الأقليات المسلمة والمعدومون

الأقليات المسلمة والمعدومون

بعد أن كتبت عن بعض الصور للأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا، اطلعت على كتاب صدر عن سلسلة كتاب "الأمة" بعنوان "الحرمان والتخلف في ديار المسلمين" لمؤلفه الدكتور نبيل صبحي الطويل في طبعته الأولى في شوال 1404هـ -وكنت في مقالتي السابقة قد أكدت على حاجة الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا للدعم المادي والمعنوي من رجال المسلمين وأهل الخير في بلاد الإسلام للتوسع في إنشاء المراكز الإسلامية والمدارس والمستشفيات والمكتبات وتشغيل القوى العاملة المسلمة هناك.

وفي الكتاب المذكور أعلاه وجدت المؤلف بعد أن استعرض أحوال المسلمين في بعض البلاد المسلمة مؤيدًا ذلك بالتقارير والأرقام، وجدته يقول: "ما بال أقوام يوجهون جهودهم المالية في مؤسساتهم المسلمة إلى بلاد الغرب لدعم جاليات مسلمة هناك، وأكثرها مكتفٍ ماليًّا وذو دخل كبير؟" ص139، ثم يمضي الكاتب في محاولة إعطاء فكرة عن الأولويات في إنفاق أموال أهل الخير، سواء كان المنفقون أفرادًا أو هيئات تخدم هذا الغرض.

ولست هنا أحاول أن أقف معارضًا لفكرة الكاتب أو ناقضًا لها، فهو قد عمل في الميدان الصحي في مناطق المسلمين، وعايش المشاكل التي يعيشها المسلمون في آسيا وإفريقيا؛ ولذلك فهو يدرك ما يقول بعد أن توصل إلى هذا الرأي،ولكنني هنا أريد أن أقف معه وقفة واحدة لعلها تكون نقطة لقاء بين ما يدعو إليه الكاتب في مؤلَّفه وبين ما يدعو إليه مجموعة من الكتاب الذين عُنُوا بالأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا؛ إذ إنه في الوقت الذي عايش فيه كاتبنا المشكلات التي تحدث عنها ودعا في النهاية إلى توجيه الجهد للقضاء عليها في بلاد المسلمين، في الوقت ذاته نرى أن هناك مجموعة ممن يكتبون عن الجانب الآخر قد عايشوا هم مشكلات الأقليات المسلمة ورأوا من قريب أو بعيد نتائج الدعم الذي تلقاه هذه المجموعات، ورأوا كذلك عن كثَبٍ تأثير وجود مراكز لا تقتصر على "صرف المال الكثير على اجتماعات ولقاءات وزيارات وحفلات في الخارج يكثر فيها الكلام.." كما يذكر الكاتب، ولا يمنع هذا من وجود نماذج قليلة جدًّا تسيء إلى الفكرة، وتجعل من حوادث تطرأ أحيانًا حجة على العمل الإسلامي في "الشمال".

نقطة اللقاء التي نقترحها لتجمع بين هذه الفكرة وتلك أن توجه الجهود إلى هذا المجال في الوقت ذاته الذي توجه فيه الجهود إلى ذلكم المجال، ويكون لهذا رجاله، ولذلك رجاله، ويكون لهذا ممولوه، ولذلك ممولوه، وأهل الخير - بعد أن توضح لهم الصورة، ويلتقطوها من جهات يثقون بها - لن يترددوا في بذل الخير في كل ما يعود عليهم وعلى إخوتهم وأبنائهم بالخير.

وأنا أعلم أن هناك بعض الأفراد ممن ساروا نحو توجيه مجهوداتهم إلى أوروبا وآسيا، وقاموا بإنشاء المدارس والمساجد والمستشفيات، والحصول لأبناء هذه المناطق على منح دراسية في الجامعات العربية، وفي مجالات علمية مختلفة، إلى جانب مشروعات وبرامج أخرى كانت تقابل بالترحيب المنقطع النظير من قبل الأهالي الذين يتشوقون بصدق إلى أولئك الذين تربطهم معهم العقيدة ليأتوا ويسهموا في القضاء على مشكلات متعددة تمر بها هذه المجموعات من الناس.

ويعمل هؤلاء الأفراد في هذا الجانب في وقت لم ينكروا فيه عمل إخوة لهم ركزوا جهودهم على تنمية الوجود الإسلامي بصورته الواضحة في أوروبا وأمريكا، وعملوا على إنقاذ أجيال مسلمة من أن ينحرفوا مع من انحرف في تيار المادية وسطحية العلاقة مع الله.

يذكر لي أحد المقيمين في إحدى البلاد الأوروبية أنه لولا فضل من الله عليهم بأن قيض لهم مركزًا إسلاميًّا - هو عبارة عن شقة - لكانوا في حالة لا يستطيع أن يتصورها هو، إلا أنه لكونه منفردًا عن محيطه الإسلامي الجماعي في وسط غير إسلامي فإنه لا بد أن يعتريه - كما يعتري غيره - الخمول والكسل، وضعف الثقافة، وقلة الحافز؛ وذلك لبعده عن أسلوب الجماعة التي يقوي بعضها بعضًا،ولا أرى هنا أن تترك هذه المجالات في سبيل توجيه الجهد والمال إلى المجالات المحلية في العالم الإسلامي دون شمولها للمسلمين المقيمين في مجتمعات غير إسلامية، كما أن ما أعنيه هنا لا يمكن أن يكون على حساب مجهود آخر، بمعنى أن تغفل حاجة في سبيل تحقيق حاجة أخرى قد يبدو أنها أولى من تلك وأكثر ضرورة مع التصور التام والاعتراف بأن الحاجة قائمة.

وإذا كان الكاتب يدعو إلى عدم الاقتصار على مجموعة من الأفراد التي تقوم بمثل هذه الأعمال في ديار المسلمين، فيدعو إلى التوسع في هذا من خلال الهيئات والمنظمات الإسلامية، فإنها دعوة حقة لها جذورها من خلال ما تقوم به هيئات، مثل: رابطة العالم الإسلامي، والندوة العالمية للشباب المسلم، وغيرها، فالتوسع في هذه الجهود أمر مطلوب ومرغوب فيه، وتقع على عاتق القائمين على هذه الهيئات مسؤولية كبرى حيالها، ولا إخالهم يغفلون عن ذلك، ولكني أعتقد أنهم يبذلون قصارى جهدهم لإيلائها الأهمية والعناية مع النقص الملموس في القوى العاملة الخبيرة المدربة التي يكون لديها الاستعداد التام لبذل الكثير من الجهد الذي لا تقابله مكافأة أو راتب؛ لأنه يندرج في مضمار الدعوة إلى الله وتبصير المسلمين بأمور دينهم، وهي عمومًا تعمل وتتوسع يومًا بعد الآخر في ثقلها وتأثيرها ووضوح مجهوداتها لكثير من الناس، وفي هذا دلالة على أنها تقدم من الخدمات ما يفرض وجودها،ولا شك أن القائمين في مثل هذه الهيئات يرحبون ترحيبًا عمليًّا بكل مجهود - مدروس - من شأنه أن يكون امتدادًا للجهود التي تقوم هي بها، ويؤكد هذا المنحى دائمًا على لسان المسؤولين في هذه المنظمات أو الهيئات.

والذي لا بد من التأكيد عليه هنا هو أن إقامة المراكز الإسلامية وما يتبعها في أوروبا وأمريكا قد يكون مصدرًا من المصادر التي يعتمد عليها اعتمادًا غير بسيط في "تمويل" المشروعات والبرامج المقامة للاهتمام بالمسلمين في إفريقيا وآسيا؛ فقد ساهمت هذه المراكز - في أوقات متفرقة - في بيان الصورة الحقيقية التي يعيشها إخوة مسلمون يمرون بظروف قاسية لأسباب كثيرة، فإفريقيا قد نالها ما نالها من مساهمات المراكز في سبيل التغلب على موجة الجفاف التي تمر بها، والمجاهدون في أفغانستان والمهاجرون منهم قد تلقوا ما تلقوه من المراكز الإسلامية في أمريكا وأوروبا من مساعدات عينية ومادية، إذًا لعل من الخير الذي أَجْدَتْهُ هذه المراكز - بالإضافة إلى ما تقوم به محليًّا - امتداد خدماتها وجهودها إلى بلاد المسلمين التي تعاني المشاكل، وبلاد المسلمين التي لا تبدو فيها المشاكل واضحة، ولا يشك مَن تابع مجهودات هذه المراكز أنها خرجت رجالًا ونساءً صالحين ممن بقوا هناك وممن عادوا إلى بلاد المسلمين ليعرفوا إخوتهم الآخرين على مواطن بذل الخير، ويقربوهم من الاهتمام بأمور المسلمين الآخرين بأساليب علمية موضوعية خالية من سيطرة العاطفة وتتبع الجوانب التي تسيء إلى مسيرة الخير المبارك،جهود هؤلاء وجهود أولئك كلها مجتمعة تجعل المرء يخرج بنتيجة أن أبواب الخير كثيرة، وأن كثيرًا من المسلمين هم بحاجة إلى بعضهم البعض، بغض النظر عن المكان الذي يوجدون فيه، وكان الله في عون الجميع.

"الجزيرة" العدد 4909 (السبت 27 جمادى الآخرة 1406هـ/ 8 مارس 1986م).