خبر نسخة نادرة من (شفا) القاضي عياض بخط الحافظ الوادياشي التونسي ذيلها بترجمة نفيسة للمؤلف

خبر نسخة نادرة من (شفا) القاضي عياض

بخط الحافظ محمد بن جابر الوادياشي التونسي

ذيَّلها بترجمة نفيسة للمؤلف

الحمد لله العزيز الوهاب، والصلاة والسلام على أكمل من أجاد وأصاب، وعلى آله الطيِّبين، وصحابته الأماثل الأمجدين، ومَن سعى سعيَهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإنَّ أجلَّ الفوائد العلمية وأمتعها ما سِيقَ للباحث سوق العارض الحافِل، للظامئ المتطلِّع الآمل، فأخصَب بوابله وحلب، وطَعِمَ سَعْدَ النَّوال، طَعْمَ الشَّهْدِ بماءٍ زُلال.

ومن ذلك قصة الحافظ ابن جابر الوادياشي[1] التونسي[2]، التي وصف فيها دواعي جمعه لقطعة نفيسة ترجمَ فيها للقاضي عياض، وأثبتَها في آخر نسخة خطِّيَّة لكتاب (الشفا)؛ كتبها بخطِّ يده.

قال رحمه الله: (وكنتُ قرأتُه قبل هذا التاريخ[3] بتونس أيضًا على قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن الغَمَّاز[4]؛ بحق روايته له عن الحافظ أبي الربيع بن سالم[5] إجازة - إن لم يكن سماعًا - قال: قرأتُ صدرًا[6] منه على أبي جعفر أحمد بن حكم، وناولنيه، وحدَّثني أنَّه سمعه على مؤلِّفه.

وهذا موضع حكاية تناسب هذا المحلَّ:

لَمَّا وصلتُ في قراءته على شيخنا القاضي من الكتاب لآخر الأبيات التي أولها:

يَا دَارَ خَيْرِ المُرْسَلينَ وَمَنْ بِهِ ♦♦♦ هَدْيُ الأَنامِ وَخُصَّ بالآياتِ

وأراها من نَظم القاضي أبي الفضل، وكان بآخرها انقضاء المجلس، ودعا الشيخ بعده، وكان يحضر مجلسه أكابرُ من العلماء؛ منهم الشيخ أبو محمد عبدالله بن هارون شيخنا أيضًا، ومجلسه عن يسار الشيخ، فأدار وجهَه إليه، وأنشده ارتجالًا:

إِنَّ الشِّفاءَ شِفاءٌ للنُّفـوسِ غَـدَتْ ♦♦♦ تُعْنَى بِآثارِ مَنْ حِيزَتْ لَهُ الأُثُرُ[7]

ثم قال: أجِزْنا يا أبا محمد، فلم يمكنه إذ ذاك إجازة، فحفظتُها أنا مع من حضر، فلمَّا كان في اليوم التالي، وفرغتُ من قراءته، ودعا الشيخ على العادة، ناولني الشيخ أبو محمد رقعةً تمَّم فيها على نسيج البيت، تتضمن مدح الكتاب، والثناء على مؤلِّفه، والدعاء له، والاعتذار عن نظمه:

جَازَى الإِلَهُ العِيَاضِيَّ الإمامَ بِمَا يَجزي بِهِ كُلَّ مَنْ يُحْيَا بِهِ الأَثَرُ أَنْوارُ ذِكْرِ الرَّسولِ المُصْطَفَى ائْتَلَقَتْ تَجْلُو الدَّيَاجِيَ مِنْها الأَنْجُمُ الزُّهُرُ شَمْسُ الضُّحَى أَشْرَقَتْ مِن نورِهِ وَذَكَا مِنْ عَرْفِ رَوْضِ الرُّبَا لِلنَّاشِقِ الزَّهَرُ سِلْكٌ بِهِ ازْدانَ جِيدُ العِلْمِ وانتَظَمَتْ فِيهِ لِجَامِعِهِ الْيَاقوتُ وَالدُّرَرُ أَرْوَتْ ظِمَاءَ الْوَرَى غُرُّ الغَمَامِ بِهِ بِواكِفٍ لِلْحَيَا سَحَّتْ بِهِ الدُّرَرُ جَديدُهُ لَيْسَ يَبْلى الذِّكْرُ مِنْهُ عَلى مَرِّ الجَدِيدَيْنِ تُسْتَجْلَى بِهِ صُوَرُ غَضٌّ يَلَذُّ عَلى الأَسْمَاعِ يَمْلَؤُهَا مِنْهُ السُّرورُ إِذا تُتْلَى لَه سُوَرُ لِلَّهِ دَرُّ ذَوي الأَلْبَابِ قَدْ عَمَروا الْ أَعْمارَ مِنْهُ بِما قَدْ بُورِكَ الْعُمُرُ يُرَدِّدُونَ عَلى الأَسْماعِ ما قَرَؤُوا مِنْهُ فَيا نِعْمَ ما الدُّنْيا بِهِ عَمَرُوا الشِّعْرُ شَاخَ وَكَلَّ الفِكْرُ حِينَ مَضَى عَصْرُ الشَّبابِ وَشَابَ الرَّأْسُ والشَّعَرُ تَمْضِي الْحَياةُ وَأَبْناءُ الزَّمانِ بِهِ فِي غَفْلَةٍ بِانْصِرامِ العُمْرِ مَا شَعَرُوا إِنَّا لَمِنْ بَشَرٍ جَلَّتْ ذُنوبُهُمُ وَاللَّهُ يَصْفَحُ عَمَّا قَدْ جَنَا البَشَرُ الفَضْلُ وَالْكَرَمُ الجَمُّ العَمِيمُ لَهُ جاءَتْ بِهِ لِعَبيدٍ أَذْنَبُوا البِشَرُ

فلمَّا فرغ من قراءتها شكره القاضي والحاضرون، ودعَوا له بالثبات؛ لأنَّه كان عُمرُه وقت نظمها سبعةً وثمانين عامًا على ما ذكر من مولده.

وقد كنتُ أنا سمعتُ على الشيخ أبي محمد هذا من كتاب (الشفا) دُوَلًا لم أضبطها، وأجازَنيه بحقِّ روايته له عن أبي الحسن سهلِ بن مالك الغرناطي، إجازة عن أبي جعفر بن حكَم، عن المؤلف.

وقد حملَتني هده القصيدة على أن جمعتُ قطعة جيدة تضمنَت التعريف بالقاضي عياض وتواليفه، وما قيل فيها، وما وقع لديَّ ممَّا خاطب به الحافظ السِّلَفي وغيرَه، وما وجدتُ له من نظم، أو قيل فيه، وأثبتُّها في آخر (الشفا) الذي كنتُ نسختُه ابتغاء ثواب العلم الجسيم)[8].

قلتُ: فهذه نسخةٌ نادرة جدًّا من نسخِ كتاب (الشفا) الخطِّيةِ الكثيرة، ولا تزال نشراته تتجدَّد بحسب ما يَـجِدُّ من مقتضيات تحقيقه، بَيْدَ أنَّ هذا الذي انتهى به كلام الحافظ ابن جابر مقتضى أنفَس وأحرى بالتقديم من جهتين:

الأولى: أنَّ لكتاب (الشفا) نسخةً مخطوطة بخطِّ الحافظ ابن جابر الوادياشي، وما كان من المخطوطات بخطِّ أهل العلم العارفين أدعى للظفر بنصِّها الأصح الأصفى، فعسى أن لا تكون قد فُقدَت، وأن يكتب الله تعالى سبيلًا إلى العثور عليها.

الثانية: أنَّها مذيلة بترجمة فريدة للقاضي عياض، ومحلها من هذه النسخة الجابرية خفيٌّ؛ لا يهتدي إليه إلَّا باحث حسَن القصد، جميل التوكل[9].

وحق ترجمة القاضي عياض هذه، لو عثر عليها، أن تُطبع مستقلَّة، وأن يحتفى بالخصائص التي ذكرَها لها مؤلِّفها الحافظ ابن جابر رحمه الله.

والحمد لله أولًا وآخرًا.