أعمار المؤلفين

أعمار المؤلفين

فيمَ ذهبَتْ أعمار المؤلفين؟

هذا سؤال محيِّر مثير للتأمل، عن توالي الأعمار والأيام دون إنجاز مشروع جديٍّ تنتفع به الأجيال القادمة، ويكون رَتْقًا لتعاقُب الحدَثانِ، فكيف أفنى ما سبق مِن سلفنا أعمارهم؟

• قال الإمام البخاري: "خرَّجتُ الصحيح مِن نحو ستمائة ألف حديث، وصنَّفته في ست عشرة سنةً، وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى"؛ [تهذيب الكمال، أبو الحجاج المزي، 24/ 443،449].

♦ ومن أشهر شروحِه شرح ابن حجر العسقلاني، المسمى بـ"فتح الباري"، ابتدأ تأليفه في أوائل سنة 817 سبع عشرة وثمانمائة، على طريق الإملاء، فصار السِّفر لا يكمل منه شيء، إلا وقد قوبل وحرِّر، إلى أن انتهى في أول يوم من رجب، سنة 842 اثنتين وأربعين وثمانمائة، سوى ما ألحقه فيه بعد ذلك، فلم ينتهِ إلا قبيل وفاته؛ أي: إنه لبث في شرحه هذا أكثر من ربع قرن.

♦ ومن الشروح المشهورة أيضًا على صحيح البخاري: شرح العلامة، بدر الدين، أبي محمد: محمود بن أحمد العيني، الحنفي، وهو شرح كبير أيضًا، في عشرة أجزاء وأزيد، وسماه "عمدة القاري"، شرع في تأليفه في أواخر شهر رجب سنة 821، إحدى وعشرين وثمانمائة، وفرغ منه في آخر الثلث الأول من جمادى الأولى سنة 847 سبع وأربعين وثمانمائة؛ أي: إنه لبث في شرحه قرابة ربع قرن كذلك.

♦ العلَّامة المحدث عبدالله بن سالم البصري المكي، من مناقبه تصحيحُه للكتب الستة، حتى صارت نسخته يُرجَع إليها من جميع الأقطار، ومن أعظمها "صحيح البخاري"، أخذ في تصحيحه نحوًا من عشرين سنة؛ [التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، محمد صديق خان القِنَّوجي (ص: 489)].

• "موطأ مالك"، مكث الإمام مالك في تأليفه أربعين سنة، وقد عرَضه على أكثر من سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطَأَه عليه، فسماه لأجل ذلك بـ"الموطَّأ"؛ [معجم المؤلفات الأصولية المالكية؛ ترحيب بن ربيعان الدوسري (ص: 341)].

• "مختصر خليل" في الفقه، وهو العمدة عند المالكية منذ تأليفه حتى الآن؛ للإمام العلامة أبي محمد ضياء الدين خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب، المعروف بالجندي، المتوفى سنة (776هـ)، مكث في تأليفه نيفًا وعشرين سنة.

• "نظم الدُّرَر، فِي تناسب الآي والسُّوَر"؛ للإمام البقاعي، لطيف الحجم، يتَعَلَّق بِعلم التفسير، قال عنه العلامة الإمام السيوطي: "هو مؤلَّف لم يسبقه إليه أحد، جمع فيه من أسرار القرآن العظيم ما تتحير منه العقول، ابتدأ في تأليفه سنة إحدى وسبعين وثمانمائة، وفرغ من تبييضه قبل تاريخ وفاته بسنة، فتلك أربع عشرة سنة كاملة"؛ [طبقات المفسرين؛ للأدنه وي (ص: 348)].

• الحافظ جمال الدين يوسف بن عبدالرحمن المزي الدمشقي، "654 - 742هـ"، وضع كتابه "تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، في علم الرجال، في سبع سنوات أو يزيد، استغرق تأليفه من سنة "705 - 712هـ"، وهو خمسون جزءًا، في اثني عشر مجلدًا كبيرًا؛ [لمحات في المكتبة والبحث والمصادر؛ محمد عجاج الخطيب (ص: 214)].

• قال الحافظ ابن كثير في آخر كتاب "التكميل": "كنتُ قد ابتدأت في جمع هذا الديوان قبل سنة ثلاثين وسبعمائة، فكمل في تسعة مجلدات، هذا آخرها، في ليلة النصف من شعبان سنة أربع وأربعين وسبعمائة...".

ويستفاد من هذا النقل:

أنه استغرق في تصنيف الكتاب أكثر من (14) عامًا؛ حيث ابتدأه قبل سنة (730 هـ)، وانتهى منه سنة (744 هـ)؛ [التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل (1/ 15)].

• وفي مقدمة "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" يُبين الإمام السيوطي أنه شرع في تأليفه عام 870 هـ، وفرغ منه عام 875 هـ، وكتب منه عدة نسخ، بَيْد أنه بَدَا له في عام 895 هـ أن يعيد كتابته مرة أخرى مع بعض التغييرات والزيادات التي رآها لازمة لمؤلَّفه، فأعاد تأليف الكتاب مرة أخرى؛ [اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1/ 9)].

• الأمير أسامة بن منقذ، قام بتأليف كتاب "المنازل والديار"، في ست عشرة سنة، وضمَّنه نماذجَ متخيرة من شعر الجاهليين فمن بعدهم حتى أيامه، مما قيل في المنازل والديار، والأوطان والمغاني، والأطلال والآثار، والمدن والأهل والأحباب، وما إلى ذلك، وقد خلَّله مقاطيع مِن نظمه لم يرد لأكثرها ذِكرٌ في ديوانه المطبوع؛ [سير أعلام النبلاء، ط الرسالة (19/ 481)].

• منظومة "الصادح والباغم"؛ لأبي يعلى بن محمد، المعروف بابن الهبارية الهاشمي، العباسي، البغدادي، منظومة على أسلوب (كليلة ودمنة)، في ألفي بيت، لبث في نظمها عشر سنين.

وختمها بهذه الأبيات:

هذا كتابٌ حسنُ تحارُ فيه الفِطَنُ أنفقتُ فيه مُدَّهْ عشر سنين عِدَّهْ منذ سمعتُ باسمكا وضعتُه برسمكا بيوتُهُ ألفانِ جميعُها معانِ

[كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون؛ لحاجي خليفة (2/ 1069)].

• أحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914 هـ)، جمع مؤلفه "المعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقيا والأندلس والمغرب" في ربع قرن؛ حيث جمع فيه كل الفتاوى والنوازل والمسائل من العلماء المتأخرين، ويعد مؤلفه من أوعب كتب النوازل الفقهية عمومًا، والمالكية خصوصًا؛ [مصادر الفقه المالكي؛ بشير ضيف (ص: 42)].

• "البيان في الفروع"؛ للشيخ يحيى بن سالم اليمني، الشافعي، العمراني، (المتوفى: سنة 558)، مكث في تأليفه ست سنين، في نحو عشرة مجلدات، وهو يعتبر موسوعة فقهية شاملة، ليس في فقه المذهب الشافعي فقط، بل وفي الفقه المقارن أيضًا، وقام بتحقيقه الأستاذ قاسم بن محمد النوري؛ [كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون؛ حاجي خليفة (1/ 264)].

• وضع الألوسي تفسيره: "روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني" في تسعة مجلدات، شرع في تأليفه سنة 1252، وفرغ منه سنة 1257، زهاء خمس سنوات؛ [معجم المفسرين من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر؛ عادل نويهض (2/ 665)].

• قضى العلَّامة جمال الدين القاسمي في تأليف تفسيره (محاسن التأويل) ست عشرة سنة.

قال الشيخ مصطفى الزرقا عن (محاسن التأويل) ذات مرَّة لابن الشيخ القاسمي: (إن قراءته تحتاج إلى عمر كامل، فكيف ألَّفه أبوك ولم يبلغ الخمسين من العمر؟!).

• قال "ويل ديورانت" في موسوعته "قصة الحضارة": "وجد فولتير أنه من العسير عليه أن يحب مونتسكيو؛ لأن مؤلفه "روح القوانين" (1748) اعتبر بصفة عامة أعظم إنتاج عقلي في هذا العصر، وظهر الكتاب حين بلغ صاحبه التاسعة والخمسين، وكان ثمرة خمسين عامًا من التجربة والخبرة، وأربعين عامًا من الدرس والبحث، وعشرين عامًا قضاها في تأليفه"؛ [قصة الحضارة (36/ 148)].

• محمد عبدالخالق عضيمة (1910 - 1984 م)، لغوي وباحث ومحقق، فاز بجائزة الملك فيصل العالَمية لعام 1403 هـ، فكان الفائز الوحيد بجائزة "الدراسات الإسلامية" لذلك العام، وذلك عن كتابه "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" الذي استغرق في تأليفه حوالي (35) عامًا، وهو عبارة عن معجم نَحْوي صَرْفي للقرآن الكريم، ويتكوَّن من (11) مجلدًا؛ [تكملة معجم المؤلفين؛ محمد خير رمضان يوسف (ص: 509)].

• قال الباحث "طلال بن علي الجابري": "لابن تيمية كتاب "نقض التأسيس"، حققه ثمانية محقِّقين، كل محقق استغرق خمس سنوات؛ أي: بما يعادل أربعين سنة لتحقيق هذا الكتاب!".

• الكاتب الكولمبي الشهير "غابرييل غارسيا ماركيز"، قضى 15 سنة في التفكير للوصول إلى فكرة رواية "مائة سنة من العزلة"، و30 سنة في التفكير في رواية "وقائع موت معلن"، كما أنه كتب 300 صفحة من رواية "خريف البطريرك"؛ (صدرت سنة 1975)، فاستغنى عنها بكاملها، ولم يحتفظ منها سوى باسم هذه الشخصية فقط، والباقي ألقى به في سلة المهملات، أما رواية "ليس للكلونيل من يكاتبه" (صدرت 1961)، فقد أعاد كتابتها تسع مرات، وفي كل مرة كان يجد أن المنجز لا يرقى إلى ما يسعى إليه.

أما الفَرنسية "مارغريت يورسينار" التي اشتهرت بروايتها "ذاكرة أدريان"، فقضت عشرين سنة في كتابة هذا النص، ولم تحتفظ من صيغته الأولى سوى بجملة واحدة، والباقي استغنت عنه وتخلصت منه في القمامة؛ [من حوار صحفي مع الكاتب الإسباني خيسوس غريوس].