كيف نقاوم الجاهلية المنظمة في ديار الكفر وأتباعها في ديارنا؟

كيف نقاوم الجاهلية المنظمة في ديار الكفر وأتباعها في ديارنا؟

مقدمة:

أيقتصر استخدام وصْف الجاهلية على ما قَبْل الإسلام، أم هل لهذا الوصف ضوابط؟

روى الإمام البخاري في صحيحه تحت باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يَكفُر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: ((أعيَّرته بأُمِّه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية))؛ الحديث.

كما روى الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)).

إن نَهْج علمائنا الأفاضل سَلَفا وخلفًا التحرز من وصْف حال الدول الإسلامية أجمع بلفظ الجاهلية مُطلقًا، رُغْم ما في بعضها من بُعْد عن الدين الصحيح؛ وذلك إقرارًا بنعمة الله في إظهار دينه على الجهل والشرك والجاهلية الأولى.

أما الوصف بالجاهلية مقيَّدًا - كما أشار شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم - فقد يقوم في بعضِ ديار المسلمين، وكثير من أشخاص المسلمين، كما نصَّت الأحاديث المذكورة أعلاه وغيرها.

من النقول الجميلة في سياق الوصف بالجاهلية مُطلقًا ومقيدًا ما ذُكِر في مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين - رحمة الله عليه -: "لكن هل رُفِعت الجاهلية عن الأمكنة كلها، وفي جميع الأزمنة؟! بالطبع لا؛ ولذا فإنه لا يجوز وصْف جميع المجتمعات بالجاهلية بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، ولا نزْعها عن جميع المجتمعات - أيضًا، فما تزال بعض المجتمعات تعيش في مستنقعات الجاهلية، فلا يرفع عنها هذا الوصف، وأما مَن استنار بنور الإسلام من المجتمعات فلا يجوز وصْفها بهذا اللفظ".

إن مما لا خلاف فيه عدمَ رفع وصف الجاهلية، وجواز الإشارة به شرعًا لحال مجتمعات الكُفْر بالله والإلحاد به، الداعية للرذيلة، والمُحارِبة للحق والفضيلة؛ فالجهل بالله المعبود الحق والدين الصحيح وحقوق الله والعباد يُسمَّى كفرًا وجاهلية، سواء إذا حصل قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو بعدها.

حال جاهليَّة ديار الكفر في حربها على الإسلام:

إن البُلدان التي لم تَستنِر بنور الإسلام وهَدْيه في ديار الكُفْر هي في حالة جاهليَّة، من جهة جهْلها بالخالق والدِّين الحق والحقوق المترتِّبة، والواقع يُبيِّن أن هذه البُلدان ليست سواءً في محاربتها للإسلام وأهله، فبعضها قليل العداوة، والآخر شديد العداوة للإسلام وأهله.

إن دليل الحال أصدق من كلِّ مَقال؛ فهذه جيوش البعض المعادي للإسلام ظاهرة ومُعلنة، تصول وتجول، وتقتل وتُخرِّب في ديار المسلمين، وهذه مواقفهم الدولية المنفرِدة والمؤسسية تُطفِّف وتَكيل بمكيالين، وتُجحِف إجحافًا واضحًا جليًّا ومُوثَّقًا في المحافل الدولية، حين التعامل مع قضايا المسلمين العادلة، وشواهد ذلك أكثر من أن تُحصى؛ فهذه قضية احتلال فلسطين وقتْل شَعْبها وتشريدهم في العالم، ومنْحها لمن لا يَستَحِق من لدن مَن لا يَملِك الحق - قائمةٌ منذ بدايات القرن العشرين على مرأى ومَسمَع مِن أكذوبة المجتمع الدولي العادل، ووهم الضمير العالمي الحي، وكذا قضية إلحاق كشمير المسلمة بالهند، وكذلك قضايا القتل الجماعي والممنهج للمسلمين في الهند والصين وروسيا والفلبين وفطاني وبورما وإفريقيا، ولعل من أبلغ الشواهد وأشدها عنفًا ودموية التمالؤَ على إبادة مئات الآلاف في وسط أوروبا في البوسنة والهرسك، وما تلا ذلك، مما شاهد العالم أجمعُ في حرب العراق وتدميرها، المبنيَّة على أكذوبة ووهمِ أسلحة الدمار الشامل.

إنهم ليسوا سواءً في معاداة الإسلام، ولكن مَن يُعادي الإسلام وأهله منهم معروف ومكشوف، وبعضهم يُصرِّح بعداوته، والآخر يُراوِغ ويُخادِع ويتلاعب بالعقول، ويتستَّر بكثير من المفاهيم الضبابيَّة التي يَحتكِر حقَّ تعريفها واتهام مَن يشاء بها متى شاء وكيف شاء، ومثال هذه المفاهيم المضطربة: الإرهاب، والدعوة للوسطيَّة، وتجريم الدفاع عن النفس، وحق دفاع الظالم المحتل عن نفسه، والدعوة إلى مفاوضات غير متكافئة، والإسلام دِين السِّلم والاستسلام، وضرورة الاحتكام للمؤسسات الدوليَّة، والانصياع لأوامرها الظالمة، والدعوة للتقارب بين الأديان، والنظام العالَمي الجديد.. إلخ، ولا ننسى الدورَ العدواني المسانِد لدور إعلامهم في قَلْب الحقائق، وتشويه الوقائع، وتضخيم جانب وإغفال جوانب، وكذا نعرف معاهد دراساتهم الاستخباراتية، سواء الجامعية منها والحكومية في بُلدانهم وفروعها في ديارنا.

هم يحاربوننا، ويحاربون دينَنا الحق، هذا أمرٌ لا شك فيه ولا مِرْية، ولكن يَجدُر بعقلائنا وبنا أجمع ألا ننسى ذِكْر بعض أحوالنا التي تجعل منا هدفًا سهلاً ولقمة سائغة، ففُرْقتنا واضحة ومشهودة؛ حكومات وشعوبًا وجماعات ومفكِّرين وقياديين، وغفلتنا وحُسْن ظننا وإنكارنا مما يُعاب علينا، ولا ننسى ما بُلينا به بين أظهرنا؛ فهذه أصابع الخيانة من نِفاق وتغريب وعمالة وعَلْمنة ودعوات مشبوهة ومُلحِدة، ويُسانِدها التغول السياسي الكامن في جحور المصالح الفردية الضيقة، ولا ننسى قلة الفقه وإضعاف آلته، والجمود والتحجر المقصود والممنهج لبعض جوانبه، والذي يُبرِّر الواقع الأعوج المتوارث، ويُكرِّس الظلم، ويُديم الجهلَ، والمنتفعون من العود الأعوج معروفون، وإن موَّهوا حالَهم، وتزيَّوْا بزي التأصيليين والوطنيين والمصلحين والمنافحين عن الدين.

إنهم يحاربوننا، وهذه تصريحات وتوصيات اجتماعاتهم الدولية المؤسسية مُعلَنة وموثَّقة لا تُنكَر، وتشي بعداوتهم لنا ولديننا، وتَواصٍ بها، ومؤازرة من أطراف شتى، وتَسرُد جهارًا نهارًا تخطيطهم وعملَهم الممنهج لحرب ديننا بشتى الصور وعلى مختلف الأصعدة: إعلامًا وتعليمًا، واقتصادًا وسياسة، استمالة وتخويفًا، واستدراجًا واستغفالاً، وإقحامًا في اتفاقات دولية ظالمة ومَشينة، وتحالفات مشبوهة، وخطط طويلة الأجل، وضغوطات متوالية، ومكْر الليل والنهار، وصدق الله - وهو أصدق القائلين -: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].

إن حال جاهليَّة بلاد الكُفْر في حربها على الإسلام ليس بالأمر الخفي، وهو أمر مُنظَّم وَفْق أُطُرٍ مُتَّفَق عليها، ويُنفَّذ وَفْق رؤى وخُطط عملٍ دؤوب، وليس بالأمر الصعب لمن أراد أن يُبرِز أدلة على حقيقة العمل المخطط والمنظَّم من لدن الكفر لحرب الإسلام وأهله؛ فهذه تصوُّراتهم لبُلداننا ومستقبلها في النظام العالمي الجديد مُعْلنة، وتلك اجتماعاتهم الدورية وأبحاثهم المنشورة ومؤتمراتهم الكنسية التبشيرية (كما يُسمُّونها)، وهذه مواقفهم السياسيَّة الدولية المُجحِفة تسير لعشرات السنين على نَسَق واحد، ووتيرة متناغِمة، ومُتَّفَق عليها في كلِّ مؤسساتهم ومحافلهم الدولية.

كيف نُقاوِم الجاهليَّة المنظَّمة في ديار الكفر وأتباعها في ديارنا؟

إنه لسؤال كبير عن أمر خطير، وتَحدٍّ جلل، وليس يُطيق إجابتَه فَرْد واحد، وينبغي التعاون عليه، كلٌّ من جِهة تأثيره واختصاصه، ومن نافلة القول أن مقاومة الجاهليَّة المنظمة في ديار الكفر وأتباعها لدينا تحتاج - عقلاً ونقلاً - إلى معرفة العدو المُحارِب لدين الله، ومعرفة مَكْره وكيده، والتخطيط والإعداد والتنظيم المتكافئ، ولا يتصوَّر ذو عقل سليم مقاومةَ تلك الجاهلية المنظمة بجهود فردية عَفْوية ومُشتَّتة وغير مُخطَّطة، ولأن السؤال كبير، ويعني الأمة أجمع، فلقد ارتأيت - أدبًا وإقرارًا بقلة علمي - أن أوجِّهه للأمة أجمع، كلاًّ حَسَب عِلْمه وجُهْده ومقدرته، وأسأل الله أن يبارك في الجهود، ويجمع الآراء، ويؤلِّف بين النفوس، ويوحِّد الصفوفَ فيما يحب ويرضى، وفي سبيل إعلاء كلمته ونُصْرة دينه، آمين، أعان الله الأمَّة على هذه المهمة، وأضاء دَرْبَها، وثبَّت خطاها بنصح العلماء الربانيين العاملين، الذين يسعون في مصالح الأمة العليا، ولا يخافون في الله لومة لائم!