• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المنة ببلوع عشر ذي الحجة (خطبة)
    الشيخ محمد بن إبراهيم السبر
  •  
    أهمية التعلم وفضل طلب العلم
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    حديث: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، ...
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    حقوق المسنين (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة النصر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    المرأة في الإسلام: حقوقها ودورها في بناء المجتمع
    محمد أبو عطية
  •  
    مفهوم الفضيلة لغة واصطلاحا
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (7)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    خطبة أحداث الحياة
    الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
  •  
    {هماز مشاء بنميم}
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    الإيمان بالقرآن أصل من أصول الإيمان
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أسباب اختلاف نسخ «صحيح البخاري»
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    خطبة: اشتداد المحن بداية الفرج
    يحيى سليمان العقيلي
  •  
    خطبة: إن الله لا يحب المسرفين
    عبدالعزيز أبو يوسف
  •  
    فضل عشر ذي الحجة (خطبة)
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    فصلٌ: فيما إذا جُهل حاله هل ذُكر عليه اسم الله أم ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

من التراث الجزائري: الكتابة الرحلية خلال الفترة العثمانية

من التراث الجزائري: الكتابة الرحلية خلال الفترة العثمانية
د. شميسة غربي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/10/2017 ميلادي - 8/2/1439 هجري

الزيارات: 13364

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من التراث الجزائري

الكتابة الرحلية خلال الفترة العثمانية


حقق الأدب العربي في الجزائر، وُجودَه بأقلام مُمَثّليه، ممّنْ مارَسُوا الفعلَ الكِتابي بِمُسْتوييْه الشعري والنثري على السّواء، في فضاء ثقافي زاخر... تتجاذبه "الذات" و"الآخر" في آنٍ واحد، فكانت الصورة اللاّقطة لِفكرٍ إنْساني؛ سُكِبَ في لغة تمْتحُ من عصْرها كلّ مؤهّلاتها الدالة على اليومي، والواقعي، في نسيجٍ فنّي؛ كرَع من البلاغة العربية سُبُلَها في العرْض ثم الوصف والتصوير والتسجيل لِكافّة التحرّكات الإنْسَانية اللافتة.

 

فمنذ خُلق الإنسان؛ جنح إلى التّنقل في رُبوع المعْمور، ساعياً إلى تحْقيق أغرَاضه المُتفاوتة بين المادّي والرّوحي، في حركةٍ دائبة لا تعْرِف الاسْتكانة؛ حتّى تفوزَ بالمقاصد؛ مهما كانت الشدائد... ولمّا كانت الكتابة هي ذلك السجل الحافظ للتحركات الإنسانية المختلفة؛ ولِأشكال البوْح المتنوعة، فقد حفظتِ المُتون الجزائرية ذخائر حيواتٍ وأحداثٍ وقضايا وانشغالاتٍ، سطّرها الكُتّابُ ضمن أجناس أدبية متفرقة على رأسها الكتابات "الرحلية" أو أدب الرحلة والذي هو: « تشكيلٌ لنصٍّ ذاتي/شخْصِي، بخصوص الأنا والآخر، يَتبنْينُ مُتكيفاً في شكل معيّن، للتّعبير عن رُؤية مُعيّنة، انطلاقاً من خطاب مُفْصَحٍ عنْه في البِدَاية، أوْ مُضْمَر في تضاعيف السّرْد والوَصْف والتّعْليقات.. »[1].

 

في هذا السّياق؛ يعثرُ الباحثُ في التّراث السّرْدي الجزائري على عدد من النصوص المُخلِّدة لأدب الرحلة بشكلٍ عام، مع اختلافٍ في المقاصد بيْن رحّالة وآخر، ومَع تفاوُتٍ في أساليب الحكْي وتباينٍ في القدُرات الاسْتعراضية للأحْداث والْتقاط الجُزئيات وتنْضيدِها حسب الأهمية الزمانية والمكانية.

 

آثرتُ فتح ملفّ بعض الرحلات الجزائرية خلال الفترة العثمانية بالجزائر والممتدة من 930هـ إلى 1246هـ ( 1514م إلى 1830م ) حيث كان النتاج متنوعاً انطلاقاً من أحمد المقري إلى أحمد البوني، فعبد الرزاق بن حمادوش وأحمد بن عمار، والحسين الورتلاني ثُمّ أحمد بن هطال التلمساني، إلى أبي راس الناصري، وكلهم صال وجال وشاهد ولاحظ والتقط ما استطاع... فجاءت السُّرُود بَاقة متنوعة، شكَّلها حسُّ الحياة وضجيج الأيّام وصَخب السّاعات وخُصوصِية الأماكن، وما احْتضنتْهُ هذه الأماكنُ مِنْ أحْداثٍ تُغذّي هاجِسَ الرّغْبة الإنْسانية في الِاكْتشاف والتأمّل وخوْضِ التّجارِب.

 

الرّحْلة الحرْبية:

رحلة محمد الكبير - باي الغرب الجزائري - إلى الجنوب الصّحْراوي الجزَائري، لأحمد بن هطال التلمساني المتوفى سنة 1219هـ.

سبب كتابة الرحلة: عادةً ما تختلفُ دوافع القيام بالرحلات؛ فهناك الدافع الديني والدافع العلمي/الثقافي، والحربي والاقتصادي والسياسي والسياحي... ولكل نوعٍ طبيعته حسب الإطار الذي تمت فيه هذه الرحلة أو تلك، فيكون النقل للوقائع التي يصادفها الرحالة؛ في طابع تسجيلي توثيقي، لا يخلو من مسحة "التأثر" بالمرئي، أو المسموع أو المعيش... وهو ما سيأذن بتسلل الانطباعية الذاتية أثناء الحكي...

 

والدافع لكتابة ابن هطال للرحلة؛ كان دافعاً حربياً؛ سُلطوِياً، حيث استجاب الكاتب لرغبة الحاكم محمد الكبير- باي الغرب الجزائري - الذي طلب من ابن هطال مرافقته أثناء الغزوة وتسجيل أحداثها؛ خاصة وأنها رحلة حربية لِقائدٍ من قادة الدولة العثمانية حين عزم على شدّ الرِّحال إلى الجنوب الصحراوي الجزائري « نازحاً من معسكر إلى أن وصل مدينة الأغواط، مُخضعاً القبائل التي مرّ بها، وُملزِماً إياها بالاعتراف بدولة الأتراك في الجزائر.»[2].

 

سرَدَ ابن هطال رحلته مبتدئاً بالتوثيق الدقيق لزمن الانطلاقة ومراحلها بقوله: « عام تسعة وتسعين ومائة وألف هـ، مُقدّراً بالسوائع مراحله، ومبيناً منازله ومناهله... »[3]. بعدها يتحدث الكاتب عن الدواعي التي جعلت "محمد الكبير" يتوجه إلى مناطق الجنوب الصحراوي الجزائري « رأى ( يقصد الباي ) أنها ذات بلدانٍ كثيرة، وأعرابٍ راحلة، ومقيمة... إلا أنها لم تنلها أيدي السلطنة... كأنها أَمَة أَبِقَتْ من أهلها أو حُرّة نشزت من بَعْلها، فشمّر لها عن ساعد الجدّ، عازما على ردّ ما بها من النفار والصّدّ. فجمع جموعه وقواده ونشر أعلامه، ولم يزدْ على أن كان جيشه حشمه وخدمه. »[4].

 

هذا التوجه من "الباي" نحو الصحراء الجزائرية؛ إنّما بُنِيَ على رغبة بسْط السّلْطة على رُبوعٍ منفلتة من الِانقياد لِحاكمٍ معيّن... والحقيقة؛ أنّ وضعية الأعراب في الصحراء الجزائرية آنذاك؛ ما بين راحِلٍ ومُقيم، اسْتدعتْ هذا التحرّك العسْكري لِضبْط الأمْن في بقية البقاع الخاضعة للحكم العثماني والقائمة - في الأساس - على التواجد العسكري في الجزائر... من ثَمّ، ستكون الطبيعة العسكرية هي المهيمنة على هذه الرحلة.

 

ينطلق الرحالة في سرد الأماكن وأسماء المناطق المُكوِّنة لِخارطة الرحلة، فيُدوّن الأمكنة بقوله: « فنزل ( أي الباي ) "واد الزلامطة"... ولمّا نزل؛ أتاه أهل "أنقاد" يطلبون منه التوجه لِناحِيَتهم والذهاب إلى بلادهم، وعينوا له غنيمة كثيرة، يأخذها في تلك الجهة... وصرفهم بوجه جميل... ونزل "واد العبد"... وأقام هناك بالغد لِكمال تقسيم العلف، ثمّ قسم عليهم الإبل، يحملون عليها زادَهُمْ وعلفهم... ونزل "دير الكاف"، وقد ورد عليه هذا اليوم؛ مشائخ الأعراب: كأولاد خليف والأحرار الشراقة وغيرهم. »[5].

 

يبدو أن هذا النزول الأوّلي؛ قدْ قوبل بالرضى من طرف السكان؛ ممّا سيُكْسب "الباي" شعبية واسعة، يستغلها في متابعة غزوه للصحراء فينزل بـ: «"عين سيدي سليمان"، ينتظر الطوالع، فأتوه بخبر منزل القوم، وأنه خلف الجبل، فلما سألهم... وجدهم غير الذين أرادهم، فزجر الطوالع في غارتها وتفرقت الخيل في نواحيها، حتى أتوه عند "خنيق الملح"... وحيث أدركته الطوالع... أتوه بالخبر اليقين، صحّ عنده شن الغارة على تلك الجبال والأودية»[6].

 

يتابع الكاتب نقلَه المباشر لأحداث الرحلة، فيسجّل: « ثمّ وصل إليهم العسكر، وصار يلتقطهم من تحت الأشجار، ويُخرجهم من الغيران، حتى أنه لم يبق منهم واحد إلّا وهو واحد من ثلاثة: إما قتيل، أوْ أسير، أو مقطوع الأذن حسير، بعد أن كان فريد دهره، وواحد عصره. »[7]. والحديث هنا يخص مكاناً يسمى "القعدة " في طرف جبل "راشد". إنه ولاشك؛ تصوير واقعي لِحَدثٍ جديد، يوحي بتباين المواقف وتعارضها في شأن تحركات "الباي محمد الكبير" فإذا كان قدِ استُقْبِل في المنازل الأولى بالترحاب وطقوس الطاعة؛ فإنه في هذه الربوع؛ أُستُقْبِلَ بالعصيان والتمرد، مما استوجب المتابعة الجادة حتى «... ففروا هاربين بأنفسهم، طالبين النجاة لذريتهم، وعيالهم، فأُخذوا عن أجمعهم إلاّ من ستره الله. »[8].

 

يسترسل ابن هطال التلمساني في تعداد أماكن نزول "الباي" إلى غاية وُصوله الأخير إلى منطقة "غريس": « فلما وصل إلى غريس وجد خدامه: المخازنية، تعرضوا له بإبل الأحرار (...) وكان دخوله يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الثاني قبل وقت العصر، في أول الساعة الثامنة. »[9].

و كما حدّد ابن هطال الأمكنة؛ التي شهدت نزول "الباي محمد الكبير" وصوّر الوقائع التي حدثتْ فيها، نجده كذلك، قدِ اهتمّ بتوثيق الأزمنة توثيقاً دقيقاً، بذكر أيام الأسابيع بلْ وبتحديد الساعات: « وجدّ ( الباي ) في سيره حتى نزل "الدبداب" على ستِّ ساعاتٍ ونصف. »[10]. وقوله: « وحين بقي من الليل ساعتان ونصف، جدَّ في السير... » [11].

 

و في شأن الأيام والشهور؛ أورد الرحالة: « فخرج يوم الخميس التاسع من ربيع الأول (...) وأصبح مُرْتحلاً يوم الجمعة.»[12]. وقد يُوَثّق للحدث، مُعتمداً ذِكرَ اسم اليوم مقروناً بأحد أوقات الصلاة: « وركب مساء يوم الاثنين وقت المغرب... فأقام يومه هناك، إلى أن فات وقت العصر. »[13].

و قد يلجأ الكاتب إلى تحديد مدة إقامة "الباي" في أحد المعسكرات فيوثق ذلك بقوله: « وبقي بهذا المنزل يومين، وارتحل. »[14]. وقوله: «... فأقام يومه ذاك، وبالغد ارتحل... »[15].

 

وصفُ المنازل التي تواجد بها "الباي":

تَجاورَ سرد ُالأحْداث مع الوصْف المُكثف للأماكن التي نزل بها بَايُ وَهْران... حيث كان ابن هطّال؛ يُوظف الوصف كلّما استشعر تميُّزَ المكان عن غيره، يقول مثَلاً: «...وكانت منازل القوم، بعضُها في الوادي، وأكثرها في الجبل... »[16]. وقوله: « وهذا الخير( اسم موضع ) من الأماكن التي لها بالٌ في أرض الإسلام؛ من كونه ذا مياهٍ كثيرة وأرضٍ واسعةٍ وجبالٍ مرتفعةٍ ومُدُنٍ بهيجةٍ متقاربةٍ إلّا أنّ بعضها عامرٌ بأهله كـ "قصر العجالة" و"قصر الرحامنة" و"ثادمامة"، وأكثرها قد خرب وبقي أثر البناء دالاً على بانيه. »[17]. ويسترسل الكاتب في التقاط الملامح الحضارية بالمناطق المغزُوّة، فيسجّل: « إن هذه المدينة؛ "أمّ الضلوع" قد أُحيطت بها البساتين والأبراج، وبساتينُها كلها مدورة بالسور، فحيطانها متراكمة وأسوارها متخالفة، متكاثرة... مشتبكة، بعضُها خلف بعضٍ... »[18].

 

و يتعمّقُ ابنُ هطال في وصْف المشْهد بالإشارَة إلى صُعوبة الاقْتحام للمَكانِ بسببِ صلابة الجدران وتَعَدّدِهَا، فيحْكي: « وحالَ بيْنهُم وبيْن البُغاة كثرة الحيطان، حتى: قيل إنّهُمْ هدموا أكثر من خمسين حائطاً... »[19].

إلاّ أنّ هذه الحيطان، لن تثني "الباي" عن عزْمه... فيَغْزو المنطقة، وينتصر... ويحصل على الغنائم... كما هو الشان في سائر المعارك... ويُوَثق الكاتب النصر العريض وما تلاه بقوله: « فغنمت منهم الناس غنيمة كثيرة من خيامٍ وفرش وأمتعة. ثم جمع ( الباي ) ما أخذ لهم من الإبل، وحسبها فوجدها نحو ألف جمل، وأما الغنم؛ فزهد فيها سيدنا، ثم انتهبتها الناس بالذبح حتى ترى الرجل الواحد، يذبح الشاتين والثلاثة والأربعة؛ حتى استغنوا كلهم وفَضُلَ نحو أربعة آلاف، أخذها سيدنا وبات مكانه. »[20]. ويسترسل ابن هطال في الجرد الدقيق لأنواع الغنيمة، فيذكر: « فانتهبت جميع ما فيها من القماش والغرائر ( أوْعية الحبوب المنسوجة من الصوف أو الوبر ) والسمن وغير ذلك مما ترغب فيه النفوس. وقد وجد فيها من القمح والشعير ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى، فحملت منه الناس شيئا كثيراً، وأكثرهم يرغب في الشعير دون القمح. فتراهم يفتحون المطامير، فإن وجدوه شعيراً حملوا منه ما قدروا عليه، وإن وجدوه قمحاً، يأخذوا منه شيئاً. »[21].

 

و يلتفت الكاتب إلى العنصر الطبيعي أثناء الغزوة، فتسْتهْويه رُبوعٌ مُعيّنة، ينهل منها صوراً جميلة لِأرْضٍ مِعْطاء: «...حتّى نزل (الباي) "البيضاء" وهذا المنزل ذو آبارٍ كثيرة، وهي سهلة التناول، منها ما يكون ماؤها على قامتين، ومنها ما يكون على أقلّ أو أكثر بقليلٍ إلاّ أنّ بعضها أطيب من بعضٍ. »[22]. ويُضيف في موضع آخر من الرحلة: «...و بهذه الدار عيونٌ كثيرة، وماؤها عذب سائغ للشاربين، وتحته مزارع تُسقى منه، وبينه وبين "ثاجموت" نحو ثلاثة أميالٍ. »[23].

 

ومثلما استهوته طبيعة هذه الرّبوع، فقد امْتعض من أخرى؛ ووَثّق لذلك بقوله: « فماؤها حميم، وغبارها عميم، فلا توافق كل ذي طبعٍ سليم. فمهما هبّ ريح ولو نسيم الصبا، إلاّ وارتفع منها غبار عظيم، وأظلمت منه الأرض، وامتلأ منه الجو طولاً وعرضاً... لا نبات فيها ( أم الضلوع ) تعيش به الدواب، ولا شجر بساحتها يكون منه الاحتطاب، وهذا يوجب الانتقال منها والتباعد عنها. »[24].

 

ويلاحق الكاتب تضاريس المناطق المغزوّة؛ فيعلقُ على جبلٍ رآه بموْضعٍ يُقالُ له: "خنيق الملح": « وهذا الجبل كله من ملح، إلاّ أنّ أكثره يظهر في رأي العين أخضر، والبعض منه كشفتْ ترابَهُ الأمطار وغسلتهُ، فصار مِلْحاً أبيض ما يكون. فإذا نظر العاقل إلى هذا الجبل؛ ظهر له ما يدلّ على قدرة الله تعالى. »[25]. ولم يفت الكاتب الإشارة إلى بعض الفواكه والتي وُجدت في غير موسمها مثل فاكهة "الرمان": « وأصاب فيها بعض الناس بيتاً مملوءاً من الرّمّان. وهذا دليل على كثرته، بهذا البلد، لأنه ليس وقت إبّانه. »[26].

 

يكتمل السرد في هذه الرحلة بإعلان النصر، والتذكير بأنّ "الباي" لم يكنْ وحَده؛ وإنّما صحب معه أهله؛ وعلى رأسهم اِبنه "عثمان"، والذي يقول عنه الكاتب: « وكان مصاحباً له في هذه المحلة؛ قرة ناظره، وعضد ساعده، صاحب الفخر والامتنان، جامع شتات الفضل والإحسان، وارث مجده: اِبنُهُ: السيد عثمان، فأمره أن يقوم بأمور "المحلة" ويسير بها رائداً من غير عجلة. »[27].

 

و ُيجسّدُ الكاتب تحرّكاتِ "ابن الباي" ومشاركته في الغزْوة؛ فيقول: « وارتحل من "القطيفة" ومرّ بالبيضاء، فأمر الناس أنْ يسقوا دوابهم، ويأخذوا الماء لأنفسهم؛ ففعلوا. ثم جاوزها ونزل بمكان قريب منها، ثم ارتحل ونزل "الحليات" وبالغد ارتحل فنزل "مركانة" على يمين واد "سبقاق"... ولمّا غشيهم الليل؛ طمع بعض أعراب تلك الجهة في سرقة المحلة، فاختفت جماعة منهم، وصاروا يحتالون على كيفية الوصول إلى الإبل. فإذا ببعض الترك كشفوهم... فأصابوا واحِداً منهم، فقتلوه وقطعوا رأسه، وأتوْا به لصاحب المحلة، السيد عثمان، ابن سيدنا، فأعطاهم دراهمَ وشكرهم... والتفّتِ الفِرْقتان، فكان يوم عيد، وعند كل واحد فرح جديد. »[28].

 

تظل هذه الرحلة جسراً تاريخياً، يُمثل فترة معينة من حُكم الأتْرَاك في الجزائر، ونَصّاً توْثيقياً يسرد ُ طغْيان الجانب العسكري لدَى الأتْرَاك، وحِرْصهُمْ على الهيْمنة، ولا عجب في ذلك؛ حيث: « ظلّ الوجود العسكري هو الظاهرة المميزة للحكم العثماني في الجزائر، بل هو الظاهرة المميزة أيضاً لهذا الحكم في جميع أنحاء الدولة العثمانية. »[29].

 

الرّحْلة العِلمية:

من نماذجها ما ورد في كتاب: " فتح الإله ومنّته في التّحدّث بفضْل ربّي ونعْمته" لمُحمّد أبي راس الجزائري، المولود سنة 1165هـ والمتوفّى سنة 1238هـ. والكتاب في الأصل؛ عبارة عن سيرة ذاتية للمؤلّف، احتوى العديد من المحطات؛ في شكل مسارد، تحتفي بغزارة المحكي، في خمسة أبواب، ثالثُها وُسِمَ بـ: "في رحلتي للمشرق والمغرب وغيرهما، ولقاء العلماء الأعلام، وما جرى لي معهم من المراجعة والكلام."

 

كما يبدو فالعنوان عبارة عن فقرة؛ تُلَخّصُ مضمون الرحلة... والذي سيَسْرُدُهُ الكاتبُ انطلاقاً من الصفحة 91، إلى غاية الصفحة 165، حيث يستهلّ الحكيَ مُبرِّراً سبب تنقّلاته ما بين عدة مناطق: الجزائر، قسنطينة، وهران، تلمسان، فاس، تازة، تونس، مصر، أمّ القرى، الرّملة، غزة، العريش.. وكلها ربوعٌ رسم فيها الكاتب المشْهد الثّقافي بقلمٍ مِدْرارٍ، يُنْبِئ عن ثقافة مُلونة بلِوْنِ عصْرِهَا.. يقول الكاتب؛ مُبرّراً لِفِعْل الرّحلة: « وأسوتى في ذلك رحلة الجهابذة النحارير، والأسانيد الجماهير، كرحلة الإمام ابن رشيد السبتي، والخطيب ابن مرزوق، ورحلة الشيخ أبي سالم عبد الله بن محمد العياشي، نسبة لقبيلة "أيت عياش" من البربر، بإزاء "تافلالت". وقد سمى ابن رشيد رحلته "ملء العيبة، في طول الغيبة، إلى مكة وطيبة " في ستة أسفار، وكذا رحلة الشيخ أحمد بن الناصر، وغيرهم. »[30].

 

بعد هذا التقديم، يبدأ الكاتب بالحديث عن تنقله إلى مدينة الجزائر: «فأول رحلتي للجزائر (العاصمة)... فلقيتُ بها، الفقيه المسمى الشيخ القاضي المفتي السيد محمد بن جعدون، فقال لي: من هو شيخك؟ قلتُ: المَشْرفي. قال: كان في زمن ماضٍ قدم عندنا هو وشيخه محمد المنور. فقلتُ له: كيف وجدتَ شيخه لمّا باحثته؟ قال لي: لا نظير له في تحقيق "الكبرى"، وسكت، ولم يزد شيئاً، وضيفني (...) ولقيتُ قاضيها –إذ ذاك– الفقيه الدارك، الشيخ محمد بن مالك، فضيفني، وجمع العلماء عليّ، وتمادوا وسألوني أسئلة صعاب عظيمة، فتفاوضنا فيها مفاوضة كبيرة، إلى قُرْبِ الفجر، وإن كل ما سددتُ عليهم باباً؛ فتحوا لي آخر.. إلى أن أظهرني الله عليهم، وسألوني بأجمعهم، ورفعوا قدري، وبَجّلوا أمْري...»[31].

 

ويسْترْسلُ في عرْضِ لِقاءاته العلْمية المُكثفة ونوْعِية مُجَادلاتِه، وثرَاء مَجالسه في منطقة أخرى فيُعلن: « ولما دخلت قسمطينة، نزلتُ على محطّ رحال الأفاضل، ومنبع الفضائل، والفواضل (...) الشيخ سيدي محمد ابن الشيوخ، أولي النُّهى والرُّسوخ، منهم القطب الكبير، الغوث الشهير، السيد عبد الكريم محمد الفكون (...) ولما سمع بي علماء البلد أتوني للسلام –جزاهم الله خيراً– (...) فتذاكرنا في العلوم والفنون، والحديث شجون، حتى ذكرنا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بالاسم والوصف الكافي، وهل تزوج أحد منهم من الحور العين (...) ثم تناظرنا في استحباب صوم "رجب" (...) فلله دره! ما أحسن مناظرته! وأثبت مناضلته! وأحلى مفاكهته! »[32].

 

ويحط الرِّحال في وهران، ويذكر لقاءه بالنحوي واللّغوي الشّهير، السّيد محمّد بن حسن، فيوثق لذلك بقوله: « وكنت - مرّة - قصدتُ وهْران (...) السيد محمد بن حسن، من بيت علم وصيانة (...) وكان رحمه الله، ذا يدٍ في النحو واللغة، وسائر العلوم، ولاسيما الأدب... »[33]. وبعد عرضٍ لِمَا دارَ بالمجْلس بيْنه وبيْن "محمد بن حسن" حول عبارة: "كَلاَ شيء" والحركة الإعرابية لحرف الهمزة؛ وقياسُها على عبارة: "جئتُ بلا زادٍ"، خلُص أبو راس إلى القول: «...ثمّ ذهبتُ، وفي قلبي من كلامه شيء، فعملتُ على ذلك (النقاش النحوي اللغوي) تأليفاً، فلما قرأه اسْتحْسنَه، وأرَاهُ للْباي (...) وسمّيتُ هذا التأليف: بُغية المرتاد، في كَلاَ شيءٍ وجئتُ بلا زاد. »[34].

 

أبوراس في فاس:

تتّسعُ رحلته العلمية إلى مدينة "فاس" المغربية، فيصفُها مُنْبهِراً بعرَاقتِها في العلم وبآثارها التاريخية، وطبيعتها الخلابة: « ورحلتُ إلى مدينة فاس، محل العلم والإيناس، والتقريب والتبعيد لِأناس، وهي قبة الإسلام والسلم والاستسلام، المقام الأعلى والمثابة الفُضلى، فهي أمّ قُرى المغرب الوافرة، وخزائن المزائر والشهرة الساحرة (...) ذات الأرجاء الدانية والقاصية، والأطواد الراسخة الراسية، والمباني الباهية، والأزهار الزاهية والمحاسن الشاهية (...) حيث هي آثار السلطان إدريس المجاهد، تعبق من تلك المعاهد، شذا مِعْطاراً، حيث كرائم السحائب؛ تزور عرائس الرياض الحبائب... »[35]. ويذكر لقاءه بعلمائها، ويوثّق لِحادثةٍ مُعيّنة: « ولما لقيتُ علماءَها وعرَفنِي فقهاؤها وقالوا: يا أهْلاً! وأهْلاً! ومرْحباً وسهْلاً! طلب مني أحد علمائها الكبار، الحامين للذّمار، استعارة "درة الحواشي، على شرح الشيخ الخراشي"، فأبيتُ، ولا أدري بأي شيء ابْتليتُ، ولما ألحّ بالمقالة؛ ولم يسعف بالإقالة، أعرته إياها، وقلت له: هي في حقك قليلة، وعين الرضى عن كل عيب كليلة، فأتى إلى نقلي فيها عن كلام الحطّاب، ولم يتأنّ لِلَحْنٍ أو فحو خطاب، فنسخ وسلخ ومسخ...»[36]. ويُقابَل هذا الفعل، بالاستياء من طرف علماء فاس فيلومون عالِمَهُمْ؛ مما يجعله يستعير المؤَلّفَ ثانية ويُعيدُ النّظر فيه... وتتواصل الحلقات العلمية ومعها أجواء الضيافة والتي ستشكل بعض مُجرياتها، مثار جدل ونقاش عميق بين الحاضرين: « ولمّا شرب بعض تلامذته - بتلك الضيافة، والدعوة المضافة، وكان ذلك الشارب حذو منِ انضاف إلى الاعتراض، فحفطته الإضافة - بادرتُ بلفظ "صحّة" لذلك الشارب / الحاوي المشارب، فضحكوا مني، حتى قرعت من الندم سنّي، ثمّ قلتُ: ما سَنَدُكُم في ترك هذا الأدب، الذي أخذ به كل ما جدّ، ودبّ؟ فقالوا: تلك عادتُنا.... »[37].

 

بعد مُناظرَته حول قول كلمة: "صحّة" للشّارب، وما تلاها من بعْض تقاليد "الأكل" وكيفيته، مثل الأكل بالملاعق، يشير إلى انتهاء المُناظرة لصالحه: « فاعترفوا بفضلي، وبصحّة نقلي وعقلي. »[38]. وممّنْ ناظرَهُمْ "أبو راس" في فاس، أيضاً؛ الشيخ الطيب بن كيران، والشيخ حمدون، والْتقَى بالنّحَوي الشيخ عبد القادر بن شقرون، ومما وصفه به: « ولقيت نحوي فاس، باتفاق الناس، ذا السر المصون، الشيخ عبد القادر بن شقرون (...) نحوي محقق، وأديب مدقق، وصالح موفق، وأستاذ نحرير نظّار، وفوائد تدريسه لُجَين ونضار (...) انتفع به جهابذة النقاد، ذاكرْتُهُ في مسائل، فكان أوصل من كل مسؤول السائل، فكأنه ابن أكثم؛ لا يتوقف ولا يتلعثم. »[39].

 

ويحكي "أبو راس" عن فضل هذا الشيخ معه؛ وكيف أنه توسّط له لدى علماء مدينة "تازة" حين أهملوا شأن أبي راس، ولم يحفلوا بمكانته، يقول: « وكتب إلى علماء "تازة" لَما بلغه أنهم قصروا معي: « كيف بكم لم تُكرموا هذا الحافظ الذي له الشهرة التامة، بالمغرب والمشرق؟! » وقد كتب لي مكتوباً هو- عندي إلى الآن- يمدح به شرحي الكبير على "المقامات". »[40].

 

ويسترسل الرحالة في تعداد القائمة الطويلة لعلماء فاس، وأنشطته المكثفة بين حلقاتهم، فمن الشيخ محمد بن بنيس، إلى الفقيه الهواري، إلى الزروالي، إلى ابن منصور، كما ذكر حضورَه مجلس السلطان: « الجليل الأثيل، الأصيل النبيل (...) أمير المؤمنين مولانا سليمان (...) وكان مجلسه - نصره الله - لا يخلو من العلم / والعلماء، تعليماً وتعلّماً. »[41]. وذكر مشاركته خلال هذا المجلس، واسْتِحْسان السُّلطان لأبي راس؛ حين « قرأ القارئ –بين يديه– في سورة "الأنبياء": ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة »، قلتُ: يا سيدي؛ الأوْلى من حقه أن يسكت شيئاً ما، عند "إسحاق" ثمّ يبتدئ « ويعقوب نافلة »، فقال لي - أيده الله - مِنْ أين لك ذلك؟ »[42]. وبعد شرح طويل واسْتدلال، يُضيف قائلاً: «...فاسْتحْسن ذلك منّي، وأكرَمني بمالٍ جزيلٍ، أدام الله نصره، ولولا مهابتي له لزِدْتُ. »[43]. واستمرت المُساءلات بينه وبين السّلطان سليمان، في مَسائل ُمتشعّبة، تقتضي الحجة والبرهان والتمحيص وصحة المعلومة...من ذلك مثلاً: أين دُفن الإمام أبو حنيفة، وما هو حدّ المغرب الأقصى، "وجدة" أم "تافنة"؟ والحديث عن بني قحطان أهل اليمن، وعاد وثمود، وطسم، وجديس، وجُرْهم، والسلفات، وعبد صحم، وعن ملوك السعديين، وبني وطاس، وبعض الزوايا، يقول الرّحّالة: « فأجَبْتُه بما عِنْدي وعلمْتُ أنّ له يد في التاريخ، والأنْساب، وأيّام العرب، وذلك العِلم الذي تعْتني به المُلوك قديماً... »[44].

 

بعد عودته من فاس؛ يتجه "أبوراس" إلى مدينة "تلمسان" ومما يحكيه عنها: « دخلتُ تلمسان، فسُئِلتُ عن علمائها، وملوكها، ومن اختطّها، فقلتُ: أولُ منِ اختطّها "بنو يفرن" قبل الإسلام، ثم شاركهم إخوتهم: مغراوة فيها، وكان بينهما منافسة وحروب (...) ثم ملكها الموحدون، ثم بنو مرين، ثم بنو عبد الوادي، ومنهم أخذها الأتراك سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، ثم صارت بين الفريقين فتنة إلى أن صفت للأتراك سنة ستٍّ وخمسين من القرن المذكور، وأمّا علماؤها فأولاد ابن زاغو من مغراوة، والعقابنة من قرية الأندلس، والمرازقة من عجيسة... »[45]. غير أن "أبي راس"؛ لا يلبث أن يُظهر حُزْنَه على ما آلَ إليْه حال هذه المدينة: «...وأما الآن؛ فهي كأمس الدابر، والميت القابر، قدِ استولى على أكثرها الخراب، وناح على خاوي عروشها الغراب، (...) فأصبحتْ خامدة الحسّ، ضيقة النفس، كأن لم تكن بالأمس... »[46].

 

أبو راس في تونس:

يعلن عن ذلك بقوله: « ثُمّ ذهبت إلى تونس؛ أمُّ البلاد (...) واجتمعتُ بعلمائها، وأجلّة فقهائها (...) الشيخ السيد محمد بن المحجوب (...) وصار يشاورني في نوازل تُرفع إليه، وبات شكري في تونس، يفوق ما أستحقّه.. »[47]. ويظهر أن أبي راس كان مدمناً على الحلقات العلمية في تونس، مُحِبّاً للمناظرة والجدل، وإفحام الخصم؛ « واجتمعتُ مع العلماء بجامعها الأعظم، فتذاكرْنا، وتناظرنا، وترافعنا، وتشاجرْنا، وتقابضنا في جميع الفنون الدقيقة، والمسائل المخفية؛ وقد أظهرني الله عليهم في ذلك كله. »[48]. وكانت جلّ هذه الحلقات في الفقه والنوازل وتصحيح المعلومات لمُناظِرِيه؛ بالدّليل والتّذكير بِالسّنوات والدّقة في عرْضِ التوَاريخ وأسْماء الأمَاكن، ومما ورد في هذا الشأن؛ حكايته عن مكان وتاريخ وفاة ابن رشد في مجلس الشيخ محمد بن المحجوب: « وكنت يوماً معه ببساتينه في قرية غوث كل لاجئ، الشيخ أبي سعيد الباجي، فأتى بكتاب فيه: أن حافظ المذهب ابن رشد (الجدّ) أتى من قرطبة - قاعدة الأندلس - إلى مراكش، فلما سمع به القطب الغوث الشيخ أبو العباس السبتي؛ أتاهُ لأنّهُ أُخبر ما أتى إلا ليعترض عليه، فأعطاه القطب مائة مثقال، وتكلما، فدعا عليه ابن رشد بالحمّى، فقال القطب لخديمه: ونحن ندعو عليه بالموت، فمات ابن رشد تلك الليلة، وجهزه أهل مراكش، وقاموا به (...) ولما سمع أهل قرطبة أتوْهُ، فنقلوه إلى بلادهم، ولِمائة يومٍ من نقله، دفن الشيخ أبو العباس في ذلك القبر. »[49]. وبعد عرضه لهذه الحكاية، يصحح أبو راس ما ورد فيها من خلط، فيقول: « قلتُ: هذا بعيد جدّا، لأن ابن رشد، مات بقرطبة، سنة عشرين من القرن السادس، أيام ملك السلطان علي بن تاشفين، والشيخ أبو العباس مات عام واحدٍ من القرن السابع، أيام ملك الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، كذا في كل التواريخ... »[50].

 

وجمعته هذه الحلقات العلمية بمن قال عنه: « أخونا السيد إبراهيم الرياحي، معارض الحريري في "المقامات"، وله في طريق القوم أمارات وعلامات، أدرك من المعارف في الصغر؛ ما لم يُدركه غيره في الكبر... مُنصفٌ في المُناظرة، له سجايا جميلة (...) طلبه سلطان تونس أن يكون بها قاضياً، وبعث له "خلعة القضاء" فردّ له ذلك وأبى وامتنع (...) ولما رأى تآليفي وطالعها استحسنها، وأنشد عليها قصائد حسانٍ، كأنها دُرَرٌ أوْ جواهر أو شقائق نعمانٍ، رحمه الله، وكفاه بالإنعام والإحسان! »[51]. ثم عرض القصيدة كلها والتي تتكون من 58 بيتاً، ومما ورد فيها:

هذا الإمام "أبو راس محمد" مَن
سارتْ بتبريزه في الخلق رُكْبانُ
فكم أفاد بتحريرٍ وقرّرَ مِنْ
قولٍ وحرّر من بحثٍ له شأْنُ[52]

 

ومما سُئل عنه أبو راس في حلقاته العلمية، استفسار "حمودة باشا" عن "قصر الأجم" وعن "قسمطينة" و"القيروان" وغيرها؛ وكانت إجابته كالتالي: « قلتُ: هو مِن بناء هنادِسَة الفرنج والرّوم، حتى إنه كانت تطلع الشمس كل يوم في كوة من كواه على عدد تنقلها ذهابا وإياباً، فهو من عجائب الدنيا. ثم سألني - رحمه الله - عن قسمطينة، فأجبتُ بأنّ صاحب "القاموس" قال فيها: « هي حصن من حصون إفريقية، ثم سألني عن "القيروان"، فقلتُ: إختطّهُ عقبة بن نافع الفهري، وسط القرن الأوّل، ثمّ سألني عن "المعلقة" و"الحنايا"، وغيرهما؛ مما بإفريقية، وبرقة، كمدينة "لبدة الخراب"، فأجبتهُ بما عندي، فاستحسن ذلك كله (...) ثم إن بعض العلماء لما سمعوا بإكرامه لي، اعتراهم الحسد، والكمد والمكر...»[53].

 

أبو راس في مصر:

« ثم ركبتُ البحر إلى مصر (...) لقيتُ بها العلماء الكبار، أهل العلم والأدب، والأخبار: شيخنا السيد مرتضى، ففاوضته في فنون، فوجدته كما لي فيه من الظنون، ورويت عنه أوائل "الصحيحين" و"رسالة القشيري"، و"مختصر العين"، و"مختصر الكنز الراقي"، وأجازني بالباقي، ثم كتب لي إجازة، نصّ بعضها: «إني أجزتُ الفقيه العالم المتفنّن الحافظ فلان..» إلى أن قال: « ذاكرني في فوائد جمة، وذكرني بمطالب مهمة » الخ... أُنظرْ إلى هذا الإنصاف وجميل الأوصاف من أنّ مثلي يذكره بالمسائل، وأنا أعي من باقل، وحق ربّ المشرق والمغرب! إني بين يديه، كعصفورٍ بين يدي "عنقاء مغرب"... »[54].

 

يسترسل الرحالة في عرضه لمجالسه العلمية وأسماء العلماء والإجازات الي حصل عليها مع الألقاب التي فاز بها مثل لقب: "الحافظ"، و"شيخ الإسلام"، وهي جلسات لم تكن تخلو من مضايقات يرويها الرحالة بين الفينة والأخرى، منها: « فشرعوا في امتحاني، وتزييف مكانتي، ومكاني، فأخرج أحدهم كتاب "الألفية" وفتحه من آخره؛ فخرج له "باب التصغير" فقال لي: كمْ فيه من بيت؟ فقلتُ: فيه اثنان وعشرون بيتاً، فحسبوه فوجدوه ثلاثة وعشرين، فصاحوا، وضحكوا، وأرادوا تزييف نقدي، وتكذيب ما عندي، قلتُ: ناولوني الكتاب، فأخذته، وطالعته، فإذا فيه بيت من جمع التكسير أدخلت فيه سهواً من الكاتب، وتأملتها، فإذا في أولها "خاء" بالحمرة لا يدركها إلا المتأمل، وفي آخرها "طاء" كذلك إشارة إلى أنها هنا خطأ، كما هي عادة الطلبة، فرأوا ذلك، ولم تطب أنفسهم، حتى رأوا تلك البيت بعينها في "جمع التكسير"، وزاد عدم إنصافهم، حتى طالعوا نسَخاً عديدة صِحاحاً من "الألفية" وحسبوا فيها أبيات "باب التصغير"، فلم يجدوا فيه إلّا اثنين وعشرين، كما قلتُ، ولم يجدوا تلك البيت فيه، بل وجدوها في الباب فوقه، وهو باب جمع التكسير، فألقوا السلم، واعترفوا لي بالفضل والنبل (...) وارتفع ذكري، وازداد فخري، وعلموا أن العلم بين سحري ونحري... »[55].

 

أبو راس في "أُمّ القرى":

يجتمع بعلمائها ويُناظرُهم، ويتباحثُ مع الوهّابييّن، ويذكر أسماء علماء أجلة من المغرب، كانت له معهم جلسات علمية رائقة، « ثمّ رحلتُ لـ "أمّ القرى" ذات المكارم والعلى، (...) فاجتمعتُ بعلمائها وفقهائها كالعلامة الدارك، السيد عبد المالك الحنفي، المفتي الشامي القلعي - حسبما هو في إجازته لي - (...) وشيخنا السيد عبد الغني، وطالت مجالستي وبحثي مع مُفتي المالكية: الفقيه السيد الحسين المغربي، وغير ذلك مما ضمه مسجد مكة المشرّفة (...) وقد اجتمعتُ بها بالشيخ الكبير: شيخنا السيد عبد الرحمن التادلي المغربي، له الباع الواسع في طريق القوم واللغة، ذو فضل، وتخلق، وتواضع، وجميل عشرة (...) قرأت عليه شرح العارف بالله ابن عباد على "الحكم" بمكة المشرفة سنة خمس ومائتين وألفٍ (...) ولما ذهبتُ للحجّ سنة ستّ وعشرين لقيتُ علماء الوهابية ( وهم تسعة علماء أكابر جماهير، وأفضلهم الشيخ علي تاسعهم، فوقع لي معهم مناظرة ومباحثة واعتراضات، وسؤالات، وأجوبة فائقات، ودلائل قاطعات، وأحاديث مروية عن أكابر الأئمة من الأمهات.... »[56].

 

ويزور أبو راس "طيبة" وعنها يقول: « ثم رحلتُ لطيبة (...) وجرى لنا مع العلماء أبحاث ومناظراتٌ غير مرّات. معظمين ما عظم الله: من دار هجرته، ومطلع بدره في ضريحه وقبره، لا تتعدى عليه - صلى الله عليه وسلم - أرض، لا كل، ولا بعض، وكذا كل الأنبياء، صلى الله عليهم وسلم، وهو أول من تنشق عنه الأرض واللجأ إليه في المحشر بعد النشر. فالحمد لله الذي فضل بعض البقاع بخصائلها الكريمة، ومزاياها، وتفضيل الرياض الوسيمة برياّها... »[57].

 

الرحلة إلى الشام، والرملة، وغزّة، والعريش:

لـنـفـس الغـرض - الحـلـقات العلمية - يتواجد "أبو راسٍ" بهذه البقاع ويسْرُدُ ما يلي: « رحلتُ إلى الشام، فتكلمت مع علمائها، في مسألة من "الحبس"، نصَّ عليها الشيخ أبو زكرياء ابن الحطّاب رحمه الله. فطال بحثنا فيها جدّا. ثم إنهم رجعوا لقولي، ووافقوني، وأنصفوني بعد الدلائل القاطعة والأجوبة الرائقة والمباحث الفائقة، وذلك شأن العلماء، ولما أردت السفر؛ جمعوا لي دراهم كثيرة، وزاداً قدر الكفاية، فخرجت، وودّعوني، وشيّعوني. ثم دخلت "الرملة"، التي هي أحد مدن "فلسطين"، ولقيتُ مُفْتيها وعلماءَها؛ فتفاوضنا زماناً في "الدخان" و"القهوة"، فأجبتهم بما قال العلماء في ذلك، وذكرت لهم نصّ أبي السعود، فيهما معاً، فأكرموني. ثم رحلتُ إلى "غزّاة" فزُرْنا بها قبر سيدنا هاشم: ثالث آباء النبي، صلى الله عليه وسلّم، ولقيت علماءها وأمراءَها، فضيفوني، وأكرموني، وتناظرْنا في مسائل من العلم مختلفاتٍ، بُرْهة من الزمان، فاعترفوا لي بالفضل والعلم والحفظ. وتلك المدينة كانوا يقولون لها: "غزّةُ هاشم"، كما في شعر أبي نواس، حيث قال: "طوالب بالركبان"   "غزّة هاشم"

وهي بفتح الزاي المعجمة. ثم رحلتُ إلى "العريش"، فلم أجدْ بها عالِما آنَسُ إليْه، ويكون التعويل عليه. »[58].

 

كانت هذه الرحلة العلمية لــ: أبي راس الناِّصري المعسْكري، وقد روى فيها ثقافته الدينية الشاسعة واختلاف الآراء بين العلماء الذين جادلهم، وناظرهم في مسائل تطلّبت الكثير من التمْحيص والاسْتطرَاد والاسْتشهادات الكثيفة، من القرآن، والحديث، والفقه، والنحو، واللغة، والمذاهب، والتوحيد، والتصوف، والمنطق، والبيان، والأصول، والتاريخ، والأدب، والشروحات الغزيرة.... الشيء الذي يجعل من هذه الرحلة فضاءً علمياً زاخِراً؛ يجمع بين السرد والحوار والوصف والبوْح بما يعْتلجُ في صدْر الرّحّالة؛ جرّاءَ موَاقف مُعيّنة، عاشها فأبى إلّا أن يُسجِّلها، في خانة التعاملات بين الذات والآخر، وما يترتّبُ عن ذلك من مخاض فكري، لا يسْلمُ - في أعْلىَ مرَاتبه - من طبيعة النفس البشرية النازعة إلى "التنغيص" على الآخر... يحكي أبو راس في هذا السياق، ما حزّ في نفسه مع بعض علماء تونس: « كما وقع لي بتونس مع علماء أتوني يوم الجمعة، وأنا في شغلٍ بفور السفر (...) فصاحوا ونكصوا، وردّوا عليّ كلامي وأكثروا ملامي، وقالوا - زيادة في تبكيتي وتنكيتي - من قال هذا؟ »[59]. ( والسؤال كان حول صلاة الجمعة وحول شرح الشيخ الخراشي الصغير ).

 

الرحلة الحجازية:

يمثل هذا النوع مِلفّا ثرياً في الكتابات الجزائرية على عهْد الدولة العُثمانية، ويُمكن في هذا السّياق؛ استحْضار الرّحْلة الورْتلانية، لمُؤلفها: الحُسيْن بن محمّد السّعيد الورْتلاني، المولود بتاريخ 1125هـ والمتوفى بتاريخ 1193هـ والموسومة بـ: "نُزْهة الأنْظار في فضل علم التاريخ والأخبار". وصفها صاحبها قائلاً: « أنشأتُ رحلة عظيمة، يستعظمها البادي ويستحسنها الشادي، فإنها تزهو بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار، مبيناً فيها بعض الأحكام الغريبة والحكايات المستحسنة، والغرائب العجيبة، وبعض الأحكام الشرعية.. »[60].

 

ويظهر أن الكاتب؛ قد جمع في رحلته هذه؛ تدوينات ثلاث حجّات...حيث « حجَّ الورتلاني ثلاث مرّات على الأقلّ؛ الأولى كانت سنة 1153هـ والثانية سنة 1166هـ والثالثة 1179هـ ويبدو أنه كان يجمع أخبار الحجاز في كل مرة... »[61]. وهو ما سيُشكّلُ لديْه؛ صورة عنِ الآخر، ترسّختْ في ذهنه، وحاول تمثلها في زمن لاحق، خاصة إذا علمنا أن الحسين الورتلاني « لم يكتب رحلته بيده، ولكنه أملاها إملاءً على تلاميذه، كما جرت عادة المشائخ (...) حقّاً؛ إنّ هناك ما يدلُّ على أنه كان يكتب مُذكّراتٍ أثْناء الحجّ لكي يسْتعْملها في الرِّحْلة بعد عوْدته، ولكنّهُ يُخبر عن نفسه أنه قد أضاع دفْترَهُ وهوَ في الطريق..»[62].

وفي هذا ما يوحي إلى « المسافة المنجزة بين الفعل ولحظة الصوغ والتدوين.. »[63].

 

اعتمد الورتلاني في وصفه للجزيرة العربية على عنصر المشاهدة ومعايشة الأحداث، كما اعتمد على مصادر كثيرة ومتنوعة مثل « رحلة العياشي، ورحلة الدرعي، والسمهودي والمقريزي، وابن فرحون والبكري والعبدري، والسيوطي، وابن رشد، حيث غلبت على مروياته ميزة "النقول" في وصف « جبال الجزيرة العربية، ووديانها، وطرقها، ومدنها، وآثارها، وعادات أهلها، وآبارها، ومياهها، ومساجدها، وأخبارها... »[64].

 

بالإضافة إلى الحديث عن تضاريس الجزيرة العربية وطبيعتها، تطرّق الرّحّالة إلى انْتقادِ الوضعية السياسية والدينية والاجتماعية في الحجاز؛ لِيَخرُجَ بنتيجة فحْواها: تفشي الظلم، ضعف الوازع الديني، وعن هذا الأخير؛ أوْرد قصة "المسجد" الذي تحوّل إلى "إسطبل" للدوابّ: « لقد ضعف الدين، وقلّتِ الرّغْبة في الخيْر حتى يكون بهذه المثابة؛ المكان الذي دخله سيد الأوّلين والآخرين...»[65]. وأكد الرحالة على أحوال غياب الأمن واسْتفحال الخوْف بين الناس مما يجعل أداء فريضة الحجّ؛ يتمّ في أسوأ الظروف وأشدها اضطراباً، وهو ما يُلخِّصُه "أبو القاسم سعد الله" بقوله؛ أثناء حديثه عن الورتلاني ورحلته: «...كلما تحدّثَ عن قافلة، أشار إلى اللصوص الذين كانوا يتربصون بها (...) ولم يكن الحاج آمناً على نفسه في الطريق، فسواء كان رحيله بالليل أو بالنهار، في جماعة أو مفردا، في الخلاء أو وسط العمران، فهو معرض للاعتداء أوالسرقة، (...) مما أثر على معنويات الحاج وجعل الحجّ نفسه يكاد يكون ساقطاً، حسب تعبيره. »[66].

 

إلا أنه ورغم هذا الامْتعاض منْ أحْوالِ الحجاز آنذاك، فإن "الورتلاني"؛ كثيراً ما كان يجْنحُ إلى وصف ما تصبو إليه نفوس زُواّر بيْت الله الحرَام... فيُعلنُ: «...غير أن الله لا يدَعُ وفده، إذْ هم ضيافه، إذْ لا يخلو وفده من أحبابه، الذين حرّكهم الشوق والوجد إلى تلك الأماكن الشريفة والمعاهد السنية، لتتصل بالساكن وتشاهد محبوبها فيه، ويُزيل ما بها من قلق الشوق وترتاح من مرض العشق... »[67]. وتطيب نفسه وهو يروي فوْزه - دون غيره من الحُجّاج - بالاجْتماع بأحَد الأوْلياء الصّالِحين؛ رغم كثرة الزحام بعرفات، ويصفه قائلاً: « هو رجل شريف كبير السن وكلامه عليه حلاوة وطلاوة، ويعلوه نورٌ، وهو أجمل خلق الله قَدّاً وخدّاً، بياضه مشرب بحمرة، وسيع الوجه، يتلألأ نوراً، قد شاب فلم تبق فيه شعرة سوداء، والله أعلم، ولو حواجبه، لا يسأم الناظر فيه.. فوجدت قلبي حين رأيتهُ، بل أخذ مجامع قلبي، وإن الله أسعدني برؤيته »[68].

 

وفي غير أرض الحجاز، يروي في ذات السياق، ما جرى له مع بعض الزّهاد في مدينة "توزر التونسية": « ولمّا وصلتُ إليه ( أحمد الزريبي ) مع طلبتي، مَسَكَني من حاشية البرنس، وزفرني زفرة عظيمة، وجذبني جذْباً قوياً، وقطع لي البرنس من جهة صدري نحو الشبر، حتى أصاب الروع من ذلك جميع الحاضرين، وأما أنا، في نفسي أنتظر عاقبته.. ثم بعد ذلك انبسط إلينا وانشرح، فعند ذلك قال له بعض أصحابه: لماذا عملت بفلان - يعني نفسي - ذلك الزفر، فقال: إنكم إذا أردتم غسل الثوب الجديد، فلا بدّ من عصره وضربه بالرّجل ضرْباً شديداً لتزول أوْساخه، فيُطلى بالصّابون، ولذلك فعَلتُ بهِ ما فعلتُ.. »[69].

 

أما عن مناسك الحجّ، فمِمّا يرْويه في شأنِها: «...لـمّا صليْنا الظهر والعصْر في المسْجد المشهور وهو مسجد نمرة، توجّهْنا إلى محلّ الوقوف والمُشاهدة.. فأصاب الناس شدة الحرّ والوهج، حتى كاد أن يُذيب الأكباد، والمُهَج، فشمروا لما وصلوا، وأهلوا لما به أهلوا... فوقفنا راكبين.. وقـد وقـفـنـا عـنـد الأحـجـار قرب الجبل.. فألْزَمْنا الدّعاء لأنْفُسنا سِرّاً وجهْراً.. »[70].

 

وتضمنت الرحلة شيئا عن أخبار بعض العلماء، لعلّ من أهمّها، علاقة الورْتلاني الودية بالعالِم الشيخ "السمان القرشي" في المدينة المنوّرة، حيْثُ حضرَ مجْلسَه، « وكان لِلشيْخ السمان صلاة عظيمة تكاد أن تكون كصلاة الشيخ عبد السلام بن مشيش، وقد طلب من الورتلاني وضع شرح على الصلاة المذكورة المنسوبة إليه، فتواضع الورتلاني وقال إنه لـيـس أهـلاً لـشرحها، ولكنه عندما تأكد من أن الشيخ قد "لاحظه بخاطره" لم يسعه إلا القبول. »[71].

 

الرحلة "الودّية" إلى الرّبوع الدّمشقية:

عندما تحدّث أحمد المقري المتوفى سنة 1041هـ عن سبب رحلته إلى دمشق؛ اكتفى بالإشارة إلى: «... ثُمّ حدث لي؛ منتصف شعبان؛ عزمٌ على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان، دمشق الشام، ذات الحسن والبهاء (...) حيث المشاهد المكرمة، والمعاهد المحترمة.. »[72]. ثمّ يقول: « دخلتها أواخر شعبان المذكور، وحمدت الرحلة إليها، وجعلها الله من السعي المشكور.. »[73].

 

مضامين الرحلة المقرية:

انبهر الرحالة بدمشق... وهامَ بتجليات الحُسْن فيها، ومما استرْعى انْتباهه:

• جمال الطبيعة الدّمشْقية: « والغوطة الغنّاء والحدِيقة، (...) والأظلال الوريفة، والأفنان الوريقة، والزهر الذي تخاله مبسماً والنّدى رِيقُهُ، والقضْبانُ المُلْدُ، التي تُشَوّقُ رائيها بجنّة الخلد.. »[74].

 

• المعالم الأثرية: « فالجامع؛ الجامع للبدائع، يُبْهر الفِكَر (...) وبيوتها التي لم تخرج عن عروض الخليل (...) ومنظرها الذي ينقلب البصر عن بهجته وهو كليل.. »[75].

 

• كرم أهل الشام: « وقابلوني، أسماهم الله؛ بالِاحتفال والِاحتفاء.. »[76].

• قداسة المكان: «...وهو مقرُّ الأولياء والأنبياء، ولا يجهل فضله إلا الأغمار الأغبياء... »[77].

 

• مجالس الفكر والأدب: « وكنّا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة (...) كثيراً ما ننظم في سلك المذاكرة دُرَرَ الأخبار الملقوطة (...) ونتهادى لُباب الألباب (...) فينجرُّ بنا الكلام والحديث شجون؛ إلى ذكر البلاد الأندلسية، ووصف رياضها السندسية... »[78].

 

• السبب الذي جعل "الشاهيني" - وهو أكبر شعراء الشام - يكلّف أحمد المقري؛ بكتابة سيرة الوزير لسان الدين بن الخطيب: «...فصرتُ أوردُ من بدائع بلغائها (يعني الأندلس) ما يجري على لساني (...) وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، (...) ما تُثيرُهُ المناسبة وتقتضيه (...) فلمّا تكرّر ذلك غير مرّة؛ على أسماعهم، لَهجوا به دون غيره، (...) فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذْ ذاك (...) أن أتصدّى للتعريف بلسان الدين في مُصَنّفٍ يُعْرِبُ عن بعض أحواله وأنبائه... »[79].

 

• امتناع الكاتب في البداية عن تلبية طلب "الشاهيني": « فأجبْتُه (...) بأن هذا الغرض غير سهل، ولستُ - علِمَ الله - له بأهلٍ... »[80].

• إلحاح "الشاهيني" على الطلب: «... ثُمّ إني لمّا تكرّر عليّ في هذا الغرض الإلْحاح، ولم تُقبل أعْذاري (...) عزمْتُ على الإجابة (...) فوَعدْتُهُ بالشروع في المطلب عند الوُصول إلى القاهرة المُعِزية (...) ورحلنا عن تلك الأرْجاء المُتألّقة، والقلوب بها وبمن فيها مُتعَلّقة.. »[81].

 

• باقة متنوعة من الأشعار: تزركشت الرحلة الودية - إن جاز الوصف - بباقة شعرية جميلة ما بين ذاتي ومرْوي، اسْتشهد به "المقري" وجميعه يُصوّرُ تعلق الرجل بهذه الربوع وامتنانه لأصحاب الرّبوع، ولواعجه وهو يغادر مرتع الأحبّة.. ومما وظفه في هذا السياق قوله:

أحِنّ إلى مَشاهدِ أنْسِ إلْفي
وعهْدي مِن زيارته قريبُ
وكنتُ أظنُّ قرْبَ العهد يُطفي
لهيبَ الشوق فازْدادَ اللهيبُ[82]

 

وقوله:

وكنْ كما شئتَ من قُرْبٍ ومن بُعْدٍ ♦♦♦ فالقلبُ يرْعاك إنْ لم يرْعَك البَصرُ[83]

 

وقوله:

وما تفْضُلُ الأوقاتُ أخرى لِذاتِها ♦♦♦ ولكنّ أوْقات الحِسانِ حسانُ[84]

 

ويحضره قول الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل:

وأعْجَبُ ما في الأمْر؛ شوْقي إليْهم ♦♦♦ وهُمْ في سَوادَيْ ناظِري وفؤادي[85]

 

ويحْضرُهُ قول ابن الأثير:

بكيتُ فأضحكتُ الوُشاةَ شماتة ♦♦♦ كأنّي سحابٌ والوُشاةُ بُروقُ[86]

 

• الِاعتراف بالجميل: من الانطباعات الجميلة في رحلة المقري، ما رواه في شكل اعترافات بالجميل تجاه أهل دمشق:

« فهم الذين نوّهوا بقدري الخامل، وظنوا مع نقصي أنّ بحر معرفتي وافرٌ كاملٌ، حسبما اقتضاه طبعهم العالي:

فلو شريت بعمْري ساعة ذهبَتْ ♦♦♦ مِن عيشتي معهُم؛ ما كان بالغالي[87]

 

كانت هذه وقفة على أحد أشكال الكتابات النثرية القديمة في الجزائر، جسّدها أدب الرحلات، ضمن عيّناتٍ مُخْتارة، أفْلحَتْ في تمثُّلِ طُرُقِ الصّوْغ العَربي السّائدة في المشرق والأندلس، مع تنوّعٍ في المضامين... ما بين ذاتِية وغيْرية؛ في مُمارَسة جادّة، تسْتوْعبُ الفعْل الكتابي الجانِح إلى تقنية السّرْد القديم في أقْصَى مظانه...والذي مثّلَ مشروع مَرْوياتٍ؛ تستوْقف الباحث، وتُحِيله على أبْعاد ثقافية ودينية؛ جسّدتْها الملامح الصّوفية، (في نتاجات أخرى، ليس المقام مقام سردها ) وأبْعاد تاريخية جلتْها كتاباتُ "ابن هطال التلمْسَاني" في حديثه عن معْركة الباي محمّد الكبير، باي الغرب الجزائري، وكتابات "محمّد أبي راس الجزائري" في مؤلفه: "فتْح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته"، وإن كان في الأصْل عبارة عن سيرة ذاتية للرّجل؛ فقد تخلّلَتْهُ مجْموعة من الإشارَات التّارِيخية؛ أثناء مُشاركتِه في المَجالس العِلمية في المشْرق والمغْرب... وينْضافُ إلى هذا ما كتبَهُ "الحُسين الورْتلاني" في مؤلفه: "نزهة الأنظار، في علم التاريخ والأخبار".



[1] شُعيب حَليفي، الرّحْلة في الأدب العربي، التجنيس، الكتابة، خطاب المتخيل، سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامّة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002، ص 41.

[2] يُنظر، تعليق: محمد بن عبد الكريم الجزائري، محقق الرحلة، ص 18.

[3] الرحلة، ص 36.

[4] الرحلة، ص ص 36-37.

[5] الرحلة، ص ص 37- 38.

[6] الرحلة، ص ص 39- 40.

[7] الرحلة، ص 47.

[8] الرحلة، ص 40.

[9] الرحلة، ص 100.

[10] الرحلة، ص 49.

[11] الرحلة، ص 99.

[12] الرحلة، ص ص 37-38.

[13] الرحلة، ص 39.

[14] الرحلة، ص 45.

[15] الرحلة، ص 43.

[16] الرحلة، ص 40.

[17] الرحلة، ص 80.

[18] الرحلة: ص 56.

[19] الرحلة، ص 59.

[20] الرّحلة، ص 48.

[21] الرحلة، ص 51.

[22] الرحلة، ص 38.

[23] الرحلة، ص 52.

[24] الرحلة، ص ص 66-67.

[25] الرحلة، ص 40.

[26] الرحلة، ص 42.

[27] الرحلة، ص 43.

[28] الرحلة، ص 44.

[29] أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الأول، ص 135.

[30] محمد أبو راس الجزائري، فتح الإله ومنّته في التّحدّث بفضْل ربّي ونعْمته، ص 91.

[31] المصْدر السّابق، ص 91.

[32] المصدر السابق، ص ص 98، 100.

[33] المصدر السابق، ص 100.

[34] المصدر السابق، ص 101.

[35] المصدر السابق، ص 101.

[36] المصدر السابق، ص 102.

[37] المصدر السابق، ص 103.

[38] المصدر السابق، ص 104.

[39] المصدر السابق، ص 105.

[40] المصدر السابق، ص106.

[41] المصدر السابق، ص 106.

[42] المصدر السابق، ص ص 106، 107.

[43] المصدر السابق، ص 107.

[44] المصدر السابق، ص 107.

[45] المصدر السابق، ص 108.

[46] المصدر السابق، ص 108.

[47] المصدر السابق، ص 109.

[48] المصدر السابق، ص 115.

[49] المصدر السابق، ص 109.

[50] المصدر السابق، ص 109.

[51] المصدر السابق، ص 110.

[52] ص 112.

[53] المصدر السابق، ص 115.

[54] المصدر السابق، ص 116.

[55] المصدر السابق، ص 117.

[56] المصدر السابق، ص 118-119.

[57] المصدر السابق، ص 119.

[58] المصدر السابق، ص ص 119- 120.

[59] المصدر السابق، ص 117.

[60] الحسين الورتلاني، نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار، تقديم محمد بن أبي شنب، مطبعة بيير فونتانة، الجزائر، 1908، ص 3.

[61] أبو القاسم سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، الجزء الأول، ص 188.

[62] أبو القاسم سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، الجزء الأول، ص 188.

[63] شعيب حليفي، الرحلة في الأدب العربي، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص 286.

[64] أبو القاسم سعد الله، ابحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ص 189.

[65] الحُسين الورْتلاني، نُزْهة الأنْظار، ص 360.

[66] يُنظر: أبو القاسم سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ص 189-190.

[67] الحسين الورتلاني، نزهة الأنظار، ص 224.

[68] المصدر السابق، ص 413.

[69] المصدر السابق، ص 125.

[70] المصدر السّابق، ص 411.

[71] أبو القاسم سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، الجزء الأول، ص 196.

[72] أحمد المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرّطيب وذِكرِ وزيرها لسان الدين بن الخطيب، دار الكتب العلمية لبنان، ط1، السنة 1995، الجزء الأول، ص ص 63-64.

[73] المصدر السابق، ص 64.

[74] المصدر السابق، الجزء الأول، ص 64.

[75] المصدر السابق، الجزء الأول، ص 65.

[76] المصدر السابق، الجزء الأول، ص 69.

[77] المصدر السابق، الجزء الأول، ص 74.

[78] المصدر السابق، الجزء الأول، ص 75.

[79] المصدر السابق، الجزء الأوّل، ص ص 75-76.

[80] المصدر السابق، الجزء الأوّل، ص 76.

[81] المصْدر السّابق، الجزْء الأوّل، ص ص 85-86.

[82] ص 99.

[83] ص99.

[84] ص 102.

[85] ص 92.

[86] ص 91.

[87] ص 71.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • بعض مدلولات السياسة لدى جمعية العلماء الجزائريين
  • القطاع الصحي أيام الثورة التحريرية الجزائرية
  • ملخص بحث: أثر وسائل الاتصال والإعلام الحديثة على سلوكيات وقيم الشباب الجزائري
  • الثورة الجزائرية .. معجزة الجزائر
  • سرديات من التراث الجزائري: قراءة تأملية في النصوص المتاخمة

مختارات من الشبكة

  • أخبار التراث والمخطوطات (5)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • فرنسا: المساجد تعرض التراث الإسلامي في يوم التراث الأوروبي(مقالة - المسلمون في العالم)
  • التراث العلمي عند الإمام الصالحي الشامي من كتابنا: الإمام الصالحي الشامي حياته وتراثه العلمي(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • علماؤنا وتراث الأمم – القوس العذراء وقراءة التراث (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الألفاظ الدالة على الخلق في التراث اللغوي العبري والتراث اللغوي العربي(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • مظاهر تأثر التراث اليهودي بالتراث الفرعوني الوثني(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • حق طلب الزوجة الفرقة بسبب إعسار الزوج بالمسكن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أخبار التراث والمخطوطات (50)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • أخبار التراث والمخطوطات (39)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • أخبار التراث والمخطوطات (29)(مقالة - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 25/11/1446هـ - الساعة: 8:19
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب