مدينة الموصل بين شاهد ومشهود

مدينة الموصل بين شاهد ومشهود

صُدِمتُ وفُجِعتُ أمس[1] بخبر حرق (مكتبة اﻷوقاف) في مدينة الموصل، وهي مكتبة عامرة زاهرة جمعتْ مخطوطات مدارس المدينة ومساجدها، وهي آلاف عدة.

ولها فهرسُ في ثمانية أجزاء قام به اﻷستاذ سالم عبدالرزاق، وهو من فضلاء المدينة.

وأول عهدي بهذا الفهرس سنة 1400هـ-1980م، رأيته في مكتبة الشيخ محمد أمين الفيضي وابنيه اﻷخوين العزيزين العالم الموهوب الشهيد الشيخ فيضي -رحمه الله- والشيخ الحصيف الدكتور محمد بشّار -وفقه الله-، وكنا في زيارةٍ لهم أنا وشقيقي الشيخ عبدالسميع، والصديق العزيز اﻷثير الشيخ عمر عبدالعزيز العاني.

وقد مررتُ حينئذ على الفهرس المذكور مرورًا سريعًا، ثم رجعتُ إليه في أماكن أخرى، وسجلتُ ما يهمّني...

وكنتُ صورتُ منها عدة مخطوطات بسعيٍ مشكورٍ من الشيخ فيضي رحمه الله، منها حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي: نواهد الأبكار... ومؤلفات للشيخ مرعي الكرمي... منها: (قلائد العقيان في قوله: إن الله يأمر بالعدل واﻹحسان)...

وحاولتُ بعدُ تصويرَ مخطوطين منها فلم يتيسرْ ذلك إلا بعد سنين، بفضل اﻷخ الشيخ عمار البنا، والدكتور حازم سعيد البياتي، وأسجلُ لهما هنا شكري وامتناني.

وقد زرتُ المكتبة أكثر من مرة، وراجعتُ مخطوطات فيها، ولقيتُ هناك مرة الشيخ حمدي السَّلفي رحمه الله.

وبلغني أن هناك مخطوطات لم تُفهرس بعد...

وعند بعض اﻷسر العلمية مِنْ أهل المدينة مخطوطات يتوارثونها، وبعض المخطوطات في صناديق لا ترى الضوء...

♦ ♦ ♦

وأهلُ الموصل قومٌ فيهم علمٌ وفضلٌ، ولهم جدٌّ وحزمٌ، وفيهم كرمٌ، لا كما يُشاع عن مدينتهم، وقد سمعتُ نكات غير قليلة في ذلك، ولكن ما رأيناه غير ما سمعناه، وكنتُ كتبتُ مقالًا بعنوان: (دفع الافتراء عن الموصل الحدباء)، وشذَّ عني في أوراقي في بغداد، فأعدتُ كتابته في دبي، ونُشِرَ في موقع رابطة أدباء الشام بعنوان: (الموصل الحدباء)...

♦ ♦ ♦

لقد زرتُ هذه المدينة (أم الربيعين) مرارًا، وأنستُ بها، وراق لي هواؤُها، وأسرَني زخمُ أمجادها، وتعرفتُ إلى علمائها وأدبائها وفضلائها، وزرتُ آثارها، واستمتعتُ بمآثرها، ولي فيها أحبابٌ كثيرون، وأحفظ لها ذكريات وذكريات، وهي من المدن العريقة الجميلة يقطعها نهرُ دجلة، وعلى ضفته غاباتٌ ومناظر ساحرة...

ومدارسُها ومساجدُها القديمة كثيرة، يفوح منها عبق الماضي المجيد...

ولها لغةٌ تتميز بأساليب ومفرداتٍ، ومِنْ ذلك نطق الراء في بعض الألفاظ غينًا...

ولها مطعمٌ شهيرٌ، ومِنْ أشهر أكلاتها "الكُبّة الموصلية"، ولا يتخيل مذاقَها مَنْ لم يأكلها لديهم.

♦ ♦ ♦

ومِنْ فقهائها الشيخ محمد ياسين عبدالله شارح (بلوغ المرام) لابن حجر، و(الفقه اﻷكبر) المنسوب إلى اﻹمام الشافعي، وقد حاورتُ الشيخ في هذه النسبة وعدم إمكان صحتها، ولكن الشيخ كان مقتنعًا بصحتها.

ومِنْ أعلامها اﻷستاذ المؤرِّخ اﻷديب الناقد البارع عماد الدين خليل، وقد زرناه أول زيارةٍ في مكان عمله في متحف الموصل وكان مُضيَّقًا عليه منقوﻻ إليه مِنْ جامعة الموصل ﻹبعاده عن الطلبة.

وللأستاذ عماد الدين مؤلفات كثيرة مهمة، ومِنْ أجمل كتبه: (ملامح الانقلاب اﻹسلامي في خلافة عمر بن عبدالعزيز).

ومِنْ كتبه اﻷدبية: روايةٌ بعنوان (اﻹعصار والمئذنة) وهي روايةٌ مؤثرةٌ تتناول ما وقع للموصل أيام المدّ الشيوعي.

ومِنْ كتبه المهمة: (تهافت العلمانية)، و(التفسير اﻹسلامي للتاريخ) وقد حملته إلى شيخنا الشيخ عبدالكريم الدَّبَان التكريتي فقرأه وأُعجب به.

ومِنْ أعلام الموصل صديقنا الشيخ المتفنن اﻷستاذ الدكتور أكرم عبدالوهاب آل ملا يوسف، وهو سليل أسرة علمية، ويُعَدُّ اﻵن مُسْند الموصل، بل مُسْند العراق.

وله مؤلفات كثيرة ومحققات متنوعة، ومن مؤلفاته: (اﻹمداد شرح منظومة اﻹسناد)، صدر منه أحد عشر جزءًا، وفيه مِنْ تاريخ المدينة العلمي صفحاتٌ مهمةٌ.

ومِنْ أهل الموصل اللواء الركن محمود شيت خطاب وكان يعيش في بغداد، وهو أستاذ الدراسات العسكرية اﻹسلامية، وكنا نزورُه دائمًا، ونمنا ليلة عنده، وصلينا التهجّد معه، وكتبه كثيرة معروفة.

وفي كتابيه (عدالة السماء) و(تدابير القدر) ذكرٌ للموصل وحلب.

وكتابه (بين القيادة والعقيدة) كتابٌ رائعٌ ماتعٌ، وقد قدَّم له الشيخ محمد أبو زهرة تقديمًا مهمًا.

ومنهم اﻷستاذ الجليل مصطفى البنجويني، ولنا معه سهرة زاخرة في بيته لا تُنسى...وهو يقيم الآن في قطر.

ومنهم الشيخ الجليل إبراهيم النعمة صاحب المؤلفات الدعوية المعروفة.

ومنهم الأستاذ المربّي المعروف عابد توفيق الهاشمي، وقد درَّس في العراق واليمن، ثم استقر في الإمارات العربية المتحدة، ومؤلفاته كثيرة، وما زال يعكف على التأليف والبحث والإفادة والاستفادة إلى اليوم، على الرغم من تقدُّمه في العمر، وقد لقيتُه في اليمن وفي الإمارات.

ومنهم الأستاذ الدكتور الدؤوب عبدالستار حامد الدباغ، وقد درّسنا في جامعة بغداد، وما زال يدرِّس، ويشرف على الطلبة، ويناقش الرسائل العلمية، ولعله ناقش المئات.

ومنهم اﻷستاذ الدكتور المؤرِّخ عبدالواحد ذنون، وقد لقيتُه في مؤتمرٍ في مكتبة الاسكندرية وأنستُ برفقتهِ وصحبتهِ، وله مؤلفات وبحوث قيّمة.

ومنهم الأستاذ الدكتور كاظم الجَوادي، وقد درَّسنا اللغة الإنكليزية في مرحلة الدكتوراه في جامعة بغداد، وقلما رأيتُ مُعلمًا مثله في حرصه وأسلوبه، وقد اغتيل بعد احتلال بغداد، رحمه الله تعالى.

ومنهم المُؤرِّخ المُحقق الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري، وأعماله متداولة معروفة، ومِنْ أشهرها: (موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد)، و(السيرة النبوية الصحيحة).

ومنهم البحاثة المحقِّق المؤرِّخ المُفهرس الدؤوب الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف، وهو وإنْ كان وُلد في بغداد إلا أنه ينتمي إلى أسرةٍ موصليةٍ عباسية، وجهودُه العلمية كثيرة متنوعة، مفيدة مهمة، لا يُستغنى عنها.

وغير هؤلاء كثير داخل الموصل وخارجها، ولهم بصماتٌ علمية وأدبية ودعوية بارزة...ويضيق المقامُ عن ذكرهم.

ولو أُحصِيَ ما قدَّمه علماء الموصل إلى المكتبة اﻹسلامية لظهر فضلُهم، وأهمية ما قدَّموه.

وهناك موسوعة عن أعلام الموصل في القديم والحديث، وهي نافعة جدًا.

ومِنْ أعلامها في الماضي الإمام القاضي بهاء الدين ابن شدّاد صاحب سيرة صلاح الدين الأيوبي: (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية)، وهو كتابٌ وثائقيٌ في غاية الأهمية.

وكان مِنْ ملازمي السلطان، ثم لازمَ بعد وفاته ابنَه الملكَ الظاهرَ ملك حلب، وأقام فيها، وله عليها فضلٌ ظاهرٌ، ومِنْ ذلك بناؤه مدرسة ودارًا للحديث النبوي، وفي هذه المدرسة أقام ابنُ خلكان حين قدم حلب طالبًا...

ومِنْ أعلامها في الماضي القريب العلامة الشيخ عبدالله بن مصطفى الطائي الملقب بفيضي، جد الأسرة الفيضية، وله مؤلفاتٌ حافلةٌ كثيرةٌ مِنْ أبرزها: (نور القمر في سيرة الإمام عمر) –ابن الخطاب-، وقد أهداه إلى السلطان عبدالحميد الثاني، وهذه لفتةٌ واعيةٌ، وهو مطبوع.

ومِنْ أسرها الأخرى: آل النعمة، والعُمَري، والجوادي، والغلامي، والمفتي، والرضواني، والرمضاني، والكلاك، والدبوني، والفخري.

ومِنْ أسرها ذات التاريخ السياسي أسرة الجليلي، وكان منهم ولاة وتجار كثيرون.

♦ ♦ ♦

فسلامٌ على الحدباء، وعلى ليالي الحدباء...

سلامٌ على ساحلها الأيمن، وساحلها الأيسر...

سلامٌ على تل التوبة، وحمّام العليل...

سلامٌ على الجامع النوري، وجامع السلطان ويس، وسوق النجفي، والتكية الفيضية...

سلام على خاناتها، وأبوابها: باب السراي، وباب الطوب، وجسورها الخمسة...

سلامٌ على غاباتها الرائعة، ومياهها الرائقة، ونسماتها المنعشة، وأهلها الأعزاء الطيبين...

سلامٌ على مطعم فندق اﻹدارة المحلية، وعلى شراب السُّوس في اﻷزقة القديمة...

وسلامٌ على آلاف المخطوطات التي تشهدُ للماضي الزاهر في تلك البقعة العزيزة مِنْ بقاع اﻹسلام....

♦ ♦ ♦

توبنغن - ألمانيا