الإعلام وتوريط الإسلاميين

كلَّما طالعت حديثًا في صحيفة مصرية، أو تابعت ما تَبثُّه أيٌّ من القنوات الفضائية المصرية عن الإسلاميين باختلاف توجُّهاتهم، أو تابعت حوارًا فيها مع أحد الإسلاميين، أدْهَشَك السَّيْل الجارف المفصَّل من أسئلة عن الجِزية وحقوق أهل الذِّمَّة، والجهاد وحصار غزة، والسياحة والأضْرحة وبيع الخمور... إلى آخر.

ما يُمكن مناقشته بعد التمكين للحُكم الإسلامي في مصر، وإعادة بناء المجتمع المصري وَفْق مبادئ وقِيَم أخرى، تلك التي تجسِّد دولة الإسلام كما عاشها الفاروق والصِّدِّيق - رضي الله عنهما - ويكون أمام المتحدِّث للجواب على كلِّ هذه الأسئلة خياران؛ إمَّا صدْم المشاهد بما هو مسلَّم به من أحكام الإسلام في حُرمة الخمور والزنا، والتبرُّج والاختلاط، وحقوق أهل الذِّمَّة وواجباتهم، وهو في الغالب القصْد الحقيقي من استضافة الإسلاميين؛ ليكون أمام المشاهد تصوير تهويلي مُجسّد بأنَّ الإسلاميين الذين بَرَزوا في المشهد السياسي بقوَّة في الشهور الأخيرة، سوف يُحَرِّمون عملك في السياحة، وسيُضَيِّقون عليك أسبابَ الرِّزق، وسيَحْرِمونك من رُؤية كليبَّات الرَّقْص والعُري، وسيُضَيِّقون على المرأة - ولو كانت قبطيَّة - بفَرْض الحجاب، ورُبَّما النِّقاب، وسيَفرِضون الجِزية على الأقباط، وسيقطعون الأيدي والأرْجُل وبالمرَّة الآذان، ولَم يبقَ في قَصص جَدَّاتنا من تُراث ألف ليلة وليلة سوى "أبو رجل مسلوخة"؛ ليكتمل فيلم الرُّعب في الشارع المصري الذي يتميَّز بقُدرة غير عادية على التصديق، وطبعًا سيقال: إن الإسلاميين سيفعلون، ويشهرون بالدعاة كأنهم بالفعل قطعوا أيدي اللصوص، ورجموا الزُّناة، وفرضوا الجزية على أهل الكتاب، وأمَّا الخيار الثاني: فباختيار المتحدِّث محاولة المراوغة من السؤال، أو الجواب بخلاف ما يقول الشرْع، وطمْس الحقائق المعلومة من الدِّين بالضرورة، ومِن ثَمَّ تُسارع تلك الصحف والقنوات ومعها بعض الأصوات الإسلامية في مهاجمة هذا الشيخ أو ذاك الداعية، وقد تعلَّمت منذ سنين أن أضعَ كلَّ حدثٍ يُرهقني استيعابه تحت دائرتين: لماذا؟ وكيف؟

دائرة لماذا: لماذا يفعلون ذلك مع الإسلاميين خصوصًا؟ ولماذا لا يجد الإسلاميون سوى أحد الخيارَيْن في التعامل مع الحوار - الشَّرَك؟ ولماذا لا يتبع الإسلاميون تكتيكًا موحَّدًا مُضادًّا لهذه الفِخَاخ؟

بمجرد أن زالت القيود، وبدا أمام المصريين التحدِّي الأوَّل في دنيا الحرية باستفتاء التعديلات الشهير، وظهَر للعِيان التأثيرُ الكاسح للإسلاميين، وواكَبها الكمُّ الرهيب من الإقبال على مؤتمرات السلفيين والإخوان عبر مُدن وقرى مصر شمالاً وجنوبًا، حتى استبدَّ القلق والرُّعب، وتحرَّكت الضغائن والحسابات الأيديولوجيَّة والمصلحيَّة لفئات عديدة من المصريين؛ النصارى والعلمانيين، واليساريين والمرتبطين ولائيًّا بالغرب، ولصوص العهد البائد، ودوائر المتعاطفين مع إسرائيل، فضلاً عن قوى أجنبيَّة تنشب أظفارَها في مراكز البحوث المصرية منذ عقود، وتتبنَّاها دولٌ غربية تمويلاً وانتفاعًا، ولا ريبَ أنَّ ظهور الإسلاميين على ساحة العمل السياسي له مَردوداته التي يُدركها الغرب جيِّدًا في شحْذِ هِمَّة الأُمَّة، وتوحيد قُوَاها، وترتيب القضايا الدولية وَفْق الأهميَّة الأيديولوجية للأُمَّة، وأوَّلها فكرة تحرير بيت المقدس، وتدشين الخلافة الإسلامية التي بَذَلت دول الغرب جهودًا مُضنية؛ حتى تمكَّنت من حَلِّها، وإبراز قضية التغريب والغزو الفكري، وتمييع هُويَّة الأمة ومقاومتها، ودَحْر محاولات العولَمة الأمريكيَّة للسيطرة على عالمنا الإسلامي، ورفْع طاقة التحدِّي والعمل، وحَث الأمة على طلب الرُّقي والتقدُّم، وتقليل نسبة الفاقد من شباب الأمة في المخدرات ومواقع الفُحش الإباحي، فكان التخطيط الذي اشتركتْ فيه دوائر ثلاثة بحسب ما سرَّبته بوَّابة الوفد الإلكترونية بتاريخ 30 /3/ 2011، والذي جاء فيه: "... وقال أحد الصحفيين الذين يعملون بجريدة أسبوعية لها موقع شهير على الإنترنت أنه تلقَّى أوامر مباشرة من رئيس تحريره بافتعال أخبار ملفَّقة تُسيء للجماعات السلفيَّة والإخوان، وكشَف أنَّ رئيس تحريره مُهْتمٌّ جدًّا بإشاعة هذه الأخبار، وأنَّه اجتمعَ بعددٍ من المحرِّرين؛ لعمل "أجندة عمل" يقوم من خلالها بشنِّ هجومٍ على الإسلاميين، باختلاق بعض القَصص الوهميَّة والأخبار؛ لإثارة الفزَع في الشارع المصري".

وقد اخْتَصت تلك الوثيقة مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجيَّة، ونجيب ساويرس، ومركز بحث أمريكي سيَرِدُ مُخطَّطه فيما يلي، وبالطبع فإنَّ أخبار هدم الأضرحة وقطْع أذن النصراني الذي يُدير شُقق الدعارة وما تلاها من تلفيقات، تؤكِّد وتُبرِّر هذه التسريبات، ومن ذلك أيضًا ما جاء على موقع الجزيرة على الإنترنت من أنَّ: "... وثيقة مُودَعة لدى الكونغرس الأمريكي كشَفت عن مساعٍ لمنظَّمات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة؛ لمنْع وصول الإسلاميين للحُكم في مصر بعد ثورة 25 يناير، من خلال دعوة الإدارة الأمريكيَّة للضغط على المجلس العسكري المصري بهذا الخصوص، ويقوم بهذه المساعي "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى"، الذراع البحثيَّة لمنظَّمات "إيباك" كبرى منظمات اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، وتؤكِّد وكالة أنباء أمريكا "إن أرابيك" أنها حصلتْ على وثيقة مودَعة في سجلات الكونغرس بهذا الخصوص، وطالبَت الوثيقة واشنطن بإجراء "اتصالات سِريَّة" على المجلس العسكري المصري؛ لتحريضه على تحجيم الحركات الإسلامية قُبيل الانتخابات القادمة، وتؤكِّد الوكالة الأمريكيَّة المستقلة أنَّها حصَلَت على شهادة تَمَّ إيداعها في سجلات الكونغرس بتاريخ 13 أبريل الماضي، بشأْن مستقبل مصر السياسي، تقدَّم بها المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى "روبرت ساتلوف" الذي أوصى "بأنْ تعربَ الإدارة الأمريكية - بشكل سرِّي - للمجلس العسكري في مصر عن مخاوفها من اتِّخاذه قرارات فنيَّة في صياغة عمليَّة انتخابية قادمة، قد تحقِّق دون قصْدٍ الأهداف السياسيَّة لجماعة الإخوان المسلمين، وجاء في الوثيقة أنه يتعيَّن على الإدارة الأمريكية تحذيرُ المصريين علانية من أنَّ واشنطن ستقبل فقط التعامُل مع حكومة لها مواصفات معيَّنة، منها تحقيق الالتزامات الدوليَّة، مثل: حريَّة الملاحة في قناة السويس، والسلام مع إسرائيل، وتوسيع السلام في المنطقة؛ ليشمل دولاً أخرى، وحذَّر أيضًا من باقي الجماعات الإسلامية بما فيها الجماعة الإسلامية، والجهاد، والحركة السلفيَّة، وحزب الوسط، والتي وصفتْها الوثيقة بأنها تهدِّد مصالح وسياسات أمريكا في المنطقة، وحذَّرت من تأثير الإسلاميين على معاهدة السلام مع إسرائيل، وقالت: "إنَّ مصر أكثر إسلاميَّة سوف تؤثِّر على قضايا، مثل: بيع الغاز لإسرائيل، والمناطق التجارية الحرَّة مع إسرائيل، وسياسة مصر مبارك تجاه قطاع غزة".اهـ.

ولماذا لا يبحث الإسلاميون عن تكتيك مضادٍّ وموحَّد؛ لتفادي مرادات الشراك الخداعيَّة التي يسوقها عن عمْدٍ الإعلام المصري، ويبيِّن للمشاهد المتلقي مثلاً أنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين ما انتهى إليه التشريع الإسلامي في المدينة المنورة، وما بدأ به في مكة، وأنَّ تدرُّج التشريع فصل مُهمٌّ في تاريخ التشريع الإسلامي، وأنَّ الدعوة الإسلامية تراعي بكلِّ تأكيد المتغيِّرات الدولية والداخلية على البُعد السياسي والاجتماعي؟ ولماذا لا نؤجِّل التفاصيل المتوقَّعة لِمَا بعد استقرار الدعوة وتحرُّرها من القيود المفروضة عليها؟ ولماذا لا نفرِّق بين فرضيَّة تأسيس أحزاب وجمعيَّات تُباشر العمل السياسي العام بالمشاركة مع كافَّة القوى السياسية والوطنية في مصر، وهو ما قرَّرته الحركة الإسلامية، وأعلنتْ عنه عدة جماعات في التيَّار الإسلامي؟ وفرضيَّة أخرى لَم تُقرِّرها الحركة الإسلامية بعد، مِن عزْمها الترشُّحَ للرئاسة، وتولي مقاليد الحكم...، أمَّا كيف ودوائر التساؤلات التي تبرزها، فهي موضوع حديثنا القادم.

يتبع - إن شاء الله.