شرح حديث: هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟

شرح حديث: هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ رضي الله عنها إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فَهَلْ على المرأة مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ" فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: "تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا".

وجاء بنحوه عند مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن نَبِيًّ اللّهِ قال: "نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلاَ، أَوْ سَبَقَ، يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ".

وفي رواية قالت عائشة رضي الله عنها: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحْتِ النِّسَاءَ.

ولمسلم أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه وفيه قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا عَلاَ مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ، وَإِذَا عَلاَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامَهُ".

ألفاظ الحديث:

• (أُمُّ سُلَيْمٍ): سهلة بنت ملحان - بكسر الميم على الأشهر - أم أنس بن مالك رضي الله عنه وقيل: اسمها مليكة، وقيل:رميثاء وقيل غير ذلك وهي أخت أم حرام بنت ملحان، كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية فلما أسلمت غضب زوجها وخرج إلى الشام فهلك ثم خطبها أبو طلحة فقالت: إن أسلمت تزوجتك ولا أريد منك صداقاً غيره، فأسلم وتزوجها.

• (إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ): أي لا يمتنع من بيان الحق، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53]، والله عز وجل يبين الحق ويوضحه للناس ويوصف بالحياء ولكن الحياء لا يمنعه أن يبين لعباده ما به صلاحهم كما أن الحياء لا يمنع العباد أن يسألوا عما أشكل عليهم من أمرالدين، فقدمت أم سليم هذا القول تمهيداً لعذرها في ذكر ما يستحيا منه.

والحياء لغة: التغير والإنكسار، وشرعاً: خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق الغير.

( ويستحي) بياء واحدة من (استحى) و (يستحيي) بيائين من (استحيا) وكلاهما جائز [انظر: " تهذيب اللغة " (5/ 288)].

• (إِذَا احْتَلَمَتْ): أي إذا رأت المرأة في المنام أنها تُجَامَع، فالاحتلام: هو ما يراه النائم ويُخَّيل إليه أنه يجامع فينشأ عن ذلك أحياناً إنزال المني.

• (نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ): أي إذا أبصرت الماء وهو المني والمقصود تحقق وقوعه.

• (تَرِبَتْ يَدَاكِ): أي ألصقت بالتراب من الفقر، وهذه من الألفاظ التي يطلقها العرب ولا يريدون بها ظاهرها.وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قالها ولم يرد بها الدعاء كقوله (ثكلتك أمك يا معاذ) وقوله (عقرى حلقى) فهي من الألفاظ التي تجري مجرى اللسان ولا يراد بها معناها الأصلي وتطلق عند الزجر أو الإنكار أو الاستعظام أوالتعجب.

قال أبو عبيدة: قوله تربت يداك، يقال للرجل إذا قَّل ماله: قد تَرِبَ أي أفتقر حتى لصق بالتراب [انظر: " لسان العرب" مادة: ترب)].

• (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحْتِ النِّسَاءَ): أي حكيت عنهن أمراً يستحيا من وصفهن به ويكتمنه.

من فوائد الحديث:

الفائدة الأولى: في الحديث دلالة على أنه ينبغي للإنسان أن يسأل عما يحتاج إليه حتى في الأمور التي يُستحيا منها وأن من حسن المخاطبة أن يُقدِّم أمام كلامه الذي يستحيا منه مقدمة تناسب المقام كما فعلت أم سُليم وهذا من حرصها على الفقه في الدين وحسن أدبها، فيبنغي لمن عرضت له مسألة أن يسأل عنها، ولا يمتنع من السؤال حياءً من ذكرها، فإن ذلك ليس بحياء حقيقي، لأن الحياء خير كله والحياء لا يأتي إلا بخير كما سبق في كتاب الإيمان وعدم السؤال في هذا الأمر ليس بخير بل هو شر فلا يكون حياءً بل ضعف وخجل فهو حياء مذموم ويطلق عليه حياءً مجازاً لا حقيقة لأن فيه معنى الحياء لغة وهو: التغير والإنكسار، فينبغي ألا يمنع الحياء من التفقه في الدين وسيأتي قريباً قول عائشة رضي الله عنها " نعم النساءُ نساءُ الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين ".

الفائدة الثانية: في قولها " إن الله لا يستحي من الحق " نفي صفة الحياء من الحق عن الله تعالى وذلك لكمال عدله ورحمته.

وصفة الحياء والاستحياء صفة ثابتة لله عز وجل على ما يليق بجلاله، ولا يشابه فيه خلقه كسائر صفاته، وهي صفة ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة و (الحيي) من أسمائه تعالى.

فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [سورة البقرة: 26].

وقوله: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53].

ومن السنة: " حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه مرفوعاً: ".... وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه " رواه البخاري ومسلم، وحديث يَعْلي بن أمية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حييّ ستّير يحب الحياء والستر " رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

وقال ابن القيم في " النونية " (2/ 80):

وهو الحييُّ فليس يفضحُ عبده عند التجاهر منه بالعصيان لكنَّه يُلقي عليه ستره فهو السِّتِير وصاحب الغفران

الفائدة الثالثة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم إذا رأت الماء " يؤخذ منه عدة أمور منها:

الأمر الأول: أن المرأة تحتلم كما يحتلم الرجل وأن عليها الغسل كالرجل إذا أنزلت بسبب الاحتلام، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها حين أنكرت احتلام المرأة وكذلك عائشة رضي الله عنها كما في بعض الروايات فقال لها: " تربت يداك فبم يشبهها ولدها ".

والأمر الثاني: أن العبرة في الإغتسال بعد الاحتلام بوجود الماء وهو المني، أما إذا رأى النائم أنه يجامع، وأنه قد أنزل ثم استيقظ ولم ير شيئاً فلا غسل عليه بإجماع المسلمين كما نقله النووي [انظر: " شرح مسلم 3/ حديث 310)]

وكذلك لو اضطرب بدنه لمبادي خروج المني أو أحس بانتقاله ولم يخرج فلا غسل حتى يخرج المني سواء كان مناماً أو يقظة فالعبرة بخروجه لحديث الباب (إذا رأت الماء) ولم يقل أحست بانتقاله، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم مرفوعاً: " إنما الماء من الماء " أي أن خروج المني يوجب الغسل ومفهومه أنه إذا لم يخرج ماء المني فلا يجب في حقه ماء الغسل، ولأن الأصل بقاء الطهارة.

والأمر الثالث: أن المحتلم إذا رأى أنه يجامع فلا يخلو من ثلاث حالات:

الحال الأولى: أن يذكر الاحتلام ويرى المني، فهذا يجب عليه الغسل لحديث الباب حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم إذا رأت الماء ".

الحال الثانية: أن يرى أنه جامع ولم ير المني بعد استيقاظه فهذا لا غسل عليه لمفهوم قوله (نعم إذا رأت الماء)فمفهومه إذا لم تر ماء فلا غسل عليها.

الحالة الثالثة: أن يرى بللاً بعد استيقاظه ولا يذكر احتلاماً فهذا لا يخلو من ثلاث حالات:-

الأولى: أن يتيقن أن هذا البلل منياً فيجب عليه الغسل سواء ذكر احتلاماً أم لم يذكر.

الثانية: أن يتيقن أن هذا البلل ليس منياً فلا يجب عليه الغسل لكن يجب عليه أن يغسل ما أصابه لأن حكمه حكم البول.

الثالثة: أن يجهل كونه منياً أم لا؟ وتيقن أنه ليس مذياً حيث لم يسبق نومه تفكير في الجماع لأن المذي قد يخرج بعد التفكير في الجماع والاستمتاع دون إحساس فإن كان كذلك جعله مذياً فيغسل ما أصاب ثوبه وبدنه منه وإن لم يكن كذلك فللعلماء قولان: أحدهما لا يجب الغسل وهو الأقوى لأن الأصل براءة الذمة والآخر يجب الغسل وهو الأحوط فقد يرى الإنسان في منامه شيئاً ثم ينساه.

الفائدة الرابعة: في حديث أنس رضي الله عنه بيان لصفة مني الرجل وصفة مني المرأة فالرجل أبيض غليظ والمرأة أصفررقيق.

قال النووي: " ثم إن خواص المني التي عليها الاعتماد في كونه منيَّاً ثلاث: أحدها: الخروج بشهوة مع الفتور عقبه، والثانية: الرائحة التي تشبه الطلع كما سبق، والثالثة: الخروج بزريق ودفق دفعات، وكل واحدة من هذه الثلاث كافية في إثبات كونه منياً ولا يشترط اجتماعها فيه.... وأما مني المرأة فهو أصفر رقيق وقد يبيض لفضل قوتها، وله خاصيتان يعرف بواحدة منها: إحداهما أن رائحته كرائحة مني الرجل، والثانية: التلذذ بخروجه و فتور شهوتها عند خروجه " [انظر: "شرح مسلم" 1/ 310)].

الفائدة الخامسة: في الحديث بيان أن شبه الولد بأمه وبأخواله وهم أهل أمه أو بأبيه وبأعمامه وهم أهل أبيه إنما يكون بسبق أو علو ماء الرجل على المرأة أو العكس، وذلك أن الجنين يُخلق من نطفتي الرجل والمرأة كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [سورة الإنسان: 2]،
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا ثم ينتقل بعد طور إلى طور وحال إلى حال ولون إلى لون، وهكذا. قال عكرمة ومجاهد، والحسن والربيع بن أنس: الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة [انظر: " تفسير ابن كثير" (8/ 310)].

وأحاديث الباب فيها دليل على أن شَبَه الولد - ذكراً أو أنثى - بأمه أو بأبيه مبني على سبق أحد المائين فإذا سبق أحدهما كان الشبه له، واختلف في المراد بالعلو في قوله " فمن أيهما علا " وفي الحديث الآخر " إذا علا ماؤها ماء الرجل " فقيل إن المراد بالعلو هنا السبق فيكون اللفظان بمعنى واحد، وقيل المراد بالعلو الكثرة والقوة، أي بحسب كثرة الشهوة.

ونزع الولد إلى أحد الشبهين هو ما يسميه الأطباء اليوم بقانون الوراثة.

مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الطهارة).