• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / د. محمود بن أحمد الدوسري / مقالات
علامة باركود

الثبات على الدين عند أهل السنة

الثبات على الدين عند أهل السنة
د. محمود بن أحمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/2/2022 ميلادي - 6/7/1443 هجري

الزيارات: 27166

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الثَّبَاتُ على الدِّين عند أهلِ السُّنة

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

المُتأمِّل في سيرة السلف الصالح من أهل السُّنة والجماعة يرى عجباً في ثباتهم على دينهم، وتحمُّلهم المشاق والأذى في سبيله، وربما فقد الواحد منهم حياته أو ماله أو تعرَّض للسجن والأذى والإبعاد، ومع ذلك تجدهم صابرين محتسبين، راضين شاكرين ثابتين؛ لأنَّهم يُعاملون الخالق ولا يتعاملون مع الخلق، ومن أروع النماذج في ثباتهم على دينهم، واحتمالهم لأشدِّ أنواع التعذيب والأذى ما يلي[1]:

النموذج الأوَّل: عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)[2].

 

(قال ابن التِّين رحمه الله: كان هؤلاء الذين فُعِلَ بهم ذلك أنبياء أو أتباعهم، وكان في الصحابة مَنْ لو فُعِلَ به ذلك لَصَبَر، وما زال خَلْقٌ من الصحابةِ، وأتباعِهم، فمَنْ بعدهم يُؤذَون في الله، ولو أخذوا بالرُّخصة لَسَاغَ لهم)[3].

 

النموذج الثاني: عن ميمون بن الأصبغ رحمه الله قال: (كنتُ ببغداد فسمعتُ ضجَّةً، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يُمتحن. فدخلتُ فلمَّا ضُرِبَ سوطاً؛ قال: بسمِ الله. فلمَّا ضُرِبَ الثاني؛ قال: لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله. فلمَّا ضُرِبَ الثالث؛ قال: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق. فلمَّا ضُرِبَ الرابع؛ قال: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51]، فضُرِبَ تسعةً وعشرين سوطاً)[4].

 

النموذج الثالث: لمَّا أمر المأمونُ بامتحان العلماء في "فتنة خلق القرآن"، وكان ممَّا جاء في كتابه: (ومَنْ لم يرجع عن شِرْكِه مِمَّنْ سَمَّيتَ لأميرِ المؤمنين في كتابِكَ، وذَكَرَه أميرُ المؤمنين لك، ولم يقل: "إنَّ القرآن مخلوق"؛ فاحْمِلْهم أجمعين مَوثِقين إلى عَسْكَرِ أمير المؤمنين، فإنْ لم يرجعوا، ويتوبوا؛ احْمِلْهم جميعاً على السَّيف.

 

فأجاب القومُ كلُّهم إلى "أنَّ القرآنَ مخلوقٌ"، إلاَّ أربعة نفر: هم أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد بن نوح المَضْروب، فأَمَرَ بهم إسحاقُ بن إبراهيم فَشُدُّوا في الحديد، فلَمَّا كان من الغد دعا بهم جميعاً يُساقون في الحديد، فأعاد عليهم المِحْنَةَ فأجابه سجادةُ إلى "أنَّ القرآنَ مخلوقٌ"، فأمر بإطلاق قيده، وخلَّى سبيلَه، وأصَرَّ الآخَرون على قولِهم، فلما كان من بعد الغد، عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى "أنَّ القرآنَ مخلوقٌ"، فأمر بإطلاق قيده، وخلَّى سبيله، وأصَرَّ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح على قولهما، ولم يرجِعا فَشُدّا جميعاً في الحديد... وفي هذه السَّنة تُوفِّي المأمون)[5].

 

النموذج الرابع: جاء في ترجمة الإمام القدوة الشهيد؛ أبي بكر محمد بن أحمد الرملي رحمه الله: (أنَّ المعز لدين الله الفاطمي دخل مصر، وكان بطَّاشاً، واستقرَّ في عاصمته الجديدة القاهرة سنة (623هـ)، أحضر أبا بكر النابلسي الزاهد، وكان ينزل الأكواخ من أرض دمشق، فقال له: بَلَغَنا أنَّك قلتَ: إذا كان مع الرَّجل المُسلِم عشرة أسهم؛ وجَبَ أنْ يرميَ في الروم سهماً واحداً، وفينا تسعة، فقال: ما قلتُ هكذا. فظَنَّ أنه رجَعَ عن قوله، فقال: كيفَ قلتَ؟

 

قال: قلتُ: إذا كان معه عشرةٌ وجَبَ أنْ يرمِيَكم بتسعةٍ، ويرمى العاشر فيكم أيضاً؛ فإنكم غيَّرتم المِلَّة، وقتلتم الصالحين، وادَّعيتَ الألوهية.

 

فأمَرَ حينئذٍ أنْ يُشْهَر فَشُهِر في اليوم الأوَّل، وضُرِبَ بالسياط في اليوم الثاني، وأُخْرِجَ في اليوم الثالث فَسُلِخَ، سلخه رجلٌ يهودي، وكان يقرأ القرآنَ، ولا يتأوَّه.

 

قال اليهودي: فداخلتني له رحمة، فطَعَنْتُ بالسكين في فؤاده حتى مات عاجلاً.

 

وحكى صاحِبُ النابلسي، قال: مضيتُ مُسْتَخفياً أوَّل يومٍ فتراءيتُ له وهو يُشهر، فقلتُ: ما هذا؟ فقال: امتحانٌ. فلمَّا كان اليوم الثاني رأيتُه يُضْرَب، فقلتُ: ما هذا؟ فقال كفَّاراتٌ. فلمَّا أُخْرِجَ في اليوم الثالث وهمُّوا بسلخِه، قلتُ: ما هذا؟ قال: أرجو أنْ تكون درجاتٌ)[6].

 

مقارنة بين ثبات أهل السنة واضطراب أهل الكلام:

وبعد ذِكر هذه النماذج المباركة في ثبات أهل السنة والجماعة على دينهم، لعلَّ من المناسب أنْ أُورِدَ هنا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله؛ في المقارنة بين ثبات أهل السنة ويقينهم وصبرهم على دينهم، وبين اضطراب أهل الكلام وقلقهم وحيرتهم، إذ يقول: (إِنَّك تَجِدُ أَهْلَ الْكَلامِ: أَكْثَرَ النَّاسِ انْتِقَالاً مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ، وَجَزْمًا بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعٍ، وَجَزْمًا بِنَقِيضِهِ وَتَكْفِيرِ قَائِلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهَذَا دَلِيلُ عَدَمِ الْيَقِينِ.

 

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: فَمَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَلا صَالِحِ عَامَّتِهِمْ، رَجَعَ قَطُّ عَنْ قَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ صَبْرًا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اُمْتُحِنُوا بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ، وَفُتِنُوا بِأَنْوَاعِ الْفِتَنِ، وَهَذِهِ حَالُ الأنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ كَأَهْلِ الأُخْدُودِ وَنَحْوِهِمْ، وَكَسَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الأئِمَّةِ، حَتَّى كَانَ مَالِكٌ رحمه الله يَقُولُ: " لا تَغْبِطُوا أَحَدًا لَمْ يُصِبْهُ فِي هَذَا الأمْرِ بَلاءٌ ". يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ الْمُؤْمِنَ.

 

وَبِالْجُمْلَةِ: فَالثَّبَاتُ وَالاسْتِقْرَارُ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلامِ وَالْفَلْسَفَةِ؛ بَلْ الْمُتَفَلْسِفُ أَعْظَمُ اضْطِرَابًا وَحَيْرَةً فِي أَمْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ)[7].

 

وقال ابن القيم رحمه الله: (الطمأنينة: هي سكونُ القلبِ إلى الشيء، ووثوقُه به، وهذا لا يكون إلاَّ مع اليقين، بل هو اليقين بعينه، ولهذا تجد قلوبَ أصحابِ الأدلة السمعية[8] مطمئنة بالإيمان بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، واليوم الآخِر، لا يضطربون في ذلك، ولا يتنازعون فيه، ولا يعرض لهم الشَّك عند الموت، ولا يشهدون على أنفسهم، ويشهدون على غيرهم بالحيرة، والوقوف، والشك)[9].

 

وهذا الثبات على دين الله، وعلى الحقِّ في وجه الظلم والطغيان مَرْجِعُه إلى أنهم يقدِّمون الحقَّ على النفس، والدِّفاعَ عن الدِّين على الدِّفاع عن المكتسبات والمُقدَّرات.

 

فهم وإن كانوا يرون عدم الخروج على الولاة مع ظُلمِهم وفِسقِهم، فإنهم لا يتنازلون في مُقابل ذلك عن دِينهم، فإذا كان الابتلاء في الدِّين هَبُّوا ووَقَفوا وثَبَتوا وبَيَّنوا، وهم على يقينٍ من أنهم سيُواجَهون بشتَّى أنواعِ التعذيب وأصنافِ التَّنكيل، ولا تَعارضَ بين الموقفين، فالموقف الأوَّل مبنيٌّ على الدنيا ومظالمِها، أمَّا موقفهم هذا فمبنيٌّ على الدِّين وضرورةِ الدِّفاعِ عنه والحفاظِ عليه.

 

وهذا دليلُ صدقٍ وشاهِدُ عدلٍ على شجاعة أهل السنة وأنهم لم يروا عدم الخروج من قِبَلِ الولاة جُبناً ولا ضعفاً، وإلاَّ لو كانوا كذلك لوافَقُوهم في باطلهم الذي دَعَوا إليه، وهذا ما لم يَحدث، فالمسألة إذاً هي مسألة حُكمٍ شرعي، وواجِبُهم بيانه بِغضِّ النظر عمَّا إذا كان سينال إعجابَ البعضِ أم لا!

 

أسباب ثبات أهل السنة على الدِّين:

أهل السنة والجماعة في كل مكان وزمان ثابتون على الحقِّ والدِّين، والعقيدة الصحيحة، لا يتزعزعون ولا يضطربون، وذلك لأسباب عديدة، ومن أهمها:

السَّبب الأوَّل: سؤالُهم اللهَ تعالى الهدايةَ والاستقامة:

من نعمة الله تعالى على أهل السنة أن هداهم الله تعالى الطريق المستقيم؛ لأن كثيراً من الخلق يتمنَّون الهداية ولا يُوفَّقون إليها؛ لأنهم لم يسلكوا أسبابها، وحالت بينهم وبين الهداية العوائق المختلفة، وفي هذا الشأن يقول ابن الجوزي رحمه الله: (تفكَّرْتُ في سبب هداية مَنْ يهتدي، وانتباه مَنْ يتيقَّظ من رُقادِ غفلتِه، فوجدت السَّبَبَ الأكبرَ اختيارَ الحقِّ عزَّ وجلَّ لذلك الشخص، كما قيل: إذا أرادكَ لأمرٍ هيَّأكَ له)[10].

 

وأهل السنة والجماعة دائماً يُعوِّلون في شؤونهم كلِّها على سؤال الله تعالى الهدايةَ إلى الصِّراط المستقيم؛ فهم يردِّدون في كلِّ ركعةٍ من الصلاة قولَه تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، قال السعدي رحمه الله: (أي: دُلَّنا وأرْشِدْنا، ووفِّقْنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح المُوصِل إلى الله، وإلى جَنَّته، وهو معرفةُ الحقِّ والعملُ به، فاهْدِنَا إلى الصراط، واهْدِنَا في الصراط. فالهداية إلى الصِّراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط: تشمل الهدايةَ لجميع التفاصيل الدِّينية عِلْماً وعَمَلاً. فهذا الدُّعاء من أجمعِ الأدعية وأنفعِها للعبد، ولهذا وجب على الإنسان أنْ يدعوَ اللهَ به في كلِّ ركعةٍ من صلاته؛ لضرورتِه إلى ذلك)[11].

 

ومن أعظم عوامل الثبات على الدِّين: الدعاءُ والإلحاحُ على الله في الثبات على الصراط المستقيم حتى الممات؛ وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (إنَّ العبد إذا عَلِمَ أنَّ الله سبحانه وتعالى هو مُقلِّب القلوب، وأنه يحول بين المرءِ وقلبِه، وأنه تعالى كلَّ يوم هو في شأن؛ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، وأنه يهدي مَنْ يشاء، ويُضِلُّ مَنْ يشاء، ويرفع مَنْ يشاء، ويَخْفِض مَنْ يشاء، فما يُؤمِّنُه أنْ يُقَلِّبَ اللهُ قلبَه، ويحولَ بينه وبينه، ويُزِيغَه بعد إقامتِه، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، فلولا خوف الإزاغةِ لَمَا سألوه أن لا يُزيغَ قلوبَهم)[12].

 

وفي طلبهم الهدايةَ والثباتَ عليها من الله تعالى تبَرُّؤ من الحول والقوة، فهم يطلبون من الله الهداية ويعملون بمقتضى هذا الطلب أخذاً بالأسباب التي أمرهم بها الله تعالى، وهذا يدل على تعلُّقهم بربِّهم واطمئنانهم إلى رحمته ورأفته بهم.

 

السَّبب الثاني: جَمْعُهم بين الإيمان والعلم والعمل:

إذا اجتمع الإيمانُ والعلمُ والعملُ ازداد العبد ثباتاً ونوراً ويقيناً، وهذا أحد أسباب ثبات أهل السنة على الدِّين، يقول ابن تيمية رحمه الله: (إِنَّ الإنْسَانَ قَدْ يُؤْتَى إيمَانًا مَعَ نَقْصِ عِلْمِهِ، فَمِثْلُ هَذَا الإيمَانِ قَدْ يُرْفَعُ مِنْ صَدْرِهِ؛ كَإِيمَانِ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا رَأَوْا الْعِجْلَ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ مَعَ الإيمَانِ، فَهَذَا لا يُرْفَعُ مِنْ صَدْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لا يَرْتَدُّ عَنْ الإسْلامِ قَطُّ، بِخِلافِ مُجَرَّدِ الْقُرْآنِ أَوْ مُجَرَّدِ الإيمَانِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَرْتَفِعُ، فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، لَكِنْ أَكْثَرُ مَا نَجِدُ الرِّدَّةَ فِيمَنْ عِنْدَهُ قُرْآنٌ بِلا عِلْمٍ وَإِيمَانٍ، أَوْ مَنْ عِنْدَهُ إيمَانٌ بِلا عِلْمٍ وَقُرْآنٍ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ وَالإيمَانَ فَحَصَلَ فِيهِ الْعِلْمُ فَهَذَا لا يُرْفَعُ مِنْ صَدْرِه)[13].

 

والعلم النافع هو المتبوع بالعمل، وليس العلم بمقدار ما يحفظه المرء من مسائل وأحكام، بل لا بد أن يُضيف إليه العمل، وإلاَّ أصبح حجَّةً عليه، وكان علماً لا ينفع، قال ابن الجوزيرحمه الله: (لقد سَبَرْتُ السَّلفَ كلَّهم فأردتُ أن أستخرج منهم مَنْ جَمَعَ بين العلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوةً للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة: أوَّلهم: الحسن البصري، وثانيهم: سفيان الثوري، وثالثهم: أحمد بن حنبل. وقد أفردتُ لأخبار كلِّ واحدٍ منهم كتاباً، وما أُنكِر على مَنْ ربَّعهم: بسعيدِ بن المسيب.

 

وإنْ كان في السَّلف ساداتٌ إلاَّ أنَّ أكثرهم غلب عليه فنٌّ، فنقص من الآخر، فمنهم مَنْ غلب عليه العلم، ومنهم مَنْ غلب عليه العمل، وكِلا هؤلاء كان له الحظُّ الوافر من العلم، والنَّصيب الأَوفى من المعاملة والمعرفة.

 

ولا يأسَ من وجود مَنْ يحذو حذوهم، وإنْ كان الفَضْلُ بالسَّبق لهم. فقد أَطلع اللهُ عزَّ وجلَّ الخَضِرَ على ما خَفِيَ من موسى عليهما السلام، فخزائنُ اللهِ مملوءةٌ، وعطاؤه لا يقف على شخص)[14].

 

السَّبب الثالث: اعتصامُهم بالكتاب والسنة:

أهل السُّنة يؤمنون بجميع ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم يؤمنون بجميع ذلك إيماناً مجملاً ومُفَصَّلاً؛ إيماناً مُجملاً بكلِّ ما أخبرَ الله تبارك وتعالى به من أمور الإيمان، وإيماناً مُفَصَّلاً بكلِّ ما بلغهم عِلْمُه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [الحجرات: 15]، ومن اعتصم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتمد عليهما؛ سيكون ثابتاً مستقيماً بعيداً عن الانحراف والضلال، وهذا من أبرز الأسباب المثبِّتة لأهل السُّنة على الدِّين، وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: (جِمَاعُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلالِ، وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ، وَطَرِيقِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ وَطَرِيقِ الشَّقَاوَةِ وَالْهَلاكِ: أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْفُرْقَانُ وَالْهُدَى، وَالْعِلْمُ وَالإيمَانُ، فَيُصَدِّقُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ كَلامِ سَائِرِ النَّاسِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ)[15].

 

وقال أيضاً: (إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ جَمِيعَ الدِّينِ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ؛ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ، عِلْمَهُ وَعَمَلَهُ، فَإِنَّ هَذَا الأصْلَ هُوَ أَصْلُ أُصُولِ الْعِلْمِ وَالإيمَانِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ اعْتِصَامًا بِهَذَا الأَصْلِ؛ كَانَ أَوْلَى بِالْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلاً)[16].

 

وهذا مُمارَسٌ في سلوك أهل السنة والجماعة، فهم لا يُقدِّمون بين يدي الله ورسوله، ولا يتركون نصًّا من كتابٍ أو سُنَّةٍ لرأي فلانٍ أو علان، فتراهم يتجرَّدون لله، ويُبيِّنون الحقَّ ولا يتعدَّونه إلى غيره، وأجمع على الأصل جميع أئمة أهل السنة والجماعة.

 

السبب الرابع: اعتقادُهم باكتمالِ الدِّين؛ كتاباً وسُنَّة:

لا ريب عند أهل السنة والجماعة في صحة جميع ما ثبت في الكتاب والسنة، وأنه من عند الله تعالى، وهو محفوظٌ إلى يومنا هذا؛ بل إلى قيام الساعة، ولن ينقص منه شيء؛ لأن الله تعالى تكفَّل بحفظه؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، والذِّكر يشمل الكتاب والسنة؛ وقوله سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3] [17]، فهذا (إخبارٌ منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعامٌ عليهم منه وامتنان؛ فأَوَّلاً: إكمال الدِّين[18] بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه؛ حتى قيل: إنَّ هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام حجة الوداع، ولم يعشْ بعدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ إحدى وثمانين ليلة ثم توفَّاه الله تعالى. وثانياً: إِتمامُ نِعمَتِه تعالى عليهم؛ فآمَنَهم بعد الخوف، وقوَّاهم بعد ضعف، ونصَرَهم وأعزَّهم بعد قَهْرٍ وذُلٍّ، وسوَّدهم وفتحَ البلادَ لهم وأظهرَ دِينَهم، وأبعد الكُفرَ والكفَّارَ عنهم، فعلَّمهم بعد جهلٍ، وهداهم بعد ضَلال، فهذه من النِّعمة التي أتمَّها عليهم. وثالثاً: رِضاهُ بالإسلام دِيناً لهم؛ حيث بَعَثَ رسولَه به، وأنزل كتابَه فيه، فبيَّن عقائدَه وشرائعَه، فأبعدهم عن الأديان الباطلة؛ كاليهودية والنَّصرانية والمجوسية، وأغناهم عنها بما رَضِيَه لهم؛ ألا وهو الإسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهراً وباطناً، وذلك سُلَّمُ العُروجِ إلى الكمالات، ومرقى كلَّ الفواضل والفضائل والسعادات، فللَّه الحمدُ، وله المِنَّة)[19].

 

(ولهذا كان الكتابُ والسُّنة كافيين كلَّ الكفاية، في أحكام الدِّين؛ أصوله وفروعه. فكلُّ مُتكلِّفٍ يزعم أنه لا بدَّ للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غيرِ علم الكتاب والسُّنة، من علمِ الكلامِ وغيرِه، فهو جاهل، مُبطِلٌ في دعواه، قد زعم أنَّ الدِّين لا يكمل إلاَّ بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظُّلمِ والتَّجهيل لله ولرسوله)[20].

 

ومما يدل على اكتمال الدِّين قوله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؛ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)[21]. وجه الدلالة: أن جميع الناس مِمَّن هو موجود في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة يجب عليهم الدخول في دينه وطاعته، وترك ما سواه.

 

قال النووي رحمه الله: (وإنَّما ذَكَرَ اليهودي والنصراني؛ تنبيهاً على مَنْ سواهما؛ وذلك لأنَّ اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أنَّ لهم كتاباً، فغيرُهم مِمَّنْ لا كتابَ له أَولى)[22].

 

واكتمالُ الدِّين يعني اكتمالَ الدِّين من لدنْ آدم عليه السلام ومروراً بالأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام إلى أنْ جاء نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فالدِّين واحد، وهذا هو معنى اكتمالِ الدِّين، فالرَّب واحد، والدِّين واحد، اكتمل ببعثة نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا أصلٌ من أصول الدِّين، يجعل أهلَ السنة والجماعة ثابتين على الحقِّ، راسخين في الدِّفاع عن الدِّين.

 

السَّبب الخامس: رُجوعُهم عند التَّنازع إلى الكتاب والسُّنة:

أمر الله تعالى المسلمين جميعاً في حال حصول الاختلاف والجدال فيما بينهم؛ من أصول الدِّين وفروعه، أنْ يَرجِعوا في ذلك إلى كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم: (﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59]. ومما جاء في تفسير الآية:

1- قال القرطبي رحمه الله: (قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ أي: تجادلتم واختلفتم؛ فكأنَّ كلَّ واحدٍ يَنْتَزِعُ حُجَّةَ الآخَر ويُذهبها. والنَّزع: الجذب. والمُنازعة: مُجاذبة الحُجَج. ﴿ فِي شَيْءٍ ﴾ أي: من أمر دينكم. ﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ أي: رُدُّوا ذلك الحُكْم إلى كتابِ الله أو إلى رسولِه؛ بالسؤال في حياته، أو بالنَّظر في سُنَّتِه بعد وفاتِه صلى الله عليه وسلم، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح. ومَنْ لم يَرَ هذا اختلَّ إيمانُه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾)[23].

 

2- وقال ابن كثير رحمه الله: (قوله: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ قال مجاهد وغيرُ واحدٍ من السلف: أي: إلى كتاب الله، وسُنَّة رسوله.

 

وهذا أمْرٌ من الله عزَّ وجلَّ، بأنَّ كلَّ شيءٍ تنازع المسلمون فيه من أصولِ الدِّين وفروعه؛ أنْ يُرَدَّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسُّنة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى:10]، فما حَكَمَ به كتابُ اللهِ، وسُنَّةُ رسولِه، وشَهِدا له بالصِّحة فهو الحق، وماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضَّلال، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ أي: رُدُّوا الخُصومات والجهالات)[24].

 

3- وقال السعدي رحمه الله: (أَمَرَ بِرَدِّ كلِّ ما تنازع الناسُ فيه من أصول الدِّين وفروعِه إلى الله وإلى رسوله أي: إلى كتابِ الله، وسُنَّةِ رسوله؛ فإنَّ فيهما الفَصْلَ في جميع المسائل الخلافية؛ إمَّا بصريحهما أو عمومهما، أو إيماءٍ، أو تنبيهٍ، أو مفهومٍ، أو عمومِ معنًى يُقاس عليه ما أشبهه؛ لأنَّ كتاب الله، وسُنَّةِ رسولِه عليهما بناءُ الدِّين، ولا يستقيم الإيمانُ إلاَّ بهما.

 

فالردُّ إليهما شرطٌ في الإيمان، فلهذا قال: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ فدلَّ ذلك: على أنَّ مَنْ لم يردَّ إليهما مَسائِلَ النِّزاعِ فليس بمؤمنٍ حقيقة، بل مُؤمِنٌ بالطاغوت، كما ذَكَرَ في الآية بعدها، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي: الردُّ إلى الله ورسوله ﴿ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ فإنَّ حُكْمَ اللهِ ورسولِه أحسنُ الأحكام، وأعدلُها، وأصلحُها للناس في أمرِ دِينهم، ودُنياهم، وعاقِبتهم)[25].

 

السبب السادس: أخْذُهم العقيدةَ من الكتاب والسُّنة:

كل ما جاء في الاعتقاد عن السلف الصالح إنما أخذوه من الكتاب والسنة، وليس من عند أنفسهم، مهما بلغ الواحد منهم في الاجتهاد والرَّأي، فإنهم يعتمدون اعتماداً كاملاً على نصوص الوحيين، وفي هذا الشأن يقول ابن تيمية رحمه الله: (لَيْسَ الاعْتِقَادُ لِي، وَلا لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي؛ بَلْ الاعْتِقَادُ يُؤْخَذُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ. يُؤْخَذُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الأحَادِيثِ الْمَعْرُوفَةِ، وَمَا ثَبَتَ عَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ)[26].

 

وقال رحمه الله - في مَوضِعٍ آخَر: (اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ، وَاعْتِقَادُ سَلَفِ الإسْلامِ؛ كَمَالِكِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِي، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه؛ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمَشَايِخِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ؛ كالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارانِي، وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلاءِ الأئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ نِزَاعٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ... وَاعْتِقَادُ هَؤُلاءِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ)[27].

 

السَّبب السابع: ارتباطُهم بفهم السَّلف الصَّالح:

ارتبط أهلُ السُّنة ارتباطاً وثيقاً بفهم السلف الصالح؛ الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسانٍ، فهم يُعَوِّلون في فهم النصوص ومعرفةِ دلالتها على ما جاء عن الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسان؛ لأن الأفهام قد تضلُّ وتنحرف، ولهذا يرتبط أهل السنة والجماعة غاية الارتباط بفهم الصحابة للنصوص والأدلة؛ وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]. وسبيلُ المؤمنين: هو طريقهم في عقائدهم وعباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم، وهو أيضاً ما أجمعت عليه الأمة المحمدية[28].

 

قال ابن كثير رحمه الله: (﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ﴾ أي: ومَنْ سلك غيرَ طريقِ الشريعة التي جاء بها الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فصار في شِقٍّ، والشَّرعُ في شِقٍّ، وذلك عن عَمْدٍ منه، بعدما ظهر له الحقُّ، وتبيَّن له، واتَّضح له. وقوله: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ هذا مُلازِمٌ للصِّفة الأُولى، ولكن قد تكون المُخالفة لِنَصِّ الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأُمَّة المُحمَّدية، فيما عُلِمَ اتِّفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضُمِنَتْ لهم العِصمةُ في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفًا لهم، وتعظيماً لِنبيِّهم)[29].

 

وقد عرَّف العلماءُ أهلَ السُّنة؛ مَنْ هم؟ وبِمَ يُعرفون؟ فقال السَّجزي رحمه الله - في تعريفِهم ووصفِهم: (فأهلُ السُّنة: هم الثَّابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السَّلف الصالح رحمهم الله، عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابِه رضي الله عنهم فيما لم يثبت فيه نَصٌّ في الكتاب، ولا عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم رضي الله عنهم أئِمَّةٌ، وقد أُمِرْنا باقتداءِ آثارِهم، واتِّباعِ سُنَّتِهم، وهذا أظهرُ من أنْ يحتاج فيه إلى إقامة برهان. والأخْذُ بالسُّنة واعتقادُها مِمَّا لا مِريةَ في وجوبه)[30].

 

ويقول الآجُرِّي رحمه الله: (علامةُ مَنْ أراد اللهُ به خيراً: سلوكُ هذه الطريق؛ كتاب الله، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، وما كان عليه أئِمَّة المسلمين في كلِّ بلد، إلى آخِرِ ما كان من العلماء؛ مثل الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلاَّم، ومَنْ كان على مِثل طريقتِهم، ومُجانَبَةُ كلِّ مذهبٍ يذمُّه هؤلاء العلماء)[31].

 

الخلاصة:

نخلص مِمَّا سبق أنَّ ثباتَ أهلِ السنة والجماعة على منهجهم وعلى الحقِّ الذي معهم إنما مردُّه إلى تمسُّكِهم بقواعدَ راسخةٍ، وأُسُسٍ ثابتة، تَوَارَثوها وتربَّوا عليها، واستمرَّت مع تعاقب الأيام والأعوام دون أن يُصيبها عَوَار أو خَلَل، فاتَّسَقَ أوَّلُها مع آخِرِها، ووافَقَ آخِرُها أوَّلَها مِمَّا أضفى على المنهج وضوحاً واستقراراً وثباتاً، سواء في التَّنظير أو عند التَّطبيق، يَلْتَفُّ حولَه المنتسبون إليه، ويُضَمُّون إلى بعضهم البعض سالكين طريقاً واحداً بِلا شططٍ ولا خلل، وإذا كانت المناهج الفكرية تتغيَّر وتتبدَّل وتُراجِعُ نفسَها في قواعدِها وأصولها، فهذا لم نَرَهُ في منهج أهلِ السنة والجماعة لِقُوَّتِه وموافقتِه الحقَّ المبين.



[1] انظر: أهل السنة والجماعة، (ص426).

[2] رواه البخاري، (2/ 710)، (ح3655).

[3] فتح الباري، (7/ 167).

[4] صفة الصفوة، (2/ 350).

[5] تاريخ الطبري، (5/ 193ـ195) بتصرف واختصار.

[6] المنتظم، لابن الجوزي (7/ 82)؛ سير أعلام النبلاء، (16/ 148).

[7] مجموع الفتاوى، (4/ 50، 51) باختصار.

[8] أصحاب الأدلة السمعية: هم أهل السنة والجماعة.

[9] الصواعق المرسلة، (2/ 741، 742).

[10] صيد الخاطر، (ص119).

[11] تفسير السعدي، (1/ 39).

[12] طريق الهجرتين، (ص431).

[13] مجموع الفتاوى، (18/ 305).

[14] صيد الخاطر، (ص16).

[15] مجموع الفتاوى، (13/ 135، 136).

[16] مجموع الفتاوى، (19/ 155، 156).

[17] هذه الآية الكريمة نزلت بعرفة، يوم الجمعة، في حجة الوداع بعد العصر، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم على ناقته: العضباء. انظر: صحيح مسلم، (4/ 2313)، (ح3017).

[18] وَجْهُ إكمالِ الدِّين: أنه كان قبل الهجرة مقصورًا على الشهادتين، والصلاةِ، ولمَّا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ التشريع ينزل يومًا بعد يوم؛ حتى كَمُلَ وأعلن عنه اللهُ سبحانه تعالى في حجَّة الوداع.

[19] أيسر التفاسير لكلام العلي القدير، لأبي بكر الجزائري (1/ 591، 592).

[20] تفسير السعدي، (1/ 219).

[21] رواه مسلم، (1/ 76)، (ح403).

[22] شرح النووي على صحيح مسلم، (2/ 188).

[23] تفسير القرطبي، (5/ 261).

[24] تفسير ابن كثير، (2/ 345).

[25] تفسير السعدي، (1/ 183).

[26] مجموع الفتاوى، (3/ 203).

[27] مجموع الفتاوى، (5/ 256).

[28] انظر: تفسير السعدي، (1/ 202).

[29] تفسير ابن كثير، (2/ 412).

[30] رسالة السجزي إلى أهل زبيدٍ في الرد على مَنْ أنكر الحرف والصوت، (ص99).

[31] الشريعة، (1/ 22).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • كفوا عن تبديع أهل السنة!
  • الرجاء والخوف عند أهل السنة
  • التعريف الاصطلاحي لأهل السنة والجماعة
  • هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة؟
  • العمل بالمحكم والإيمان بالمتشابه عند أهل السنة
  • استدلال أهل السنة على أصول الاعتقاد
  • الثبات على الدين وأسبابه (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • الثبات على الدين (2) الطريق إلى الثبات (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • الثبات على الدين (3) ثبات الرسل عليهم السلام(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • الثبات... الثبات...(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الثبات الثبات عباد الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • يا مسلمي أوربا: الثبات الثبات(مقالة - المسلمون في العالم)
  • الثبات والمرونة في الدعوة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الثبات على الدين (6) التثبيت بأخبار الصحابة رضي الله عنهم(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • خطبة الثبات على الدين(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • الثبات على الدين (5) التثبيت بالسيرة النبوية(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • الثبات على الدين (4) التثبيت بالقرآن الكريم(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب