عرض كتاب: ناسخ الحديث ومنسوخه لأبي بكر الأثرم تحقيق محمد عوض المنقوش

عرض كتاب

ناسخ الحديث ومنسوخه لأبي بكر الأثرم تحقيق محمد عوض المنقوش

صدر حديثًا في طبعة جديدة كتاب "ناسخ الحديث ومنسوخه"، تأليف: الحافظ "أبو بكر الأثرم" (ت بعد 261 هـ)، تحقيق: "محمد عوض المنقوش"، نشر: "دار المقتبس للنشر والتوزيع".

وهذا الكتاب لأبي بكر أحمد بن محمد الأثرم، أحد حفاظ الإسلام، وهو من الآخذين عن الإمام أحمد بن حنبل, كان من خيار عباد الله، كما وصفه ابن حبان، وكان به تيقظ عجيب ونباهة في طلب الحديث وعلله، حتى قال عنه يحيى بن معين - وهو من هو في الجرح والتعديل -: "أحد أبوي الأثرم جني"!

وكتابه ثمرة من ثمرات تلقي الأثرم عن الإمام أحمد؛ ولذا ترى الكتاب يمتلئ بالكلام على علل الحديث وآفات الأسانيد، وطرائق الجمع بين المتون؛ فهو مصنف نافع لطالب هذا العلم الشريف؛ إذ يحتوي على أمثلة عملية كثيرة في كيفية الجمع بين الأحاديث؛ ليجد بغيته وأكثر في هذا الكتاب.

وهو كتاب محقِّق، فهو لم يرد فيه جمع الأحاديث الناسخة أو المنسوخة فقط، بل أراد التعرض للقضايا الفقهية التي قيل بوقوع النسخ فيها، بل أراد التعرض للقضايا الفقهية التي قيل بوقوع النسخ فيها، ثم النظر فيها وإمكان الجمع بين ما قيل إنه ناسخ ومنسوخ، فإن لم يكن هناك سبيل للجمع فإنه يقول بالنسخ، وهذا قليل.

وهذا الكتاب ذكره أكثر من ترجم للأثرم ونقل عنه جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "شرح العمدة"، كما أفاد منه الحافظ ابن رجب في كتابه "شرح علل الترمذي"، كما أفاد منه ابن الجوزي في كتابه "إعلام العالم بعد رسوخه بحقائق ناسخ الحديث ومنسوخه" في باب هدية الكافر، ونقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عدة نقولات... وغيره.

ونجد أن أبا بكر الأثرم يعتبر من أهل الرواية فهو أحد تلامذة أبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، لكنه في كتابه - غالب أمره - لم يورد حديثًا واحدًا بروايته المتصلة.

كما لم يلتزم في كتابه هذا سوق الأحاديث الصحيحة- مع العلم أنه من أهل الرواية والدراية بل يذكر أحيانًا أحاديث الباب كله، وهي ليست قوية، ثم يوجهها بعد ذلك، ومثال ذلك أنه ذكر في باب: الهلال يرى ما يقول، عددًا من الأحاديث. ثم قال عقبها (فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وكلها ليست بأقوى الأحاديث، وإنما الوجه أن ذلك ليس فيه شيء مؤقت وأي ذلك قاله فهو جائز) ولعله لم يجد في الباب أفضل ولا أحسن ولا أثبت مما وجد، ويشهد لذلك قول أبي داود في سننه "ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث مسند صحيح".

كما أحيانًا ما يذكر الحديث في الباب ثم يتبعه الحكم عليه إجمالًا، ثم يذكر الأحاديث التي خالفته، مثال ذلك: (ذكر في باب صوم يوم السبت حديث الصماء بنت بسر المازنية في النهي عن صومه، ثم تعقبه مباشرة بقوله: (فجاء هذا الحديث بما خالف الأحاديث كلها) ثم ذكر بعد ذلك حديث علي وأبي هريرة وجندب مخالفة له.

كما يطنب أحيانًا في بيان الرد، ويحشد من الأدلة المخالفة عددًا كثيرًا مثال ذلك، ذكر في باب صوم يوم السبت حديثًا واحدًا في تحريم صومه، وهو حديث الصماء بنت بسر، ثم أخذ يرد عليه بعدد من الأحاديث فذكر حديث علي وأبي هريرة وأبي ذر وأم سلمة وعائشة وأسامة بن زيد، وأبي ثعلبة وابن عمر، وليس هذا عنده من باب الحصر بل من باب التمثيل، لأنه قال في النهاية (وأشياء كثيرة توافق هذه الأحاديث).

كما أنه مال إلى الاختصار في الإِسناد والمتن، وذلك أن الحديث إذا كان عن عدد من الصحابة، ومتنه واحد أو متقارب، فإنه يسرد الصحابة الذين رووه خلف بعضهم سردًا ثم يذكر المتن عند آخرهم مرة واحدة.

مثال ذلك قال في باب صوم يوم السبت: (فمن ذلك حديث علي وأبي هريرة وجندب أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بصوم المحرم)، وقال: (ومن ذلك حديث أم سلمة وعائشة وأسامة بن زيد وأبي ثعلبة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان).

كما أنه إذا ذكر المخالف لا ينص عليه بالاسم، وإنما يذكره ضمن العموم فالأثرم لما ذكر الأحاديث المتواترة في تحريم المسكر قليلة وكثيرة، قال: "ثم روى قوم يستحلون بعض ما حرم اللّه عز وجل أحاديث لا أصول لها".

وإذا كان في الحديث علل، بيَّن تلك العلل وفندها سواء كانت في الإسناد أو المتن، انظر حديث أبي بردة بن نيار وحديث أبي مسعود، كما يحكم أحيانًا على السند، كما في حديث عائشة قال: (وروى عن عائشة بإسناد ضعيف). وقوله في حديث ابن عمر (وذلك من وجه ضعيف)، وقوله في حديث أنس (فهو حديث جيد الإسناد)، وقوله في حديث البراء (وهذا إسناد ليس بالقوي).

يحتكم الأثرم - رحمه اللّه تعالى - إلى الرواية الصحيحة عند الخلاف، ويقدمها على الفتيا، وقرر هذا عند مسألة الشرب في الظروف عندما ذكر النهي أولًا ثم الرخصة، ثم النهى، ثم قال: (فرجع الأمر إلى النهي، وبيان ذلك في الرواية)، ثم ذكر حديث علي وأنس رضي اللّه عنهما في تحريم ذلك.

كما يذكر في الباب حديث الأصل، ثم يتبعه بذكر الشواهد والمتابعات باختصار، ويبين في الكتاب شدته على أهل البدع والمتأولين النصوص على ما يريدون.

ومن شواهد الكتاب الكثيرة يستدل بها على سعة علم ابن الأثرم، وعمق فهمه، وحسن استنباطه.

وقد صرف المحقق الجهد إلى إخراج نص الكتاب كصورة لأصله بالمخطوط الذي حقق عليه هذا السفر، بصورة تقر بها عين الناظر، ولم يثقل متنه بحواشيه، وقدم للكتاب بمقدمة عن الإمام الأثرم وكتابه.

يقول المحقق: "ولما كان هذا المُصنَّف معنيًّا بطبقة هي من خواص طلبة العلم، الطالبين لأرفع علوم الحديث وهي: علله؛ كان من الأحرى ألاَّ أعلق أو أحشي بكلام عقب كل حديث سواءٌ كان تخريجًا أو تدعيمًا لكلام الأثرم ممن وافقه من أهل العلم بالعلل أو المخالفين له في نفس الشأن أيضًا.

ومن هذا المنطلق عقدت العزم على ألاَّ أزاحم كلام الأثرم بكلام من عندي؛ لما ألمسه، ويلمسه كل باحث متخصص من أنه عند الرجوع لمصدر عالي الشأن مثل هذا، فقلما ينظر لما في الحاشية؛ فعين مراده هو كلام المصنف نفسه لا غيره مهما كان قدره.

ولكن لكل كتاب عمل يناسبه ويناسب المنتفعين به. وكما قال الشيخ طاهر الجزائري: "التأنق لا حد له".

وصاحب الكتاب هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن هاني الطائي الإِسكافي البغدادي ويقال الكلبي. الملقب بالأثرم. تلميذ الإمام أحمد، وصاحبه في حياته، والمدافع والوفي له بعد وفاته حتى أصبح راوية لبعض مسائله، ولد في القرن الثاني الهجري وعاش جل القرن الثالث الهجري فجمع بين فضل القرنين الثاني والثالث، وصف الأثرم بالذكاء والفطنة والحرص على الطلب منذ صغره، وقد جمع- رحمه اللّه تعالى- بين الفقه والاستنباط، والدليل من السنة والكتاب، ولد - رحمه الله - في دولة الرشيد، ولم تثبت سنة ولادته ولا سنة وفاته.

وقد شهد له بالنباهة والذكاء والفطنة وحسن الطلب أقرانه ومشايخه. ذكر الخلال أن عاصم بن علي بن عاصم قدم بغداد فطلب رجلًا يخرج له فوائد يمليها فدلوه على أبي بكر الأثرم فلما رآه لم يقع منه موقعًا مرضيًا لحداثة سنه. فقال الأثرم: أخرج كتبك فلما نظر فيها جعل يبين ما فيها من الخطأ والصواب، والصحيح والضعيف، فسر عاصم به وفرح. قال الخلال: "وأملاه قريبًا من خمسين مجلسًا، فعرضت على أحمد بن حنبل، فقال: هذه أحاديث صحاح".

وقال أبو يعلى: (أبو بكر جليل القدر، حافظ إمام .... نقل عن إمامنا مسائل كثيرة، وصنفها ورتبها أبوابًا).

وقال أيضًا: (وكان يعرف الحديث، ويحفظه، ويعلم العلوم والأبواب والمسند).

وقال ابن حبان: (أصله من خراسان... روى عنه الناس وكان من خيار عباد اللّه، من أصحاب أحمد بن حنبل، روى عنه المسائل حدثنا عنه جماعة من شيوخنا).

وقال الخطيب البغدادي: (وكان الأثرم ممن يعد في الحفاظ والأذكياء... ومسائل أحمد بن حنبل تدل على علمه ومعرفته).

وقال الذهبي: (أحد الأعلام، ومصنف السنن، وتلميذ الإمام أحمد... كان عالمًا بتواليف ابن أبي شيبة لازمه مدة).

وقال أيضًا: (وله كتاب نفيس في السنن يدل على إمامته وسعة حفظه).

وله عدد من الكتب والمصنفات منها ما هو مفقود، وما هو في عداد المخطوطات، وما ذكر له من المؤلفات هي:

• كتاب السنن.

• كتاب العلل.

• المسائل الفقهية عن الإمام أحمد رحمه اللّه.

وتحديد سنة الوفاة لأبي بكر الأثرم فيها نظر، قال الحافظ ابن حجر: (توفي سنة 261 هـ أو في حدودها ألفيته بخط شيخنا الحافظ أبي الفضل ثم وجدتُ في التذهيب للذهبي أنه مات بعد الستين ومائتين، وكل هذا تخمين غير صحيح، والحق أنه تأخر عن ذلك، فقد أرخ ابن قانع وفاة الأثرم فيمن مات سنة 273 هـ لكنه لم يسمه، وليس في الطبقة من يلقب بذلك غيره).

وبناء على هذا فإن أبا بكر الأثرم يعتبر من المعمرين، فإن كان ولد في أول عهد الدولة الرشيدية سنة 170 هـ وتوفي سنة 273 فهو عاش مائة عام، وإن كان ولد في آخرها سنة 190هـ وما بعدها فإنه عاش قرابة ثلاثة وثمانين عامًا.