• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حقوق الأولاد (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    مقومات نجاح الاستقرار الأسري
    د. صلاح بن محمد الشيخ
  •  
    تطوير المهارات الشخصية في ضوء الشريعة الإسلامية
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / روافد
علامة باركود

حول الأزمة الاجتماعية في كردستان العراق

د. نوري طالباني

المصدر: مجلة الثقافة الجديدة – العدد 282 – أيار حزيران 1998م
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/3/2011 ميلادي - 21/4/1432 هجري

الزيارات: 9182

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حول الأزمة الاجتماعية في كردستان العراق[1]

جاءتْ دراسات الباحثين المعروفين: علي الوردي وحنا بطاطو عن المجتمع العِراقي كأعمق ما تكون، لكنَّهما لم يتطرقَّا لأوضاع المجتمع الكُردي ومشاكله؛ لإدراكهما أنَّ الكرد وباحثيه أدْرى بشِعاب كردستان وأوضاع أهلها، وتقاليد وعاداتِ أبنائها.

 

وقد قدَّم بعض الباحثين الغربيِّين، الذين كتبوا عن الكرد بعد أن عاشوا ردحًا من الزمن بينهم؛ بقصدِ التعرُّف على جوانب هامَّة مِن حياتهم - دراساتٍ هامَّة تكشف عن جوانب لم يتطرَّقْ إليها أحد قبلهم، ويمكننا الإشارةُ هنا بوجه خاص إلى (باسيلي نيكيتين) في كتابه القيِّم: "الكرد، دراسة تاريخيَّة وسوسيولوجيَّة" المطبوع عام 1956 في باريس - وقد تمَّت ترجمة هذا الكتاب مع التعليق على العديدِ مِن الآراء الواردة فيه التي عفَا عليها الزمن، وتنافي الحالة الراهنة للمجتمع الكردي.

 

كذلك يجِبُ الإشارة إلى كتابات وبحوث الأب (توماس بوا)، الباحِث الفرنسي الذي عاش سنواتٍ عديدةً في منطقة باهدينان، وتعلَّم اللغة الكردية وكتَب عنها وعن عاداتِ وتقاليد الكرد وحياتهم الاجتماعيَّة في كتبه، ومقالاته في مجلَّة (l`orient) الفرنسية، التي كانت تصدُر في بيروت.

 

إنَّ للمجتمع الكردي خصوصياته التي تميِّزه عن المجتمعات العربيَّة والفارسية والتركية التي يعيش معها حاليًّا، وحتى قبل تقسيم كردستان سياسيًّا، كان المجتمع الكرديُّ يعيش في أقاليمه الجبليَّة في حالة شِبه انعزال ليس عن المجتمعاتِ الأخرى فقط، بل فيما بينه أيضًا، مما أسهم في نشوء "مجتمعات" كردية إنْ صحَّ التعبير، وأسهَم أمراء وحكَّام الإمارات والأقاليم الكردية - عبْرَ التاريخ - في نشوء "مجتمعات" كردية منعزِلة فيما بينها، لها تقاليدها الخاصة، ممَّا يسبب التوتُّر الذي كان يسود بينها، وخوف أحدِهم مِن تسلُّط الآخَر عليه - وقد أشار نيكيتين - الذي عمِل كقنصل لروسيا في (أورميه) قبل وخلالَ الحرْب العالمية الأولى - إلى عددٍ مِن التقاليد والعادات الخاصَّة بكرد موكريان، التي تختلِف نسبيًّا عن التقاليد الموجودة في الأقاليم والمناطق الكردية الأخرى التي زارها.

 

إنَّ للمجتمع الكردي بوجهٍ عام تقاليدَ وصفاتٍ وموروثات خاصَّةً به، وحيث إنَّ بحثنا اليوم يتركَّز حول أوضاع المجتمع الكردي في كردستان العراق؛ لذلك نحاول الإحاطةَ ببعض مظاهرِه بصورة عابرة؛ لأجل التعرُّف على جوانبَ مِن حياة هذا المجتمع وأوضاعه.

 

يَنبغي الإشارةُ إلى التطوُّرات التي مرَّ بها منذ أن أصبح جزءًا مِن الكيان العراقي بعدَ انتهاء الحرب العالمية الأولى، ويوضِّح لنا هذا السرد إجراء مقارنة بيْن ما كان عليه المجتمع الكردي سابقًا، وما آل إليه بعدَ تعرُّضه لحملات التفتيت نتيجةَ تدمير بِنيته الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المتمثِّلة بالريف الكردستاني على أيدي الأنظِمة العراقية، ثم نُشير بإيجاز إلى وضْع المجتمع الكردي بعدَ انبثاق السلطة السياسيَّة الكرديَّة في نهاية عام 1991.

 

أولاً: أوضاع المجتمع الكردي في العهد الملكي:

ظلَّتِ الدولةُ العراقيَّة منذ تأسيسها على أيدي (المس بيل والسر بيرسي كوكس)، ولحين سقوطِ النِّظام الملكي في تموز 1958، دويلةً قائمةً على أحقية فِئة معيَّنة من المجتمع العراقي في التحكُّم بمصاير الأغلبية، وخلالَ هذه الحِقبة التي دامتْ قرابة أربعة عقود كان الجهْلُ والمرض والاضطهاد والاستغلال هو السائدَ فيه.

 

وكما كان عليه الحالُ في المجتمع العربي، استعان النِّظام المَلَكي في كردستان أيضًا برؤساء العشائرِ والأعيان كطبقةٍ يُعتمَد عليها في حُكم البلاد، فتعاون معظمُ رؤساء العشائر الكردية والكثيرُ مِن الأبحاث مع النِّظام، وتبوَّأ بعضهم مناصبَ وزارية، كما شغل العديدُ مِن رؤساء العشائر مقاعدَ في المجلس النِّيابي العراقي، لكن مشاركة هذه الطبقة في السُّلْطة كان ينحصِر في الحفاظ على مصالحهم الخاصَّة بهم، ومقابل هذا التعاون مِن جانب رؤساء العشائر، عمد النِّظامُ إلى تشجيع الرُّوح العشائرية وإبراز دَور رؤساء العشائر؛ لأنَّها أسهل انقيادًا من الآخرين؛ لذلك عندما حدَثت بعض الانتِفاضات الفلاحيَّة ضدَّ سلطة الأغوات ورؤساء العشائر في مناطِقَ عديدة من كردستان، سانَد النظامُ سلطةَ الأغوات بقوَّة السلاح، كما حدَث في تدخل الشرطة لإخماد انتفاضة فلاحي منطقة (دزه يي) في سهل أربيل عام 1953.

 

وسياسيًّا تراجَع النظام الملكي منذ البداية عن جميع الالتِزامات المترتِّبة عليه بموجب الاتفاقيات الثنائيَّة والمعاهدات الدوليَّة، التي قُبِل بموجبها العراق عضوًا في عصبة الأمم.

 

فهذه الاتفاقياتُ والمعاهدات كانتْ تلزم الدولة العراقيَّة بالسَّماح للكرد بإدارة أمورهم بأنفسهم دون تدخُّل مِن المركز، وباستعمال اللُّغة الكردية في المدارس والدوائِر الرسميَّة، فاقتصر ذلك في نهاية الأمْر على مجرَّدِ استعمال اللُّغة الكردية في المدارس الابتدائيَّة في حدود لواء السليمانيَّة فقط، وكأنَّ كردستان لا تشمل غيرَ هذا اللواء! وهو ما فعله النِّظام الإيراني أيضًا، حيث أطْلَق على منطقة (حنه/ سنندج) وحدَها اسم محافظة باسم كردستان.

 

واستعان النِّظامُ الملكي أيضًا ببعض رؤساء وشيوخ الطُّرق الصوفية لتقويةِ نفوذه وهيمنتِه على أبناء كُردستان وللطرق الصوفيَّة، وخاصَّة (القادرية والنقشبندية جذور تاريخيَّة عميقة في كردستان)، ولكن أهم رؤساء الطُّرق الصوفية؛ كالشيخ محمود الحفيد، وشيوخ بارزان، ومرشدي التكية الطالبانيَّة في كركوك، لم يكونوا في عداد الموالين للنِّظام، وبعضهم قاومَه بقوة السلاح.

 

ويجب الإقرارُ هنا بأنَّ النِّظام الملكي لم يعملْ على تغيير الواقع القومي في كردستان، باستثناء ما وقَع في سهل (حويجة) في جنوبي كركوك، عندما عمِلتْ وزارة ياسين الهاشمي على إحياء الأراضي القفْراء في السهل المذكور بجلْبِ الماء إليه مِن نهر الزاب الصغير؛ لتوطينِ أبناء عشائر (العبيد) العربية فيه.

 

وكانتْ حجَّة الحكومة المذكورة أنَّ أبناء العشيرة المذكورة - وكانوا رحلاً - يدخلون في غزواتٍ مستمرَّة مع أبناء عشائر (العزَّة) العربية في سهول محافظة ديالي؛ ولأجْلِ وضْع حدٍّ لتلك الغزوات، تم توطينُ أبناء عشائر العبيد وأفخاذ من عشيرة (الجبور) في سهل الحويجة قُبَيل نهاية الحرْب العالمية الثانية - ويجب أن نسجِّل للتاريخ أنَّ رؤساء العبيد لم يوافقوا على الاستيطانِ في سهل الحويجة إلا بعدَ الحصول على موافقة الشيخ محمود باعتبار أنَّ المنطقة جزءٌ من كردستان، وأنَّهم لا يُريدون أن يكونوا سببًا لوقوع النِّزاعات مع الكُرْد مستقبلاً.

 

تلك كانت تقاليد الجيل الماضي، فأين نحنُ منها الآن؟

لكن هدف النِّظام لم يكُنْ ينحصر فقط قي توطين عشائر العبيد الرُّحَّل في سهل الحويجة تفاديًا لغزواتهم ضدَّ أبناء عشائر العزة؛ لأن أحدَ الإداريِّين الكرد في لواء كركوك اقترَح على وزارة الداخليَّة إسكانَ قسم من عشائر (الجاف) في قضاء كفري بلواء كركوك في جزءٍ مِن السهل المذكور؛ لأنَّهم كانوا من الرُّحَّل أيضًا، لكن اقتراحه رُفِض ونُقِل صاحب الاقتراح إلى فضاء بعيد.

 

كذلك حثَّتِ الحكومات العراقية إدارةَ شرَكة النفط في كركوك - وكانت بريطانيَّة تمامًا - على استخدامِ العرَب والآشوريِّين والأرْمن في منشآتها، فتوطَّنتْ عشرات العوائل العربيَّة والآشوريَّة والأرمنيَّة في ملينة كركوك، وترتَّب على ذلك نشوء أحياء شِبه مستقلَّة بها، بينما كانتِ المدينة تسكنها أغلبيةٌ كردية مع أقلية تركمانية - كما تؤكِّد الإحصاءات الرسمية التي أُجرِيتْ خلالَ العهد الملكي، والإحصائيات العثمانيَّة القديمة، وتقدير السلطة البريطانية في المنطقة بعدَ احتلالها لها.

 

ويجب القول أيضًا أنَّ النِّظام الملكي كان يأخذ بنظَر الاعتبار الحالةَ القوميَّة في لواء كركوك، فقد كان معظم ممثِّلي اللواء في المجلس النِّيابي العراقي من الكرد، كما كان رئيس بلدية مدينة كركرك من الكرد، وفي فترات قصيرة مِن التركمان، ولم يشغلْ أي عربي هذا المنصِبَ حتى عام 1969، وهو المرحوم مظهَر التكريتي، وهو من التكارتة الذين استقرُّوا في المدينة بعدَ نشوء الدولة العراقيَّة.

 

ومقابل بُروز الرُّوح العشائرية في الريف الكردستاني وتشجيع النِّظام لها، كانت البرجوازية الصغيرة تنمو في المدن والقصبات الكبيرة، وخلال الثلاثينيات أخَذ الوعي القومي بالتبلور أكثرَ فأكثر، فتَشكَّلت تنظيمات سياسية قوميَّة كانتْ تُمارِس نشاطاتِها بصورة سريَّة، فتأسَّس في البداية حزب (هيوا)، ثم ظهرت أحزاب (رزكاري) و(شورش) اللذان شكَّلاَ فيما بعد مع تنظيمات صغيرة أخرى للحزب الديمقراطي الكردي عام 1946.

 

وتولَّى رؤساء العشائر قيادةَ الحزب الديمقراطي عندَ تأسيسه، فبالإضافة إلى رئيسه الذي لم يكن موجودًا في كردستان العراق لدَى تأسيس الحزْب كان نائباه أيضًا مِن رؤساء العشائر، وهما: الشيخ لطيف الحفيد، وزياد آغا غفوري، ثم أُلْغي منصب نائبي الرئيس في المؤتمر الثاني للحِزْب الذي انعقد في كركوك سرًّا عام 1954.

 

وتوجد في كردستان أقليَّات قوميَّة ودِينيَّة تعترف التنظيماتُ السياسيَّة الكردية بحقوقِها منذُ تأسيسها؛ منها: الأقلية التركمانية من سُنَّة وشِيعة الموجودة بوجهٍ خاص في لواء كركوك، والآشوريُّون بطوائفهم الدِّينيَّة المتعددة في أقضية الموصل، وفي أربيل وقصبتي شقلاوة وكويسنجق.

 

أما الإيزيديون فهم كرد أقحاح، لكنَّهم يَدينون بالدِّيانة الإيزيدية التي تطوَّرت من الدِّيانة الزرادشتية، التي كانتِ الديانة القديمة للكرد قبل دُخولهم الإسلام، ويدين معظمُ الكرد في كردستان العِراق بالإسلام السُّني (المذهب الشافعي)، وهناك أيضًا الكرد الشِّيعة في خانقين، بالإضافة إلى الكرد الفيليَّة في بغداد ومدن العِراق الأخرى، الذين تعرَّضوا لحملة ترحيل قسرية مِن قِبل النِّظام الحالي منذ بداية السبعينات بتُهمة كونهم من التبعية الإيرانية.

 

ويعيش الكرد الكاكائية في قُرى عديدةٍ قُربَ قصبة داقوق جنوبي كركوك، وفي قرى أخرى شرْقي حلبجة الشهيدة، وكان يعيش في كردستان عددٌ كبير مِن اليهود في المدن والقَصَبات، وكانتْ علاقتهم مع الكرد جيِّدة بوجه عام.

 

وعلاقات الكرد بالآشوريِّين أيضًا كانتْ جيِّدة باستثناء فترات محدَّدة كان للإنجليز وللسلطة المركزية دورٌ كبير في إثارتها، وهناك مثل كردي يقول: "كلْ في بيت اليهودي، ولكن نَم في بيت النصراني"؛ لأنَّ أكل اليهود أقربُ لأكلهم، لكن النصراني يُؤتَمن لو نمت في بيته!

 

ثانيًا: وضع المجتمع الكردي في عهد الانقلابات العسكرية:

استبشَر الكرد خيرًا بوقوع الثَّورة التي قادها عددٌ مِن العسكريِّين في العراق عام 1958، رغمَ أنَّ قادة الثورة الجديدة عيَّنوا رؤساءَ الدوائر الإدارية في الألوية الكردية من العرَب وحْدَهم، فضلاً عن أنَّ قائد الفرقة الثانية في كركوك كان مِن العرَب القوميِّين، وهو الزعيم الركن ناظم الطبقجلي، لقدْ كانت السلطة الحقيقيَّة في كردستان بيدِ العَسْكر، في شخص قائِد الفرقة الثانية التي كانتِ الوحدة العسكرية الوحيدة في كردستان، وخلالَ فترة وجود الطبقجلي الذي كان معروفًا بميوله القوميَّة المحافظة، ثم جاء قائدٌ جديد معروف بميوله اليساريَّة، وهو الزعيم الركن داود الجنابي، الذي سمَح للتنظيمات والاتِّحادات المهنيَّة والشبابيَّة بممارسة نشاطاتها بحريَّة، وسبَق هذه الفترة صدورُ قانون الإصلاح الزِّراعي الذي مهَّد لإضعاف سُلطة رؤساء العشائر وكبار الملاَّك في الرِّيف، فاضطرَّ معظمهم إلى النُّزوح إلى المدن والقصبات، وحلَّ مَحلَّ التضامن العشائري تحت نفوذ رئيس العشيرة، تضامنٌ فلاحي لعبتِ الاتحادات الفلاحيَّة دورًا واضحًا في بلورته وتقويته، وترتَّب على ذلك نُشُوءُ تقاليد جديدة تختلف نسبيًّا عن التقاليد القائِمة على التلاحُم بين أفراد العشيرة الواحِدة تحتَ سلطة رئيس العشيرة.

 

لكن التطوُّرات السياسيَّة اللاحِقة في العراق خلقت تشنُّجات في مُجْمَل الأوضاع العامَّة، خاصَّة بعدَ وقوع انقلاب شباط 1963؛ إذ لجأ الانقلابيُّون الجُدد إلى اتِّخاذ عددٍ مِن الإجراءات في كردستان كانتْ جديدةً وغير مألوفة، منذُ تأسيس الدولة العراقيَّة، فقد أَجبروا منذُ أواسط عام 1963 أبناءَ (33) قرية كردية تقَع بالقُرْب من مدينة كركوك وفي ناحية (دوبز) - المعربة تسميتها حاليًّا إلى دبس - إلى الهِجرة منها، وأَسْكنوا عوائل عربية من عشائر الدليم والجبور وغيرهما فيها، كما سرَّح الانقلابيُّون عددًا كبيرًا من العمَّال الكرد في منشآت شَرِكة النفط في كركوك، وفي المؤسَّسات الحكوميَّة الأخرى، وجلَبوا العرب لإحلالهم مكانَهم، كما نفَوا الكثير مِن الموظَّفين الكرد بمَن فيهم المدرِّسون والمعلِّمون إلى الألوية الوُسْطَى والجنوبية.

 

واستعان النِّظامُ الجديد كالنِّظام الملكي برؤساء العشائر، الذين كانوا قدْ فَقدوا نفوذَهم، وتشكَّلت بإمرتِهم وحدات مسلَّحة غير نظامية أطلق عليها اسم (فرسان صلاح الدين)؛ وذلك لمساندةِ قِطاعات الجيش العراقي، التي شنَّت هجومًا واسعًا على قوات الأنصار (البيشمه ركه) بعدَ فشل المفاوضات التي أعقبت وقوع انقلاب شباط 1963، وقد اضطرَّ العديدُ مِن الفلاحين الكرد إلى الانخراط في هذه الوحدات، خاصَّةً في المناطق التي كانتْ تقَع تحت هيمنة النِّظام والإقرار بسُلطة رؤساء العشائر عليهم؛ لأنَّهم أصبحوا بيْن خيارين لا ثالثَ لهما، إما حمل السلاح تحتَ إمرة رؤساء العشائر المتعاونين مع النِّظام، أو الهجرة مِن قُراهم وترْك جميع ممتلكاتهم وأراضيهم فيها.

 

وخلالَ الفترة الممتدة بيْن صدور بيان 11 آذار لعام 1970، وتجدُّد القِتال في آذار 1974، حدَث انفراجٌ نِسبي في الوضعين الاجتماعي والثَّقافي في كردستان؛ بسببِ عودة السِّلم إليها، فقد تأسَّست خلالَ الفترة المذكورة مؤسَّساتٌ ثقافية وتعليميَّة هامة، كالمَجْمَع العِلمي الكردي، وجامعة السليمانية التي أُنشِئت في نهاية عام 1968، والمديريَّة العامَّة للدِّراسات الكردية وغيرها، واضطلعتْ هذه المؤسَّسات بدور ثقافي وتَعليمي هام في خِدمة اللُّغة والتُّراث الكرديَّيْنِ، وخلال الفترة نفسها صدَر العديدُ مِن المجلات والدوريات الكردية، ونُشِر الكثير مِن الكتب والدِّراسات الكردية في مختلف حقول المعرفة، كما عادتِ المنظَّمات والاتحادات المهنيَّة إلى الظهور، ولعبت دورًا إيجابيًّا في نشْر التوعية المهنية والمدنية، وكان لجامعة السليمانية الدورُ الأهم في نشْر المعرفة والعلوم في كردستان، والاهتمام بالتُّراث والآداب الكرديين.

 

ومع تأزُّم العلاقة من جديدٍ بيْن السُّلطة المركزيَّة وقادة الحرَكة الوطنية الكردية منذُ بداية عام 1974، انحسَر دور هذه المؤسَّسات بصورة تدريجيَّة، وأصبح معظمُ الاتحادات مُلْغاة أو مشلولة، بفعل هيمنةِ أزلام النِّظام عليها، لقد تمكَّن النِّظام بفضل إمكانياته المالية الهائلة نتيجةَ ارتفاع أسعار النفط عالميًّا من شراء ذِمم الكثيرين، مِن رؤساء العشائر إلى بعض رؤساء الطُّرُق الصوفية وبعض الساسة الكُرد والمثقَّفين أيضًا، وانخرط لأوَّل مرة في تاريخ كردستان العديدُ من الكرد في صفوفِ حِزْب النِّظام.

 

وبدأ النِّظامُ أيضًا بتنفيذ حملة جديدة تستهدف طرْدَ الفلاَّحين الكرد من القرى الحدوديَّة، ثم توسَّعتِ الحملة لتشمل القُرى الواقعة في المناطق السهليَّة، حيث تَمَّ توطينُ العشائر العربية في قراهم وقصباتهم، خاصَّة في المناطق الممتدَّة بين خانقين جنوبًا، حتى شمالي الموصل.

 

واستطاع النِّظامُ توطينَ أبناء العشائر العربية في هذه المناطق؛ لأنَّه كان بإمكانه حمايتهم فيها، خاصَّة وأنَّه زَوَّدهم بالسلاح، وأصْبَح بإمكانهم التعدِّي على أبناء القُرى الكردية المجاورة لهم دون رقيب أو مساءلة، وأنشأ النظام أيضًا مئاتِ الربايا العسكريَّة في هذه المناطق، وفي المناطق الأُخرى التي تَمَّ تدميرُ القرى فيها؛ لأنها أصبحتْ (مناطق أمنية) لا يجوز الاقترابُ منها، وتوسَّعتْ هذه المناطق الأمنيَّة لتشملَ معظم قُرى وقصبات كردستان التي رحَل أبناؤها بعدَ تدمير قراهم، إلى مجمعات قسريَّة شبيهة بالمجمعات التي أقامتها سُلطات الاحتلال النازي في المناطِق التي احتلتْها خلالَ الحرب العالمية الثانية، كذلك وسَّع النِّظامُ مِن سياسته الرامية إلى تهجير الكُرد مِن مدينة كركوك وخانقين والقصبات الأُخرى مع ترحيلِ الألوف مِن الكرد مِن مدينة كركوك والقصبات الكردية الأخرى التي لا تزال باقيةً تحتَ هيمنته، إلى المناطق الكرديَّة الأخرى.

 

ولم يكتفِ النِّظامُ بتدمير القُرى وحدَها، بل دمَّر أيضًا المزارع والبساتين ومصادر المياه مِن عيون وآبار في هذه القُرى وأطرافها، وترتَّب على ذلك تدمير البِنَى التحتية للاقتصاد الكردستاني القائم أصلاً على الزِّراعة وتربية المواشي.

 

لقدْ كانت كردستان تُزوِّد قبل تدمير قراها أجزاءً واسعةً من العراق بالحبوب وبأصناف الفواكه واللحوم والعَسَل، فأصبح أبناؤها يعتمِدون بعد تدمير قراهم على ما يَرِد إليهم مِن قوت من خارج المنطقة!

 

لقد كانت حصيلة التدمير حتى نهاية عام 1989 ما يلي:

عدد القرى المدمرة = 3839.

المدارس الابتدائية المدمرة = 1757.

المساجد المدمرة = 2457.

مراكز الصحة المدمرة = 271.

وشمل التدميرُ العديدَ مِن القصبات (مراكز الأقضية ومراكز النواحي) أيضًا.

 

وكما أشَرْنا سابقًا، لم يسمحِ النظام لأبناء القُرى والقصبات المدمَّرة بالسكن في المدن والقصبات غير المدمَّرة، بل أنشأ عشراتِ المجمعات القسرية قُرْب تلك المدن والقصبات وقُرب الطرقات العامَّة لتوطينهم فيها، دون أن يوفِّر لهم أية وسيلة للعيش سوى مبالِغ قليلة دُفِعت لهم كتعويض عن دُورهم المهدمة!

 

وكانت هذه المجمعات تُدار مِن قبل الأجهزة الأمنيَّة التي لم تكن تسمح لساكنيها بالخروج منها إلا بإذنٍ خاص، ومرَّةً أخرى لم يبق أمامَ عشرات الألوف من المرحَّلين من تلك القرى والقصبات المدمَّرة إلا الانخراط في صفوف الأفواج المسلَّحة غير النِّظامية التي شكَّلها بإمرة رؤساء العشائر وبعض أزلامه الآخرين، وبذلك جعَل النظام مِن الارتزاق وسيلةَ عيشهم الوحيدة، ومع ذلك فإنَّ كثيرين من سكَّان تلك المجمعات لم يحملوا السلاح، وحاولوا إيجادَ وسيلة عيش شريفة لهم ولعوائلهم، أتذكَّر أنَّ عددًا من أبناء منطقة (هه ورامان) المرحَّلين إلى مجمعات تقَع على الطريق العام بين أربيل والموصل، كانوا يُعيِّشون عوائلهم ببيع الخبْز (الهورامي) الذي تخبزه زَوجاتُهم وأمهاتهم، فكانوا يأتون إلى مدينة أربيل صباحًا لبيع الخبزِ الطازج، ويعودون إلى مجمعاتهم قبلَ حلول الظلام.

 

وبطبيعة الحال ترتَّب على هذا التدمير الجماعي للريف الكردستاني آثارٌ اجتماعيَّة سيِّئة للغاية لا تزال باقيةً حتى الآن، فالعلاقات الاجتماعيَّة المتينة القائمة سابقًا بين أفراد القريَّة الواحدة والتضامُن القوي الذي كان يُعتبر رُكنًا مهمًّا من حياتهم، مالتْ إلى الزوال تدريجيًّا، وحتى العلاقات الاجتماعيَّة داخلَ الأُسرة الواحدة تدهورتْ وفقَدَ الآباء الكثيرَ مِن سلطاتهم على أبنائهم.

 

لقد كانتِ الأسرة القرويَّة تعيش سابقًا في قريةٍ واسعةٍ وفي بيت فسيح بيْن الأهل والمعارف، أمَّا بعدَ الترحيل، فقد أصبحتِ الأسرة بكاملها سجينةَ غرفتين صغيرتَين مظلمتين لا تتوفَّر فيهما الشروطُ الصحيَّة، ويتعذَّر على أفرادها الحصولُ على الماء الضروري لسدِّ احتياجاتهم اليوميَّة!

 

ليتصورْ كلٌّ منا وضْع ساكني مجمع قسري يَزيد عددهم على بضعة آلاف شخص يَحصلُون على الماء خلالَ فصل الصيف من (التانكرات)، وحتى عملية توزيع الماء بهذه الصورة كانتْ تتمُّ تحتَ إشراف الأجهزة الأمنية وأزلامها في المجمع، لقد كان النظام يستهدف بقاءَ المرحَّلين سجناءَ لديه يتولَّى بنفسه توفيرَ الماء والغذاء القليل لهم، حتى يأتيهم الموت البطيء وبفعل تجميع أبناء قُرى عديدة في مجمع واحِد وانتشار البطالة بينهم ووجود السِّلاح لدَى العديد مِن المرتزقة بينهم، بدأتِ المماحكات والنِّزاعات بالظهور، خاصَّة بين الشباب الذين كانوا يَعيشون في ظروفٍ نفسية سيِّئة للغاية، الفقر والبطالة، والمرَض وقِلَّة المياه، وصُعُوبة الحصول على موادِّ الإعاشة الضروريَّة، باتتْ مِن سمات العيش في هذه المجمعات، وكان لوجودِ السِّلاح لدى البعض منهم دَورٌ في وقوع الكثير مِن الحوادث، منها القتْل وما يتبع ذلك مِن آثار سيئة بالنسبة لطرَفَي النِّزاع، وكانت الأمراض منتشرةً بين ساكني هذه المجمعات، خاصَّة الأطفال؛ نتيجةَ سوء التغذية، وعدم توفُّر الماء،  وأزقَّة المجمع التي كانت تتحوَّل إلى أوحال بعدَ سقوط الأمطار، ولم يوفر النِّظام أية خِدمات صحية لأبناء تلك المجمعات، فكان على المريض الحصول أولاً على موافقة المشرِفين على المجمع قبلَ توجهه إلى إحدى المستشفيات في المدن القريبة، وكثيرًا ما كان يفقد حياتَه وهو في الطريق، خاصَّة وأنَّ المواصلات كانت صعبةً ولا يجوز الخروج والدخول للمجمعات خلالَ فترة الظلام، كذلك انتشَر الفساد الأخلاقي بيْن الشبَّان والشابَّات، خاصَّة في المجمعات التي فقدتْ فيها النساء الأزواجَ والآباء.

 

وهكذا نشأ في كردستان المدمَّرة بفِعل النظام العراقي جيلٌ جديد بعيد عن القِيَم والتقاليد التي نشأتْ عليها الأجيال السابقة، وفي هذه الظروف والأوضاع القاسية بيْن أبناء المجمعات القسرية انطلقتْ شرارة الانتفاضة في بداية آذار عام 1991.

 

ثالثًا: وضع المجتمع الكردي في ظل السلطة الكردية:

بدأتِ الانتفاضةُ في كردستان في بداية شهر آذار 1991 في قصبة (رانيه) والمجمعات القسرية القريبة منها، ولعِب أبناءُ هذه المجمعات دورًا بارزًا فيها، فهُمْ مِن جهةٍ فقَدوا جميع ما يَملِكون بعدَ تدمير قُراهم وبساتينهم ومزارعهم، وهم مِن جهة أخرى كانوا يحملون السِّلاح؛ دفاعًا عن النظام الذي ألْحَق بهم هذا الظُّلم، فأرادوا الثأرَ لشرفهم، وليؤكِّدوا للآخرين أنهم حملوا السلاح مجبَرين لا مختارين، وأنهم كانوا ينتظرون الفرصةَ المناسبة لدكِّ أوكار النظام، لقد كانتْ جماهير كردستان تنظر بعين الاحتقار لمنتسِبي تلك الأفواج المسلَّحة، وتطلق عليهم اسم (الجاش)، وهي تسمية تعود إلى العهد الملكي مأخوذةٌ من (جاش - بوليس)؛ أي: أشباه الشرطة؛ لأنَّ الشرطة في العهد الملكي كانتِ الجهاز القمعي الأساسي الذي يتحكَّم في البلاد، وتعاون هؤلاء مع رؤسائهم في إخمادِ الحركات والانتفاضات الكردية ضدَّ النظام المذكور، وبقيتِ التسمية نفسها في العهود اللاحِقة، بعدَ نجاح الانتفاضة التي توسَّعتْ وشملتْ خلال أيام معدودات معظمَ أجزاء كردستان بما فيها خانقين وكركوك وسنجار، نشأ فراغٌ إداري واسِع كان مِن الضروري ملْؤه بالسرعة القُصوى، خاصَّةً وأنَّ عمليات نهب للدوائر والمؤسَّسات الحكومية في المنطقة قد وقَعَتْ بفعل وجود هذا الانفلاتِ الأمْني وعدم وجود سُلطة آنية تحلُّ محلَّ سُلطة النِّظام العراقي.

 

إنَّ انتفاضة كردستان كانت تختلف كليًّا عن انتفاضة الجنوب لوجودِ قيادة سياسيَّة كانتْ تقودها منذُ البداية، وهي القيادة السياسية للجبهة الكردستانيَّة التي كانت تضمُّ معظمَ القُرى والأحزاب السياسيَّة العاملة في الساحة الكردستانية، ولكن مُعظم قادَة الجبهة المذكورة كانتْ تنقصهم الخبرة الضروريَّة لإدارة أمور منطقة واسِعة أصبحتْ تحتَ سَيْطرتِهم خلالَ فترة لم تتجاوز الأسبوعين.

 

إنَّ قادَة هذه الجبهة كانوا يتمتَّعون بخبرات عسكريَّة اكتسبوها خلالَ حرْب الأنصار (ييشمه ركايه تي)، لكن خبراتهم وإمكانياتهم في إدارة أمور منطقة واسعة كانتْ محدودة، كما أنَّ وجود مراكز عديدة للسُّلطة منذُ البداية بفعل هيمنة مسلَّحي كلِّ حزب سياسي على منطقة محدَّدة، ومحاولات كلِّ جهة كسب ثقة الناس فيها لحِزبهم وليس للقيادة السياسيَّة للجبهة، عمِلتْ على زيادة وتوسيع حالة الانفلات الأمني، وبطبيعة الحال تكون الأجواءُ مناسبةً في هذه الأوضاع لتغلغل العناصر الانتهازيَّة والعمِيلة بين صفوف تلك الأحزاب، فكان مألوفًا أن تجِد مع مسؤول هذا الحزْب أو ذاك عناصر كانت تعمل حتى الأمس القريب في صفوفِ الأجهزة القمعية للنظام، أو كانتْ معروفةً بموالاتها للنِّظام الديكتاتوري.

 

إنَّ نجاح أية انتفاضة يخلُق بطبيعة الحال انعطافةً جماهيرية نحوَ القوى السياسيَّة التي تقودها، والمؤسِف أنَّ حالة التنافُس الحزبي بيْن جميع الأحزاب دون استثناء ظهرتْ منذ البداية، فانضمَّ العديد لصفوف هذه الأحزاب، أو حملوا السلاح في صفوفِ تنظيماتها العسكريَّة، وبينهم الكثيرُ مِن أزلام النظام ورؤوس مرتزقةِ الأمسِ القريب، فاختلط الحابل بالنابل في تنظيمات بعضِ الأحزاب.

 

وظهرتْ خلال هذه الفترة (تبريرات) غريبة لدَى قادة هذه الأحزاب في حالة توجيهِ اللَّوْم لهم بقَبول هذه العناصر في صفوفها، فكانوا يُردِّدون أن لهؤلاء اتصالاتٍ سريَّةً سابقة معهم، وامتدَّ التنافُس بين الأحزاب ليشملَ حتى رؤساء المرتزقة الذين كانوا يعيشون بعدَ نجاح الانتفاضة في هلَع وخوف من انتقام الجماهير منهم، فإذا بهم يُقابَلون بكلِّ احترام مِن قِبل قادة الأحزاب السياسية، فانخرَط العديد منهم في صفوف تلك الأحزاب، أو استمرُّوا في حمْل السلاح في صفوفها، بعدَ أن كانوا يحملون السلاح لصالح النِّظام حتى يوم الانتفاضة! بل إنَّ بعضهم كان مِن بين "آمري مفارز الأمن" المرتبطة مباشرةً بالأجهزة الأمنية القمعية، وأسهم بعضهم في قتْل المنتفضين في بداية الانتفاضة.

 

وتولَّتِ القيادة السياسية للجبهة الكردستانية إدارةَ المنطقة بنفسها، بدلاً عن تشكيل إدارة جديدة وموحَّدة مِن عناصر خبيرة مِن ذوي الماضي النظيف غير المرتبط بالنِّظام، واستمرَّ الحال بهذه الوضعية حتى إجراء الانتخابات في أواسط أيار 1992، وبدلاً من تشكيل إدارة مدنيَّة تتولَّى إدارة المنطقة وتهيِّئ الأجواء الطبيعية لإجراء الانتخابات، تمَّت الانتِخابات تحتَ إشراف القيادة السياسية للجبهة الكردستانية؛ لأنَّها لم تكن على استعداد للتخلِّي عن السلطة التي اكتسبتها بعدَ نجاح الانتفاضة، ثم سحبتِ الإدارات من قِبل السلطة المركزيَّة[2].

 

وكما أشرتُ آنفًا، أجريتِ الانتخابات تحتَ إشراف القيادة السياسيَّة للجبهة الكردستانيَّة، وهي ليستْ بسُلطة مدنيَّة، وتشكلت بعدَ ذلك حكومة إقليميَّة بمشاركة الحزبين الأساسيين اللذين حصلاَ على معظم المقاعِد في أوَّل برلمان كردستاني منتخَب، وبدلاً مِن تعاون الحزبين على حلِّ المشاكل الاقتصاديَّة والبطالة، وإيجاد حلول جذريَّة للمشاكِل الاجتماعيَّة والأوضاع المتردية الأُخرى التي ورثتْها مِن النِّظام الدِّيكتاتوري، انصبَّ جلُّ اهتمامهما على توزيع المناصِب بين أنصار حزبيهما، وكان ذلك بداية الصِّراع بينهما بصورة مكشوفة، ذلك الصِّراع السياسي انقلَب إلى صِراع مسلَّح لدَى بروز أوَّل حالة احتِكاك بينهما في قلعة (دزه) في أيار 1994.

 

إنَّ الصِّراع الموجود حاليًّا في كردستان العِراق ليس بصِراع عشائري أو إقليمي (سوران/باهدنيان)، أو غير ذلك مِن الأسباب الواهية التي حاول البعضُ تفسيرَه بها، إنَّ سببَ الصِّراع هو السلطة نفسها، فكما كان سبب الصِّراع عبر التاريخ والعهود الإسلاميَّة منذُ عهد الراشدين حتى انتهاء الخِلافة الإسلاميَّة، وفي الدول الأخرى أيضًا الصِّراع على السُّلطة بصوره وأشكاله المختلفة، فإنَّ سببَ الصِّراع في كردستان أيضًا هو السُّلطة وما يَتبعُها مِن مغانمَ، وعندما يتعوَّد أصحابُ السلطة في كردستان على قَبول الطَّرَف المقابل ويقرُّون مبدأ تداول السُّلطة عبرَ صناديق الاقتراع، عندئذٍ تسكُت البنادق وتتكوَّن سُلطة مدنية موحَّدة تسمح للفعاليات الاجتماعيَّة والمؤسَّسات المدنيَّة بأن تلعَب دورها، وتعمل على إنهاء حالةِ التشرذُم وقلْع جذور الماضي البغيض وإنشاء مجتمَع مدَني يكون نموذجًا للأجزاء الأخرى، بل في المنطقة بأكملها.



[1] بحث قُدِّم في ندوة نظَّمها اتِّحاد الكتَّاب والصحفيِّين العراقيِّين في بريطانيا بتاريخ 28 آذار  1998في قاعة الكوفة في لندن، وقدِ اشترك في الندوة أيضًا الباحثون فالح عبدالجبار وحازم صاغية، والدكتور غسان العطية، الذين عالجوا أوضاعَ ومشاكلَ المجتمع العربي في العراق، ن ط.

[2] إحساسًا بالمسؤولية المترتبة عليَّ كقانوني عاصَر معاناة شعبه قبل وبعدَ الانتفاضة، قدمت بواسطة أحد قِياديي الجبهة الكردستانية مُذكِّرةً طويلة في ديسمبر 1991 إلى القيادة السياسيَّة للجبهة المذكورة، اقترحت فيها تشكيل "مجلس تنفيذي" بموجَب القانون الذي كان نافذَ المفعول، على أن تحلَّ القيادةُ السياسية للجبهة الكردستانية محلَّ السلطة المركزيَّة في جميع اختصاصاتها وصلاحياتها في المنطقة المحرَّرة من كردستان، فمِن المعلوم أنَّ صلاحياتِ المجلس التنفيذي كانتْ محدودةً وإدارية صرْفًا، وكان يتعيَّن عليه الرجوع إلى السلطة المركزيَّة في بغداد في جميع الأمور الهامَّة، فاقترحتُ في تلك المذكِّرة حلولَ القيادة السياسيَّة للجبهة محلَّ السلطة المركزية في الصلاحيات الواسِعة التي كانتْ تتمتَّع بها في كردستان، وقدِ اقترحتُ تشكيلَ المجلس التنفيذي مِن عناصر كُفْأةٍ ونزيهة ومِن ذوي الماضي النظيف؛ أي: مِن غير المتعاونين سابقًا مع النِّظام الديكتاتوري، كما طالبتُ في المذكِّرة نفسِها قادةَ الجبهة بعدم السماح لمسؤولي الأحزاب السياسيَّة والتنظيمات المسلَّحة التابعة لها بالتدخُّل في الشؤون الإدارية، وفي الاختصاصات التي تتمتَّع بها الإدارات المدنيَّة، سواء المجلس التنفيذي أو المحافظين في المحافظات ورُؤساء الوحدات الإداريَّة الأخرى والأجْهِزة والمؤسَّسات التابعة لها، وقد اقترحتُ في السياق نفسه تبديلَ عناصرَ أخرى جديدة بمسؤولي الأحزاب والتنظيمات المسلَّحة التابعة لها في المدن والقصبات؛ لأنَّ المسؤولين المذكورين كانوا قد تَعوَّدوا على التدخُّل في شؤون الإدارات، وكان الناس يتوجَّهون إليهم لحلِّ مشاكلهم، بدلاً عن التوجُّه إلى الإدارات، فكان هؤلاء المسؤولون من حزبيِّين وعسكريِّين يتدخَّلون يوميًّا في شؤون الإدارات الصغيرة والكبيرة، بل حتى في شؤون القضاءِ والمحاكم.

وقدِ اقترحتُ قيام الإدارة المدنيَّة المذكورة بإجراء الانتخابات خلالَ فترة محدَّدة، وبذلك كان يتمُّ تداول السلطة بصورة سِلمية وديمقراطيَّة، لكن المذكِّرة رُفِضت من قِبَل أطراف في الجَبْهة قبل عرْضها على قيادتها السياسيَّة للسبب نفْسِه، وهو تمسُّك تلك الأطراف بالسُّلطة دون الاهتمام بعواقبِ ذلك.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الأدب الكردي.. هل يلقى مصير قومه؟!

مختارات من الشبكة

  • خطبة حول التبغ والتدخين ورسائل حوله(مقالة - ملفات خاصة)
  • القول الصحيح حول حديث رهن درع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف الشبهات حوله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دليل حول أهم الأخطاء الشائعة في بحوث الخدمة الاجتماعية ورؤية لمعالجتها(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مناقشة خطة بحث ماجستير حول الحماية الاجتماعية للشباب من البطالة(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)
  • هولندا: برنامج عن المتحولين إلى الإسلام(مقالة - المسلمون في العالم)
  • الدوافع الاجتماعية للتعرض للصحف السعودية، مع تصور مقترح للمضامين الاجتماعية(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • ملخص بحث: دور الممارسة العامة للخدمة الاجتماعية في تنمية الشعور بالمسؤولية الاجتماعية عند أفراد المجتمع(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
  • مجمع الفقه الإسلامي يعقد اجتماعًا تشاوريًّا حول الأزمة المالية العالمية(مقالة - المسلمون في العالم)
  • بيان حول الأزمة المالية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من حكم شعرية في شعر فضيلة الشيخ الشاعر عبدالله بن علي العامري(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
1- شكرا لك
لامعة في الأفق - المملكة العربية السعودية 03-04-2011 12:34 AM

..لو لم أكن عربية والزمت أن اختار شعب آخر لتمنيت أن أكون كردية...يشدني هذا الشعب المناضل ..أحب أن اقرأ له
وها أنا أنزل كتاب "الكرد، دراسة تاريخيَّة وسوسيولوجيَّة"
لا أعرف لما اي موضوع يتحدث عن هذا الشعب إلا وأتوقف أقرأ له
.حقيقة تعمقت قليلا بأكراد تركيا وتألمت لحالهم ...لكن رغم ما يمرون بهم سبحان الله لديهم عزم وقوة شاهدت بالأكراد شعب عنيد قوي ذو قلب كبير يعجبني قوة دينهم وتمسكهم بمبادئهم
وكذا لأكراد سوريا وما مروا به بعضهم ..
فهل حال الأكراد نفس الشي في جميع بقاع كردستان ؟؟؟أم يختلفون بالصفات والعادات والحقوق من بلد لآخر

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 18/11/1446هـ - الساعة: 8:24
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب