميل نسبي إلى الكثافة التصويرية عند المتأخر منهم.

 

ب- أن الكمه يجنحون إلى التصدر في الكثافة التصويرية لولا حيلولة العامل الزمني دونهم أحياناً، فالعامل الزمني له تأثيره في شعر العميان بل وفي شعر المبصرين أيضاً في هذا الجنوح إلى كثافة التصوير.

 

ثانياً: المركب الإبداعي:

ننتقل في الخطوة الثانية إلى المركب الإبداعي (مركب الصور)، نحو محاولة درس المركب؛ بغية التماس خصوصيات خطابهم الإبداعي، ثم اتخاذها كواشف عن أصدائها النفسية والفنية.

 

وهنا نركز النظر على طرز الصور النمطية المتكررة التي تتردد كثيراً:

1- هناك صور تتردد لأنها تقليد قديم.

2- صور تتردد لأن لها معنى خاص عند الشاعر الأعمى.

 

1- الصور التقليدية:

نجد مركبات ترددت في التراث بصفة عامة:

• منها ما يؤل إلى (جذر ميثولوجي رمزي).

• ومنها ما لا يُرى فيه سوى التقليد الفني.

 

وهم يقفون في الأغلب من هذه الأنماط التقليدية الفنية، ولاسيما البلاغية منها عند المحاكاة التبعية للنصوص، بخلاف الأنماط الرمزية التي يجدون في رمزيتها متنفساً للتعبير، وما يلفت في هذا الموضوع خصوصاً، تفوقهم على المبصرين في مقدار اعتمادهم على التناص، كما يتضح من الموازنة بين العميان والمبصرين لاحقاً، لكن الجدير بالوقوف عليه هنا هو تلك الأنماط الخاصة لصور العميان البصرية، وهي تنتظم في حقول أربعة رئيسة، وهي أنماط تصوير:

1- الظلام

2- الضوء

3- المرأة

4- الألوان.

 

ونكتفي هنا بضرب بعض أمثلة على أنماط تصوير الظلام والضوء؛ لدلالتهما المهمة في صور العميان البصرية.

أنماط تصوير الظلام:

يقول بشار:

أولاك الأولى شقوا العمى بسيوفهم
عن الغي حتى أبصر الحقَّ طالبه

 

ويقول:

مالكي تنشق عن وجهه الحرب
كما انشقت الدجى عن ضياء

ويقول:

وتجوبت مزق الدجى عن واضح
كالفرق وانكشفت سماء ضبابه

ويقول:

يشق الوغى عن وجهه صدق نجدة
وأبيض من ماء الحديد وقيع

 

هذه الصور الأربع تتكرر في ديوان (بشار).

 

(العكوك) يأتي بصورة شبيهة وتعد خامسة هذه الصور، وفي هذا النمط المتكرر:

فرجت صدفتها بوجهك معلماً
وجعلت عاليةَ الرماح ذبالا

 

ويقول ((التطيلي)):

سل الدين والدنيا هل ابتهجا به
كما انجاب عن ضوء النهار ضباب

 

نحن هنا بإزاء نمط تصويري واحد مشترك بين ثلاثة شعراء منهم، ومركب هذا النمط يشخص الظلام أو العمى، كما يقول بشار: (غطاء بغيضاً ينشق فيبزغ الضوء ويمكن الإبصار)، أفهذا محض نمط فني، أم أنه يطفو فيه إلى ذلك عامل نفسي متصل بمعاناة أولئك الشعراء؟ لنتابع النظر في أنماط أخرى تدور في فلك النمط الآنف، وإن اختلفت في أسلوب التركيب قبل محاولة الإجابة عن ذلك.

 

يقول بشار:

والشمس في كبد السماء كأنها
أعمى تحير ما لديه قائد

 

ويقول (المعري):

قد ركضنا فيه إلى اللهو لما
وقف النجم وقفة الحيران

ويقول:

بلاد يضل النجم فيها سبيله
ويثني دجاها طيفها عن لمامه

 

يقول ((التطيلي)):

والنجم حيران من أيم ومن ضجر
فلو هوى أو عداه مجراه ما شعر

 

ويقول (التطيلي) كذلك:

ترى الكواكب حيرى في دجاه
كما جالت حِجا الماء في خضر القوارير

 

ويقول (البردوني):

ثقيل الخطى يمشي الهوينى بجوعه
وأحزانه مشي الضرير المقيد

 

ويقول في صورة ثانية:

والليل يسري كأعمى ضل وجهته
وغاب عن كفه العكاز والهادي

 

وفي صورة ثالثة:

وفتش عن قدميه الدجى
ودب كأعمى يجوس الحفر

 

إن تكرار الصورة على هذا النحو لا يتفق إتيانه تماماً وليد الصدفة، أو التقليد المجرد، بل هو قبل هذا معنى يلح على ذهن كل واحد منهم ونفسه، وهم فيه لا يكتفون بالتعبير عن الحيرة والقلق اللذين يستبدان بحياتهم، بل يومؤن أحياناً كذلك إلى ذوات أنفسهم بالكوكب الوضّاء الذي ما كان له أن يحار، سواء أكان شمساً أم نجماً أم جمع كواكب، وما كان لهذه الصور ومثيلاتها أن تنبئ عن هذه الرموز لولا أنها كونت نمطاً يحتفي به هؤلاء الشعراء، إضافة إلى تضافره مع أنماط أخرى تسلك الوجهة نفسها.

 

وبهذا نقتنص خيط الضوء الذي يمكن أن يفسر تقاطرهم على تصوير العمى: (الظلام المشقوق بفعل الضوء في النمط الأول)، كما يمكن في هذا الضوء تأمل معظم أنماطهم الأخرى.

 

ترى هل من تنكب السبيل إذن النظر إلى نمط (مثار النقع) المشهور الوارد في القصيدة نفسها، التي منها صورتا (بشار) السالفتان عن انشقاق العمى في ضوء هذه المعطيات؟ فقد ولد عند بشار لا في بيته المشهور فحسب، ولكن في ثلاثة أبيات أخرى أيضاً، ويمكن تصور تسلسلها في تجربته الشعرية حسب الرصد التالي:

يقول:

لهام كأن البيض في حجراته
نجوم سماء نورها متجوب

 

يقول:

خلقنا سماء فوقنا بنجومها
سيوفاً ونقعاً يقبض الطرف أقتم

 

ويقول في صورة ثالثة:

كأنما النقع يوماً فوق أرؤسهم
سقف كواكبه البيض المباتيل

 

ويقول في الصورة الربعة المشهورة:

كأن مثار النقع فوق رءوسهم
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

 

إذن فقد سيطرت الصورة في تشكيلاتها البلاغية على ذهن الشاعر، لكنها لم تكتمل لها ملامحها الإبداعية إلا بهذه الإضافة الأخيرة: (ليل تهاوى كواكبه)، مما يشير إلى أن ما تحقق في هذه الصورة ليس هو البناء البلاغي الذي قيل: إن بشاراً كان يطمح إليه، وتعلمون أن هناك إشارات كثيرة إلى هذا قديماً من قولهم مثلاً: إنَّ بشاراً قال بأنه لم يزل منذ سمع بيت امرئ القيس:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العناب والحشف البالي

 

ظل يعمل نفسه في تركيب صورة تشبه شيئين بشيئين حتى قال بيت (مثار النقع)، وهذا يشير إليه الأصفهاني في (الأغاني)، وصاحب (معهد التنصيص) وغيرهما.

 

لكن الذي حقق لهذه الصورة ذلك هو هذا البناء المنبعث من نفس الشاعر، ومن أدق إحساسه بمعاناته، هذه الملامح الرمزية التي تكشف وجودها في أنماط أخرى، منها النمطان السابقان: نمط انشقاق الظلام (العمى)، ونمط الشمس الحيرى (الأعمى)؛ في الصورة التي أشرنا إليها، تلك الأنماط هي التي منحت صورته هذه ما لم يهيئ لتقلباتها الأخرى التي أخذت بعض مخايلها مثل: (سماء)، (نور)، (نقع) (يقبض الطرف أقتم) (سقف)، كل هذه العناصر وجدت في الصور السابقة، فلم لم تكن لها هذه المكانة الفنية الإيحائية سواء عند الأعمى أو عند المبصر؟ لأنها لم تجئ بتلك التركيبة الإبداعية المبهرة في: (ليل تهاوى كواكبه) التي انبسقت في لحظة عاد فيها الشاعر إلى نفسه يمتح من أعمق ما فيها.

 

ثم أُغرم بنمط (مثار النقع) زملاؤه هؤلاء غراماً لعله فاق غرام سواهم من المبصرين، هذه الصورة تكررت لدى المبصرين أيضاً بعد (بشار)، لكن العميان كرروها أكثر من المبصرين، يدل على ذلك تكرار الواحد منهم الصورة أكثر من مرة.

 

فـ(العكوك) يكررها مرتين، و((المعري)) يكررها ثلاثاً، وكذا يفعل ((التطيلي))، وهو غرام لما أمضينا يتجاوز الإعجاب الفني الذي نشأ نظيره عند البصراء إلى خصوصية المشاركة الذهنية والروحية بين هؤلاء الشعراء، وهذا النمط ليس في حقيقته سوى تخييل لما تقدم من صراع الضوء مع الظلمة الذي مرت صوره عند (بشار)، وعند (العكوك) وعند ((التطيلي))، وعند ((المعري))، وعند (البردوني) كذلك.

 

ومن الأنماط الخاصة لدى بعضهم حول الظلام نختار تمثيلاً ما يمكن تسميته: [نمط الليل الزنجي عند ((المعري))].

 

وهو يرد في ثماني صور للدلالة على السواد أو الظلمة، وما يرمزان إليه من ألم ومعاناة، ولا تفارق سياق الصورتين المتبقيتين تلك المعاني.

 

يقول ((المعري)) في وصف البرق، وما يكونه من صورة مع ظلام الليل:

إذا ما اهتاج أحمر مستطيراً
حسبت الليل زنجياً جريحا

 

ويقول:

فكأني ما قلت والبدر طفل
وشباب الظلماء في العنفوان
ليلتي هذه عروس من الزنج
عليها قلائد من جمان

 

وفي صورة ثالثة:

وليلة سرت فيها وابن مزنتها
كميت عاد حياً بعدما قبض
كأنما هي إذ لاحت كواكبها
خود من الزنج تجلى وشحت خضض[1]

 

وفي صورة رابعة يقول:

نهار كذي اللب العديم وليل
كإحدى بنات الزنج يلعبن بالدكر

 

وفي صورة خامسة:

ويؤنسني في قلب كل مخوفة حليف
سرى لم تصح منه الشمائل
من الزنج كهل شاب مفرق رأسه
وأوثق حتى نهضه متثاقل

 

ويقول:

كأن الأنواف الخرس فوق غباره
طوالع شيب في مفارق أسود

ويقول:

كعصبة زنج راعها الشيب فازدهت
منافيش في داجي الشيبة أفرع

 

ويقول:

فهل عاينوا في مضجعي لجرائمي
كتائب من زنج تروع ونوب

 

ويقول:

سرت لها ترمح أبناءها
في الجو بُلق عربيات
أو نسوة الزنج بأيمانها
للرقص قطب ذهبيات

ويقول:

وليل طلا قاراً بقار وأكمه
مراقبة من شهبه حدقاً زرقا
إذا نشأت فيه الغمامة خلتها
بإيماضها زنجية فصدت عرقا

 

وكل هذا عند تحليله: (سيكلوجية إحساس الشاعر بالذات وبالعالم حوله).

 

وأحد مفاتيح هذا التحليل ينطق به قول ((المعري)) عن الدنيا في صورة أخرى غير نمطية، أي: غير متكررة، لكنها تمثل صورة من هذه الصور، وإن لم تتكرر بتركيبها الفني المحدد، يقول مشيراً إلى الدنيا:

لم ألفك الثقفي بل عرسي
هي السوداء ما جهزتها بطلاق

 

أما (البردوني) فهو أكثر أولاء الشعراء في اصطناع الأنماط الخاصة به، فإلى جانب أنماطه المشتركة مع زملائه تتعدد أنماط أخرى لديه عن الظلام[2]، كما تتمثل في صور الظلام الذي يشبهه بالأشلاء أو بالجثث، أو يقول واصفاً الظلام: بأن وحشته خرساء، أو بأنه كالصمت الجاثي، والصور تتوالى في أبياته متداخلة بحيث يحسن عرضها كما جاءت.

 

يقول:

حيث تهوى قطع الظلما كأشلاء الضحايا
وتطل الوحشة الخرسا كأجفان المنايا
والدجى ينساب في الصمت كأطياف الخطايا
والسكون الأسود الغافي كأعراض البغايا

 

وفي صورة ثانية:

وغفت بأحضان السكون وفوقها
جثث الدجى منثورة الأشلاء

 

وفي صورة ثالثة:

ووحشة الظلمة الخرسا تهددني
كأنها حول نفسي طيف جلاد
والصمت يجثو على صدر الوجود وفي
صمتي ضجيج الغرام الجائع الصاد

 

فيتبدّا إذن من التركيب ولغة الشاعر اقتران الظلام بالموت، أو بحياة أشبه بالموت، وحري بالإشارة تساوق[3] الصور في هذه الأنماط على اختلافها لديهم جميعاً، أي: أنها تأتي في سياق قصيدة واحدة في كثير من الأحيان، مما يعني أنها تمثل تياراً نفسياً واحداً لدى الشاعر، مما يدل على اتحادها في كنه مصدرها، وإن تفرقت انتماءاتها التركيبية، فقد تختلف في التركيب، لكنها تجتمع في العنصر والخيط الذي يربطها.

 

أنماط تصوير الضوء

أما الضوء ففي صورهم البصرية مجموعتان نمطيتان:

• الأولى: يمكن تسميتها (الصباح - الماء) يشبهون الصباح بالماء.

• الأخرى: (الصباح - السيف) يشبهون الصباح بالسيف.

 

والمجموعتان تخصان (المعري) مع اشتراك ((التطيلي)) في الأولى منهما، وصور المجموعة الأولى هي:

يقول (المعري) متحدثاً عن الإبل:

تخيلت الصباح معين ماء
فما صدقت ولا كذب العيان
فكاد الفجر تشربه المطايا
وتملأ منه أسقية شنان

 

وفي الصورة الثانية يقول:

كأن سنا الفجرين لما تواليا
دم الأخوين زعفران وأيتع
أفاض على تاليهما الصبح ماءه
فغير من إشراق أحمر مشبع

 

ويقول في الصورة الثالثة:

والصبح قد غسل الدجى بمعينه
إلا بقية إثمد الأشفار

 

(التطيلي) يقول في صورة شبيهة بهذه:

والصبح في الظلماء سقط في فحم
تنسل عنه تارة وتلتئم
حتى فرى تلك الدياجي فحسم
وسال بالنجوم سيلة العرم

 

وعلماً بأن ضوء الصبح يشبَّه بمعين الماء عند شعراء آخرين، سوى أن تكراره هذا لدى (المعري) أمر يدعو إلى التأمل، وأخذه مأخذاً أبعد من ظاهره الخارجي، فلم يشبَّه بالماء ضوء الصباح بخاصة فيكون هذا الماء المشبه به ريَّاً وحياة تارة، وكاشف ظلمات تارة أخرى.

 

ثم هل من علاقة بين هذا النمط والنمط التالي الذي يكون فيه الصباح شبيهاً بالسيف؟ حيث يقول:

ولا يهولنك سيف للصباح بدا
فإنه للهوادى غير قطاع

 

ويقول:

حتى بدا الفجر به حمرة
كصارم غير منه الدم

 

ويقول:

كأن ضياء الفجر سيف يسله
عليهم صباح بالمنايا مذرب

 

ويقول:

ولائح هذا الفجر سيف مجرد
أعان به صرف الزمان معين

 

ويقول:

وإن زماناً فجره مثل سيفه
هلال دجاه في مخالبه الحجن

 

فالصباح يساوي الماء في هذه الصور، والصباح يساوي السيف، وفي النهاية نستطيع أن نقول بأن السيف يساوي الماء في المقابلة النهائية لهذا المركب.

 

ومؤدى هذا مختزلاً أن الصباح يعادل - لدى هؤلاء الشعراء في هذه الصور- الماء، فللماء في هذه الصور إيحاء رمزي خاص، مهما يكن قوة أو ضعفاً؛ فإنه يأتي من اقترانه بالضوء وجعله في مضادة الظلام، إذ هو عند (المعري) في الصورة الثانية والثالثة الآنفة (ماء يغسل الدجى)، وهو كذلك عند ((التطيلي))، وهو أيضاً عندهما (حسام يفري الدياجي)، فالماء إذن يشير إلى التوق لميلاد صبح جديد يغسل الظلام، ويقصي كل بلاياه، وإذا لم يكن لتأويل الماء في هذا النمط برمزية إنسانية أولية، من المعروف أن علماء النفس يفسرون ويؤولون أمر الماء سواء في النصوص الأدبية، أو حتى في الأحلام يقولون بأنه (نموذج تعبيري ورمزي لا شعوري عن الرغبة في الميلاد الجديد) حسب تعبيرهم، ويستدلون بأنماط في التراث الإنساني عموماً.

 

هناك بحث باللغة الإنجليزية لباحثة اسمها: (موت بوت كين)، وهي من المحللين النفسيين، وفسرت هي وغيرها مثل هذه التعابير بالماء في النصوص الأدبية وفي الأحلام.

 

وكذلك هناك من يفسر الماء بأنه رمز للعقل أو النفس، وفي العصر الحديث لدى المدرسة التي تسمى بالمدرسة التعبيرية يتخذون من الماء أيضاً رمزاً لانبعاث الأمل، أو الصبح الجديد من رحم المعاناة والصعاب التي يمر بها الإنسان.

 

لكن على أية حال إن لم يكن تأويل الماء في صورة العميان على هذه الناحية، لكن هنا وجاهة خاصة لهذا التفسير عند العميان، بناء على خصوصية الجدلية لديهم، التي لاحظناها بين صورة الضوء، وصورة الظلام، فإذن الضوء الذي يرتبط بالماء ارتبط بالماء؛ لأن الضوء يمثل أملاً في غد جديد.

 

تلك أمثلة على ما ضمته الدراسة من أنماط الظلام والضوء في صور العميان البصرية، وهناك شواهد أخرى متعددة، لكن لعله قد اتضح من هذا القدر أن الظلمة والضوء كانا من لوازم الطبيعية النفسية لدى الأعمى كما يؤكد البردوني في قوله: (لأن للنفس عالمها المزيج من الظلام والضياء، ومن هذا لا أرى ظلاماً ولا ضياء، وإنما أتصور تحت تأثير الحالات هذا الضوء وهذا الظلام)، وفي هذا الانفصال عن دلالات الواقع الحسي تكمن خصوصية القيمة الرمزية لصور العميان البصرية، وضرورة أخذها ذلك المأخذ الخاص في القراءة، مهما قد تبدو على بعضها المباشرة أول وهلة، فكيف والصور تتواتر في أنماط متكررة كهذه، يعضد بعضها بعضاً ويفسره.

 

وأنماط الحقول الأربعة لصور العميان البصرية، وهي: الظلام، والضوء، والمرأة، والألوان، والأشكال؛ تعد بمثابة الأصول في تكوين صورهم البصرية، هذه المركبات نجد لها أصداء أخرى في شعرهم مختلفة، وكأنها تمثل مصادراً لاشتقاق صور أخرى، لكنها قد لا تأتي بهذا الاكتمال الذي رصدنا في هذه الصور البصرية بالتحديد، ومنها ما هو نمط ذهني تعبيري، أو ذهني يختلف عنه التعبير فيما بينهم، وذلك كمعظم أنماط تصوير الظلام، ومنها ما يخص شاعراً أو فئة دون فئة أخرى، تبعاً للمشترك من الأسباب والمفترق.

 

ويمكن القول أن من الأسس التي تقوم عليها مركب الصور البصرية الإبداعي في شعر العميان، الأسين التاليين:

1- الطبيعة النفسية التي تمثل تولد الصور البصرية الذهنية بخاصة وتكونها، سواء كانت مرتبطة بحالة العمى ذاتها، تصور الظلام والسواد أو الضوء، أو بباعث آخر؛ كالغريزة في مركبات تصوير المرأة عند (بشار)، بحيث تستحيل عناصر الصور البصرية إلى موحيات ورموز خاصة، يكشفها التكامل بين صور النمط الواحد، وبتمايز هذه الطبيعة في درجاتها وأنواعها بين الشعراء حسب شخصياتهم، ودوافعها، تتمايز فيما بينهم مركبات الصور.

 

2- استغلال المعلومات الأولية عن حقائق الأشياء أو نصوص الآخرين، ولاسيما في الصور البلاغية، يعمل فيها الشاعر ذكاءه؛ لتوليد صور متعددة عن طريق إعادة التركيب.

 

من حالة (استغلال المعلومات):

نمط يمكن أن نسميه نمط: (الحديد - الماء).

 

تصوير تشبيه الحديد بالماء لدى ((المعري)) خاصة، ومن هاتين الصورتين النمطيتين على سبيل المثال يقول:

مقيم النصل في طرفي نقيض
يكون تباين منه اشتكال
تبين فوقه ضحضاح ماء
وتبصر فيه للنار اشتعال

 

وهناك صورة (للتطيلي) أيضاً تشبه هذه عندما يقول عن السيف:

مشكل الفعل بين ماء ونار
بدعة في الأضداد والأشكال

 

وهذا التشبيه تقليدي، ولكن الشاعرَين بالغا في استغلاله مبالغة هي في حد ذاته مناط النمطية لديهما، ومناط الاهتمام بهذا التقليد، كما أن ترداد تشبيه الدرع بالماء عند ((المعري)) هو على تقليديته أصله مناط نمطية خاصة به، فالمعري له ديوان كامل بعنوان (الدرعيات)، كله عن الدرع، ويدور حول هذه الصورة تماماً؛ من تشبيه لون الدرع، أو شكل الدرع بالماء، فيمثل مثار اهتمام خاص، لا من حيث انفراده به، ولكن من حيث انفراده بالمبالغة في تكراره، ولا تفهم علة لهذا غير أن الصورة قد آلت عند ((المعري)) و((التطيلي)) قالباً جاهزاً يباهيان به المبصرين، ولذا فإن (المعري) يقلب المشكلة ليشتق صورة أخرى، حينما يجعل الماء هو الذي يشبه الحديد في تشبيهه الماء بالمبرد؛ في قوله يذكر ورد إبل:

إلى بردى حتى تظل كأنها
قد شرعت فيه لو اثم مبرد

 

فهنا يشبه الماء بالحديد، ثم يقلب هذه الصورة تارة أخرى فيقول:

وكل أبيض هندي به شطب
مثل التكسر في جار بمنحدر

 

يقلب هذه الصورة مرة على هذا الوجه، ومرة على هذا الوجه، فيوهم المتلقي بهذه الإضافة الماثلة في نتوءات المبرد المقابلة لتموجات سطح الماء أو بتكسرات الماء الجاري بمنحدر، المقابلة لشطب السيف وطرائقه، أنه أمام مشكلتين جديدتين، في حين أن الصورتين تعودان أساساً إلى نمط (الحديد - الماء) الذي أشرنا إليه، وما هاتان الإضافتان سوى فضلتين خادعتين استطاعت بهما براعة الشاعر الإبداعية رسم لوحتين شكليتين معبرتين.

 

ومن الحالة التي يستغلون فيها: (التناص) إنه لما قال (حسان بن ثابت) رضي الله عنه:

لو أن اللؤم صور كان عبداً
قبيح الوجه أعور من ثقيف

 

وقال (ذو الرمة):

زرق العيون إذا جاورتهم سرقوا
ما يسرق العبد، أو نبأتهم كذبوا

 

فاشتق من ذلك (بشار) ما صور به علل البخيل، فقال:

وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود

 

وقد قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾[4]: عيونهم مع سواد وجوههم، غير أن لـ(بشار) مع هذا الأخذ عن النصوص السابقة أنه نقل هذا المركب إلى علل البخيل؛ لتشخيصه في أبشع صورة، وما على القارئ إلا أن يراجع ما يقل في اللونين الأزرق والأسود ودلالاتهما عند العرب، فكيف إذا اجتمع اللونان الأزرق والأسود في شكل نافر كهذا الذي صوره (بشار)؟!


مهما يكن فإنهم يقعون في الخطل الواقعي أحياناً نتيجة إصرارهم على التمادي في مقابلات بصرية، بينما يكونون بمنجاة من ذلك بترفعهم عن الصور البلاغية، أو ببلاغة غير مباشرة في نقل تفاصيل المبصر.

 

ننتقل إلى المحطة الثالثة في هذه الدراسة عن:

مدارات الدلالة:

وذلك إيغالاً في دراسة البناء الفني، ومصطلح (الدلالة) هنا في هذا البحث ينصرف إلى ما يماثل الدلالة الوضعية في علم اللغة، أي دلالة الدال على معناه الموضوع بإزائه، حيث يشير هذا البحث إلى مضامين الصور من الموضوعات المتخلفة، ومدخل الاستنتاج يكمن هنا فيما يكشف وراء الاتجاه الموضوعي الظاهر من نهج ضمني باطن، ممن تكون له دلالاته على البناء النفسي والذهني لدى الشاعر، وأهم نتائج ذلك ما يلي:

1- يشمل المدارات الحسية ميل غالب نحو تصوير الموضوعات المتصفة بالكلية والعموم والإطلاق، لتصوير البحر والبيداء والليل مثلاً، مقابل الجزئي والخاص والمقيد، لتصوير منظر طبيعي محدد، أو نبات أو آنية.

 

2- يتفق الاتجاه المداري الرئيسي بالمعنويات، أي تصوير الأمور المعنوية تصويراً بصرياً مع نظريه الحسي في رجحان النماذج الدائرة في فلك ما يدل على الشؤم، على الدائرة في فلك ما يدل على الفأل.

 

3- دوران صور الكمه - وهم حسب الراجح: (بشار)، و(العكوك)، و(الحصري) - على الموضوعات الحسية أكبر من دوران صور الأضراء وهم: (المعري)، و(التطيلي)، و(البردوني)، وهنا الفارقة، الأكمه هو الذي ولد أعمى ولكنه يأتي أكثر محاولة لتصوير الموضوعات الحسية يقابل ذلك لديهم قصور تام أو جزئي أحياناً في الدوران على المعنويات، فهم يميلون إلى تصوير الحسيات، بينما الأضراء يميلون إلى تصوير المعنويات، ولهذا تعليل سنقوله بعد أن نفرغ من هذا الوصف التفصيلي.

 

4- تخييل الواقع هو أوسع مخارج الأعمى إلى التصوير البصري، على حين تمثل محاكاة الواقع مخرجاً ضيقاً إلى التصوير.

 

باكتمال بحث الصور البصرية شكلاً وموضوعاً؛ يتأسس ميدان استكشاف للنظام الكلي الذي يحكمها، واستنباط النسق الذهني الذي يقف وراء نماذجها النمطية، ويطبعها بطابعه.

 

ونقصد بالنموذج النمطي: هو تلك الظواهر التي رصد التقائهم فيها على مستوى دوال النصوص مفردة ومركبة، أو على مستوى المدلولات، ومكونة وحدتها الخاصة، ضمن إطار النموذج الذي يتداعم بدوره مع النماذج الأخرى لإرساء: (النظام الكلي العام) لنقف آخر الأمر على شبكة من العلاقات، تبعث على تدبر منطقيتها الفنية والذهنية لدى هؤلاء الشعراء.

 

وقد رصدت الدراسة في ذلك ظواهر درجت في خمس نماذج تمثل:

1- وحدة بناء الصور.

2- وحدة أدواتها.

3- وحدة أدائها.

4- الوحدة النفسية.

5- الوحدة الكلية الجامعة لهذه الوحدات الفنية التي أشرنا إليها في حصيلة النموذج النمطي الأول - أي المشترك بينهم - الذي يشتركون فيه، والذي يمثل وحدة بناء معين يتكرر لديهم بشكل متشابه، يظهر أن الألوان الثلاثة: (الأبيض، والأسود، والأحمر) التي التقى العميان على استعمالها، تؤول في صورهم إلى وحدة رمزية غالبة، وكأنها لون واحد هو الأسود بإيحائه بالمعاناة، وبالخوف، وبالموت، إلى غير ذلك.

 

وعلى الرغم من قيام علاقة فيزيائية وتاريخية بين هذه الألوان؛ فإن ما ظل مع ذلك في مفهومها عند العرب من اضطراب ما يزال مؤكداً على استحالتها عند الأعمى إلى محض رموز نفسية تستند في استخدامها على المثقوفات الدلالية المجردة عن هيمنة المعنى الحسي، فالألوان لدى العرب ليست محددة في دلالاتها، بل نجد فيها اختلاطاً واسعاً، فكيف عندما يستخدمها الشاعر الأعمى، إنه عندئذ لا يستخدمها كمدلولات واقعية، وإنما يستخدمها كمعادلات موضوعية لما يدور في خلده.

 

ومن تحليل بنيات هذا النموذج النمطي الأول عموماً؛ يتراءى رابط واحد يجمعها، هو تلك السوداوية التي تسيطر على النموذج في كل جزئية من جزئياته في صراحة أو خفاء، ليأتي النموذج كله موسوماً بميسمها النفسي، وتنبؤنا وحدة النماذج النمطية للأدوات والأداء من خلال ميلهم إلى الرمز والتخييل ونأيهم عن المحاكاة، عن بعد ما بين الصورة البصرية في شعرهم والواقع، وأنهم نزاعون إلى اصطناع عالمهم الخيالي الخاص، وهذا النزوع طبعي في مبدئه، يضطرون إليه اضطراراً، غير أن عوامل أخرى في غضون ذلك كانت تأخذ دورها في تجذير هذا الانزواء، وذلك ما تسفر عنه وحدة النموذج النفس بما تدل عليه أنماط تصوير الظلام في هذه الوحدة من باعث نفسي يتمحور حول معاناتهم في عالمهم المظلم، ورعبهم منه، ثم ما يكشف عنه بحث الدلالات من رجحان مضامين الصور الدائرة - كما قلنا - على الشؤم، والبعد عن التفاؤل، وعندما نقول هذا فالحكم فيه نسبي وليس بإطلاق، ولكن هذا هو ما وجدناه مثل المادة التي بين أيدينا.

 

وصلات النماذج النمطية هذه تخلص بها إلى وحدتين أساسيتين:

1- وحدة أدائية .

2- وحدة نفسية.

 

وتتمثل الأولى في التخيل والأخرى في التشاؤم، فإذا نظر إليهما أُلفيتا بدورهما تفضيان إلى سبيل واحدة تجمعهما في النأي عن الإلف، مما يؤهل هذه الوحدة الكلية النهائية بعيداً عن أي مقصد نعت أخلاقي لاتخاذ مصطلح : (وحدة التوحش).

 

التوحش هو البعد عما ألفه المبصرون، وليس لهذا أي دلالة اجتماعية أو عقدية، أو شيء مما قد يتبادر إلى الذهن، والتوحش يرادف في الاصطلاح: (الشعور بالغربة) و(اللا إنتماء)، ونعني بـ: (باللا إنتماء) هنا شعور المرء بأنه بعيد عن البيئة المحيطة به رغم أنه ينتمي إليها، وهذه المعاني هي تلك التي رأينها تشكل وحدات النظام، وتتحكم في اتجاه تحركاتها نحو الصور، وما هي إلا أن توضع اليد على هذا النموذج الجامع الذي اصطلح عليه بذلك المصطلح حتى تهفو إليه ملامحه من صورهم البصرية ومن خارجها[5]، على أن التوحد ليس سوى مفردة من جملة التوحش، وهذه التي تتردد على أنحاء مختلفة عند جميع هؤلاء الشعراء لا عند (أبي العلاء) وحده، ولذا كانت رمزية (السواد والظلام) مشتركة بينهم كما سلف القول، إضافة إلى أشياء أخرى نجدها عند (بشار) في تصوير المرأة وتشبيهها بالحية، وغير ذلك من الأمثلة التي جاءت في الدراسة.

 

بل أن التوحش هذا لا يجدونه من أنفسهم بأنفسهم فيطلقونه عليها دونما انتباه لذلك أحياناً، فيصف (المعري) نفسه بقوله: (أنا وحشي الغريزة، إنسي الولادة).

 

فيقول طه حسين تعليقاً على هذا الاعتراف: (فهذه الغريزة الوحشية يستحيل أن يصدر عنها إنسي الشعر، وكما أن صاحبها غريب الأطوار، فشعره وآثاره الأدبية ينبغي أن تكون مثله).

 

وإذ يربط طه حسين هذه الوحشية بـ: (المعري) فقد ثبت مما مضى أنها ليست خاصة به وحده من دون العميان، حتى أن طه حسين نفسه ليقول هو الآخر عن نفسه في كتابه (الأيام)؛ يصف نظرته وإحساسه بالعالم الخارجي: (كان يرى نفسه في كلمة أبي العلاء حين قال: إنه إنسي الولادة، وحشي الغريزة، كان يرى نفسه إنساناً من الناس، ولد كما يولدون، وعاش كما يعيشون، مقسم الوقت والنشاط فيما يقسمون فيه وقتهم ونشاطهم، ولكنه لم يكن يأنس إلى أحد، ولم يكن يطمئن إلى شيء، وقد ضرب بينه وبين الناس والأشياء حجاب، ظاهره الرضا والأمن، وباطنه من قبله السخط والخوف والقلق، واضطراب النفس في صحراء موحشة، لا تحدها الحدود، ولا تقوم فيها الأعلام، ولا يتبين فيها طريقه التي يمكن أن يسلكها، وغايته التي يمكن أن ينتهي إليها).

 

ففي الوقت الذي يعلل (طه حسين) أدب (المعري) يغفل عن أنه هو أيضاً من هؤلاء الناس، وينظر بهذه النظرة.

 

وفي هذا كله ما تتيقن به غلبة هذه النزعة على أنفسهم - ونقول ونؤكد على أنها غلبة وليست اضطراد - وصدق مصطلحها هذا على نموذجهم، كما انتهت إليه وحدة نظامهم في التصوير البصري، وذلك إذن هو مولد الطاقة الكلية لنظام الصورة البصرية العام في شعر العميان، ممن تكون الخلجات النفسية، إلى تجليات التشكل الفني.

 

بين الأكمه والضرير:

عند هذا يقوم نظام الصورة البصرية ماثلاً لاستجلاء مكنوناته من جهة، ومقايستها بآفاق النظم التصورية عند غير العميان من جهة أخرى؛ للتمحيص داخلياً وخارجياً موازنة بين الأكمه والضرير، ثم بين الأعمى والمبصر.

 

ملامح نظام الصورة البصرية موزعة بما يرسم خوارط داخلية للنظام ولموقع كل فريق، ففي خارطة البناء التي تمثل افتراق الكمه عن الأضراء، داخل وحدة البناء لصور العميان البصرية؛ يتبين فيها أن الكمه يميلون جميعاً إلى البياض في صورهم أكثر من السواد الذي يميل إليه معظم الأضراء، وكذا فالكمه أكثر من عبر بالسواد عن الجمال، وتحتل العناصر الحسية نسبة أكبر من معاجمهم الفنية غالباً، كما تجنح كثافة تصويرهم البصري إلى التصدر على نظرائهم.

 

وبالموازنة في مركبات الصور يرجح احتفال الكمه بأنماط تصوير المرأة، مقابل رجحان احتفال الأضراء بأنماط تصوير الظلام، فما عساها تكون أسباب ذلك؟

• إن صدمة الضرير بفقد بصره وما يثير من اضطراب في نفسه والتباس؛ لقمين أن يجعله شديد الحرج في استخدام العناصر الحسية، فلا يعي ما قد يمتاز به على الأكمه من معرفة حسية مفيداً له بقدر ما يثير في نفسه الإشفاق في خطاء حينما يصور.

 

• ثم إذا كانت الألوان تنبثق في نفس الضرير لكل ما يحيط به من مادي أو معنوي كما يخبرنا (البردوني) فيسعى للموازنة بين ما يحس وما يذكر قبل عماه؛ فلعل الأكمه أوفر حظاً من هذا الإحساس الكثيف بألوان الرؤية الداخلية تلك، حيث تستحيل عنده إلى ترميز نفسي بحت، تتحرر فتنداح في معانيه غير واقفة عند حد، إذ لم تعد رهينة مدلولها الواقعي، ولا حتى عرضة للمسألة في تصويره كي ما تكون في ضوء ما عرفه قبل عماه، ويمكن أن يلحظ  ذلك مثلاً في ألوان النمط التالي من أنماط تصوير صوت المرأة لدى (بشار) - وهو أكمه - يقول:

 

1- وحديث كأنه قطع الروض
زهته الصفراء والحمراء

 

2- وكأن رجع حديثها قطع
الرياض كسين زهرا

 

3- كأن رياضاً فرقت في حديثها
على أن بدواً بعضه كبرود

 

4- كأن عليها روضة يوم ودعت
بأقوالها خوفاً وراحت ولم تعد

 

5- وبكر كنوار الربيع حديثها
تروق بوجه واضح وقوام

 

6- بدليل وحديث
مثل تنوير النبات

 

7- ولها مضحك كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود

 

8- وبيضاء مكسال كأن حديثها
إذا ألقيت منه العيون برود

 

9- يساقطن للزير الموكل بالصبا
حديثاً كوشي البُرد يغرين[6] في الورد

 

10- وإنا ليجري بيننا حين نلتقي
حديث له وشي كوشي المطارف

 

11- لها منطق فاخر فاتن
كحلي العرائس يستملح

 

12- كالحلي حسن حديثها
ودلالها إحدى المصائد

 

13- يحيي الهوى برخيم من مناطقها
مفصل كنجوم الغارب الزهر

بعد هذا عند قولنا: إن الشعراء الكمه مغرمون بالتلوين لا يمكن أن نتجاهل الحافز النفسي التعويضي ما لم يكن استهلالاً للتعليل، إلا أن فاعليته عند الأضراء قد لا تساوي فاعليته عند الكمه وإن افترض أنه لديهم أقوى؛ ذلك أنهم قد خبروا الإبصار، وتجسد في أنفسهم العجز، لكن هذا الإحساس نفسه يثبط الحافز، محاصراً دوره بين صراع الرغبة والرهبة، وتؤكد الأدوات، أو خارطة الأدوات، والخارطة النفسية ما دل عليه البناء من انعكاس الطبيعة النفسية والذهنية لكل فريق من الكمه والأضراء على صوره، كما يؤيد الاستئناس بالدراسات النفسية ما تمخضت عنه الموازنة من تلك الفوارق بينهما.

 

وبذا يعرف موقف كل منهما، حيث يبدو الأضراء أرسخ أقداما في نموذج التوحش، على أن النظام يظل واحداً، غاية الأمر أنهما ليسا في موقعهما منه على مساواة تامة، فعوامل الاختلاف النوعي بين عماهما قد نجمت عنه الاختلافات: ذهنية، ونفسية، ففنية، حددت مكان كل شاعر منهما على الخارطة الكلية لتصويره البصري بتفريعاتها المختلفة.

 

بين الأعمى والمبصر:

وهنا نقف على الموازنة بين الصورة البصرية في شعر العميان، والبصرية في شعر المبصرين؛ لمحاكمة ما مر من ظواهر أسهمت في تكوين الوحدة النظامية لصور العميان البصرية، والوقوف على خصائصها، ودرجة استقلالها الفني.

 

وقد انتخبت للموازنة بالعميان عينة مكونة من ثلاثة شعراء مبصرين، مراعياً في الاختيار التكافؤ ما أمكن في البيئات، وقبلها في كون الشاعر مصوراً فنياً معتداً به، والشعراء الثلاثة هم:

1- أبو نواس الحسن بن هانئ، المتوفى (198هـ).

2- ابن دراج القسطلي الأندلسي، المتوفى (421هـ).

3- الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، المتوفى (1388هـ).

 

فالدراسة تخوض مع هؤلاء الثلاثة التجربة ذاتها التي خاضتها مع العميان، استقراءً للشعر، ودراسة لعناصر الصور البصرية فيه بمستوياتها المختلفة؛ لتنبثق من ذلك خصائص الصورة البصرية في شعر العميان، التي تتأكد من خلالها هوية الوحدة النظامية لتصوير العميان البصري.

 

وتخلص الموازنة بين العميان والمبصرين إلى أن خصائص الصورة البصرية في شعر العميان تتمثل في النقاط البنائية، والنفسية، والأدائية التالية:

1- استغلال مادة الصورة، بالرغم مما قد يظهر من ضعف عناصرها كثافة وتنوعاً، وأهم ما ينتج عن ذلك تقدمهم على المبصرين في كثافة التلوين، ثم في كثافة التصوير البصري عمومه، وذلك نتيجة أفكار العميان البديلة عن الألوان التي تتولد وتتكاثف بتعدد المواقف والأحاسيس، عن طريق الترابطات بينها والألفاظ، أو الانفعالات التي يتعرض لها الأعمى، كارتباط الأزرق بالسماء مثلاً، أو الأحمر بالدم، أو بعض أنواع اللباس، أو المشاعر النفسية المختلفة، ومن ثم تصبح مختلف المعاني، أو الإحساسات والانفعالات التي ترتبط بالسماء، أو يوحي بها الطقس الجميل قابلة لأن تدل على أفكار بديلة للزرقة عند الأعمى، وبذلك ترتبط كل هذه المعاني والإحساسات والانفعالات في ذهنه بما يسمى باللون الأزرق.

 

وتختلف هذه الأفكار البديلة للألوان باختلاف الأفراد، بل تكون قابلة للاختلاف عند الشخص الواحد، باختلاف المواقف وتجددها، وتولد بعضها من بعض، ويمكن تصور نشوء روابط متعددة أو مختلفة أو حتى متناقضة للون الواحد أحياناً، لتعدد المواقف والانفعالات وتباينها، وذلك كله يكون جزءاً مهماً من حياة الأعمى التصويرية، ومن ذخيرته اللغوية.

 

فكأنما عجز الأعمى عن تمييز الألوان في حدودها الواقعية التي يقف عندها المبصرون يصبغ ذهنه بمساحات لونية خاصة، تتمدد بتمدد الفكر والأحاسيس، وتشعبهما في حركة رأسية تغور إلى أعماق النفس الإنسانية الفطرية، وأفقية تنداح في شبكة سلسلية من الترابطات والعلاقات.

 

2- وبنقيض التلوين يقل عنصر الحركة والخيال الحركي في صور العميان عن نسبته في صور المبصرين؛ مما يجعل صورهم أقل نبضاً بالحياة الواقعية، فمع أن الحركة مما يمكن إدراكه حسياً بأكثر من حاسة، وليس خاصة بالبصر وحده كاللون، إلا أن توظيفها في إبداع الصورة البصرية أمر آخر مختلف عن إمكان الإدراك الحسي المباشر، فتحررهم في الألوان من الإدراك الحسي قد منحهم هذه القدرة على تصريف الألوان، ما لم يكن فيما يتعلق بتصوير الحركة في الصورة.

 

على أن الألوان أيضاً ترتبط باللغة الإنسانية والنفس، بينما الحركة ترتبط بالواقع والحياة الخارجية أكثر من ارتباطها بنوازع النفس ومشاعرها كالألوان، وهذا أيضاً عامل آخر جعلهم يستعملون الألوان بهذه المهارة، التي لا نجد لها ما يقابلها في استخدام الحركة.

 

ومن هنا تبدو صور المبصر أكثر نبضاً بالحياة والحركة، لتعكس اتصاله بنبض الطبيعة من حوله الذي حرم الأعمى منه، وذلك بخلاف الألوان التي تستحيل بفقد الأعمى إياها إلى إحساسات وجدانية تتولد وتتكاثف، وتأتي صوره أشد اصطباغاً بالألوان التي تعكس نبض الحياة الداخلية المتحررة من قيود الحس الواقعي.

 

3- تزداد أهمية التداخل الثقافي بجانبه النظري، وأُحَدِّد الجانب النظري لأن لمفهوم الثقافة اتساع يشمل كل شيء في حياة الإنسان، فأنا أحدده في الجانب النظري الذي يستقيه الأعمى عن طريق السماع والقراءة.

 

وتزداد أهمية هذا الجانب في مادة صور العميان، وبخاصة (التناص)، ولكنهم يقصرون عن مجاراة المبصرين في الثقافة العملية القائمة على الإبصار، أو ما يمكن أن نسميه (الثقافة البصرية)، ويظهر ذلك عندما نوازن بين قول (أبي نواس) مثلاً:

تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بألوان التصاوير فارس
قراراتها كسرى، وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس

 

فهذه الصورة والصور المثيلة مما تقتضي خبرة بصرية بالمنظورات وعلائقها لم ترصد لها نظائر في صور العميان، وتبقى محاولات العميان للحاق بالمبصرين في هذا الوصف البصري المعتمد على الإدراك المباشر على قلتها النسبية دون الحس البصري البادي في مثل النموذج السابق، سواء في المحاكاة الثابتة أي التي تشبه اللقطة (الفوتوغرافية)، أو حتى في اللقطة الحركية الحية أو الدرامية، وذلك مهما خيل فيها من دقة في نقل الواقع المبصر، فالقارئ لو تأمل صورة كقول (بشار):

كأن إبريقنا والقطر في فمه
طير تناول ياقوتاً بمنقار

 

نلاحظ البون بينها وصورة (أبي نواس) الآنفة؛ لأن صورة (بشار) تعتمد على تثبيت المعلومات الجاهزة، والنصوص المتوارثة في تمثال جامد؛ وذلك أنه قد علم أن الإبريق يشبه الطير، وقد وردت بهذه نصوص كثيرة من قبله، وعلم أن الراح تُشبَّه في حمرتها بالياقوت، قد وردت كذلك نصوص كثيرة من قبله بهذا، فركب ذلك على تلك ليخرج بصورته هذه.

 

ومع هذا الجهد الذكي لإتحاف المبصرين بصورة تشاكل ما يرون؛ فما عدا أن جاء بمركب تجريدي خيالي (لطير تناول ياقوتاً بمنقار)، فإذا هو يصور الفكرة نفسها أكثر من تصوير الواقع عينه.

 

أما (أبو نواس) فإنه يصف بصورته مشهداً حياً تفصيلياً يستلزم من القارئ نفسه خبرة بماهيته لاستيعابه وتمثله؛ إذ هو لا يركب معلومات وأفكار مجردة ليرسم بها لوحة تخييلية فعل (بشار)، بل يسجل الواقع كما رآه تسجيلاً حسياً مباشراً، وهذا ما يقصد بـ(الثقافة البصرية في صور المبصرين).

 

4- تعد معاناتهم الموجودية وطباعهم النفسية الخاصة مولداً رئيسياً لأكثر أنماط مركبات صورهم البصرية شيوعاً وأكبرها، فقد أثبتت موازنتها بمركبات صور المبصرين البصرية أنها نسيج وحدها برموزها المشتركة بينهم، وأهمها نمط الظلام.

 

فلو وازنا بين صور الظلام السابقة للعميان وبعض صور الظلام النمطية عند المبصرين كقول (أبي نواس) أيضاً:

في فيلق للدجى كاليمِّ ملتطم
ظلام يحار به عن هوله النوت

 

صورة ثانية:

قد أغتدي والليل داج عسكره
والصبح يفري جلَّه ويدحره

 

لتجلى أن ليل (أبي نواس) ليس بليل العميان أساساً، لكنه ليل لذة ومتعة وانطلاق إلى لهو، ولئن كان الشاعر يمعن في وصل غياطل ليله في صورته الأولى؛ فإنما يفعل ذلك استمتاعاً بما تعبر عنه هذه الصورة من النظام لذاته فيه، فهو إذن ليل نقيض لليل العميان الذي تستخفي فيه رموز الرعب والخوف والشر أحياناً عند بعضهم.

 

وبضد ليل (أبي نواس) في صورته الأولى ليله في صورته الأخرى، فهو ليل مهزوم، يقطع أوصاله ضوء الصبح، وليس كليل العميان المستبد القاهر الذي يأسر الضوء؛ في نحو قول (المعري) عن البدر:

تأخر عن جيش الصباح لضعفه
فأوثقه جيش الظلام إسارا

 

لأن ليل (أبي نواس) ليس سوى ظرف مؤقت سرعان ما ينقشع؛ ليغتدي الشاعر في دنيا الضوء والمتعة، لا أبدياً كليل العميان الذي أوحى قول (الحصري):

يا ليل الصب متى غده
أقيام الساعة موعده

 

فذاك هو ليل (الحصري) الأعمى نفسه، وليل رفقائه العميان في عمق المعنى ومبدئه، وإن مضى الشاعر إلى سياق الحب[7].

 

وما قيل من هذه الفوارق الجوهرية والشكلية بين صور الظلام لدى العميان وصوره لدى (أبي نواس) مثال هنا فقط، يصدق كذلك في موازنة الدراسة صور العميان بصور بقية المبصرين في نمط الظلام أو في غيره.

 

5- يتسم النسيج الداخلي لبناء صورهم البصرية كثيراً بنوع من الرتابة؛ لافتقارها الغالب إلى ما تتمتع به صور المبصرين من حس حركي تطوري، متسارع التنقل بين المشاهد والأحداث.

 

فأنت تشعر في صور المبصر البصرية أنك تتحرك من مشهد إلى آخر، ومن لقطة تصويرية إلى أخرى، كما ينتقل البصر من منظور إلى منظور، ولكنك تحس في صور العميان الانحباس في زاوية محددة، أو أنك تطيل النظر من ثقب ضيق محصور، وعلة ذلك أن المصور الأعمى يقف أمام مصوراته إلى أقصى قدر ممكن، يمط صورته تارة، ويشقق تارة أخرى حتى يستنفذ طاقته التعبيرية فيها، وقد يكون من ناتج ذلك من صورهم كثرة التضمين، ووصل البيت بالبيت، ومن أبرز النماذج الشاهدة بذلك قول (بشار) يصور السراب:

أرضاً ترى حرباءها كالقرد
يميد فر رأد [8] الضحى الممتد
للقور[9] في رقارقها تردي
زوراء تخفي عجباً وتبدي
من لامعات كالسعال البدّ
يلمع قدامي وطوراً بعدي
كأن قصوى أكمها تُسدّ
لا بل تصلي تارة وتردي
ترقد في ريعانها المرقدّ
وعاصف من آلها المشتدّ

 

أو قول (المعري):

قال صحبي في لجتين من الحندس
والبيد إذ بدا الفرقدان
نحن غرقى فكيف ينقذنا نجمتان
في حومة الدجى غريقان
وسهيل كوجنة الحب في اللون
وقلب المحب في الخفقان
مستبد كأنه الفارس المعلم
يبدو معارض الفرسان
يسرع اللمح في احمرار كما
تسرع في اللمح مقلة الغضبان
درجته دماً سيوف الأعادي
فبكت رحمة له الشعريان
قدماه وراءه وهو في العجز
كساع ليست له قدمان

 

وهذه الطريقة من الوقوف المطول تتطور على يد الشاعر الجديد المعاصر (البردوني) لتتخذ شكلاً سردياً فيه تناسل من الصور، مثل قوله:

الصمت يعشب طحلباً
حماً ذيولاً عوسجية
وقرون أشباح كأبواب
السجون العسكرية
سقف من الحيات
والأيدي وألون المنية

 

ولقد يفعل (أبو نواس) ما يشبه فعلهم في الوصف إذ يقول:

واشرب سلافاً كعين الديك صافية
من كف ساقية كالريم حوراء
صفراء ما تركت، زرقاء إن مزجت
تسمو بخطين من حسن ولألاء
تنزو فواقعها منها إذا مزجت
نزو الجنادب[10] من مرج وأفياء
لها ذيول من العقيان تتبعها
في الشرق والغرب في نور وظلماء


لكن لنلحظ هنا أن (أبا نواس) إذ يفعل شعر الشاعر الأعمى التذاذاً بالموصوف وإطالة معه، يتنقل من ملمح إلى ملمح؛ لتجيء صورته تطورية تتسلسل في حركة متنامية لا تراكمية كصور العميان.

 

وتلك السمة المتفشية في تركيب صور العميان البصرية كان يمكن التنبؤ بها من التدني المشار إليه سابقاً في مستوى استخدام الحركة في معجمهم الفني عياراً بالمبصرين، ولم يكن هذا المسلسل مصطنعاً من قبل الأعمى تكثراً من الصور، ومنافسة للمبصرين قدر ما هو من لوازم شخصيته وسلوكه الحركي المتصف عموماً بعدم الإدراك الحسي.

 

لو عدنا إلى هذه الصور - صورة (بشار) عن البيداء، وصورة (المعري) عن الليل - سنجد أن الشاعر يصور منظراً واحداً لكنه في كل مرة يأتي بوصف جديد، وليس ملمحاً جديداً كما رأينا من تصوير (أبي نواس) للكأس مرة، وللساقي مرة أخرى، وللألوان واللأضواء إلى آخر ما في ملامح هذا المشهد الواحد.

 

6- تتصف مدارات الدلالة الموضوعية لصورهم البصرية بضيقها وشح تنوعها، أي أن المصورات التي يصورونها محدودة، وغير متنوعة كما هي عند المبدعين.

 

7- يتكئون فيما يصورون على ما هو كلي الدلالة وعامها ومطلقها.

 

8- تأتي صورهم البصرية جامحة الخيال، تسمو على الحس الواقعي القريب بأجنحة من:

أ- التخيل

ب- التشخيص

ج- التجسيد

د - المحاكاة.

 

أ- التخيل: المقابل للمصطلح الحديث (اميجنيشن) وهو التصوير أو الخيال.

 

ب- التشخيص: إخراج المدلول المعنوي المجرد أو الحسي غير المبصر في شخوص حية بصرية لتصوير مثلاً الخوف من الظلام عند (المعري).

 

ج- التجسيد: يشار به هنا إلى إخراج المدلول الحسي المبصر الذي لا جسد له كالظلام والضوء في صور حسية بصرية مجسدة.

 

د- المحاكاة: تعني محاكاة الواقع بألوانه أو توخي نقل الواقع كما هو.

 

الصورة البصرية عند العميان تميل إلى التخيل، وليس إلى المحاكاة، ويفوقون فيها المبصرين، مما يحيل صورهم أحياناً إلى ما هو أشبه بلوحات سريالية، وهي اللوحات التي تنتمي إلى المدرسة السريالية الحديثة، وأعد تصوير العميان نوعاً من التصوير السريائي الرمزي المنطلق المتحرر من قيود الإلف والواقع كما نعرفه، أو كما يعرفه المبصرون، حتى أن الدارس ليملك تمييز صور العميان البصرية عن سواها من خلال هذه الخاصية تحديداً، وإن كان هذا لا ينفي أنه قد تشبه بعض صور المبصرين صور العميان، فمن ذلك صورة (أبي نواس) التي يقول فيها:

وكأن للذهب المذوب بكأسها
بحراً يجيش بأعين الحيتان

 

فهذه الصورة لو لم تكن لشاعر مبصر لكانت خليقة لشاعر أعمى؛ لما  فيها من هذا التجرد الحر في الصورة، على أن هذه الخاصية لا تقوم بمنأى عن التضافر مع خصائص البناء والنفس الأخرى التي أشرنا إليها، ولعل هذا هو ما جعل للصورة البصرية في شعر العميان قيمة رامزة يستلهم الشعراء طاقتها على مر العصور.

 

9- إن أشد خطوط الصورة البصرية في شعر العميان وضوحاً وصفاء متأثر في وجوده وتشكله بخصوصية حياة العميان بدرجة ظاهرة أو خفية.

 

10- يصبغ صورهم البصرية ظاهراً وباطناً قول سوداوي[11] غالب.

 

ومن هذا كله تتأكد هوية الوحدة النظامية لصور العميان البصرية والاستقلال الذي هي عليه تلك التي اصطلح عليها (بوحدة التوحش)، وبما أن ما تم الوصول إليه من نتائج للموازنة بين العميان والمبصرين مرتبط أساساً بأسباب التباين بينهما في البنية الذهنية والنفسية، فهو صالح للإسقاط من بعد على من انتمى إلى إحدى هاتين الفئتين من غير هؤلاء الشعراء موضع الدراسة، ومن ثم أيضاً يصح القول إنه يدخل في حكم العميان فنياً من دخلت الوحدة النظامية لتصويرهم البصري، وإن كان من الناحية الحسية مبصر، فكما قلت: أعد مثلاً التصوير السريالي في العصر الحديث في الرسم أو في الشعر هو نوع من التصوير الأعمى، أو نوع من صور العميان البصرية؛ لأنه يتفق معهم في هذه الخصائص.

 

نعرف أن هؤلاء يتخذون سبلاً للتعامي عن الواقع؛ لكي يستطيعوا التحكم في دوال اللغة الرمزية وإيحاءاتها، وللعلم فهم يستعملون المخدرات لتخدير الذهن حتى من هذه الأفكار المسبقة أو الخلفيات؛ زعماً بأن ذلك سيدفعهم إلى الإبداع، هذا هو الذي يفعله السرياليون، وقد وجد لدى العميان بالطبيعة، فمكنهم من هذه الصور التي تبهرنا عندما نسمعها أو نقرأها.

 

نظرية الخيال والإبداع:

انطلاقاً مما تقدم تستهدف الدراسة هدفين رئيسين هما:

1- بحث المستوى النظري الذي يقف وراء الصورة البصرية في شعر العميان.

 

2- ثم موازنته بمقولات النظرية العامة للخيال والإبداع حسب ما هو سائد منها.

 

وتنصب العناية على ثلاثة أقطاب:

أ- الواقع الحسي

ب- التمثل الثقافي

ج- الإبداع

لما بينهما من جدلية تشكل أركان البناء النظري.

 

أ- الواقع الحسي: لا يكتسب الواقع الحسي في مختلف النظريات الفنية أهمية لذاته، ولكنه وسيلة إلى التعبير الموحي الرامز عما في النفس والوجود من أسرار، ومن قال بغير ذلك خلط بين العلم والفن، فمن قال بأهمية الواقع الحسي للتجربة الفنية فهو يخلط بين ما يطلب من العالم وما يطلب من الشاعر الفنان.

 

ب- التمثل الثقافي: أما التمثيل الثقافي أو التمثل الثقافي فلم يثر خلافاً في أهميته، غير أن التمثل الثقافي في صور العميان يكون دون الواقع الحسي مصدر خيالها الرئيس أو الوحيد، فكيف كان ذلك؟


لقد أثبتت بعض التجارب أن العمى قد يؤثر سلباً في أداء الحواس الأخرى كافيك عن إمكانية التعويض الحسي الذي يبدو متعذراً على الأعمى، ولكن إذا كانت اللغة تعد ضرباً من التعبير الموسيقي فإن بإمكان الأعمى تكوين كنه خاصة للربط بين الأصوات ودوالها، من خلال مخزون خبرته الصوتية اللغوية، بل يمكنه بواسطة العلاقة الصافية بأصوات اللغة ونصوصها أن ينفذ إلى ما يبهر الحس الأدبي بما لا مثيل له عند المبصرين، معتمداً على الوسيلة الفطرية: السمع؛ التي تكتسب رهافة بالغة لتعويله عليها، ويشبه في طبيعته الانفعالية بأصوات اللغة الطفل، أو الأم غير المتعلمة، يشبه ولكنه يتفوق على هذين في هذا الحس بنأيه عن تخيل الرسم الكتابي[12]، والتصاقه بالمعاني مباشرة، سوى أنه يزيد عليها عدم اقتران الدوال في ذهنه بمدلولاتها الحسية، ومن هنا يفترض أن لغته لغة شعرية بالطبيعة، وبما أن اللغة على تلك المنزلة عنده فإنه يزيد تعلقه بها لذاتها كما تدل على ذلك الشواهد.

 

وعلى الرغم من الهوة المعرفية بين الأعمى وعالم النور الحسي؛ فإنه ليس محروماً من الذكاء العام، إضافة إلى ما يحدث من تنمية حواسه الأخرى، وتقوية ذاكرته.

 

ثم إن هناك للمعرفة مسارب مختلفة من أهمها: مستودع الأفكار الفطرية التي تستنبطها النفس من ذاتها ومن أهمها كذلك (اللاوعي الجمعي) كما يقول به علماء النفس بما يمكن أن يمد الإنسان به من خبرة وراثية لا تقتضيه اكتسابها، هذا إلى شغف العميان بالاستماع والقراءة، فهم يجدون في ذلك منفذاً يطلون منه على عالم المجهول، وقد لوحظ أن قراءة العميان كائناً من كانوا تتركز عادة منذ طفولتهم بدرجة لافتة على إطار ثقافي معين ذي طابع خيالي تأملي من قصص وأساطير وعقائد مع ما ينصهرون فيه من علاقات فيما بينهم، وهي علاقات ثقافية غالباً، ومن الجلي أن هذا كله يكمن وراء معظم ما كشف النقاب عنه من خصائص الوحدة النظامية - لتصويرهم البصري - الخيالية، والتي تميل إلى التشاؤم عند بعضهم، يفرضه ما غرس في شخصياتهم من بواعث ذاتيه، وبهذا تحسم تجربة العميان الجدل حول أهمية الواقع الحسي إلى التمثل الثقافي، لتنفتح على التخيل والإبداع منافذ شتى أسمى من الإدراك الحسي المباشر للواقع، ولكن إلى أي مدى مكنهم ذلك من الإبداع؟


ج- الإبداع: إذا كان الحكم بالإبداع يقوم على المعادلة بين ثنائية التجاوز والمحاكاة، فإنه يحق استنتاج تفوق العميان على المبصرين في التصوير البصري، هذا بالرغم من اقتصارهم على التمثل الثقافي منحصراً في ثقافة القراءة والإطلاع، وما هيئتهم له طبائعهم الفسيولوجية والسيكولوجية من إمكانات، وذلك أنه بإجراء عملية إحصائية موازنة بين المبصرين والعميان في الطرق التصويرية لإخراج صورهم أي كيفية نقل الصور عن المصورات تشخيصاً وتجسيداً ومحاكاة وتخييلاً، ويقاس نسبة هذا من مجموع أبيات الصور البصرية ليتبين أنها لدى المبصرين على النحو التالي:

• التخييل (11%)

• التشخيص (5%)

• المحاكاة (10%)

• التجسيد (2%)

 

في حين هي في صور العميان البصرية بهذا الترتيب:

• التخييل (30%)

• التشخيص (23%)

• المحاكاة (10%)

• التجسيد (10%)

 

ومن هنا يظهر الفارق بمؤشراته الكبيرة بينهما، لا من حيث التقارب بين الخيال الأول الذي يطلق عليه المحاكاة أو (بريمري اميجينيشن) حسب مصطلح (كولوردوج) الذي يفرق بين الخيال الأول الذي يحاكي الواقع والخيال الثانوي، أو الثاني الذي يبتكر واقعاً فنياً غير الواقع الحسي، لا يفوقون في هذا فحسب، بل أيضاً في كل سبيل من السبل الإخراجية على حدة في التشخيص والتجسيد وذلك بدرجة عالية الدلالة.

 

نلاحظ هنا مثلاً التخييل لدى المبصرين (11%) وعند العميان نضربها في ثلاثة تقريباً (30%).

 

والتشخيص لدى المبصرين (2%) بينما هو لدى العميان (10%)، وحتى المحاكاة هم يتساوون فيها فهي (10%) لدى العميان ولدى المبصرين، فيحق للدارس استنتاج تفوق العميان على المبصرين في الإبداع التصويري البصري، وإلا فما دلالة أن تتضاعف النسب أضعافاً مضاعفة في بعضها في مختلف طرق التصوير، فيخيلون أكثر من المبصرين للمخيلات، ويشخصون أكثر منهم المعاني المجردة، ويجسدون أكثر منهم فيما يجسد من المصورات، أي في ضروب الخيال كافة، مما ينبأ عن سعة الخيال، وعظم نشاطه الإبداعي، وهم فوق ذلك يتعادلون مع المبصرين في نسبة ميلهم للمحاكاة، وإن كانوا قد يقصرون عنهم في إجادة المحاكاة كما سبق عند الموازنة بينهم وبين المبصرين في المحاكاة، نعم يتفوق المبصرون في نقل الواقع الحسي، ولكنه تفوق لا قيمة له؛ لأنه ليس فيه إبداع.

 

• وإذا كان الشعر يعرف بالاستعمال الخاص للغة بمجافاته عن اللغة المتداولة في سائر الكلام؛ فإن من مؤشرات التخييل والتشخيص والتجسيد ما يدل على أن صور العميان البصرية أقرب إلى الكثافة الشعرية بكثير من صور المبصرين البصرية، ومن هنا فهي أكيف إبداعاً من وجهة النظر الفنية، وبما أن الأعمى احتكم على هذه الطاقة الخيالية الإبداعية من اقتصاره على جانب واحد من جانبي التمثل الثقافي، وهو جانب الثقافة بالقراءة والإطلاع دون الثقافة الحسية البصرية فإن هذا ليبعث على إعادة النظر في الدور الذي تؤديه التجربة في خيال الفنان وإبداعه، وأي أبعادها تمس بصميم التخيل والإبداع الفني، ثم فيما تؤديه الذاكرة والعامل النفسي في الإبداع كذلك، وقد مر أن أهمية التجربة الواقعية ليست لذاتها، بل لقيمها ورموزها، وهذا ما لم يدركه النقد التقليدي قديماً وحديثاً فأدى ذلك إلى أحكام ماحقة على العميان والمبصرين معاً.

 

• أما الذاكرة فهي تكمن في جذور العبقرية لما تبعثه بما يسمى بالتجارب الخصبة في لحظات الإلهام، إلا أن الذاكرة الفنية بطبقاتها المتعددة لا تكدس التجارب، بل تنتخب منها ما كان له دلالته، ولئن كان العميان قد حرموا أصنافاً من الذكريات فإنما هي تلك الأقل شأناً فيما يتطلبه الإبداع، على حين يظهرون على مناجم أغنى بالذكريات الطفولية والذكريات الجمعية، التي لعلها لخصوصية طبيعتها التوحدية الاستبصارية أفضى إليهم بمكنوناتها، وأهمية العامل النفسي تقف عند حفز الإبداع دون إنتاجه.

 

وقد تبين أن سلوك التعويض لديهم ليس إلا مظهراً من مظاهر عدة، وإنه ليس بأكثر من حافز ذي شيوع عالمي كما يذكر (ادلر): (كل إنسان لديه نقائصه التي تبعثه على التعويض).

 

وتعليل إبداع العميان بأنه تعويض عن عقدة النقص كما يقال ليس بصحيح حتى عند علماء النفس أنفسهم، ولا يصح اتخاذ ذلك علة للعبقرية.

 

علاوة على أن للفنان خاصة سلوكه المراوغ، وهو عادة لا يكشف لنا عن نموذجه النفسي، وإنما يكشف لنا عن نموذج نفسي بديل أو متمم أو نقيض لنموذجه الحقيقي، كما يذهب إلى ذلك (يونج)، مما يتعذر معه الركون إلى اتخاذ السيرة الشخصية، أو العامل النفسي مفسراً للإبداع الفني لدى هؤلاء الشعراء.

 

وبذا تتعين البنية العميقة التي تحكم تكون الصورة البصرية في شعر العميان، بل نظام التخيل والإبداع لديهم، وهي ليست تفسيراً لما تم التوصل إليه من خصائص تصويرهم البصري فحسب، بل لعلها قبل ذلك توغل إلى تبرير قيام الصورة البصرية ذاتها، لماذا يصورون تصويراً بصرياً؟ ويتكون في شريانين متظافرين من مبادئ أولية كلية:

1- الجانب الذاتي القائم على:

أ- التحري عن حوافز العرف الواقعية.

ب- الاتجاه إلى ذوات أنفسهم الداخلية.

ج- العلاقة الفطرية باللغة.

د- الطبيعة النفسية بما تؤديه من تكييف الإبداع وحفزه وليس إنتاج الإبداع.

 

2- الشريان الثقافي بمنابعه ذات الطبيعة الخاصة في توجيهها لطاقات إبداعهم وتخيلهم.

 

وهكذا تؤكد تجربة العميان ماهية الفن الأصيلة نبعاً ذاتياً لا انعكاساً خارجياً للواقع، يفيض بمكتنزات الذات الفردية والمكتسبة، عما تمثله من عبقريات إنسانية، وما عداه فإنه مرهون بمواءمته بروح الفن، وإلا أمسى عائقاً للتخيل والإبداع، كما نلحظ عند المبصرين أنه قد أعاقهم عن اللحاق بالعميان عندما ترتبط الدوال لديهم - دوال اللغة - بالواقع الحسي، فتقيد الذهن والخيال عن الانطلاق.

 

التوصيات:

تطرح الصورة البصرية بهذا أربع توصيات يتقاسمها أربعة علوم تعادلاً:

1- علم النفس: وما يمكن لتعمقه في دراسة حالات العميان أن يمد الدارسين به من إضاءات ثاقبة في فهم الإنسان وقدراته.

 

2- علم اللغة: إذ قضية الصورة البصرية في شعر العميان قضية لغوية في الأساس، وقيام دراسات لغوية تخصصية شاملة لشعر العميان لا ريب سيجلي آفاقاً مهمة في المعرفة لهذه الملكة الإنسانية.

 

3- الدراسات الأدبية: فالصورة البصرية في شعر العميان محور انطلاق إلى دراسة إبداعات العميان في دوائر أخر، كالصور السمعية واللمسية والحركية والمعنوية والخيالية والأسلوب الفني العام...إلخ، من ثم النفاذ بحصيلة تخصب الوعي بفن الشعر جميعاً.

 

4- نظرية الأدب والنقد: لأن إيلاء شعر العميان عناية خاصة في تفهم الإبداع الفني سيجيب عن مسائل جوهرية مما يلج فيه النقد والمنظرون.

 

وإلى هذا الحد أقف وأعتذر على الإطالة، ذلك أن الموضوع واسع ودقيق، ولكني حاولت أن أحصره قدر الإمكان ولعلي قد وفقت بعض الشيء في تقديم ملامح تبين عما قامت به هذه الدراسة، وشكراً جزيلاً.

 

الدكتور: ابن حسين:

شكراً للدكتور (عبد الله) على ما أتحفنا به من هذا الحديث عن المكفوفين ورؤيتهم، ولكن حقيقة أحس بأن الموضوع ما زال في حاجة إلى مزيد من الدراسة؛ لأن الجانب النفسي الذي يصدر عنه المكفوف في تصويره، وكذلك الإدراك النفسي في حاجة إلى مزيد من النظر، وإن كان الدكتور قد أحسن في هذا كثيراً.

 

وهناك أيضاً أطروحة كتبت في هذا الموضوع، لكني لم أطلع عليها، وهي التي كتبها (محمد الدوغان) في هذا الموضوع نفسه.

 

لكن بروز المعالجات العلمية الجامعية في هذا الميدان، وطرق ذوي الاختصاص من أهل الأدب هذه الجوانب عند المكفوفين في تصويرهم فتح الباب، وعلى الرغم مما فيه من حسن وإجادة وعمق، ومعرفة دقيقة جيدة، وإلمام واسع، وإدراك يغوص إلى الأعماق، على الرغم من ذلك فما زال المكفوف أو قل ما زال أدب المكفوفين في حاجة إلى نظرة.

 

وقول الدكتور (عبد الله) - أثابه الله -: إن الجانب الحركي عند المكفوفين أضيق، أو أقل بكثير منه عند المبصرين، يقيني أن هذه مسألة فيها نظر؛ لأن القياس بنموذج أو نموذجين لا يكفي لإثبات حقيقة علمية، فالمكفوفون لهم تصوير حركي جيد وفيه ما مثل به الدكتور مثل بيت (بشار) المشهور: (كأن مثار النقع) وأشياء كثيرة جداً، وفي شعر (المعري) منه الكثير.

 

على كل حال نحن نشكر الدكتور (عبد الله) ثلاث مرات:

فالشكر الأول: على إقباله على أدب المكفوفين، وإعطائه شيئاً من الإنصاف.

والثاني: على قبوله الدعوة لإلقاء هذه المحاضرة.

والثالث: على هذه المحاضرة الطيبة الممتعة التي أفادنا بها كثيراً، وآنسنا بها كثيراً.

 

فشكراً له، وشكراً لكم أيضاً، ووفقنا الله وإياكم إلى ما فيه الخير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

 

وإن كان هناك من يريد سؤال أو تعليق فليتفضل.

 

الأستاذ: عبد الرحمن الخلف:

عندي بعض التساؤلات وبعض الإشكاليات، وإن كان توسع الدكتور (عبد الله) في الموضوع وإشباعه وعمقه فيه ربما سد علي بعض النوافذ، وأقتصر في تعليقي على بعض الإشكاليات أطرحها للنقاش:

الموضوع الأول: يتعلق بقول (بشار):

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه

 

فيظهر في هذا البيت ثلاث صور:

• الصورة الأولى: تدخل تحت البعد الحسي، وهي تصور الشاعر أن الإنسان إذا لم يشرب الماء على ما فيه من قذى وترسبات فسوف يظمأ لا محالة.

 

• الصورة الثانية: تدخل تحت الجانب المعنوي، أو الجانب الاجتماعي في البيت السابق أيضاً، فالكفيف أو الشخص إذا لم يتقبل الإنسان على ما فيه من هنات ومآخذ فسوف لا يدع له صديقاً، ويدخل هذا التصوير تحت مفهوم العلاقات الاجتماعية.

 

• الصورة الثالثة: تتعلق أيضاً بالجانب الاجتماعي، وهو إن الإنسان إذا لم يتقبل صدمات الحياة، وما فيها من مشاكل؛ فسوف يعيش مع (أبي العلاء) في عزلته حينما قال:

هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد

 

ويتنافى هذا مع مفهوم الانتماء الاجتماعي، ومثل هذه الصور كثيرة في شعر العميان.

 

الموضوع الأخير: يتعلق بتجربة حسية أو واقعية عشتها ككفيف، فقد فهمت من الدكتور (عبد الله) أن الصور أو التصور عند الكفيف الذي عاش جزءاً من عمره مبصراً ربما تبقى في ذهنه هذه الصور، ويتخيلها إلى الأبد، وهذا يحتاج إلى نظر؛ حيث أنني عشت مبصراً إلى العاشرة من عمري، وعرفت الأحمر والأخضر، والجمل والعنز، ولم يبق في ذهني في المنام منها أي صورة، ولا حتى خيالات، حينما يأتيني في النوم حلم، أو حينما أتصور هذه الأشياء، فأتصورها ممثلة في أصواتها فقط، مجردة من الصورة الحقيقية. وأكتفي بطرح هذه الإشكاليات.

 

الدكتور: عبد الله

لم آتي إلا لكي أستفيد منكم علماً وتجربة، وأقول: إن الدراسات كثيرة ومختلفة قديماً وحديثاً، ولكن لكل دراسة منهج وهدف وغاية تريد أن تصل إليها، ولا تلغي دراسةٌ الدراسات الأخرى.

 

وقلت في النهاية: إن الدراسة تدعو مجالات مختلفة في علم النفس، وفي علم اللغة، وفي النقد إلى مواصلة الطريق.

 

لكن أن يقول باحث ما كل ما يجب أن يقال في موضوع محدد هذا شيء مستحيل، وإنما كل باحث لديه أسئلة ولديه أيضاً هدف، وهو يحاول أن يجيب عن هذه الأسئلة، ويصل إلى هدفه فقط، وهذا هو حده المنهجي.

 

الحركة التي أشار إليها الدكتور (ابن حسين) نحن لا ننفي وجود حركة في صور العميان، ولكننا بمقارنتها بصور المبصرين نقول بأن المبصر يتفوق على الأعمى، وذلك في الصورة البصرية، قد تكون هناك صور حسية لمسية، أو أنواع أخرى من الصور هذه لا تعنيني، ولا تدخل في اهتمامي الآن، وإنما أقول بأن هناك فارقاً بين الأعمى والمبصر في هذا الجانب.

 

ما أشرت إليه يا شيخنا (الخلف) عن الصور في شعر (بشار)، هي كذلك كما قلت، لكن ما يعنيني هو الصورة البصرية التي تمثل لوحات فنية متكاملة وليست لقطات من هنا وهناك.

 

وأيضاً ما ذكرته فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي هو مهم، ولكن له مجاله، وله الدراسات التي تنهض به، فالعمل كما أشرت له أسئلة نقدية محددة وهي:

ما الذي يجعل الصورة البصرية المركبة لدى هؤلاء الشعراء متميزة؟

وما هي العوامل التي قامت فيها مقارنة بينهم وبين المبصرين؟

 

أما عدم استحضار الصورة الطفولية عند الكفيف؛ فأظن أن الناس يختلفون في هذا حتى بالنسبة للمبصرين، واستبعاداً للاحتمال فإنني استبعدت في الدراسة الشعراء الذي خبروا الإبصار في مرحلة متقدمة، أي أصيبوا بالعمى بعد سن العاشرة مثلاً، واكتفيت بالشعراء الذي كانت تجربتهم البصرية فيما قبل ذلك.

 

الدكتور: ابن حسين:

يحضرني بيت يقول يصف حديقة:

سرت نسمات الصبح فيها فرقصت
نواعس في أحداقها الطل مائج

 

هذه حركة ويندر أن نجد هذه الصورة الحركية في صور الكثيرين من المبصرين، على كل حال قد يطول الجدل بيني وبين الدكتور (عبد الله)؛ لأن الرجل ملم بالموضوع، وله خبرة طويلة جداً فيه، ونحن فيه عيال عليه، وأيضاً كما يقول الشيخ (عبد الرحمن) الليل يحبسنا، ويحجزنا عن طول الحديث.

 

الأستاذ: محمد هاشم:

نشكر الأمانة العامة للتعليم الخاص، ونشكر مكتبتنا الناطقة، التي أصبحت علماً في هذا المجال، ونشكر لهما التنوع الذي يتحدث عنه الجميع قبل دخولنا إلى القاعة، التنوع في الموضوعات المطروحة في لقاءاتنا هذه، وإن كنا نبتعد فإذا في ابتعادنا مزيد من الاقتراب.

 

ثم نعود بالشكر والترحيب لسعادة الدكتور (عبد الله الفيفي)، شكراً له على تفضله بالحضور، وإلقاء هذه المحاضرة القيمة، وشكراً على إصراره وتصميمه على عرض كامل للموضوع الذي جاء من أجله، وفي هذا طبعاً مسألة توثيقية طيبة؛ لأننا سنكسبها في مكتبتنا الناطقة هنا لتكون مرجعاً.

 

الشيء الآخر وهو عتاب فنحن الآن نتصارح، إذا تخيلنا أن ما قاله الدكتور (عبد الله) ما هو إلا جهد أكاديمي، جهد عالم ابتعد تماماً عن الواقع وراح يخط هذا الشيء الطيب والعظيم، والذي نجد فيه الاقتراب والتلامس الشديد لما نشعر به نحن، ونحن قريبون من المجال، فما بالنا لو أن الدكتور (عبد الله) بذل هذا الجهد في مجال تطبيقي، واحتكاك مباشر مع مجال المكفوفين، هذا باعتراف الدكتور (عبد الله) نفسه أنه لم يسع لتطبيقات ملموسة، لم يقترب من المجال، ونرحب به اليوم لكي يبدأ اقترابه من المجال، وكلنا ثقة أنه سيعطي هذا المجال الشيء الكثير إن شاء الله.

 

إذن ستكون المسؤولية ليست مسؤولية الدكتور (عبد الله) وحده، بل ستكون مسئوليتنا أيضاً في أن نوقع في نهاية هذا اللقاء الطيب المبارك على توصية بأن تزودنا هذه الجامعات التي راحت تبني في جهة بعيدة عن الواقع؛ تزودنا بمثل هذه الجهود الطيبة العظيمة، التي كم ستكون مفيدة إذا ما التقت بالواقع الحي الملموس وشكراً.

 

الدكتور: ابن حسين:

شكراً للإخوان جميعاً على هذه الليلة، وشكراً للدكتور (عبد الله) على إتاحته لنا الفرصة بأن نعيش معه في هذا الجهد الطيب المبارك، وشكراً لكم أيها الإخوان، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد[13].


[1] الخضض: نوع من الخرز الذي تتزين به النساء.

[2] هناك مشترك بينهم في هذه الصورة كما لاحظنا قبل قليل في مثال سابق، وهناك من يختص بمنحى معين ولكنها تظل مشتركة بينهم حول تصوير الليل. (تعليق المحاضر)

[3] ساوقه: تابعه وسايره وجاراه.
[4] سورة طه، آية رقم: 120.
[5] أشير هنا إلى ما يرد عند (المعري) في غير شعره حتى من قوله في رسالة الغفران، أو أنه يرمز لنفسه (بالحماطة) وهي التينة الجبلية تألفها الحيات، وبالسواد في التينة نفسها، أو في ( الأسود) وهو (الأفعوان)، أي ذكر الأفاعي، وإلى غير ذلك، وهناك دراسة لعبد الله العلايلي عن ( المعري ذلك المجهول - رحلة في فكره وعالمه النفسي)، يقول فيها بأن (هذه رموز لفكرة التوحد المعروفة عند الصوفية لدى أبي العلاء). (تعليق للمحاضر).
[6] كلمة (يغرين) غير واضحة في المخطوط لكن المقصود هنا هو تشبيه الصوت بهذه الألوان، (تعليق المحاضر).
[7] هنا لابد أن أشير إشارة  هامشية، وإن كانت لا تتعلق تحديداً بالصورة البصرية لكنها دالة على صدق ما نقول، ففي هذه القصيدة (للحصري) الأعمى جدير بالتأمل أن مساق الصورة التي أشرت إليها في مطلع قصيدته متصل بالعين التي تتكرر في القصيدة فيأتي عين الصب وعين السمار وعن النجم وعين الحبيب ... الخ، كل هذا في قصيدة واحدة (تعليق للمحاضر).
[8] راد الضحى: انبساط شمسه.
[9] القور: جمع أقور وهو الأعور
[10] الجنادب: جمع (جندب) وهو نوع من الجراد يصر ويقفز ويطير.
[11] أقصد بالسوداوي اللون الفني واللون النفسي الذي يقف وراء الاستخدام الفني (المحاضر).

[12] المبصر لا يقيده فقط الواقع الحسي، وإنما يقيده أيضاً ارتباط اللغة بالرسم بينما الأعمى في حل من هذين القيدين. (المحاضر).

[13] المحاضرة رقم (9) من كتاب لقاءات علميّة وثقافية في المكتبة الناطقة إعداد ومراجعة وتعليق الأستاذ/ عبد الرحمن بن سالم العتيبي




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تجربة دمج المكفوفين في الأحساء
  • لقاء فكري وثقافي مع د. محمد بن سعد بن حسين

مختارات من الشبكة

  • الصورة الشعرية بين الثابت والمتحول في القصيدة العربية (صورة الليل والفرس نموذجا)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الصورة التربوية في الكتاب المدرسي المغربي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • بلاغة السرد .. أو الصورة البلاغية الموسعة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة وأجمل هيئة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صناعة الصورة باليد مع بيان أحكام التصوير الفوتوغرافي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الفرق بين (السورة) و (الصورة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • في النهي عن وصف الملائكة بقبح الصورة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأربعون العقدية: حديث الصورة (الجزء الثاني)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • الأربعون العقدية: حديث الصورة (الجزء الأول)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • الصورة الذهنية للعلاقة الزوجية عند الرجل(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب