شوارد وفوائد: من كتاب قيد الصيد (24)

شوارد وفوائد: من كتاب قيد الصيد (24)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد:

فهذه المجموعة الثانية من: "قَيْد الصَّيْد"، تظهر بعد سنوات من المجموعة الأولى.

شاكرًا - بعد شكر الله عز وجل - الإخوةَ الذين استحسنوا مختارات المجموعة الأولى، وأرجو أن أُوفَّق في هذه الثانية.

وقديمًا قيل: "اختيار المرء قطعةٌ من عقله".

نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

سَفَرٌ وسَفَر:

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -:

"لَمَّا سافر موسى إلى الخَضِر، وجد في طريقه مسَّ الجوع والنَّصَب، فقال لفتاه: ﴿ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 62]؛ فإنه سفرٌ إلى مخلوق، ولما واعده ربُّه ثلاثين ليلة وأتمَّها بعشرٍ، فلم يأكلْ فيها، ولم يجد مسَّ الجوع ولا النَّصَب، فإنه سَفَرٌ إلى ربّه - تعالى - وهكذا سَفَر القلب وسَيْره إلى ربِّه، لا يجدُ فيه من الشقاء والنصب ما يجده في سفره إلى بعض المخلوقين"[1].

• • •

بالرفاء والبنين:

قال الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى -:

"ولا يقول - أي: عند التهنئة -: بالرفاء والبنين، كما يفعل الذين لا يعلمون؛ فإنه من عمل الجاهلية، وقد نُهِي عنه في أحاديث؛ منها: عن الحسن أن عقيل بن أبي طالب تزوَّج امرأة من جُشم، فدخل عليه القوم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تفعلوا ذلك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، قالوا: فما نقول يا أبا زيد؟ قال: بارك الله لكم، وبارك عليكم، إنَّا كذلك كنا نُؤمَر"[2].

• • •

العدل والمساواة:

قال الشيخ العلامة محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى -:

"... وهنا يجب أن ننبِّه على أن من الناس مَن يستعمل بدل العدل المساواة! وهذا خطأ، لا يُقال: مساواة؛ لأن المساواة تقتضي التسوية بين شيئينِ الحكمةُ تقتضي التفريق بينهما.

ومن أجل هذا الدعوة الجائرة إلى التسوية، صاروا يقولون: أيُّ فَرْقٍ بين الذكر والأنثى؟! سوَّوا بين الذكور والإناث.

لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه، زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة.

ولهذا لم يأتِ في القرآن أبدًا أن الله يأمر بالتسوية، لكن جاء: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾ [النحل: 90]، ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].

وأخطأ على الإسلام مَن قال: إن دين الإسلام دين المساواة؛ بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساوييْنِ، والتفريق بين المفترقين؛ إلا أن يُرِيد بالمساواة العدل، فيكون أصاب في المعنى، وأخطأ في اللفظ.

ولهذا أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ﴾ [الرعد: 16]"[3].

• • •

حُفَّاظ:

قال أبو القاسم علي بن محمد التنوخي 278 - 342 هـ:

سمعت أبي - ولي إذْ ذاك خمسَ عشرةَ سنة - يُنشِد بعض قصيدة دِعْبل الطويلة التي يفخر فيها باليمن، ويعدِّد مناقبهم، ويَرُد على الكُمَيت فخره بنزار، وأولها:

أَفِيقي من ملامِكِ يا ظعينا كفاكِ اللومَ مرُّ الأربعينا

وهي نحو ستمائة بيت، فاشتهيتُ حفظَها؛ لما فيها من تفاخر اليمن أهلي، فقلت: يا سيدي، ادفعْها إليَّ حتى أحفظها، فدافعني، فألححتُ عليه، فقال: كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتًا، أو مائة بيت، وترمي بالكتاب، فقلت: ادفعها إليَّ، فأخرجها وسلَّمها إليَّ، فدخلتُ حجرة... وخلوتُ فيها ولم أتشاغل بيومي وليلتي بشيء عن حفظها، فلما كان في السَّحر كنتُ قد فرغت من جميعها، وأتقنتُها، فخرجت إليه غدوة... جلست بين يديه، فقال: هيه، كم حفظت من قصيدة دعبل؟ فقلت: قد حفظتُها بأسرها، فغضب، وقدَّر بأني قد كذَبْته، فقال: هاتِها، فأخرجت الدفتر من كُمِّي، ففتحتُه ونظر فيه، وأنا أُنشِد إلى أن مضيتُ في أكثر من مائة بيت، فَصَفَح منها عدة أوراق، وقال: أنشد من ها هنا، فأنشدته إلى آخرها، فهاله ما رآه من حُسن حفظي، فضمَّني إليه وقبَّل رأسي وعيني، وقال: بالله يا بني، لا تخبر بهذا أحدًا؛ فإني أخاف عليك العين"[4].