الفصول المقلوبة ليست إستراتيجية ولا طريقة

الفصول المقلوبة ليست إستراتيجية ولا طريقة

هل الفصول المقلوبة إستراتيجية أم طريقة؟

ورَدَني كثيرًا هذا السؤالُ من بعض باحثي الدراسات العليا والمعلمين عند التدريب على التعلم العكسي؛ كَوْني ممن كان لهم السبق في التنظير والتطبيق للفصول المقلوبة في مؤلفي أو من خلال التدريب[1].

للإجابة عن هذا التساؤلِ تتبَّع معي هذا التحليلَ في ركيزتين مهمتين:

الركيزة الأولى:

في الأدبيات الأجنبية والعربية التي تطرَّقت للمفهوم، ساد مصطلح النموذج ومصطلح الإستراتيجية.

س/ فما الفارق بين النموذج والإستراتيجية، والطريقة والأسلوب؟

نلخِّصها في الجدول التالي:

ومن خلال تفسير هذه المصطلحات، تجد الباحثةُ التدرُّجَ في المفاهيم بحيث لا نستطيع استعارةَ مدلول أحدها للآخر، ويمثِّل هذا التدرجَ الشكلُ التالي:

وقد تجاوزَتْ نماذجُ التعلم والتعليم 100 نموذج، والنماذج منها ما يهتمُّ بتطوير المناهج، وآخر يخص التعليم والتدريس.

فعلى سبيل التمثيل: المعلم قد يستخدم نموذجَ التعلم الذاتي، وإستراتيجيات التعلم النشط، وطريقة المحاضرة، وأسلوب التواصل الفائق مع طلبته؛ أي: بمعنى أن الوحدة التدريسية الواحدة تشمل نموذجًا وإستراتيجية أو أكثر، وطريقة وأسلوبًا. فنَصِفُه بقولنا: المعلم أحمد استخدم:

وعند تطبيق التعلم العكسي نقول: المعلم استخدم

أو:

مع التأكيد بأن هذه المصطلحات كثيرًا ما تتداخل في حديث بعضِ التربويِّين والمعلمين وفي كتاباتهم. وفي التعلم العكسي نتناول هيكلةً مزدوجة من النموذج والإستراتيجية، فلا تعلُّمَ عكسي بدون إستراتيجية؛ لأننا نتحدث عن إجراءات في المنزل قبل الدرس، وإجراءات في المدرسة أثناء الدرس، يمثِّلها التصور التالي:

إذًا نُخرِجُ الفصول المقلوبة من كونها إستراتيجية أو طريقة أو أسلوبًا، بل هي نموذج يحتوي على إستراتيجية وطريقة وأسلوب.

الركيزة الثانية:

• ظهر مفهومٌ في التربية والتعليم جذورُه تعود للعصر اليوناني، هو (البداغوجيا)، التي تتكون من شقين " Péda "، وتعني الطفل، و" Agôgé "، وتعني القيادة والسياقة، وكذا التوجيه؛ فالمعلم «البيداغوجي Le pédagogue» هو من يقوم في العهد الإغريقيبالخروج مع الطفل للتعليم والتدريب والنُّزهة، ثم تطوَّرتْ لتحمل معنى المعلم الذي يقوم بتدريس المعارفِ والخبرات التعليمية والتعليم ونقل المعلومة والتدريب، من خلال الأساليب الملائمة لفرد أو لمجموعة؛ لذا نجد أن المختص كمنشط أو مدرِّب تربوي يعمل في أي مكان وأي زمان، وليس فقط في المدرسة، يسمى بالإنجليزية "بيداغوغ pedagogue"، وبالإسبانية "بيداغوغو "Pedagogo، وليس "educator" التي تعني "معلمًا مربيًا" غالبًا يكون في المدرسة أو التعليم الرسمي.

وتعددت البيداغوجيا الحديثةُ؛ فهناك بيداغوجيا الكفايات، بيداغوجيا حل المشكلات، بيداغوجيا الخطأ، بيداغوجيا المشروع، بيداغوجيا المسارات أو الفارقية، بيداغوجيا المجزوءات، وغيرها.

وبهذا التقريب للبيداغوجيا والمقاربة بتكنيكيات التعلم العكسي من أوجه عدة ألخصها في عدة أساسيات:

1- حتميةُ التواصل الفعَّال بين معلمِ التعلم العكسي والمتعلم.

2- معلم الفصل المقلوب يهتمُّ بالمهارات التي سيقوم بتطويرها لدى المتعلم؛ لأنه تجاوَزَ الاهتمامَ بالمحتوى التدريسي الذي أرسَلَه للطالب مسبقًا.

3- حتمية شخصنة تعلم الطالب بتعزيز التعلم الذاتي عن طريق تعزيز الثقة بالنفس، وتفعيل التعلم الاجتماعي.

4- مهنية المعلم في الفصل المقلوب مع زملائه ومع الطلبة ومع القائد.

5- أضف على ذلك أمرًا أجدُه فارقًا في التعلم المعكوس عن غيره، وهو لزوم معلم الفصل المقلوب ثلاثة مهامَّ أساسية:

وهي مجمل الكلمات الإنجليزية التالية " Reach،Teach،Teach"

فالتعلم العكسي يسعى لتعزيز الذات المتعلِّمة، وبثِّ الثقة وروح المبادرة لتأهيل المتعلم للتعلُّم مدى الحياة، وهذه المهامُّ الملقاة على معلم الفصول المقلوبة تصيِّره بيداغوجيًّا (معلمًا، وميسرًا، مربيًا ومهذبًا ومتواصلًا)[2].

كلُّ هذه المحاور تجعلني أضع الفصل المقلوب خاصة - والتعلمَ العكسي عامة - في إطار البيداغوجيا؛ فأُطلق عليه بيداغوجيا التعلم العكسي للسمات المصاحبة الملزمة لجودته، وتحقق الهدف منه، فضلًا عن توظيفه للتقانة.

مفهوم الفصول المقلوبة:

أرى أن المعنى اللغوي يقرِّب المفهومَ إلى الأذهان قبل المعنى الاصطلاحي، فالترجمة الحرفية لمصطلح flipped classrooms تعني الفصول المقلوبة أو المعكوسة[3]، flipped" تأتي ترجمتُها بمعنى القلب أو العكس، والقلبُ في اللغة هو: تحويل الشيء عن وجهه؛ يقال: قلب الشيءَ يقلبه قلبًا.

وفي المعجم الوسيط: قلب الشيءَ قَلْبًا: جعل أعلاه أسفله، أو يمينه شماله، أو باطنه في ظاهره.

وقلبت القوم؛ أي: صرَفتهم.

والطريف المناسب للمعنى ورد في "لسان العرب" بما يناسب التعليم والدرس، قولهم: قلب المعلمُ الصبيان؛ أي: أرسَلهم، ورجَعَهم إلى بيوتهم.

وتُترجَمُ أيضًا بمعنى العكس: عكس الشيء يعكسه عكسًا فانعكس: ردَّ آخره على أوله، وعكس الدابة: إذا جذب رأسها إليه لترجع إلى ورائها القهقرى، ومنه قول الشاعر المتلمِّس:

جاوزتُها بأمونٍ ذاتِ معجمةٍ ••• تنجو بكَلْكَلِها والرأسُ معكوسُ

• المعنى الاصطلاحي:

• عرفها جوناثان بيرجمان وهارون سامز بأنها:

استخدام تكنولوجيا الإنترنت للاستفادة من التعلم في الفصول الدراسية الخاصة بالمعلم؛ حتى يتمكَّن من قضاء مزيد من الوقت في التفاعل مع الطلاب بدلًا من إلقاء المحاضرات، باستخدام المعلم أشرطة الفيديو (ويعرف أيضًا باسم Bergmann Sams" vodcasting " التعلم[4] المخلوط).

• وعرف في مركز التعلم في جامعة فاندربيلت الفصل المقلوب عكس الفصول التقليدية، حيث يكتسب الطلاب الموادَّ الجديدة من خارج الصف، عادةً عن طريق القراءة أو محاضرة الفيديو، ومن ثم يُستخدم وقت الصف لاستيعاب تلك المعرفة من خلال إستراتيجيات مثل حل المشكلات والمناقشة أو الجدل.

• ويعرفها (marco 2010)[5]: بأنها إستراتيجية تدريس تجعل الطالب يقوم بنمط التدريس التقليديِّ بنفسه، بأن يُطلَبَ منه قراءةُ جزء من الكتاب المدرسي قبل المدرسة، ودراسته من خلال مصادر التعلم المتاحة؛ كدروس الفيديو المعدَّة مسبقًا من المعلم، ثم يتناقش فيها في الحصة الدراسية.

• وشبكة الفصول (انقلبت) وضعت لها مفهومًا في 12 مارس في 2014 يميز الفصل المقلوب (هو النهج الذي يسمح للمعلمين تنفيذ منهجية مختلفة في صفوفهم).

وبناء على البحث الجيد في الفصول المقلوبة، والممارسةِ والتطبيق، وتحكيمِ الرسائل والأبحاث المتعددة، ومن خلال رؤيتي البيداغوجية، وبالربطِ بين المعنى اللغوي للمصطلح "التحويل والعكس وقلب الشيء ظاهره إلى باطنه"، وبين ما يحدُث في الفصل المعكوس من تحويل الدرس من المدرسة إلى المنزل، وتحويل أداء الواجب من المنزل للمدرسة - أخرُجُ بالتعريف الخاص التالي:

التعلم المعكوس "العكسي": "هو نموذج[6] تعلم وتعليم مقصودٌ، يوظِّف تكنولوجيا التعليم "الفيديو وغيره" في إيجاد معنى المفاهيم "المحتوى الدراسي" عند المتعلم ذاتيًّا قبل الحصة الدراسية وخارجها؛ لاستثمار وقت الحصة في حل الواجب المنزلي والممارسة النشطة للتعلم المسبق لبناء الخبرة وشخصنة التعلم، مع إمكانية تفعيل السوشيال ميديا في إثراء التعلم وتبادله"[7].

وخصصته بكلمة (مقصودة)؛ للتأكيد أن قصدية إعطاء المفهوم في المنزل مقصودٌ لذاته، وحتى تنفي عن التعلم العكسي الشبهَ بما يحدُث ارتجالًا عند بعض المحاضرين من تكليف المتعلِّم بالاطِّلاع على الدرس في المنزل، أو تسجيل الدرس في فيديو، دون الالتزام بآلية التطبيق داخل الصف، وأيضًا لنُبعده عن المشابهة بالتعليم عن بُعدٍ أو الفصول الافتراضية المتزامنة بحضور المعلم.

وحددت بالفيديو؛ لأنه الأفضل؛ إذ يتوافق مع التعلم وأبحاث الدماغ في فائدة الوسائط السمعية البصرية في تثبيت التعلم وتحفيزِه.

وذكرت "غيره"؛ لإمكانية استخدام الوسائط المتعددة المختلفة؛ مثل البود كاست أو الفصول الذكية عبر النت وغيره.

فهو نموذج يقضي على استهلاك وقت الحصة - 45 دقيقة أو أكثر كما في المحاضرة - في تطبيق المفهوم، وممارسته في تطبيق المعرفة. وتستعير له عبارة (الفصول المقلوبة، إطلاق الأيدي المكتوفة) أو (دع الأرانب تركض)؛ تعميقًا لمفهوم الذاتية في التعلم.

فبيداغوجيا التعلم العكسي كون متكامل النظرية والتطبيق، له أسسُه الواضحة، وقواعدُه الملزمة، التي تعتمد على التعلم المزيج وسماته الفارقة؛ فليس كل معلم قادرًا على قلْب صفِّه، ولا كلُّ من قلَب صفَّه وُفِّق في تحقيق الهدف منه.

ففاعلية المتعلم فيها على درجة عالية، ويكاد دَور المعلم يتوارى خلف (التخطيط والإعداد)، ثم (التوجيه والتيسير) داخل الصف، و(التقويم التكويني)، وقد يسمَّى التعلم المخلوط، أو عكس التدريس، الفصول المقلوبة، فالتقنيةُ وسيلة لتوفير وقت الحصة في ممارسة التعلم والتطبيق للخبرة، وهو النموذج الجيد لتحقيق مهارات القرن الحادي والعشرين التالية:

ولعله من المهم التذكير بقول المدير السابق لإدارة التعليم Tom Carroll لإعداد معلمي المستقبل على استخدام التكنولوجيا في أمريكا في كتابه "استخدام التكنولوجيا في الصف، ترجمة: أميمة عمور وحسين أبو رياش"، يقول:

إن قوة التكنولوجيا في تعليم الطلبة لا تأتي من وجود أجهزة الحاسوب في غرفة الصفِّ أو من خلال الإنترنت، لكنَّ القوة الحقيقية للتكنولوجيا في التعليم ستأتي عندما يتدرَّب المعلمون بشكل جيد، ويحصُلون على مكامن التكنولوجيا بأنفسهم.