تعهد السيوطي مؤلفاته بالنظر والزيادة

تعهُّد السيوطي مؤلَّفاتِه بالنظر والزيادة

هذا مقال أردتُ أن يكون مَدْخلاً إلى فهم طريقة السيوطي في التأليف، وبياناً لعناية العلماء بمؤلفاتهم، والعمل على خدمة العلم بأقصى ما يستطيعون من التحرير والتنقيح.

♦    ♦    ♦

كان السيوطي يتعهدُ مؤلفاته بالنظر تصحيحاً وتوضيحاً وتنقيحاً وإضافةً، كما هو شأنُ العلماء الأثبات.

قال تلميذُه الشيخ عبدالقادر الشاذلي بعد أنْ ذكرَ أقسامَ مؤلَّفات شيخه السيوطي التي ذكرها هو: "ولكنها زادتْ كثيراً وامتلأتْ بالفوائد زيادةً على ما كان فيها، لكثرةِ مطالعتهِ وإلحاقهِ فيها"[1].

وقال: "ثم إنَّ الشيخ -رحمه الله- لمّا بلغَ سنَّ أربعين سنة وتعدَّاه أخذ في التجرُّد للعبادة، والانقطاع إلى الله والاشتغال به، والزهد في الدنيا والإعراض عنها وعن أهلها، حتى عن وظائفه، واقتصرَ على تصحيح مؤلَّفاته[2]، وامتنع عن الإفتاء والتدريس..."[3].

وهذه أمثلة ٌوشواهدُ على ذلك:

♦ جاء في آخر كتابه "الإتقان" (النسخة الخطية في وزارة الأوقاف الكويتية): "فرغتُ من تأليفه يومَ السبت ثالث عشري شوال سنة ثمان وسبعين وثمان مئة، سوى أشياء ألحقتُها بعد ذلك"[4].

وقد رأيتُ فيه قوله: "ثم رأيتُ" في ثمانية مواضع.

♦ وقال في مقدمة كتابه "اللآلئ المصنوعة"[5]: "واعلمْ أني كنتُ شرعتُ في هذا التأليف في سنة سبعين[6] وثمان مئة، وفرغتُ منه في سنة خمس وسبعين [875] ،وكانت التعقُّبات فيه قليلة وعلى وجه الاختصار، وكُتِبَ منه عدة نُسخ، ومنها نسخةٌ راحتْ إلى بلاد التكرور، ثم بدا لي في هذه السنة -وهي سنة خمس وتسع مئة- استئنافُ التعقُّبات على وجه مبسوط، وإلحاقُ موضوعاتٍ كثيرةٍ فاتتْ أبا الفرج [ابن الجوزي] فلم يذكرها، ففعلتُ ذلك[7]، فخرج الكتابُ عن هيأته التي كان عليها أولاً، وتعذَّرَ إلحاقُ ما زدتُهُ في تلك النُّسخ التي كُتِبتْ، إلا بإعدام تلك، وإنشاء نسخٍ مُبتدأةٍ، فأبقيتُ تلك على ما هي عليه، ويُطلق عليها الموضوعات الصُّغرى، وهذه الكبرى، وعليها الاعتماد".

♦ وقد اعتمد محقِّقُ "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" على خمس نسخ خطية وقال في تقديمه له: "تبيَّنَ لنا أنَّ النُّسخ الثانية والثالثة والرابعة والخامسة زادتْ على نسخة الأصل بمقدار الربع تقريباً، وعلى هامش النسخة (ب) بلاغاتٌ بخطِّ المؤلِّف ممَّا يدلُّ على أنَّ المؤلِّف زاد على كتابه أو أعاد تأليفه، والزيادة هي أخبارٌ وآثارٌ ضمن أبوابٍ لها تعلقٌ بالموضوع"[8].

♦ وقال رحمه الله في رسالته "الفوائد البارزة والكامنة في النِّعم الظاهرة والباطنة"[9]: "عدة ما ذكرتُه [من الأقوال] اثنان وسبعون".

وقد علَّقتُ على هذا بقولي: "المذكورُ ستة وسبعون قولاً، فلعل المؤلِّفَ أضافَ أربعة أقوال بعد كتابتهِ ما كتبَ".

وقد وقفتُ بعدُ على نسخةٍ أخرى من هذه الرسالة: "الفوائد البارزة والكامنة" كُتِبَ عنوانُها بخط السيوطي نفسِه، فرأيتُه أضافَ أربعةَ أقوال على الحاشية بخطِّه، فصحَّ ما توقعتُهُ. وهذا يُشير إلى تعهّده مؤلَّفاته بالنظر والزيادة.

كما أنا نجد في أواخر هذه الرسالة: "ثم رأيتُ" ثلاث مرات.

♦ ونجد في مؤلفاته قوله: "ثم رأيتُ"، "ثم وجدتُ"، "ثم وقفتُ" -وهي صريحةٌ في الاهتمام والتتبُّع والإضافة- في عددٍ كبيرٍ منها، فمِنْ ذلك في رسائل "الحاوي للفتاوي"، وهي:

• بذل العسجد لسؤال المسجد[10].

• بذل الهمة في طلب براءة الذمة[11].

• القول المُضي في الحنث في المُضي. في ثلاثة مواضع[12]. وهذه الرسالة ألفها سنة (879)، وكانت أولاً ورقات يسيرة، وحين اعتُرض عليه فيها وسَّع القول وقال في هذا: "ثم لما بلغني ذلك زدتُ في الكراسة التي ألفتُها نقولاً وأبحاثاً"[13].

• فتح المغالق مِنْ "أنتِ تالق"[14].

• النقول المشرقة في مسألة النفقة. في ثلاثة مواضع[15].

• رفع الباس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس[16].

• دفع التعسُّف عن إخوة يوسف[17].

• الأخبار المأثورة في الاطِّلاء بالنورة[18].

• المصابيح في صلاة التراويح[19].

• المنحة في السبحة[20].

• الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف[21].

• كشف الرَّيب عن الجَيب[22].

• إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء. في خمسة مواضع[23].

• الإعلام بحكم عيسى عليه السلام. في أربعة مواضع[24].

• الاحتفال بالأطفال. في موضعين[25].

• مسالك الحنفا في والدي المصطفى. في أربعة مواضع[26].

• الأجوبة الزكية عن الألغاز السبكية[27].

وهناك ما وردَ في الفتاوى المرسلة غير المعنونة[28].

ونجدُ مثلَ هذا:

• في "بُغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة" في[29] خمسة مواضع.

• وفي "حُسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" في ثلاثة مواضع.

• وفي "الفيض الجاري في طرق الحديث العشاري" في أربعة مواضع[30].

♦ وجاء في ختام نسخة المكتبة الأزهرية مِنْ "تدريب الراوي" المكتوبة سنة 890: "بلغ مقابلةً جيدةً بأصلِ المؤلِّف، ونسخةٍ بها زياداتٌ حرَّرها الشيخُ فيها زيادةً على ما في الأصل..."[31].

وفي مكتبة شيخ الإسلام فيض الله نسخةٌ أخرى من الكتاب قال عنها الأستاذ الشيخ محمد عوامة محقِّقُ الكتاب: "تبيَّنَ لي من المقابلة أنَّ الشارح كان يُعمل يده بالكتاب، كان يُصحِّح ويُعدِّل بعضَ الكلمات، لكنه كان يزيد عليه في قراءاءتٍ أخرى فوائد، ويضيفُ نقولاً جديدة"[32].

♦ ونجدُ في "الدُّر المنثور في التفسير المأثور" (طبعة الأنوار المحمدية) ثماني عشرة رواية ممّا نُقل في السورتين المنسوختين: الخَلْع والحَفْد، ونجدُها في (طبعة هجر) عشرين رواية[33]. وقد يشير هذا إلى زيادته إياها بعدُ -مع احتمال أن يكون النقصُ في طبعة الأنوار من النُّساخ أو الطباعة- .

♦ وقد وقفتُ لـ "البارق في قطع السارق" على خمس نسخ: كاملة وغير كاملة، منها نسخةٌ في مكتبة المسجد النبوي تنقص عن غيرها كثيراً، ومن ذلك نصٌّ في أوائلها ومقامتان وخاتمةُ الكتاب، وكنتُ احتملتُ في تقديم تحقيق الكتاب أن يكون الشاذلي تلميذُ المؤلف قد اختصرَها، لأنه كان قد استأذن شيخَه أنْ يختصرَ بعضَ كتبه[34]، والآن أُضيفُ احتمالاً آخر فأقول: لعل هذه النسخة إبرازة أولى من الكتاب، ذلك أنا لا نجد إشارة إلى الاختصار كما وجدنا في نسخةٍ من رسالةٍ أخرى، هي "المعاني الدقيقة في إدراك الحقيقة"[35].

♦ وجاء في رسالته "فهرست مؤلَّفاتي": "الجامع الصغير مِنْ حديث البشير النذير. عشرة آلاف حديث مرتبة على حروف المعجم". ثم ذَكر بعدَه: "زيادة الجامع الصغير. سبعة آلاف حديث مرتبة على ترتيب الجامع"[36]. وهذا مِنْ ذاك.

♦ ولرسالته "تشنيف السَّمع بتعديد السَّبْع" نسخٌ، ولكنَّ نسخة غازي خسرو بسراييفو تمتازُ بإضافات كثيرة عن سائر النسخ[37].

♦ ولكتابه "المنجم في المعجم" نسختان: مصريةٌ، وهي مسودة المؤلِّف، ومدنيةٌ وهي مبيضة. وكشفت دراسةُ النسختين عن زيادة سبع وعشرين ترجمة في المسودة، وزيادات كثيرة في أثناء التراجم[38].

♦ ومن ذلك ما نجدُه في كتبه مِنْ بياضات، فإنه تركَها بنية المراجعة والتحقُّق ثم العودة إليها، أو بانتظار ما يخطرُ له:

ومن هذه البياضات ما نجده في رسالتهِ "الثغور الباسمة في مناقب السيدة فاطمة"[39]. وفي رسالتهِ: "مراصد المَطالع في تناسُب المَقاطع والمَطالع". قال محقِّقها: "ترَكَ السيوطي رحمه الله أمامَ اسمِ بعضِ السُّور فراغاً فلم يذكر المُناسبةَ لها"[40].

♦ وقال في مقدمة "مطلع البدرين فيمَنْ يُؤتى أجره مرتين": "وقع الكلام فيمن يُؤتى أجره مرتين، فجمعتُ من ذلك عشرة وردتْ في عدة أحاديث، ونظمتُها في أبيات، ثم وقفتُ على عدة أخرى، فأردتُ جمعَ ذلك في هذه الكراسة"[41].

♦ وقال عن كتابه "النهجة المرضية في شرح الألفية" لابن مالك: "أقمتُ في تأليفه سنتين، وحرَّرتُه مدةً طويلةً"[42].

وقال عن كتابه "النُّكت على الألفية لابن مالك والكافية لابن الحاجب والشافية لابن الحاجب والشذور لابن هشام ونزهة الطرف للميداني":

ثلاثين عاماً ظلتُ أرقبُ جمعَهُ * وأجمعُ فيه ما تفرَّقَ في النقلِ[43]

وكان يُنسخ ويُتداول قبل إبرازته الأخيرة التي وصفها بقوله هذا.[44]