• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: اشتداد المحن بداية الفرج
    يحيى سليمان العقيلي
  •  
    خطبة: إن الله لا يحب المسرفين
    عبدالعزيز أبو يوسف
  •  
    فضل عشر ذي الحجة (خطبة)
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    فصلٌ: فيما إذا جُهل حاله هل ذُكر عليه اسم الله أم ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    خطبة (المروءة والخلق والحياء)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    تساؤلات وإجابات حول السنة
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    الأيام المعلومات وذكر الله (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    من تجاوز عن المعسر تجاوز الله عنه
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الدرس التاسع عشر: الشرك (2)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    الحذر من استبدال الأدنى بالذي هو خير
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    خطبة: اغتنام عشر ذي الحجة خير الأيام
    عبدالعزيز أبو يوسف
  •  
    إعلام النبلاء بفضل العلم والعلماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تفسير: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    التحذير من الإسراف والتبذير
    الشيخ صلاح نجيب الدق
  •  
    استحباب أخذ يد الصاحب عند التعليم والكلام والمشي
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    مفهوم الخصائص لغة واصطلاحا وبيان أقسامها
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم
علامة باركود

أحمد راتب النفاخ: حجة العلم وتواضع العالم

إبراهيم عمر الزيبق

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/11/2016 ميلادي - 26/2/1438 هجري

الزيارات: 27357

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أحمد راتب النَّفَّاخ

حُجَّة العلم وتواضع العالم [1]

 

لئن نأتْ بنا السَّنوات بعيداً عن تلك الغُرْفة الصَّغيرة التي كانت تضمُّنا مع أستاذنا أحمد راتب النَّفَّاخ (1927 - 1992م) في بيته بسفح جبل قاسيون، إنَّ في ذكراه ما يقرِّبُنا إليه، فهو في مجالسنا الحاضر الغائب، لا نكاد نكفكفُ الحديث عنه وقد امتدَّ ساعات حتى نعود إليه كأنشط ما نكون، في أعماقنا إحساسٌ نواريه ونداريه؛ وهو أن في الأستاذ سِرًّا غامضاً لا ندري كنهه، سرًّا يتفلَّتُ منا كلما حاولنا كشفه بالكلمات، وينفضُّ المجلس وفي صدورنا بقايا أفكار، وفي قلوبنا حزنٌ أسيف.

 

وفي البيت أجلسُ إلى أوراقي، أحاول أن أخطَّ عليها ملامح أستاذنا، عساي أن أقتنص هذا السِّرَّ الذي جعل منه شخصية عَصِيَّة على النِّسيان، والناس فيه بين محبٍّ غالٍ ومبغضٍ قالٍ.

 

وتعودُ بي الذِّكرى إلى ذلك اليوم الذي عرفتُ فيه النَّفَّاخ أول ما عرفته، كان ذلك في منتصف السبعينيات حين كنتُ أميناً لقاعة الباحثين في المكتبة الظاهرية. رأيته يدخل القاعة متَّجهاً إلى طاولة المحدِّث الشيخ ناصر الدين الألباني مسلِّماً عليه، وعلائمُ الجدِّ باديةٌ على ملامحه. وحين هبَّ من في القاعة وقوفاً يرحِّبون به اكتست ملامحه فجأة معاني التواضع، وأكاد أقول معاني الحياء.

 

هذه الملامح بقيتْ عالقة في ذاكرتي لم تمحُها السنون، ملامح صارمة ما كان أسرع انقلابها حين تخجل إلى وداعة أقرب إلى وداعة الطفولة.

 

ونازعتني نفسي إلى زيارته في بيته، وطلبتُ من صديقين كانا من طلابه في الجامعة أن يصطحباني إلى زيارته حين يزورانه.

♦ ♦ ♦

 

قرعنا الباب بقلبٍ خافق، هذه أوَّل زيارة لي لعالمٍ اسمه يملأ السَّمْع، وتخيَّلتُ فيما تخيلت بيتاً واسعاً، وأثاثاً مترفاً، ومكتبة ضخمة، ووجهاً يطل علينا مترفِّعاً متجهماً. وإذا بالباب يفتح، ويطل علينا الأستاذ بوجه طَلْق، تزيده قوة النظرات جمالاً وهيبة. ودلفنا عبر ممر ضيق إلى غرفة هي إلى الصِّغَر أقرب، قد صُفَّت فيها أرائكُ قديمة، ما إن جلستُ على واحدة منها حتى انبعث منها أنين البلى. تلفَّتُ أبحثُ عن المكتبة، فلم أر إلا ركاماً من الكتب على طاولة صغيرة، وقد زحف بعضها إلى الأريكة المجاورة واحتلَّها. كانت بقايا أشعة الشمس الغاربة تعكس عبر زجاج النافذة ضوءاً باهتاً، وعلى الجدران لوناً حائلاً، ربما من أثر المدفأة في الشتاء. حقًّا أنها غرفة لم تلمسها يد امرأة قط.

 

وأقبل علينا الأستاذ النفاخ وقد جلس على أريكته بوجه يطفح بالبِشْر، وشعرت أنه قريبٌ مني حقاً، فنظرت إليه، ولكني لم أقوَ على التحديق في عينيه. كانت عيناه الزرقاوان من تلك العيون التي لا تحتمل أن تنظر إليها أو تنظر إليك، عينان مفعمتان بمعاني الرجولة الحقة، والعجيب حقًّا أنك تشعر حيالهما بجمال عذب كلما واتتك الشجاعة، واختلست نظرة إليهما.

 

ومع أننا كنا في أوائل العشرينيات من عمرنا، نحبو في أولى خطواتنا في طريق العلم، والأستاذ في السابعة والأربعين، فقد راح يحدِّثنا في بعض مباحث اللغة الدقيقة، وكأننا أساتذة حقًّا نفهم عنه ما يقول.

 

وتوالت زياراتي له عند الأصائل في بيته، وكان بيته في ذلك الوقت مثابة لطلاب الجامعة ومحبي العربية، ما إن يدخل زائرٌ حتى يُقرع الجرس لقدوم زائر جديد. وتغصُّ الغرفة على صغرها بالزوار، فتراهم حين تضيق بهم الأرائك يفترشون الأرض متزاحمين، منصتين للأستاذ غاية الإنصات.

 

كان المستمع إليه أوَّل مرة لا يكاد يتبيَّن حروفَ كلماته، فقد كانت تخرجُ من فِيْه عميقة ممتلئة، يكاد يدخل بعضها في بعض، ولكن إن أرهفتَ السمع، واعتدت الإنصات، فإنك سامعٌ لغةً لا عهد لك بها، لغة فصيحة سهلة دقيقة، تصيب المعنى بأوجز لفظ، لغة تنقلك إلى ذلك العصر الذهبي الذي كان من أعلامه المبرِّد وابن جني وأبو علي الفارسي، لغة أُشْرِبتها روحُ الأستاذ فلا ينفكُّ عنها أو تنفكُّ عنه. ويتبدَّى لك من خلالها فهم الأستاذ العميق لأسرار هذه اللغة، وعشقه لها، وناهيك به فهماً أنه كان من قلة قليلة قد أحاطت بكتاب سيبويه علماً.

 

وكثيراً ما كان يعرِّج في أحاديثه على كتاب من كتب تراثنا وقد حُقِّق، فكنت تراه وهو يقلِّب صفحاته قد ملأ هوامشه باستدراكاته وتعقيباته بخطِّه الدَّقيق الواضح الجميل.

♦ ♦ ♦

 

والتحقيق عند النفاخ هو فهم النص فهماً سليماً، قائماً إلى إمعان النظر في تدبُّر معانيه. وهذا الفهم لا يتأتَّى إلا بعد تحريره من شوائب السَّقْط والاضطراب والتصحيف والتحريف، وما يقع فيه مؤلفه من أوهام. وهو منهجٌ شامل عِماده بَصَرٌ نافذ في أساليب العربية ومعرفة بدقائقها، ومصابرةٌ على تتبع مسائلها في مظانِّها، وإحاطة تامة برجالاتها، ودرايةٌ برواياتها وأسانيدها. وقد عُرف الأستاذ بنَفَسه الطويل في البحث، وإحاطته التامَّة به، حتى لا يكاد يجاريه في ذلك إلا قِلَّة، وشيخه في هذا الباب العلامة محمود محمد شاكر، فهما يصدران عن ينبوع واحد.

 

ولك أن تتخيل من بعدُ كيف كان الأستاذ النفاخ يقرأ الكتب المحقَّقة، وقد هجم عليها محقِّقوها بمنهج قاصر، وعلمٍ متواضع، فأحالوا المعاني عن مواضعها، وأثبتوا الخطأ وأهملوا الصَّواب. كنت ترى وجهه - وهو يحاكمهم إلى منهجه العِلْمي الصَّارم - قد اكتسى أسًى على هذا التراث الذي آل إلى خَلْف يعبثون فيه، ويداري أساه بابتسامة متهكمة على هذا الفهم السَّقيم الذي أوقع " المحقق " بما وقع فيه، وتندُّ من فِيْه كلماتٌ، يظنُّها من يسمعها أول وهلة قاسية لاذعة، وإنما هي صرخة من قلب يكاد يتميَّز غيظاً وهو يرى أقدس ما يؤمن به يُداس بالأقدام، وهل الأقلام العابثة في تراثنا إلا أقدامٌ تجوسُ خلال النص، تستبيح الحِمى، وتمزِّق المعنى؟

♦ ♦ ♦

 

ولا أنسى ليلة أُخبرتُ أنَّ الجزء الذي حققتُه من كتاب "سِيَر أعلام النُّبلاء" للإمام الذَّهبي قد وصلتْ نُسَخٌ منه إلى دمشق، ليلتها ركبني همٌّ مقيم مقعد، جعلني أنسى فرحي بصدور أول كتاب لي محقق. فلا شك أن الأستاذ سيطلع على عملي فيه، إذ كان يتابع بشَغَف صدور أجزاء هذا السِّفْر العظيم، وما أدري هل سيبقى لي مكانٌ في مجلسه من بعدُ، وهو الذي لا يتسامح في الأخطاء حتى مع المريدين والأصدقاء؟

 

ومرَّ شهران أو أكثر، وطال شوقي إلى الأستاذ ومجالسه، إلا أن الخوف كان يصدُّني عن زيارته، حتى كان يومٌ رأيته فيه مصادفة في مكتبة، وما إن وقعت عيناه عليَّ حتى بادرني بالسلام، وقال لي متشوقاً: أين أنت؟ لم أرك منذ زمن. كان في صوته ونظراته هذا الشوق الذي تحس حرارته في أعماق القلب. داريت خجلي، وقلت: سأزوركم الليلة إن شاء الله. وكان فرحي برضاه عني بقدر قلقي، وعاودت منذ ذلك اليوم حضور مجلسه الحافل، ولكن لم تحدثني نفسي قط أن أسأله عن عملي، إذ كان لي في حضور مجلسه عن رضاً مجرد حضور غُنْيةٌ عن كل سؤال.

 

وحبُّ الأستاذ لمريديه ومخالطيه حبٌّ غامر، فهو باخعُ النفس على آثارهم، يسعى إلى إفادتهم من علمه الواسع بكل سبيل. وكان أي سؤال يُلقى عليه يجدُ عنده أذناً صاغية، وحين يجيبُ تسمع حُجَّة العلم وتواضع العالم. وكان لا يقنع في كثيرٍ من الأحيان بما ألقاه إليك من جواب، بل تراه ما بين جيئةٍ وذهاب إلى مكتبته العامرة في الغرفة المجاورة، يتأبط منها في كل مرة مصدراً جديداً فيه توثيق ما أجابك عنه، ويخالطك شعورٌ بالحرج والإشفاق، وأنت القانع من جوابه بأيسر الكلمات، ولكن الأستاذ ما كان يرى العلم الحقَّ إلا مقروناً بالدَّليل، وفي ذلك أيضاً احترام لعقل سائله بتنا نفتقده عند كثيرٍ من العلماء.

♦ ♦ ♦

 

ولقد شهدتُ موقفاً للأستاذ النفاخ تجلى فيه هذا الحبَّ الغامر أروع ما يكون التجلِّي، على مفارقة في هذا الموقف لا تخلو من قسوة، فقد زرته ذات يوم في بيت حميِّه - وكان حبيس عُزْلة إثر محنة ممضَّة ألمَّتْ به بعد زواجه - مع صديقيَّ الأستاذين محمد نعيم العرقسوسي وبسام الجابي، وكانا أثيرين لديه. كان أقسى ما في هذه المحنة شعوره بالظلم ممن حوله، كان شاحب الوجه، ذابل النظرات.

ران صمتٌ ثقيل في المجلس، زاده ثِقَلاً شعورنا بالعجز حِيال محنة الأستاذ، كان الموقف أكبر من الكلمات.

 

وبلهجةٍ أعرابية كنا نألفُها منه قطع الصَّمت، وقال: سأنوي الاعتفاد. حال جلال الموقف بيننا وبين سؤاله عن معنى الاعتفاد، ولكنَّا فهمنا نحواً من الفهم أن العربيَّ إذا ألمَّت به ملمَّة يغلق بابه على نفسه، فلا يسأل أحداً حتى يموت جوعاً. وقلت في نفسي: هو موت تتجلَّى فيه عزَّة العربي بكل جلالٍ وقسوة، حتى في ألمه كان النَّفَّاخ عربيَّ الألم.

 

وانزاح بهذا البوح ثِقَلُ الصَّمت، فرحنا نتكلَّم مبدِّدين ما استطعنا شعوره بالظلم، وككلِّ أصحاب القلوب الكبيرة التي تفيء سِراعاً إلى الرِّضا بقضاء الله وقدره، نظر إلينا بعينين عاد إليهما بعضُ بريقهما، ونهض من مجلسه، وغاب عنا قليلاً، ثم عاد متابِّطاً كتاب أخينا نعيم " توضيح المُشْتبه " - وقد وافق صدور جزئه الأول محنة الأستاذ - وبصوتٍ يغمره الدِّفء، قال: هذا الكتاب كان سلوتي في هذه العزلة.

 

وتبادلنا فيما بيننا النظرات بعيون دهشة. كتاب جافٌّ - على أهميته في فنِّه - أقامه مؤلفه ابن ناصر الدِّين على ضبط أسماء رواة الحديث وأنسابهم وألقابهم وكُناهم بالحركات والحروف، لا يقتنيه إلا محدِّثٌ أو محقق، ولا يصبر القارئ له إلا على قراءة أسطر كيما يتهدَّى إلى ضبط اسم أو نسبة، ثم سرعان ما يركنه في زاوية مكتبه وينساه، ولا يكاد يذكره إلا إذا مسَّتِ الحاجة إليه من جديد، كتابٌ هو بالمعجم أشبه تكون فيه سلوة!

 

وفي غمرة دهشتنا رأينا الأستاذ يستلُّ أوراقاً من بين صفحاته، فيها تصويبُ ما بدا له من أخطائه، وراح يقدمها إلى أخينا نعيم، قائلاً باعتذار: الكتاب بحاجة إلى قراءة ثانية متأنية، وهذه الملاحظات هي ما عنَّ لي في أثناء قراءته وأنا بعيدٌ عن مكتبتي. وشعرت في تلك اللحظة بغربة الأستاذ عن عصرنا، فطوبى للغرباء.

 

وكيف لا يكون غريباً رجلٌ كان حقُّ العلم عليه فوق كل حق، ووفاؤه للتراث وللأئمة الذين أورثونا إياه فوق كل وفاء. ثم إنه لا يبالي في سبيل هذا الحق والوفاء أكثر محبُّوه أم شانئوه، فلعلك ترى أستاذاً له قديراً، أو صديقاً له أثيراً، أو محبًّا مريداً قد وهت العلائق بينهم وبينه، لم يتحمَّلوا صَدْعَه بالحقِّ الذي يراه، ولم يكن عندهم من الحُجَّة ما يدفعون به قوله، فكانوا في مجالسهم يتحدَّثون عن شدَّته عليهم، وينسون شدته هو على نفسه. هذه الشِّدَّة التي كانت تحول بينه وبين أن يكتب إلا ما يراه صواباً، بل محض الصَّواب، ثم لا يبالي من بعدُ أخسر صديقاً أم كسب عدوًّا.

 

إنَّ قيامه بحقِّ العلم ووفاءَه للتراث زهَّداه فيما يضطرب فيه الناس، فلم يسعَ إلى لقب، ولا طمع في منصب، ولا استخفته شهرة، ولا طرب إلى مديح. بل إنه زهد حتى في مظاهر الحياة، فاطَّرح التكلف جُمْلة، واستراح من أعبائه، فكنت تراه يستقبل زائريه على أية هيئة اتفقت له. حتى بيته بقي بعد زواجه المتأخر مثال بيت العالم الزَّاهد، فصورة العالم هي التي تملأ إحساسك تجاهه. ومهما يطل اختلافك إليه تشعر حِياله بهيبة العلم وجلاله، علم لا يحفُّ به لقبٌ أو منصب أو جاه.

♦ ♦ ♦

 

وتعود بي الذِّكرى إلى تلك الأيام التي قضيتُها في صحبته، وهو يذلل لي ما شَمَسَ من أبيات ابن منير الطرابلسي في أثناء تحقيقي لكتاب الرَّوْضتين.

 

كنتُ آتيه كعادتي أصيل كل يوم، أقرعُ بابه على استحياء، فيستقبلني كعادته بوجه طَلْق، أدخل الغرفة الصَّغيرة التي باتتْ أحبَّ إليَّ من بيتي، وأجلسُ حيث اعتدت أن أجلس فيها، وأنشر أوراقي، وتبدأ جلسة لن أنساها طوال عمري؛ جلسة تعيش فيها لذة اكتشاف المعاني المخبوءة تحت أطلال التصحيف والتحريف، وتشهد قراءة للنص هي إبداعٌ له من جديد.

 

وأذكر مرَّة أني سهوتُ في أثناء نسخي لأحد أبيات ابن منير، فقدَّمتُ كلمة على كلمة في البيت، ولم يخلَّ هذا التقديم بوزن البيت ولا بمعناه، ولكن الأستاذ حين تأمَّله طويلاً، قال لي جازماً: لو كان قائل هذا البيت شاعراً حقًّا لقدَّم هذه الكلمة على تلك. فوجئت حقًّا، ولم أحر جواباً، وحين عدت إلى البيت، بحثت عنه في المخطوط، فوجدته على الصورة التي اقترحها الأستاذ، وحين خبرته خبر البيت في اليوم التالي، ما زاد على التبسُّم.

 

وأذكر مرَّة أني وقعتُ على كلمة في خبرٍ لم أجد لها معنى أعرفه في سياقه، واستشرتُ معاجم اللغة، الفصيح منها والعامي، وطال بحثي عنها ولم أظفر بطائل، ثم فزعتُ إلى الأستاذ أسأله عنها، فقال لي بعد أن تأمَّلها طويلاً: لا أعرفها. فألقيتها عن كاهلي، حتى كان ذات يوم إذ خطر لي في معناها خاطر، فتتبعته، وبحثت له عما يؤيده، وإذا الكلمة اسم يطلق في ذلك العصر على الجدران الترابية، وكانت تسمى "الفطائر". واستخفني الفرح، فرحت أحدِّث الأستاذ عنها، وكيف تهدَّيت إلى معناها، وهو يصغي إليَّ، وحين أتممتُ كلامي رأيته يبتسَّم، وفي نظراته بريقٌ يشبه ذلك البريق في عيني الصَّقْر وهو يرى النَّاهض قد نشر جناحيه للطيران.

 

وما كان أشدَّ حماسته لعملي في " كتاب الروضتين "، فكان لا ينفكُّ يسألني عنه، ويحثُّني على إتمامه. وكنتُ أرى في أستاذنا شبهاً في مؤلفه أبي شامة، فهو على تبحره في التاريخ كان من كبار العلماء في القراءات القرآنية، هذا العلم الذي وهب أستاذنا حياته له.

وتمضي الأعوام، ويتمُّ طبع " كتاب الروضتين " على تأخُّري في إنجازه، وتصل إليَّ أول نسخة من نُسَخه، وأبيتُ تلك الليلة حزيناً حزيناً. كنت أتمنى أن تكون هذه النسخة هديتي الأولى إليه. لقد زايلني خوفُ الأمس، ولكن الأستاذ كان قد نأى عن دنيانا بعيداً.



[1] مقالة نشرت في مجلة الفيصل، العدد (295)، محرم 1422هـ/ نيسان 2001م.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أحمد راتب النفَّاخ شيخ العربيَّة في بلاد الشام في ذكراه العاشرة
  • ثلاثون عامًا على رحيله، العلامة أحمد راتب النفاخ معلم الإتقان

مختارات من الشبكة

  • لماذا نكرر العلم؟(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • نصف العلم لطالب العلم: بحث في علم الفرائض يشتمل على فقه المواريث وحساب المواريث (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مسائل الإمام أحمد الفقهية برواية أحمد بن القاسم (من أول كتاب البيع إلى آخر باب الصلح)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • ترجمة مختصرة لفضيلة الشيخ محمد بن أحمد سيد أحمد (رحمه الله)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مخطوطة المنهج الأحمد في طبقات أصحاب الإمام أحمد(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • شرح بيتي المقولات للشيخ الفقيه المتفنن أحمد بن أحمد السجاعي (ت: 1197هـ)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة إجازة محمد بن عبدالوهاب بن أحمد بركات الشافعي الأحمدي إلى حسين أفندي بن مراد(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة المنهج الأحمد في درء المثالب التي تنمى لمذهب الإمام أحمد (نسخة ثالثة)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة المنهج الأحمد في درء المثالب التي تنمى لمذهب الإمام أحمد (نسخة ثانية)(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
12- رحمه الله
عدي البسط - دمشق 27-12-2020 03:24 PM

بارك الله بكم، ونفعنا بعلمكم، وجزاكم عنّا خير الجزاء.

11- جيل العمالقة!
وليد بن عبده الوصابي - اليمن 16-05-2020 12:24 AM

ما أجمل هاته الأكتوبة الحاقة، عن هذا العلامة الخريت النقاخ: أحمد راتب النفاخ -رحمه الله رحمة وسيعة، وأسكنه جنات شسيعة-.

ولعمري، إنه ممن أخذ هذا العلم بقوة، وعمل فيه بنقوة، فما إن تثافن عملاً له، إلا ويتملكك العجب، وتستبد بك الدهشة.. من عظيم إتقانه، ومزيد عنايته، ومنتهى وكده،، وكبير صبره!

تراه، لا يرضى حتى يعود إلى أصل المصدر، فيعب منه وينهل، حتى يخرج "خالصاً سائغاً" للناهلين.
بل، ويراجع مصادر شتى؛ للفظة أشكلت، أو كلمة أثقلت، وانظر إن شئت، رده الباذخ، على الأستاذ صبحي البصام؛ فإنك راءٍ فيه نهجاً سديداً، ونمطاً جديداً، في دنيا الردود الهشة، والتي تستحكم فيها الأنا، وادعاء الإحاطة، وأكثرها، عن ذلك بمنأى!

حقاً، إنه وأمثاله من الأكفاء.. تقرأ لهم، وأنت في ثقة مما يرد عليك، وإذا وجدت ضبطاً لكلمة، أو تفسيراً لمعنى؛ فعض عليه وشد، فالحق ثَم!

رضي الله عنك أيها العالم الفذ، ومن سار سيرك، أو تنسمت خطاه، أمثال: العلامة محمود محمد شاكر، والعلامة محمود الطناحي، والعلامة مطاع الطرابيشي وغيرهم كثير..

أبو نعيم.
1441/9/23

10- أستاذ كبير
عادلة موازيني 20-02-2018 05:58 AM

رحمه الله ،
فقد كان أستاذنا في جامعة دمشق ، يدرسنا مادة العروض ،
وكان قلّة قليلة جداً من الطلاب يحضرون المادة ، وكنت أحضر بشكل عام معظم محاضراته ،

وقد حضرت مرة وعندما انتهت الحصة الدراسية وقمت للإنصراف وجدت أختي داخلة لتحضر ، فعدت معها وجلسنا ، وبعد أن أعاد المحاضرة والأبيات الشعرية الواجب تقطيعها ، رأيته أقبل ووقف بجانبي رحمه الله ، فقد رأى أني حضرت نفس المحاضرة ، ولذا أملى عليّ أبياتا جديدة كي أستفيد من الجلسة الثانية ، ولا أعيد نفس الأبيات السابقة ،

لقد كان عنوانا للعلم والإخلاص والأخلاق الرفيعة ،

وقد خصص الصفوف الثلاثة الأولى من المقاعد للإناث فقط ، وقد رأى شاباً مرة ينزل المدرج بعد بدء المحاضرة ، فتوقف ونظر إليه بعيني الصقر وهو ينزل الدرجات ببطء وقال بصوت لا يزال يرن في مسمعي : لماذا تتخلّع في مشيتكَ ؟ ثم أردف بصوته الجهوري وما هذا الذي تجترّه في فيك ؟ فارتبك الطالب ولم يعد يرى أمامه ، وجلس في أول مقعد وصل إليه وكان من المقاعد المخصصة للإناث ، وكان الطالب قد أطال شعره وربطه كذيل الحصان ، فاقترب منه رحمه الله ولم نسمع ما همس به له ، فقام الطالب وغير مكانه دون ان ينبس .

9- أعلام لغة القرآن
عبد الرزاق هشام الحمصي - دمشق 19-02-2018 07:59 PM

رحمه الله ووالدي الشيخ هشام عبد الرزاق الحمصي رحمة واسعة وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة،
كانا الحجة والأفذاذ والعباقرة في لغة القرآن الكريم،
نفعنا الله بعلمهما.

8- رحمه الله
عبد الرحمن كوكي - دمشق 17-02-2018 04:58 AM

رحم الله علامة العربية الأستاذ الكبير أحمد راتب النفاخ وجعله في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

7- رائع
عبد الرحمن كوكي - دمشق 17-02-2018 04:50 AM

رائع
مقال يكتب بماء العيون

بارك الله بشيخنا وأستاذنا الأستاذ المحقق إبراهيم الزيبق
أحسبه خير خلف لخير سلف

6- رحمه الله
عبد الناصر سعيِّد - الرياض 08-02-2018 08:14 PM

رحم الله أستاذنا الشيخ راتب النفاخ وأسكنه فسيح جناته

5- جزاكم الله خيرا
منذر الأسعد - الرياض 08-02-2018 02:55 AM

رحم الله أستاذنا الفذ الذي لم يأخذ ما يستحقه من الشهرة لأنه كان يأبى الانحناء لغير الله سبحانه.

وجزاك الله خيراً أستاذ أيمن وجزى الكاتب الفاضل

4- بديعة بديعة!!
خالد بن محمود قرَّاب - مصراته - ليبيا 07-02-2018 01:53 AM

مقالة تخلب الألباب وتستولي على النفوس ..
بديعة جدا !!
بورك كاتبها وناشرها

3- رجع الصدى
أيمن بن أحمد ذوالغنى - دمشقي مقيم في الرياض 06-02-2018 03:40 AM

لله درك أبا معاذ الحبيب، أحمد بن سليم الحمَّامي!

كأني بك قد قرأتَ ما خطَّته هذه المقالة على صفحات قلبي، وما نثرته في سويداء فؤادي!

إن كل ما عبَّرتَ عنه بقلمك الرصين إنما هو عينُ ما رغبتُ أن أنقله لأستاذي الجليل أبي أويس إبراهيم الزيبق..

لقد عبَّرتَ حقًّا عن مشاعري نحو المقالة وكاتبها بدقة..

فقد كنتُ قرأت مقالته هذه غِبَّ نشرها في مجلة الفيصل..
ثم قرأتها كرَّة أخرى يوم نشرها في الألوكة..
ثم لما قرأتها من جديد بأخَرة ملكَت عليَّ مشاعري، وطربتُ لها طربًا وكأني أقرؤها أول مرة..

فأعدتُّ قراءتها ثلاث مرار متتالية، وفي كل مرة أتذوق حلاوةً لم أتذوقها من قبل!

وتملكني شوقٌ كبير إلى أستاذي أبي أويس، وودِدتُ لو أنني بين يديه لأقبل رأسه.
بل إن يدًا أبدعت هذه المقالة لجديرة بالتقبيل..

وقد استعدت بذاكرتي من ذكرياتي مع أستاذنا الكثير الكثير
وتذكرت من كلماته وفوائده ونصائحه أكثر وأكثر.

لقد أحسنتَ في وصف بيان أستاذنا وأسلوبه بأحكم عبارة؛ أجل إن أستاذنا جمع في بيانه بين سلاسة الماء الزلال وعمق المحيطات الثرية بفرائدها وبدائعها..

إنه مصور بارع للمواقف بكلمات يحسبها الرائي قريبة المنال... ولكن ما أبعدها حقًّا إلا على أمثال أبي أويس، ممن قبض على جمرة الإبداع والفن والألمعية، وقليل ما هم!

ولم أملك من فرط ما استشعرتُ من حلاوة كلمته إلا أن أغردَ بها في (تويتر) ناصحًا أصدقائي بأن ينهلوا من مائدة أستاذنا الزيبق، وما أطيبَها من مائدة!

ولم أكن أتوقع أن تُحدث نصيحتي ما أحدثت؛ إذ ارتفعت قراءات المقالة في غضون أيام قرابة ألفي قراءة..
وإني لعلى يقين أن كل من قرأها قد وجد فيها ما وجدتَّ ووجدتُّ من ألق وبهاء.

رحم الله شيخ شيوخنا وأستاذ أستاذينا العلامة أبا عبد الله أحمد راتب النفاخ.

وبارك في عمر تلميذه الحفيِّ الوفيِّ أستاذنا المحقق الثبت والأديب المبدع أبي أويس إبراهيم الزيبق، ونفع بقلمه وعطائه العلمي، وكتب له القَبول.

مع محبتي وتقديري

أبو أحمد الميداني
أيمن بن أحمد ذو الغنى

1 2 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 25/11/1446هـ - الساعة: 8:19
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب