الوصية بإخلاص الدين لله عز وجل، وبيان أحكام رمي الجمار والإنابة فيه ووقته.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد، وعلى آله ورضي الله عن أصحابه أجمعين.

وبعد:

فإنه يجب على الحاج أن يتعلم ما تلزمه معرفته من أحكام الحج ومن ذلك ما يتعلق برمي الجمار والإنابة فيه ووقت الرمي امتثالًا لقوله  - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم».

وأهم هذه الأحكام ما يلي:

الأول: أن يخلص لله عز وجل في جميع عباداته بأن لا يبتغي بها إلا الله والدار الآخرة وأن يحذر فعل العبادة ومنها: الحج رياءً وسمعة أو من أجل الدنيا فإن الله - عز وجل - لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم صوابًا على سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .

الثاني: أن ينتخب الحاج النفقة الحلال وأن يحذر المكاسب المحرمة فإنها سحت وفي الحديث: «لحم نبت من سحت النار أولى به»، والصدقة من الحرام لا يقبلها الله لأنه سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً، والذي يحج بالمال الحرام إذا قال: اللهم لبيك لبيك، يناديه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادُك حرام وراحلتك حرام وسعيك مأزور غير مأجور.

الثالث: أن يحقق الحاج الحكمة في مشروعية الرمي بإقامة ذكر الله تعالى منذ التقاطه الحصى حتى ينتهي من الرمي ويرجع إلى منزله وذلك باستحضاره النية الصالحة والدعاء بالمأثور منذ يخرج وتكبيره مع كل حصاة يرميها، ويجتهد في مساعدة المحتاج وإرشاد الجاهل فهذا من أعظم منافع الحج.

الرابع: أن يحرص الحاج على أن يرمي بنفسه إذا كان مستطيعاً ولا يلحقه ضرر من الذهاب إلى الجمرات لأن الإنابة لا تصح إلا للعاجز أو المرأة التي لا مرافق معها من محارمها أو الصغير إذا كان وحده ولو كان مميزاً.

الخامس: يجتهد أكثر الحجاج ويبذل جهده إلى درجة تعريض نفسه للهلاك من أجل الوصول إلى الحوض، وهذا التصرف ليس مشروعاً إذْ لم يجعل الله سبحانه عليه في الدين من حرج، والواجب هو أن يبذل الحاج وسعه حتى يصل إلى المكان الذي يرى منه الشاخص ولا يشق على نفسه فإذا خاف على نفسه شدة الزحام وقف ورمى من مكانه نحو الشاخص سبع حصيات يكبر مع كل حصاة ورميه صحيح حتى لو لم تصل أي حصاة إلى الشاخص ولا إلى الحوض، وما ذكره بعض الفقهاء من لزوم إيصال الحصى إلى الحوض تكلف وتكليف لا دليل عليه لأن الحوض حادث لم يُبْنَ إلا في نهاية القرن الثالث عشر الهجري وأما الشاخص فقد بُني للدلالة على الموقع الذي يَرْمِي نحوه الحاج والله سبحانه لا يناله حصى الرامي وإنما يناله تقواه له سبحانه، والعلماء من كل مذهب يشاهدون أكثر الحجاج لا يصل حصاهم إلى الحوض ولا إلى الشاخص ولم ينكر أحد منهم ذلك أو يقل ببطلان الرمي لأنه المستطاع.

السادس: أما وقت الرمي فهو نوعان: وقت فضيلة تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من بعد طلوع الشمس يوم النحر بالنسبة لجمرة العقبة، ومن بعد زوال الشمس إلى آخر النهار بالنسبة للجمرات الثلاث في أيام التشريق الثلاثة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن تأخر، والنوع الثاني: وقت جواز يبدأ بالنسبة لجمرة العقبة من آخر ليلة العيد بعد منتصف الليل إلى نهاية ليلة الحادي عشر، وبالنسبة للجمرات الثلاث في أيام التشريق له وقتان: وقت جواز إلى آخر الليل، ووقت إباحة دعت إليه ضرورة كثرة الحجاج وشدة الزحام وهو من طلوع الفجر إلى آخر الليل.

السابع: يجوز أن يؤخر الحاج رمي جميع الجمرات فيرميها بعد الزوال في اليوم الثاني عشر إن تعجل أو الثالث عشر إن تأخر ولكن يجب عليه أن يرمي كل يوم على حده بالترتيب، فإذا رمى الجمرات الثلاث عن اليوم الحادي عشر مبتدئاً بالصغرى ثم الوسطى ثم العقبة رجع ورمى عن اليوم الثاني وهكذا، وإن لم يرم جمرة العقبة في يوم العيد رماها أولاً ثم رجع فرمى الثلاث عن أيام التشريق مرتبة كما تقدم.

الثامن: ويُسن أن يجعل الجمرة الصغرى على يساره ثم يبتعد عنها ويقف ويدعو متوجهاً إلى القبلة، ويجعل الوسطى على يمينه، فإذا رماها ابتعد عنها ووقف ودعا الله سبحانه متوجهاً إلى القبلة رافعاً يديه في دعائه عند الجمرتين، أما العقبة فيرميها من جهة الوادي لأنها لا تُرمى من الخلف بخلاف الصغرى والوسطى فإنهما تُرميان من كل جهة ولكن السنة كما ذُكر ولا يقف عند جمرة العقبة وذلك كله تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما من يرمي من فوق فيصح له رمي جمرة العقبة من كل الجهات لأن المرمى مبني على هيئة يصل منها الحصى إلى المرمى في الأرض.

التاسع: للرجل أن يرمي عن نفسه وموكليه في مقام واحد.

العاشر: لا يصح التوكيل في الرمي إلا لحاج، أما غير الحاج فلا يصح توكيله.

الحادي عشر: لابد من علم الموكل فلا يرمي أحد عن أحد إلا بعد أن يوكله المعذور.

الثاني عشر: لا يصح للحاج أن يوكل من يرمي عنه ويوادع ويخرج من مكة قبل انتهاء اليوم الحادي عشر وليلة الثاني عشر وضحاه، فمن فعل ذلك مختاراً وهو يعلم الحكم فهو آثم ورميه ووداعه لا يصحان وعليه التوبة إلى الله سبحانه إلا إن رجع وأقام في منى أيام التشريق وأتم المناسك كما أمره الله تعالى، وأما حجه فهو صحيح لاكتمال شروطه وأركانه، أما الناسي والجاهل فلا شيء عليه لأن الله سبحانه أسقط عنه المؤاخذة كما في آخر سورة البقرة وغيرها.

الثالث عشر: أما إلزامه بالدم فلا دليل عليه على الصحيح سوى حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «من ترك نسكاً فعليه دم» وقد بسطت الأدلة في كتابي (أحكام المناسك) وبينت أن الراجح وقفه وأنه فتوى من ابن عباس رضي الله عنه، والحجة في رواية الصحابي لأنه عدل لا في رأيه لأنه غير معصوم.. فلو كان التكليف بالدم من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما اقتصر على ابن عباس وخفي على عشرات الألوف ممن حجوا معه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كيف لا؟ وقد بيّن للناس ما فيه الفدية والجزاء وهو هدي التمتع والقران، وحلق الرأس، ودم الحصار على من لم يشترط، وجزاء الصيد، ومن القواعد المقررة: سقوط الاستدلال بالدليل إذا تطرق إليه الاحتمال.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.