• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / د. علي بن إبراهيم النملة / المقالات
علامة باركود

وجوه الالتقاء وصناعة الكراهية

وجوه الالتقاء وصناعة الكراهية
أ. د. علي بن إبراهيم النملة

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/10/2024 ميلادي - 19/4/1446 هجري

الزيارات: 730

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

وجوه الالتقاء وصناعة الكراهية

 

الأصل في الثقافات التي تقوم على وحيٍ منزَّلٍ من الله تعالى على أنبيائه وسله عليهم الصلاة والسلام التي استَمدَّت مقوماتها الثقافية من أصول الأديان - الأصل فيها – التلاقي؛ ذلك أنها تؤمن إجمالًا بما اصطلَحْنا عليه نحن المسلمين بأركان الإيمان الستَّة، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدَر خيره وشرِّه[1]، ومن ثمَّ فلا مجال في الأصل لصناعة الكراهية بينها في هذه المقومات الإيمانية؛ ذلك لأن منبعها واحدٌ وأهدافها في أصلها واحدة "إلا ما ورد من باب التجاوُز والافتراءات"[2]، ثم التحريفات التي تَدخَّل فيها الإنسان نفسه، من خلال ما تَعارف عليه علماء الأديان برجال الدين.

 

مع هذا سعى بعض المعنيِّين بمقارنة الأديان من المستشرقين - لا سيما الفرنسيين منهم - إلى إيجاد بعض نقاط التلاقي بين الإسلام والملل الأخرى الشرقية، التي وضعها الإنسان في المنطلقات العامَّة؛ كالمساواة والزهد، والتوافُق الثقافي وآليات التملُّك، وضرَب مثلًا بالهندوسية، ولم ترقَ نقاطُ التلاقي هذه إلى الحدِّ من صناعة الكراهية في الواقع، وفي ضوء طغيان الطبقية من لدن الأكثرية الهندوسية في الهند نفسها (75%) تجاه الأقلية المنبوذة (17%)، والأقلية المسلمة (14%)، والأقلية المسيحية (2,5%)[3].

 

هذا بعد تفكيك شبه الجزيرة الهندية إلى عدد من الدول؛ لتصبح الهند والباكستان (الغربية) وبنغلاديش (باكستان الشرقية من قبلُ وكشمير)، حُشر في أكثرها المسلمون؛ ليصبحوا - في النهاية - أقليَّة في البلد الأمِّ، رغم عدم رضا بعض المعنيِّين بتسميتها بالبلد الأمِّ، كجزء من التناحُر بين أفراد الشعب الواحد؛ لا في الهند وحدها، ولكن بين هذه الدول الوليدة.

 

وسعى بعضُ المستشرقين إلى ترسيخ مفهوم الطبقية بين الأجناس الغربية من جهة، والأجناس الشرقية من جهة أخرى؛ فجاءت هذه التفرقة على أساس جهوي، فالغربيُّون بهذا المفهوم فعَّالون وعقلانيون ومادِّيون وواقعيون، ويعيشون في النسبي، وزمانهم غير قابل للتكرار وللإعادة، وهم يؤمنون بالمستقبل والتخطيط له، والشرقيُّون منفعلون وجدانيون وغارقون في الروحانيات والغيبيات والمقدورات، ومنظومتهم القيمية مطلقة وجامدة، وزمانهم يكرِّر نفسه باستمرار، ويتزعَّم هذه التفرقة العرقية المستشرق الفرنسي (إرنست رينان 1823 - 1892م)[4].

 

منهج التعارُف بين الأمم:

والأصل أنَّ من مقاصد خلق الأمم التعارُفَ وتغليبَ نقاط الالتقاء الكثيرة بين الأمم؛ بمعنى أنَّ مساحات التلاقي أوسعُ بكثير من هامش الاختلاف، ومن ثَم عدم الالتفات إلى وجود فروقات إثنية أو عِرقية أو جنسية[5]، خلافًا لمن يُصِرُّ على وجود هذه الاختلافات والفروقات، وهُم كثير، بعضهم يصرِّح بذلك، وكثيرٌ منهم لا يَجرُؤون على إظهار شعورهم بالتفرقة العنصرية، فقد اشتهر عن المستشرق الفرنسي الفيلسوف إرنست رينان إيمانُه القاطع بالعرقية، وتفوُّقِ بعض الأجناس على البعض الآخر، وطوَّع أبحاثه ودراساته الاستشراقية لدعم نظريته هذه، ومع هذا يظلُّ التفاضل بين الخلق فقط بأعمالهم التي يَكونون قريبين فيها من الخالق جلَّ وعلا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

 

التعارُف بين الشعوب والقبائل "هو أحدُ أرقى المفاهيم وأكثرِها قيمة وفاعلية، ومن أشدِّ وأهمِّ ما تحتاج إليه الأمم والحضارات، وهو دعوةٌ لأنْ تَكتشف وتتعرَّف كلُّ أمة وكلُّ حضارة على الأمم والحضارات الأخرى، بلا سيطرةٍ ولا هيمنة، أو إقصاءٍ أو تدمير، والتعارُف هو الذي يحقِّق وجودَ الآخر ولا يُلْغيه، ويؤسِّس العلاقة والشراكة والتواصُل معه، لا أنْ يقطعها أو يمنعها أو يُقاومها"؛ كما يقول زكي الميلاد[6].

 

التأسيس للعلاقة والشراكة والتواصُل يَقتضي حدًّا أدنى من المساواة؛ ذلك أنَّ الفكر الاستشراقي متَّهَم بأنه أسهَم في إقامة شراكة غير متساوية بين الشرق والغرب، لا يكاد يُفلِت منها باحثٌ في الغرب حتى لو لم يكن مستشرقًا، "معنى هذا أنَّ كل فكر غربي هو في علاقته بالشرق فكر استشراقي؛ لأنه ينظر في الشرق بعين هذا الفكر، ولأنَّ الشرق هذا هو شرقُ الاستشراق لا الشرق نفسه؛ فالعلاقة بين الشرق والغرب هي إذًا في الفكر الغربي محكومة بالفكر الاستشراقي لا يُفلت من هذا الفكر فكر"[7].

 

لقد كان للاستشراق - من جانبٍ آخر - أثرٌ في ترسيخ مفهوم التعارُف بين الأمم من زاويتين؛ الأولى الإيجابية، والأخرى السلبية، ويقتضي الأمرُ قياس هاتين الزاويتين، من حيث طغيانُ إحداهما على الأخرى، وقد طغت السلبية على معظم الدراسات الاستشراقية المتأخِّرة التي ركَّزت على حوار الحضارات، بدلًا من تعارُف الحضارات، والذي يبدو أنَّ التعارُف أشمل من مجرَّد الحوار[8]، والتعارُف يقود إلى التفاهُم، والمؤكَّد أنَّ هذا البعد الاستشراقي كان له أثره على البعد الإعلامي في التعارف، الأمر الذي يَخرج عن نطاق هذا البحث[9].

 

والأصل أنَّ من مقاصد الخلق أن يكون الناس أممًا وليس أمة واحدة، وذلك تثبيتًا لمبدأ التسابُق إلى الخيرات؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48].

 

منهج التنافُس والتدافُع:

والأصلُ في هذا التسابق أن يصحَبَه تنافسٌ وتدافع إلى الخيرات؛ للتغلُّب على الإفساد في الأرض، "فلو لم يكن هناك تدافُع بين الناس لفسدَت الأرض، ولهُدِّمت عِمارتها، بما في ذلك أماكنُ العبادة، وهي أخصُّ ما يَذود عنه الإنسان"[10]؛ قال تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

 

من المؤكَّد أنَّ هذا التدافُع والتنافُس إنما هو في مضمار الصلاح والإصلاح، واستغلال اختلاف المشارب والمناهج على أنها وسيلة إلى الاستباق في مجال الخيرات، "والاستباق والتسابُق يقتضيان التدافُع بين المتسابقين، قد يسقط في الحلبة الضعيف، كما قد يسقط مَن يحاول مجابهة الإصلاح ومقاومتَه، لكن هدف التسابُق والتدافُع في النهاية هو حماية الإنجازات الإنسانية - الحضارية - على وجه الأرض"[11]؛ أي: عمارة الأرض والاستخلاف فيها.

 

منهج النظرة الوسط:

والأصل أنْ تقوم نظرة الإسلام إلى الثقافات الأخرى على المنهج الوسط الذي سار عليه سلف هذه الأمة في التعامُل الواضح مع الثقافات المعاصرة، من حيث إعطاؤها قيمتَها الفعلية، ومن ثَمَّ الإفادةُ من معطياتها العلمية والمعرفية والحضارية، دون الحاجة إليها في الجوانب العقدية والشرعية، وبما لا يتَعارض مع تلك الثوابت التي جاء بها هذا الدين، فكانت هناك حركةُ ترجمة ونقلٍ للعلوم والمعارف؛ على اعتبار هذا النقل يمثِّل شكلًا من أشكال الحوار والتواصل بين أمة الإسلام والأمم المعاصرة الأخرى[12].

 

تكاد هذه النظرة المستمدة من المنهج الوسط تُغفَل في التعامل بين الثقافات، ويظهر أن التعامل بين الثقافات يقوم على قدرٍ من سوء الظنِّ فيما بينها، وهذا منهجٌ يخدم جهاتٍ أو أفرادًا لا تميل إلى الالتقاء بين الثقافات، والأدهى من هذا أنَّ هذه الفئة التي تتبنَّى هذا التوجُّه المتطرف هي التي تُستَشار من قِبل صانعي القرار السياسي من لدُن الأطراف كافَّة، وهذا سرٌّ من أسرار التباعد، والمعلوم أنَّ من بين المستشارين مستشرقين سياسيين يملكون خلفيات ثقافية لا تخدم التوجه نحو التلاقي[13].

 

منهج التأثر والتأثير:

والأصل في بناء الحضارة المشاركة في جهود البناء بالفكر والعلم والجسم، ويؤكد تاريخ الحضارات أن مسألة الاستعانة بإمكانات الأمم المتعاصرة كان ديدنًا في بناء الحضارات المتعاقبة، بحيث يتعذَّر حصر بناء الحضارات على أمة دون مساعدةٍ - بشكل من الأشكال - من أمم أخرى معاصرةٍ لها أو سابقة عليها[14].

 

الحضارة الإسلامية في قرونها الأولى لم تُغفل هذا البُعد، فاستعانت بغير المسلمين المعاصرين والسابقين، وليس هذا مجالَ الاستشهاد وتَعدادِ صنوف الاستعانة، مما هو مبثوثٌ في كتب تاريخ العلوم[15].

 

والحضارة المعاصرة التي نشَأت في الغرب لم تنشَأ دون الاستعانة بالأمم الأخرى، ومنها الأمَّة الإسلامية، ولا تَعدِم وجود مسلمين أسهَموا في بناء هذه الحضارة؛ من الخبرات، إلى الحرفيِّين، بحيث كوَّن المسلمون من أصول وأعراق ولغاتٍ مختلفة وجودًا ظاهرًا في الحياة الغربية.

 

الطلبة المسلمون:

وأصبح لوجود المسلمين أثرٌ وتأثير، بما في ذلك أثر الطلبة المسلمين المبتعَثين للغرب، وتلقَّوا علومهم على علماء الغرب، وكوَّنوا - رغم وجودهم المؤقَّت - جَسرًا للتعارُف بين الشعوب، من خلال أوجُه النشاط العلمية والثقافية والاجتماعية التي كانوا يَقومون بها في المجتمع الغربي، فكانوا على العموم مثالًا لحسن الخُلُق من خلال السلوكيات والنظرة الجادَّة، وإنْ لم يخلُ بعضهم من تأثُّر بالنمط اللَّهوي الغربي للحياة، وتتمُّ استعانة المستشرقين الجدد بأطقم مدرَّبة جيدًا من المثقَّفين العرب والمسلمين، سواء أكانوا مُقيمين في الغربَين الأوسط والأقصى، أم استُجلبوا في رحلات علمية مؤقَّتة، الأمر الذي لم يكن وافرًا بهذا الوضوح مع الاستشراق التقليدي الذي استعان بنُخب غربية أوربية وأمريكية[16].

 

هذا الموضوع يحتاج إلى بحث علمي يركِّز على مدى أثر البعثات التعليمية الإسلامية إلى الغرب، وتأثيرها الإيجابي في رحلة التعارُف بين الأمم، وقد حذَّر بعض الذين كتبوا في هذا المجال من تأثُّر الطلبة المسلمين بالمادِّية الغربية، على حساب النظرة المتوازنة بين المادَّة والروح، وكان هذا التوازُن هو الرسالةَ التي حملها الطلبة المسلمون إلى الغرب، وقليلٌ منهم من عاد إلى وطنه وهو خِلوٌ من هذه النظرة المتوازنة، سواءٌ ذهب هؤلاء لدراسة العلوم الإسلامية في المراكز الاستشراقية أوْ لا، ثمَّ عاد كثير منهم لتطبيق المنهج الاستشراقي في دراسة العلوم الإسلامية والعربية، أو بوجه أوسع ذهبوا لدراسة تخصُّصات علمية تطبيقية بحتة، تحتاجها البلاد الإسلامية التي بعثتهم إليها.

 

فالعلاقة المباشرة بين الاستشراق وعلماء الإسلام والعربية لم تكن مقتصرةً على هذا النوع من التلقِّي، بل إنَّها بدأت بشيء من الندِّية من خلال مؤسَّسات علمية وتعليمية، غربية وشرقية[17].

 

وهذه الفئة هي الكثرة من الدارسين الذين بسَطوا بتلقائيتهم قدرًا لا يُستهان به من تجسير الفجوة في العلاقات الفكرية بين الشرق والغرب، وإنْ لم يَنووا الإقامةَ الدائمة في الغرب، إلا أنَّ وجودهم ترك أثرًا إيجابيًّا على العموم في تجسير هذه العلاقة، وإنْ لم يخلُ وجود بعضهم من قابليتهم للتأثُّر بالنزعة المادية في النظرة للحياة، ومن ثمَّ تأثُّر البعد الروحاني سلبًا لديهم؛ لما تلقَّوه بطرق غير مباشرة من وجود فجوة ذهنية بين العلم والروحانيات في الثقافة الغربية، فعاد بعضهم ليبثَّ المنهج المُعلمَن في إدارة الحياة، أو ليبثَّ المنهج المتحرِّر "اللِّبرالي" في النظر إلى الحياة بعمومها؛ ليكون هذا المنهج غالبًا على المنهج المتديِّن الذي يَشيع بين الشعوب الشرقية عمومًا، والإسلامية على وجه الخصوص[18].

 

فهذا موريس بوكاي (1920 - 1998م) يحذِّر من أنْ يَسريَ هذا التأثُّر بين الطلبة المسلمين الذين يدرسون في الغرب، يقول: "كانت البلاد المسيحية في تلك الفترة من القرون الوسطى، في ركود وتزمُّت مطلق، توقَّف البحث العلمي؛ ليس بسبب التوراة والإنجيل، وإنمَّا - وعلينا أن نكرِّر ذلك - بأيدي هؤلاء الذين كانوا يدَّعون أنهم خدَّام التوراة والإنجيل، وبعد عصر النهضة في أوربَّا كان ردُّ الفعل الطبيعي أنْ يأخذ العلماء بثأرهم من مُنافس الأمس، وهذا الثأر مستمرٌّ حتَّى اليوم، لدرجة أنَّ التحدُّث حاليًّا في الغرب عن الله في الأوساط العلمية يعتبر فعلًا علامةَ الرغبة في التفرُّد! ولهذا الموقف تأثيره السيئ على العقول الشابَّة (والمسلمة منها أيضًا) التي تتلقَّى تعليمنا الجامعي"[19].

 

وتؤكِّد آمال قرامي في هذا المقام على أنه "لا مناص من القول: إن البعثات الدراسية إلى الخارج يسَّرَت عملية اندماج المسلم في المدنيَّة الغربية، ومكَّنَته من الاطلاع على ديانات مختلفة وحضارات متعددة، وأكسبَته شيئًا من أساليب الحياة الغربية، ومن الاتجاه الغربي في التفكير والعلم والسلوك وما إلى ذلك، ومن ثمة صار "الارتداد" ممكِنًا، بخاصة إذا علمنا أن المبشِّرين كانوا حَريصين على تتبُّع أحوال هؤلاء الطلبة، واستغلال حالة الوَحدة والعوَز التي يُعاني منها أكثرُهم؛ لفائدة تحقيق أغراض التبشير"[20]، ويكاد معظم الطلبة "الأجانب" كما يسمونهم من مسلمين وغير مسلمين يتعرَّضون لشكلٍ من أشكال التنصير في المواسم الدينية وفي غيرها[21].

 

- يؤيد المستشرق ولفرد كانتوا سميث (1916 - 2000م) الطبيب الفرنسي موريس بوكاي وآمال قرامي في هذا المنحى التأثُّري - في كتاب له بعنوان: "الإسلام في التاريخ الحديث"؛ حيث يقول: "وقد سافر كثير من الشباب المسلم إلى الغرب، واطَّلعوا على روح أوربا وقيمها، وأعجبوا بها إلى أبعدِ حدٍّ، وينطبق هذا بخاصة على الطلاب الذين درَسوا في جامعات أوربا بعدد لم يزل يزداد مع الأيام، وهم الذين سبَّبوا استيراد كثير من أفكار الغرب وقيمه إلى العالم الإسلامي.

 

وكان مما صدَّره الغرب إلى العالم الإسلامي تلك الأفكارُ المتعدِّدة، والاتجاهات العقلية الدقيقة الفجَّة، والميول الحديثة التي كان في نشرها أوفرُ نصيب لنمَطِ التعليم الغربي، ويَفوقها في ذلك تأثيرُ معاهد الغرب الحقوقية والسياسية والاجتماعية، ونفوذها الزائد..وهكذا أثَّرت عملية التغريب بسرعة وقوة بالغتين"[22].

 

الجاليات المسلمة:

وعامل آخر مؤثِّر في تحسين الصورة العربية الإسلامية في الغرب؛ هو تأثُّر الجاليات المسلمة في أوربا وأمريكا وتأثيرها؛ ما أدَّى إلى تطوير التعليم الإسلامي في التعليم العام والجامعي الأوربي[23]، وإن كانت الجالية العربية والإسلامية قد توزَّعت على دول الغرب الأوسط، بحسب احتلال دول الغرب الأوسط لهذه الدول العربية والمسلمة، (المسلمون الروس والأتراك والبلقانيون والمغاربة في ألمانيا وهولندا، والهنود والباكستانيون والبنغلاديشيون في بريطانيا، ومواطنو شمال أفريقيا ووسطها جنوبها في فرنسا، وخليط متنوِّع من الكل في أمريكا الشمالية والجنوبية)[24] ، التي يُذكر أنها شهدت هجرات مسلمين من الأندلُس قبل اكتشاف كريستوفر كولومبُس لها[25].

 

يغلب على هؤلاء العرب والمسلمين في بدايات هجراتهم لأوربا أنهم كانوا عاملين متكسِّبين لقمةَ العيش مهاجرين؛ طلبًا للاستقرار الاقتصادي، لا سيَّما في الغرب الأوسط أو أوربا الغربية، إلا أنَّ جيلًا من أولادهم نما في الغرب الأوسط، وتعلَّم في المدارس الغربية، دون أنْ يفرِّط في هويته الإسلامية[26]، فظهر من أصلاب هؤلاء العاملين جيلٌ عالمون.

 

بدأ هذا الجيل يدخل "معتركات" الحياة الغربية بثقل وشخصية، تختلف عن شخصية الرجل الأبيض "الأنجلوساكسوني" المتعالية؛ ما يعني أنَّ هناك نزوعًا للتواصُل والتزاوج الثقافي الذي يُسهِم في التقليص من صناعة الكراهية، إذا لم تَنبرِ بعضُ الرؤى الغربية التي تسعى إلى التضييق على الجالية المسلمة وملاحقتها على المستوَيَين الرسمي والشعبي، والسعي من خلال البرلمانات إلى إعادة تهجير الجاليات - لا سيَّما الإسلامية منها - المقدور على تهجيرها بتعديل القوانين، بما يسهم في تقليص الهجرات وتهجير الموجودين؛ حمايةً للثقافة الغربية من سيطرة الثقافة الإسلامية عليها، في ضوء تنامي الجاليات المسلمة في الغربين الأوسط والأقصى، وارتفاع المآذن وعمارة المساجد والمراكز الإسلامية والمؤسَّسات الاجتماعية والتربوية والتعليمية، والسعي إلى إيجاد بيئة إسلامية للأفراح والأتراح.

 

يؤدِّي هذا الاندماج إلى ترسيخ القيم الإسلامية في بلاد المهجر، لا من حيث الممارساتُ الخاصة فحَسب، بل من حيث العلاقات مع الآخرين؛ من منطلق إضافة الإسلام "إلى رصيد العدالة العالمية بعض الحماية من جحيم فساد البشر الأخلاقي؛ فمن الناحية التاريخية كان الدِّين والحضارة يُقاومان قوًى أسهمَت في أسوأِ ما شهده القرن العِشرون من البربريَّة لبعض الفترات: العنصرية والإبادة الجماعية والعنف داخل المجتمع"[27].

 

كما يؤدِّي هذا الاندماج إلى تسَنُّم المسلمين مستوياتٍ عَمليةً وعِلمية، وتقنية وفنية وأكاديمية، فرضَت وجودها في المجتمعات الغربية، ويتعذَّر تهجيرها من الغرب الأقصى؛ أمريكا الشمالية بخاصَّة، ويذكر علَّال سيناصر أنَّ بعض الدراسات الاجتماعية قد أثبتت أنَّ قدرة الغرباء على العطاء تكون في أقوى صورها إذا كان هؤلاء الغرباءُ على معرفة جيِّدة بثقافة بلدهم الأصلي[28]، وهذا مما يَزيد من تمسك المسلمين بدينهم؛ ما يؤدي إلى أن يكون الدين الإسلامي هو الديانة الثانية في الغرب الأوسط، أو أوربا الغربية[29].

 

ولم يعُد "من المتخيل أبدًا أن يشهد وجودُ الإسلام في الغرب تراجُعًا ما؛ فلا يمكن إلغاء هجرة العمالة الوافدة من المسلمين إلى أوربا، ولا وقفُ هجرة الأكاديميين المسلمين إلى أمريكا الشمالية، ولا تعطيل استجابة الأعداد الغفيرة من الأفروأمريكيين لدعوة الإسلام واعتناقهم إيَّاه"[30].

 

هذا بالإضافة إلى الرأي القائل بأنَّ توجُّه أوربا للشرق الإسلامي حقيقةٌ قادمة وقدَر محتوم، الأمر الذي لا ينبغي أخذُه بسطحية[31]، بالإضافة إلى تنامي المسلمين من حيث العدد؛ إذ من المتوقَّع أن يصل المسلمون في نهاية هذا القرن الميلادي أو قبلَه إلى نصف عدد سكان العالم، في الوقت الذي تشهَد فيه الأجناس الأوربية - خصوصًا في الغرب الأوسط - تضاؤلًا في التكاثُر وانحدارَ معدَّل الإنجاب إلى 1.2% في معظم أوربا الغربية، وفي روسيا 1.5% بين غير المسلمين، وهي بين المسلمين عمومًا 5%[32]؛ ما يُنذِر بتقلُّص هذه الأجناس ديموغرافيًّا في هذه البقعة من العالم؛ إذ إنَّ الحدَّ الأدنى للبقاء لا ينبغي أنْ ينقُص عن 2.1%، كما يشخِّص ذلك باتريك ج. بوكانن في كتابه موت الغرب[33].

 

وليس المراد هنا ما تردَّد من أفول الغرب؛ إذ إنَّ بعض المفكِّرين يرى في إطلاق هذا المفهوم ترجمةً لأمنياتٍ عند البعض (wishful thinking)، أو ترجمة لنظرة تشاؤمية عند آخرين، فالغرب يزداد بالتغريب، لا سيَّما مع انتهاء الاتِّحاد السوفيتي، وسعيِ كثير من دول الاتِّحاد السوفيتي السابق والصين ودول البلقان إلى الانضواء تحت مفهومات الثقافة الغربية، بما في ذلك الدخول في منظومة الاتِّحاد الأوربِّي بالنسبة لدول البلقان وتركيا، خلافًا لمن قال بأفول الغرب؛ تأسِّيًا بشبنغلر الذي يبدو أنه متشائم من أفول الثقافة الغربية لا الحضارة الغربية، وربَّما وافقه على ذلك كلٌّ من كروشه وبرغسون وتوينبي[34].

 

على أنَّ رؤية بوكانن لا تنطلق من مفهوم فلسفي، بل إنَّها تنظر إلى هذا الموضوع نظرة ديموغرافية مشبعة بالبيانات والإحصائيات والحقائق.

 

وقريبًا من هذا ما سطَّرته آنا ماري شيمل؛ إذ تقول: "أعتقد أنَّ الماضي هو مستقبل الوطن العربي؛ فالعرب يعانون أكثر من غيرهم جرَّاء الأزمة التي تعصف بالعالم، والتي تمثِّل في جوهرها صراعًا عنيفًا بين العالم المادِّي والعالم الروحاني.

 

إنَّ العالم الغربي الذي وصل أعلى درجات التقدُّم العلمي والتكنولوجي يشعر الآن أكثر من أي وقت مضى بالأخطار التي تهدِّده، وهو يبحث عن مخرج؛ هذا هو جوهر الأزمة، ولا بُدَّ من العودة إلى القيم الروحية، وإلَّا فإنَّ النهايةَ ستكون فظيعة؛ فالتقدُّم العلمي والتكنولوجي يجبُ ألا يكون على حساب القيم الروحية والإنسانية"[35].

 

ولا تنتهي هذه الفقرة من دون التعريج على احتمال وجود جالية عربية مسلمة في الغرب ذات قسط من الثقافة ذات النزعة الليبرالية أو الماركسية؛ "هؤلاء المسلمون المثقَّفون يستغلُّون المصداقية التي يحظون بها في وسائل الإعلام الغربي للدعاية لما يسمَّى بالإسلام الأووبِّي Euro-Islam، وهو قليل من الإسلام، كثير من الأوربي! هؤلاء المثقفون يجعلون المسلمين النشيطين الآخرين يظهرون بمظهر المتطرِّفين"[36].

 

"هذا الأمر يؤدِّي دومًا إلى أسئلة من قبيل: لماذا لا تستطيعون أن تكونوا مثل هؤلاء المثقَّفين؟ فهم لا يريدون بناء مساجد، ولا يحجُّون، ولا يصلُّون دومًا، كما أنهم يتناولون الخمر، ويسمحون لنسائهم بالخروج مكشوفات الأذرع! أوَليسوا هم مسلمين؟"[37].

 

كما لا تنتهي هذه الفقرة من دون التعريج على فئة من المسلمين القلقين الذين وجَدوا في الغرب مأوى لهم، بعد أن ضيقت عليهم بلدانهم بحق أو دون وجه حق، ويغلب عليهم الغلوُّ في الدين وإظهار المعارضة لأوطانهم الأم، فتتلقَّفهم دول الغرب بحُجج مختلفة؛ منها استخدام أسلوب حقِّ اللجوء السياسي، أو حقوق الإنسان، فيسيء هؤلاء إلى الإسلام وإلى بلاد الإسلام، بل ربَّما كان فهمهم للدين قاصرًا، ويسيئون كذلك إلى ثقافة البلاد التي آوتهم، ويتصرَّفون بتصرُّفات طاردة عن الدين، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا! ويكوِّنون لهم أتباعًا من الجاليات الإسلامية، ومن الداخلين الجدد في الإسلام، حتَّى إذا ما ظهر عليهم ما يهدِّد الأمن الوطني، أو استنُزفوا كورقة تهديد تُستخدم ضدَّ بلدانهم، انقلبت عليهم البلاد التي آوتهم، وصادرت مقتنَياتهم الوثائقية والمالية، واحتجزتهم، أو طلبَت منهم المغادرة إلى أيِّ مكان يرتَضونه، فيتبيَّن لهم الأمر بعد فوات الأوان.

 

هذه الفئة من المسلمين ممن يعيشون في الغرب لا تُعين على صناعة الوئام، ولا تستغلُّ وجودَها في الغرب لتعمل على تقوية مقوِّمات الالتقاء بين الثقافات، بل ربَّما أساءت إلى ثقافتها والثقافة التي آوتها بلدانُها، فأعانت غيرها على تقديم صورةٍ مشوَّهة عن الإسلام والمسلمين، فكانت - دون قصد مباشر منها - عاملًا من عوامل صناعة الكراهية، ونماذجُ هذه الفئة في البلاد الغربية كثيرة.

 

منهج حسن الخُلُق:

والأصل في الثقافات أنْ تكونَ حاثَّةً على حسن الخلُق، وأنْ يكون جانبُ الشرِّ فيها محدودًا مذمومًا، بحيث تُبنى الأمم على أُسس أخلاقية، تُمليها الثقافة المستمدَّة من أصول عريقة، لا دخلَ للهوى فيها، ولذا فإنَّ تحول أي ثقافة إلى الأبعاد غير الأخلاقية في بناء المجتمعات يعدُّ خروجًا عن الأهداف السامية لهذه الثقافات[38]، ويتجسَّد مفهوم حسن الخُلُق بعبارة جامعة مانعة ذكرها الإمام الغزالي (505هـ/ 1112م) في كتاب "إحياء علوم الدين"، حيث يرى فيمن يتَّصف بحسن الخُلُق: "أنْ يكون كثير الحياء قليل الأذى، كثير الصلاح صدوقَ اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، بَرًّا وَصُولًا، وقورًا صبورًا، شكورًا رضيًّا، حليمًا رفيقًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعانًا ولا سبابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عَجولًا ولا حقودًا، ولا بخيلًا ولا حسودًا، بشاشًا هشاشًا، يحبُّ في الله ويُبغض في الله، ويَرضى في الله ويَغضب في الله، فهذا هو حسنُ الخُلُق"[39].

 

وقلَّما تجتمع هذه العلامات كلها في أحد من البشر، إلا في صفوة الخلق، واجتمعت في رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فقد كان خُلُقه صلى الله عليه وسلم القرآن. هذا وإن صدقت هذه الصفات على الأفراد فإنها يمكن أنْ تصدُق كذلك على الأمم.

 

يَعني هذا أنَّ مسألة السلوكيات غيرِ الأخلاقية - بما في ذلك التمييز العنصري، والتطهير العِرقي، وادِّعاء تفوُّق جنس على آخر، أو على أجناس أخرى - هي جزء من حياة الأُمم؛ على اعتبار أنَّ هناك صراعًا دائمًا بين الخير والشر، وإنَّما المعوَّل عليه في الثقافات البنائية هو تضييق الخناق على هذه السلوكيات، وجعلها في حكم الشاذ.

 

يقول مراد هوفمان: "يستطيع المسلمون أنْ يقولوا ويفخروا أنَّه - بالرغم من رفضهم للصِّهيونية وللتوسُّع الإسرائيلي - فإنَّ بلادهم لم تشهد على مرِّ التاريخ إلى يومنا هذا أيَّ عداء للسامية، ولا يعود هذا إلى أن العرب أنفسَهم ساميُّون، ولكن لأن القرآن يطالب كل مسلم باحترام غيره من أصحاب ديانات التوحيد السماوية"[40]، وما يُطالب به القرآن الكريم طالبت به كذلك الكتب السماوية الأخرى المنزَّلة قبله.

 

منهج الاختلاف:

مع هذه الأصول فإنه يدخل معها أصلٌ محفِّزٌ لها، وهو وجود الاختلاف بين الأمم، ومن ثم الاختلاف بين الثقافات، ولا يَعني هذا الاختلافُ بالضرورة الخلافَ والتضادَّ والتخاصم بينها، كما أن الاختلاف من حيث المفهومُ لا يعني التماثُل؛ لذا فإن الاختلاف سنة كونية من سنن الله تعالى في هذا الكون[41]؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118 - 119]، والاختلاف "هو في حدِّ ذاته أحد موجبات التدافُع والتسابُق، الذي به يجابه الفساد ويحقق في الكون الإصلاح، وتتمُّ به الخيرات"[42].

 

هذا الاختلاف الطبيعي الذي تمليه النظرة الوسطية يقوم على ركيزتين أساسيتين: "أولاهما: المشترك الإنساني العامُّ، وهو ما يتمثَّل في حقائق وقوانين العلوم الموضوعية والطبيعية والمحايدة، التي لا تتبدَّل قوانينها بتبدُّل العقائد والحضارات الخاصة بالباحثين فيها، المنتفعين بها. وثانيتهما: الخصوصيات الحضارية، المتمثلة في الهويات والثقافات، والعقائد والفلسفات، وميادينها العلوم الإنسانية والاجتماعية، والآداب والفنون والعادات، وهي تلك المتغيِّرات، وفقًا للأنساق الفكرية"[43].

 

بين المشترك الإنساني العام والخصوصية الثقافية تبقى الثقافة مميِّزًا من مميِّزات الأمم، ولا يُتوقَّع أفول الثقافة أو أفول الخصوصية الثقافية، في ضوء التوجُّه إلى عولمة الكون، مهما كان الضخُّ النظري المنبهر بالدعوة إلى عولمة كلِّ مناحي الحياة، بما فيها الأبعاد الثقافية[44]، ولا يُتوقَّع أنْ تتنازل الأممُ عن مقوِّمات ثقافاتها، استجابة للدعوة إلى العولمة الشاملة ذات الاتِّجاه الواحد، الذي يريد أن يملي، ولا يَقبل أنْ يُملَى عليه، وعولمةٌ كهذه يُشكُّ في فاعليتها وشموليَّتها على المدى البعيد[45].

 

ولذلك ظهرت الدعوات المتتالية من الشرق والغرب الأوسط التي تؤكِّد على الاستثناءات الثقافية في وجه العولمة المشكوك في جدواها ومدى القابلية لتبنِّيها، لا سيَّما أنها عولمة ذات اتِّجاه واحد، تأخذ ولا تعطي من جهة، وتُعطي ولا تأخذ من جهة أخرى! فتأخذ الخيرات وتُعطي المستهلكات، رغم ما طُرح من أفكار 20/ 20، ورغم ما يذهب من مساعدات عاجلة لا تتعدَّى في المعدَّل العام 1.5% من الناتج الوطني العام GNP[46]؛ علمًا أن مساعدات المملكة العربية السعودية الحكومية تتعدى معدل 4% من الناتج الوطني العام GNP.



[1] انظر: جون إل. إسبوزيتو. الإسلام والغرب عقب 11 أيلول/ سبتمبر: حوارٌ أم صراعٌ ثقافي حضاري؟ - دبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2003م، ص 28 - (سلسلة محاضرات الإمارات؛ 74).

[2] انظر: عبدالله التطاوي. الحوار الثقافي: مشروع التواصُل والانتماء - القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، 2006م، ص 90 - (سلسلة مكتبة الأسرة).

[3] انظر: مارك غابوريو. الإسلام والأديان الآسيوية الأخرى في نظر المستشرقين الفرنسيين، ص 21 - 40 - في: يوسف كرباج ومنفرد كروب، مشرفان. تأملات في الشرق: تقاليد الاستشراق الفرنسي والألماني وحاضره - بمرجع سابق - ص 140.

[4] انظر: عبدالرزَّاق الدُّوَّاي. في أخلاقيات الحوار بين الثقافات حول مبدأي التسامُح وحقِّ الاعتراف - التسامُح - ع 15 (صيف 1427هـ/ 2006)، ص 268 - 310.

[5] انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين - ط4 - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003م، ص 311 - 320 - وانظر أيضًا: نجيب العقيقي. المستشرقون. مرجع سابق - 1: 191.

[6] انظر: زكي الميلاد. المسألة الحضارية: كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1999م، ص 336.

[7] انظر: مهدي عامل. هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ ماركس في استشراق إدوارد سعيد - ط3 - بيروت: الفارابي، 2006م، ص 9 - 10.

[8] انظر: زكي الميلاد. من حوار الحضارات إلى تعارُف الحضارات، ص 33 - 65. في: زكي الميلاد، معدّ. تعارف الحضارات - مرجع سابق - ص 226.

[9] انظر: طاهر عبد سالم. تعارُف الحضارات: من أطروحات الاستشراق إلى التمركُز الإعلامي والدعاية المضادة، ص 115 - 141 - في: زكي الميلاد، معد. تعارف الحضارات - المرجع السابق - ص 226.

[10] انظر: محمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية - مرجع سابق، ص 106.

[11] انظر: مُحمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية - المرجع السابق، ص 107.

[12] انظر: محمد عبدالحميد حمد. حوار الأمم: تاريخ الترجمة والإبداع عند العرب والسريان - دمشق: دار المدى، 2001م - ص 531 - وانظر أيضًا: علي بن إبراهيم النملة. التواصُل الحضاري بين الأمم في ضوء تناقُل العلوم والآداب والفنون - ط 4 - الرياض: الجمعية السعودية للتاريخ والحضارة، 1436هـ/ 2015م - ص 275.

[13] انظر: محمد الطالبي. أمة الوسط: الإسلام وتحديات المعاصرة - تونس: دار سراس، 1996م - ص 167.

[14] انظر: عبدالرحمن بدوي. دور العرب في تكوين الفكر الأوربي - القاهرة: مكتبة الأسرة، 2004م - ص 256.

[15] انظر: علي بن إبراهيم النملة. النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية - ط 3 - الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1427هـ/ 2006م - ص 204.

[16] انظر: فاضل الربيعي. ما بعد الاستشراق: الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء - مرجع سابق، ص 25.

[17] انظر: سمير قصير. تعليق/ ترجمة محمد صبح، ص 107 - 113 - في: يوسف كرباج ومنفرد كروب/ مشرفان. تأملات في الشرق. مرجع سابق - ص 140.

[18] انظر: علي بن إبراهيم النملة. مناحي التأثُّر والتاثير بين الثقافات: المثقافة بين شرقٍ وغربٍ - ط2. بيروت: مكتبة بيسان، 1435هـ/ 2014م - ص 180.

[19] موريس بوكاي. دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة - القاهرة: دار المعارف، 1978م، ص 141 Maurice Bucaille. The Bible the Quran and Sicience.Translated from French by: Alastair D. Pannell and the Author - Indianapolis: North American Trust، 1978 - p 117

[20] انظر: آمال قرامي. قضية الردة في الفكر الإسلامي الحديث - تونس: دار الجنوب، 1996م، ص 49.

[21] انظر: علي بن إبراهيم النملة. التنصير: المفهوم - الوسائل - المواجهة - ط 5 - بيروت: مكتبة بيسان، 1431هـ/ 2010م - ص 270.

[22] نقلًا عن محمد خليفة حسن. أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1421هـ/ 2000م، ص 345 - 346.

[23] انظر: شتيفانرايشموت. خطابات الاستشراق؟ موقع الدراسات الإسلامية والشرقية في ألمانيا اليوم/ ترجمة عدنان حسن، ص 93 - 105 - في: يوسف كرباج ومنفرد كروب، مشرفان. تأمُّلات في الشرق - مرجع سابق - ص 140.

[24] انظر: صلاح عبدالرزَّاق. المفكِّرون الغربيون المسلمون: دوافع اعتناقهم الإسلام - مرجع سابق - 2: 269.

[25] انظر: عثمان أبو زيد عثمان ومحمد وقيع الله أحمد. الوجود الإسلامي في أمريكا: الواقع والأمل - مكَّة المكرَّمة: رابطة العالم الإسلامي، 1426هـ - ص 146 - (سلسلة دعوة الحقِّ؛ 212).

[26] انظر: فريتزشتيبات. الإسلام شريكًا: دراسات عن الإسلام والمسلمين - مرجع سابق، ص 115 - 117.

[27] انظر: علي الأمين المزروعي. القيم الإسلامية والقيم الغربية - أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، د. ت، ص 18 - (سلسلة دراسات عالمية؛ 21).

[28] انظر: سعيد اللاوندي. الإسلاموفوبيا: لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟ - مرجع سابق، ص 283.

[29] انظر: صلاح عبدالرزَّاق. المفكِّرون الغربيون المسلمون: دوافع اعتناقهم الإسلام - مرجع سابق - 2: 269 - 270.

[30] انظر: مراد هوفمان. الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود/ تعريب عادل المعلِّم ويس إبراهيم - القاهر: مكتبة الشروق، 1421هـ/ 2001م، ص 198.

[31] انظر: زيغريد هونكه. التوجُّه الأوربي إلى العرب والإسلام حقيقة قادمة وقدر محتوم/ ترجمة هاني صالح. تقديم إسماعيل مروَّة - بيروت: مؤسَّسة الإيمان، 1419هـ/ 1998م - ص 295.

[32] انظر: شيرين هانتر. الإسلام في روسيا: سياسات الهوية والأمن - 2007م - نقلًا عن أورلاندو فيغس، مراجع. الإسلام والمنحى الروسي - التسامُح - ع 16 (خريف 1427هـ/ 2006م)، ص 354 - 358.

[33] انظر: باتريك ج. بوكانن. موت الغرب: أثر شيخوخة السكَّان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب/ نقله إلى العربية محمد محمود التوبة، راجعه محمد بن حامد الأحمري - الرياض: مكتبة العبيكان، 1425هـ/ 2005م - ص 529.

[34] انظر: جورج طرابيشي. ازدواجية العقل: دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي - دمشق: دار بتراء، 2005م، ص 145 - 152 - (سلسلة المرض بالغرب؛ 2).

[35] انظر: شفيعة الداغُستاني. المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل - الاستشراق (1990م) - مرجع سابق، ص 220 - 221 - (سلسلة كتب الثقافة المقارنة؛ 4).

[36] انظر: صلاح عبدالرزَّاق. المفكِّرون الغربيون المسلمون: دوافع اعتناقهم الإسلام - مرجع سابق - 2: 268.

[37] انظر: مراد هوفمان. الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود - مرجع سابق، ص 206.

[38] انظر: سامي خشبة. نقد الثقافة - القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، 2004م، ص 199 - 206 - (سلسلة مكتبة الأسرة؛ الأعمال الفكرية).

[39] انظر: أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين - 3 مج - بيروت: دار المعرفة، 1402هـ/ 1982م - 3: 70.

[40] انظر: مراد هوفمان. الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود - مرجع سابق، ص 191.

[41] انظر: باسم خفاجي. لماذا يكرهونه؟ الأصول الفكرية لعلاقة الغرب بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم - الرياض: مجلة البيان، 1427هـ - ص 124 - (سلسلة كتاب البيان؛ 77).

[42] انظر: مُحمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية - مرجع سابق، ص 107.

[43] انظر: محمد جلاء إدريس العلاقات الحضارية - المرجع السابق، ص 108 - 109.

[44] انظر: علي بن إبراهيم النملة. السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميُّز في زمن العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1428هـ/ 2007م - ص 312.

[45] انظر: الثقافة الوطنية بين الخصوصية والعولمة، ص 167 - 195 - في: إبراهيم بدران. أفول الثقافة - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002م - ص 296.

[46] انظر: علي بن إبراهيم النملة. الاستثناء الثقافي في مواجهة العولمة: ثنائية الخصوصية والعولمة - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1431هـ/ 2010م - ص 50.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • صناعة الكراهية
  • وسائل صناعة الكراهية بين الثقافات

مختارات من الشبكة

  • تفسير قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ...)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • يوم تبيض وجوه وتسود وجوه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الكلام على قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أساء من وجه وأحسن من وجوه!(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • مدخل ديناميكية القرآن الكريم وجه من وجوه إعجازه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ديناميكية القرآن الكريم وجه من وجوه إعجازه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الأسبلة وجه من وجوه الحضارة الإنسانية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • لا وجوه ولا نظائر في كتب الوجوه والنظائر (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • المحاضرة الثالثة: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • أغلقوا الأبواب في وجوه النمامين(محاضرة - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب