• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / تربية / تهذيب النفس
علامة باركود

الروحية المهذبة

الروحية المهذبة
الشيخ محمود شلتوت

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 16/12/2012 ميلادي - 2/2/1434 هجري

الزيارات: 8107

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الروحية المهذبة


(1)

إذا كانت سعادة الإنسان - كما تقضي به طبيعته وكما قرَّره الإسلام - لا تَكمُل إلا باستكمال حظَّي الجسم والروح معًا، وأن الروحية البَحتة أو المادية البحتة، لا تَصلح واحدة منهما سبيلاً للسعادة؛ أخذًا من واقع الحياة البشرية - فإن الإسلام يرى - مع هذا وذاك - أن الروحية المهذِّبة أساس للمادة المهذبة، وأن منها يَنبع الروح المهذِّب للمادة، وبتهذيب الروح المهذب للمادة، تَكمُل للإنسان سعادتُه في دنياه وأُخراه، في فرده وفي مجتمعه.

 

ومن هنا عُنِي الإسلامُ:

أولاً: بتهذيب الروح، وطالَب به، ولفَت الأنظار إليه في مبدأ دعوته، حتى إذا ما تَمَّ على الوجه الذي يَحفظ للإنسان قلبه ورُوحه، ويَربطه بخالقه والمُنعم عليه - انتقل به إلى المرحلة الأخرى: مرحلة التنظيم المادي، الذي يكون التهذيب الروحي من أهم عوامل تركيزه وإقراره في الحياة، والذي يكون أثرًا للضمير الحي المُهذب الذي يُقدِّر الخير للخير، والحق للحق، غير مدفوع برغبة أو رَهبة فيما وراء الحق والخير.

 

وقد وضَع الإسلام للتهذيب الروحي جُملة من الوسائل، تتلاقَى كلها عند غرضٍ واحد، هو تنقية الفطرة البشرية من معاني الشِّرك، ونسيج الوثنية التي تَطمِس في القلب صورة التوحيد النقي الخالص، الذي فطَر الله عليه الإنسان، والذي يُهذِّب منه الروح، ويسمو بها في إدارة الشؤون، وتحصيل وجوه السعادة العامة؛ ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138].

 

ومن هذه الوسائل: التفكير في ملكوت السموات والأرض؛ ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 6 - 11].

 

وبهذا التفكير تُعرف الآثار الدالة على جلالة مصدرها، وعلى كماله في العلم والقدرة، وعلى عموم رحمته وسلطانه، فتَخضع النفس لإرادته، وتَنشط في طاعته، وتتوخَّى في حياتها ما يُرضيه ويُقرِّب إليه؛ ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 163- 164].

 

وقد صحَّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال حينما نزل قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 - 191]، قال: ((ويلٌ لمن لاكَها بين لَحْيَيه، ولم يتفكَّر)).

 

ومن هنا كان ذِكر الله والتفكير في آثار قُدرته جناحينِ يرتفع بهما الإنسان عن حَمأة المادة المُظلمة إلى مَشرق الرُّوحية المُضيئة، وقد قلَب القرآن في آياته المتلوَّة صُحف هذا الكون أمام الإنسان، دخل به نفسه، وصعد به إلى السموات، ونزَل به إلى الأرض، وطاف به الوديان والجبال، وغاصَ به البحار، ودعاه في كل ذلك مرارًا وتَكرارًا إلى النظر في آياته العقلية والحِسية؛ وكثيرًا ما أوحى القرآن أن هذه الدعوة سُنة الله في كل رسالاته إلى خلْقه، عنَى بها كل كتابٍ، واهتمَّ بها كل رسولٍ؛ ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].

 

وبذلك ربَط آخر العالم بأوَّله، وربط دنياه بأُخراه، وجعل الكل وَحدة تتجلَّى فيها وحدة الخالق وسلطانه القوي الرحيم؛ ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ [النجم: 43 - 62].

 

إن تقليب النظر في الأرض وما حوَت، وفي السموات وما اشتمَلت - أمر سهل ميسور؛ تدعو إليه الأبصار، وتُلِح به العقول، ولكن الذي جعله الله وسيلة للتهذيب الروحي، هو التفكير المصحوب بالتذكُّر، فهو الذي يَطبع في النفوس صور الجلال الذي يملأ النفس رَهْبة، وصور الجمال الذي يملأ النفس رَغبة، وبرَهبة ما ينبغي أن يُرْهَب، ورغبة ما ينبغي أن يُرْغَب، يُنحِّي الإنسان عن نفسه صور الرَّهبة الكاذبة التي ليس لها مصدر يُخاف، وصور الرغبة الزائفة التي ليس لها مصدر يُرجى، ويترسَّم في رغبته ورهبته دَلائلَ الحق التي تملأ نفسه بعظَمة الخالق وحِكمته، وبذلك يَقتعِد مكانته التي خُلِق لأجلها في الحياة، وهُيِّئت له في الآخرة.

 

وإذا كان القائمون على التربية والتهذيب يؤمنون - كما هو الواقع - بأن العنصر الروحي المهذب، لا بد منه في تكوين النشء، فما علينا في طور التربية والتهذيب إلا أن نُعنى العناية كلها بتوجيه النشء إلى التفكُّر والنظر بما يَرُد الظواهر إلى مصادرها، وعندئذ يجتمع لديهم الفكر والذكر، وتُفتَّح أمامهم أبواب الرُّوحية المهذبة.

 

لم يخلُ وقت ما للإنسان عن التفكير فيما يقع عليه حسُّه؛ فكَّر في الأرض وعرَف طبقاتها، وخصائص كل طبقة، وفكَّر في السماء وعرف الكواكب في أحجامها وأبعادها وأضوائها، وفكَّر في الجبال وعرَف صخورها وقِممها، وفكَّر في البحار وغاص في أعماقها، واستخرَج كنوزها، وهكذا يعمل الإنسان جُهده في الاتصال بمركبات الكون وعناصره، وقد وصَل في بحوثه إلى الذرة، واستخدمها فيما يريد، ولكن هل نرى أنه تفكير يخدم الرُّوح والقلب، أو أنه تفكير يخدم العقل بلذَّة العلم والمعرفة؟! وإن شئتَ قلتَ: هو تفكير يخدم المادة، والمادة الطاغية، ولا سبيل له بالرُّوح، ولا بالروح المُهذبة.

 

والقرآن حينما يضع التفكير أوَّل الوسائل للتهذيب الروحي، لا يريد هذا التفكير الجاف الذي يأخذ العقل به آثار الكون المادية، ثم يطغى بها على الذين لم تُهيِّئ لهم ظروفُ الحياة وسائلَ تفكيرهم، ولا درجة عقولهم، فهو تفكير شرٌّ من الجمود، وعِلم شرٌّ من الجهل، لا يريده القرآن ولا يعرفه، وإنما يعرف القرآن من التفكير ما يصل بالإنسان إلى معرفة الآثار، مُسندة إلى مصدرها الذي أنعَم بها، وعندئذ يشكر ولا يكفر.

 

وإن هؤلاء - الذين قصَروا التفكير على بعض نتائجه، أو على أحد هدَفيه، وأغفلوا النظر إلى الهدف الآخر، وهو أسمى الهدفين - هم في نظر القرآن ممن قال فيهم: ﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ﴾ [الكهف: 101]، وقال فيهم: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، وقال فيهم: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

 

أمَّا بعدُ:

فهذه هي الوسيلة الأولى للتهذيب الروحي، تَفكيرٌ في خلْق الله، وذِكر لله، ففكِّر وادَّكِر، تَحظَ بالرضا والقُرب، وتَسعد في الدنيا والآخرة.

 

(2)

وإذا كان الإسلام يحارب في علاقة الإنسان بالحياة الرُّوحية البحتة، كما حارَب المادية البحتة، ورأى أن الروحية البحتة سبيلُ التعطُّل وإهمال لقُوى العمل المُودَعة في الإنسان، ولقوى الإنتاج المُودعة في الكون، وأن المادية البحتة سبيل لقتْل المعاني الفاضلة، وتَدفع بالإنسان إلى جوانب الطُّغيان المفسد للحياة - كان من ضرورة ذلك أن يدعوَ إلى المزاوجة بين حظوظ الجسم المعتدلة، وحظوظ الروح المعتدلة، ويَبني منهجه في ذلك على الواقع الطبيعي للإنسان.

 

والإسلام دائمًا ينظم بأحكامه واقع الإنسان، بما يقف به في الحد الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، والإنسان في واقعه جسمٌ ورُوح، وللجسم حظٌّ ومتعة، وللروح حظٌّ ومتعة، وكمال سعادته إنما يكون باستكمال حظَّي الجسم والروح معًا، ومن هنا نراه في كثير من نصوصه يرفع عن الإنسان الحَجْر في التمتُّع بملاذ الجسم المعتدلة، ويُبيح له، بل يُغريه ويأمره بالطيِّبات؛ في مأكله ومشربه، ومَلبسه ومَسكنه، وفي حاجة نفسه من الزوجة والمال والولد، ويُنكر أشدَّ الإنكار على مَن يُحرِّم على نفسه شيئًا من ذلك مع القدرة عليه، ونراه في الوقت نفسه يدعوه بإلحاحٍ إلى أن يُمتِّع روحه بالعلم، عن طريق التلقي والقراءة، وعن طريق الفكر والنظر.

 

وقد صحَّ أن أُناسًا جاؤوا إلى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته فيما بينه وبين الله التي غُفِر له بها ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وأن أحدهم قال: "أنا أصوم الدهر ولا أفطر"، وقال آخر: "وأنا لا أتزوَّج النساء"، وقال ثالث: "وأنا أصلِّي الليل ولا أرقد"، فبلغ أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرَج إليهم غاضبًا، وقال: ((ما بالُ أقوامٍ يقول أحدهم كذا وكذا، وإني لأخشاكم لله وأتقاكم، ولكني أصوم وأُفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوَّج النساء؛ فمن رغِب عن سُنتي فليس مني)).

 

وصحَّ أنه قال لآخرين، أرادوا رفْض الدنيا والترهُّب: ((إنما هلَك مَن كان قبلكم بالتشديد، شدَّدوا على أنفسهم، فشدَّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، فاعبُدوا الله ولا تُشركوا به، واستقيموا يُستقَم بكم)).

 

وصحَّ عنه أنه قال: ((ليس في ديني ترْكُ النساء واللحم، ولا اتخاذ الصوامع))، وقال: ((إن الله -تعالى- طيِّبٌ لا يَقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172])).

 

واقرؤوا في هذا المبدأ قوله - تعالى-: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 93]، وقوله -تعالى-: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ [الأعراف: 26]، ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 31 - 32].

 

والسر في ذلك أن الطيِّبات نِعَم الله على الإنسان، والله يحب من عباده أن يَقبلوا نعمه التي تدعو إليها فِطرهم، ويحب أن يرى أثرها عليهم، ويَكره لهم الجِناية على فِطَرهم بمنْعها حقَّها.

 

ولقد كانت تلك التعاليم التي لبَّى بها الإسلام داعيَ الفطرة، عاملاً قويًّا في شيوع الحضارة البشرية في مظاهر هذه الحياة؛ فقد أرشَدت على وجه عام إلى ما يُجمِّل به الإنسان نفسه، وخاصة في مناسبات التجمُّل بالزينة والرِّياش، ولفتَت الأنظار إلى أن تقْوى الله إنما هي في الانتفاع بتلك النِّعم، وأوحَت بذلك إلى إحياء صناعة الطيِّبات، وصناعة اللباس، كما أوحت إلى الجد في تحصيل موادها مما تنبت الأرض، وأوحَت إلى أن ستر العورة وما يُثير الغرائز، من أهداف الحكمة الإلهية في تقرير هذا المبدأ، وإلى أن سُنة العُرْي التي يأْلفها بعض القبائل المتوحشة، وإبداء شيء من مفاتن الجسم، كما نراه اليوم في دعاة الحضارة الزائفة - مخالف للأدب الإنساني العام، ومنافٍ لِما تَقتضيه الطبيعة الآدمية من التحفُّظ والابتعاد عن مظاهر التبذُّل وعوامل الفتن.

 

وما كان ذكر المسجد في الأمر باتخاذ الزينة إلا مثلاً للمجتمعات الفاضلة، التي يجب أن يظهر فيها الإنسان بنِعم الله عليه، ولعلنا نُدرك من هنا سرَّ الإرشادات النبوية التي تدعو إلى التطيُّب وحُسن الملبس في مجتمعات الصلاة والأعياد والمناسبات الجامعة.

 

بهذا ونحوه عدَّل الإسلام الجانب الرُّوحي في الإنسان.

 

ولكن الإسلام مُنِيَ - كما أسلفنا - بقوم تأثَّرت نفوسهم بمظاهر الرياضة الروحية التي عُرِفت عند بعض الأُمم، ولم تَهتدِ إلى ما يردُّها عن الشذوذ فيها، ورأت أن أساسها يدعو إلى التقشُّف وطرْح التجمُّل، ومعالجة النفس في تعويدها الحِرمانَ من مُتَع هذه الحياة.

 

وقد اندفع سيلٌ من تلك الأُمم على البلاد الإسلامية، ووجد من أبناء الإسلام من شَقَّ له الأنهار وحفَر له الجداول، فانساب في النوادي الإسلامية، وأنبتَ كلمات أُسنِدت فيما بعد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم- وكان لتلك الكلمات أثرُها عند كثيرٍ من الناس في فَهْم الإسلام على غير وجهه، ومنها: ((جاهِدوا أنفسكم بالجوع والعطش؛ فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله))، وأنه: ((ليس من عملٍ أحبَّ إلى الله من جوع وعطشٍ))، ((لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بَطنه))، ((سيد الأعمال: الجوع، وذُلُّ النفس، ولُبْس الصوف)).

 

وما إلى ذلك مما يَقرأ الناس في كتب التصوُّف التي دخَلت على الدين بشيء كثيرٍ.

 

والحمد لله الذي قد هيَّأ للحق ما كشَف عنه ستار الباطل؛ فقد علَّق الحُفَّاظ على هذه الكلمات وأمثالها، بأنه لا يوجد لها أصلٌ في صحيح المَروي عن الرسول - عليه السلام.

 

نعم، اتَّخذ في إباحة التمتُّع بزينة الحياة - جريًا على مبدأ الاعتدال الذي بُنيت عليه سائر أحكامه - تَحفُّظَيْن شدَّد في مراعاتهما: حُسن النية، ويكون بقصْد شُكر الله على نِعَمه، لا بقصْد التفاخر والخُيَلاء، ثم الوقوف فيها عند حد الاعتدال؛ حتى لا يقع الإنسان في الإسراف؛ ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114].

 

وبهذين التحفُّظين اللذين يُحقِّقهما - شُكر الله والاعتدال - حارَب الإسلام الترف والبَذخ والتبذير، فيما لا يعود على النفس ولا على الأمة بخيرٍ، وفي الحق أن الترف غُول الأُمم، يأكل فيها مكارم الأخلاق، ويَنزل بها إلى مهاوي التَّهلُكة.

 

وقد اعتبَر الإسلام الإسراف الترفي من موجبات الحَجْر؛ احتفاظًا بأموال الله التي هي قِوام الحياة وعَصَبها للفرد والجماعة، وتطهيرًا لصدور المُعدِمين من الحقد الذي تُولِّده وتُنميه مظاهر السَّرَف المُحيطة بهم، وهم محرومون من حاجتهم الضرورية، والمَعيشة المُطمئنة المُريحة.

 

هذا هو موقف الإسلام في تعديل الروحية وتهذيبها، وفي علاقة الإنسان بزينة الحياة، يَقطع السبيل على الذين يحاولون تشويهه، ويَرد زَيفهم إلى نحورهم، ويرشد إلى أن رُوحية الإسلام تُعانق المادية الفاضلة، كأن الإسلام بتعاليمه الواضحة في هذا المقام، لا يمكن أن تستغني عنه أُمة تريد حياة طيِّبة مُضيئة في ظلٍّ من الأمن والاستقرار.

 

(3)

اتَّضح أن الإسلام وضَع للتهذيب الروحي جُملة من الوسائل، تعمل كلها على تنقية الفطرة من ألوان الشِّرك وصُوره المختلفة التي تَطمِس في القلب صورةَ التوحيد الخالص، الذي فُطِر عليه الإنسان، ورُبِطت به سعادته في الدنيا والآخرة.

 

ورأينا أن التفكير في ملكوت السموات والأرض، كان أوَّل ما عُنِيَ به الإسلام وأرشد إليه من تلك الوسائل؛ إذ به تُعرف الآثار الدالة على جلال مصدرها وكماله في العلم والقدرة، والسلطان والرحمة، ومن هنا تَخضع النفوس - عن طريق برهان عقلي ووجداني - لإرادة مصدرها ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، ويَعْظُم لديها الوعي الديني الذي يَخلق فيها النشاط لطاعته، وتحرِّي ما يرضيه في معاملة النفس ومعاملة الناس.

 

وأن هذا التفكير الذي دعا إليه الإسلام للحصول على تلك الغاية، لم يكن هو ذلك التفكير الجاف الذي يُسخره الإنسان في سبيل المادة فقط، ويستخدم آثاره التي يحصل عليها في العدوان، وتخريب المدائن والعمائر، وتَرويع الآمنين، والقضاء على نِعم الله في خلْقه، كما يُدرك ذلك الآن المتحسِّس لنفسيَّات العالم في شرقه وغربه، وإنما هو تفكير يُطَمْئِنُ القلب ويخدمه، قبل أن يَخدم العقل، ودون أن يُروِّع الآمِن، تفكير يَنزع بالإنسان إلى جانب الرُّوحية المهذبة التي تدعوه إلى استخدام ما يصل إليه عن طريق التفكير في المحافظة على الإنسانية، والأخذ بها إلى الكمال الذي قدِّر لها وخُلِقت لأجله.

 

وقد كان للقرآن في الدعوة إلى هذا التفكير أساليبُ مختلفة، من شأنها مضاعفة الرغبة التي تدفع الإنسان إليه، فمن أسلوبٍ يُعلن أن الله ما خلَق السموات والأرض باطلاً لا خير فيه، وإنما خلَقهما لغاية قضت بها الحكمة الإلهية في خلْقهما وخلْق الإنسان؛ ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ﴾ [آل عمران: 191]، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 16 - 18].

 

ولا باطلَ ولا لَعِب أكثر ولا أشد من الإعراض عن النظر فيما خلَق الله، هذا الإعراض الذي تظَل به أسرار الرحمة كامنةً في جوف المخلوقات دون أن تُعرَف، ودون أن تظهر بها الرحمة في خلْقه، وكذلك لا باطل ولا لَعِب، بل لا طُغيان ولا عدوان أكثر ولا أشد من معرفتها والوصول إليها، ثم استخدامها في التخريب والتدمير، والقضاء بها على أخضر العالم ويابسه؛ انقيادًا لشهوة زائفة، أو جبروت كاذبٍ.

 

ومن أسلوبٍ يُعلن أن الله ما خلَق العالم على هذا النحو المملوء بالأسرار والسُّنن التي هيَّأ الإنسان للوصول إليها، إلا ليَنتفع بها الإنسان؛ ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29].

 

وليس من شكٍّ في أن الانتفاع بها يَنتظم الانتفاع بأعيانها في الحياة المادية، وبإدراكها في الحياة العقلية، وبدَلالتها في الحياة الروحية، والآية تُرشد بعد هذا إلى أن مواطن هذا النفع ليست خاصة بظواهر هذا الكون، وإنما هي مبثوثة في ظاهره الذي نحصُل عليه بمجرَّد النظر، وفي باطنه الذي نحتاج إلى قوة في اقتحامه وخوْض غِماره، وفي هذا إيحاء بالبحث عما استقرَّ في باطن الأرض وطبقات الجبال، وقاع البحار، وما يحمل الماء والهواء من قوى الإنتاج ومواد الصناعة والتعمير.

 

ومن أسلوب يؤكِّد للإنسان أن الله سخَّر له هذا الكون، وأقدره على استخراج أسراره، وجعَله في قبضة يده ومُتناول عقله؛ ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20]، ﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الجاثية: 12]، ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ [ص: 36]، ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10]، ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ [سبأ: 12]، ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25].

 

ومن أسلوبٍ يُنبِّه إحساس الإنسان إلى التطلُّع نحو بعض المخلوقات ذات الشأن في الحياة، فيَندفع إلى تلمُّس ما اشتمَلت عليه من آيات وأسرار، ومنافعَ وآثار، وقد استُخْدِم في هذا الأسلوب قسَمُ الله - الغني عن القسم - بهذه المخلوقات؛ ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 8]، ﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴾ [العاديات: 1 - 5].

 

ومن أسلوبٍ يُوجه الأنظار إلى أصول جُملة من الثروات التي تتكوَّن منها الاقتصاديات الضرورية في حياة الأُمم ونَهضتها؛ ففي الثروة الحيوانية: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا ﴾ [النحل: 5]، وفي الثروات النباتية: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ [الأنعام: 141]، وفي الثروات المائية:﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [النحل: 14]، وفي الثروات الجبَلِية: ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27].

 

ومن هذه الآيات ونحوها - وهو كثير واضح في القرآن - يتجلَّى أن الإسلام قد وجَّه الإنسان إلى بحث الكائنات، وتعرُّف خواصها وأسرارها، والانتفاع بها في بناء الحياة، على أساس أنها نعمة من نِعم الله وآثار رحمته بعباده، تُقابَل بالشكر والحمد والثناء، وشُكرها هو الإيمان بمصدرها، واستعمالها فيما ينفع الخلق وعمارة الكون.

 

وبينما نرى القرآن يدعو إلى التفكير على هذا الأساس، نراه ينعَى خطة الذين فكَّروا وعرَفوا دون أن يتَّخذوا من تفكيرهم غذاءً للقلوب، ومَددًا للأرواح؛ ﴿ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [النحل: 72]، ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ﴾ [النحل: 83]، ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

 

وإذا كان هؤلاء مع بحثهم وتعرُّف أسرار الكون في منزلة الأنعام، الذين ليس لأرواحهم حظٌّ فيما يحصلون عليه من المنافع المادية؛ فما بال قومٍ ألْغَوا عقولهم، وسَلَبوها الاستعداد الفطري للنظر والبحث، واكتفوا من النظر بتقليب الوجوه في بناء السماء وزُرقتها، والكواكب وكثرتها، والجبال وضخامتها، والبحار وأمواجها، وحرَموا أنفسهم من التمتُّع بالمادة التي تَبني الحياة، وبالعلم الذي يُغذي العقل، وبالدَّلالة التي تُغذي الروح؟


وكم يَضيق الإنسان ذرعًا حينما يرى المسلمين - وتلك تعاليم كتابهم وإرشاداته - في حِرمان من اللذات التي ربَط الله بها سعادة الناس، وحثَّهم على تحصيلها والانتفاع بها! وكم يشتدُّ ضِيقه حينما يراهم فيها عالةً على غيرهم، يأخذونها عنهم على أنها علومهم ونتائج بحوثهم، ويأخذونها بمنْهجهم في قطْعها عن مصدرها المُنعِم بها، المُسخِّرِ لها!

 

ولقد كان هذا الموقف من المسلمين؛ مما هيَّأ لغيرهم أن يتَّهموا الإسلام بالجمود، وأنه دين يعترض التقدُّم، ولا يَسمح بلذة العلم ولا بعزَّة الحياة، وبذلك اندفعوا إلى بلاد الإسلام باسم العمل على تقدُّمهم، يختبرون فيها الجبال والوديان، ويحصلون على الخير من بواطنها، ويتَّخذون فيها لذلك المراكز الشرعية التي بها يَستعمرون، ألا وإن واجب المسلمين اليوم - وقد تكشَّفت لهم نوايا القوم، وذاقوا منهم ومِن جَهلهم بأسرار الكون ما ذاقوا - أن يستأنفوا لهم حياة جادة عاملة، عمادها: البحث والنظر، والانتفاع بما سُخِّر لهم في مواد الحياة، وبذلك يستجيبون لله في دعوته، ويَحفظون لأنفسهم سلطان الدنيا ومكانة الآخرة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • خدعة اسمها الجراحة الروحية
  • الحج والمزايا الروحية والذكريات
  • مع الأبعاد الروحية والسلوكية للحج
  • ثبات الكلمة واعوجاج الروح
  • اللياقة الروحية
  • الإسلام والسمو الروحي للإنسان (1)
  • إهمال الجانب الروحي في الحضارة المعاصرة

مختارات من الشبكة

  • الحرية المهذبة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مقدمة كتاب الرسائل المهذبة في المسائل الملقبة لأبي حفص عمر بن الوردي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أرجوزة الفوائد المهذبة في أسماء طيبة المطيبة (المدينة المنورة)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الشباب والإصابات الروحية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيف تستعد لشهر رمضان في شعبان ( شعبان فرصة ثمينة للتهيئة الروحية والجسدية )(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فوائد الصوم الروحية والصحية(مقالة - ملفات خاصة)
  • سيادة القيم المادية وتهميش القيم الروحية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • حقيقة الإصابات الروحية: الحسد والعين، تسلط القرين، السحر، والمس (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تحذير من رسالة الفوائد الروحية لزيارة المشايخ(مقالة - آفاق الشريعة)
  • جفاف النفحات الروحية بضجيج العصرنة الصاخب(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب