مقدمة الكتاب والمصطلحات المتداخلة معها

مقدمة الكتاب والمصطلحات المتداخلة معها

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا الكريم، سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، وبعد:

فإن المتتبِّع لمقدِّمات الكتب، لا شكَّ سيجد نفسَه أمام عددٍ كبير من المصطلحات القريبة من مفهوم المقدِّمة، والتي قد تنوب عنها في بعض الكتب، أو تكون تابعةً لها في كتبٍ أخرى، وسأحاول الوقوفَ على دلالة المقدِّمة والمصطلحات المتداخلة معها:

1- المقدمة: جاء في مقاييس اللغة لابن فارس أنَّ "القاف والدال والميم أصل صحيح يدلُّ على سبق"[1]، وفي اللسان: "يقال: قدَم فلان فلانًا إذا تقدَّمه... ومنه قوله تعالى: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ﴾ [هود: 98]؛ أي: يتقدَّمهم إلى النار"[2]، وفي القاموس المحيط: "القَدَم والقَدْمَة: السابقة في الأمر"[3]، وهذه المعاني تدلُّ على أنَّ المقدمة ترتبط بالتقدُّم في الترتيب، وقد جاء في المعجم الوسيط: "(المقدمة) من كلِّ شيء أوله، ومن الجيش طائف منه تسير أمامه، ومنه يقال: مقدمة الكتاب، ومقدمة الكلام"[4]، وهكذا فالمقدمة في اللغة هي بداية وأول كلِّ شيء.

لا تختلف المقدمة في دلالتها الاصطلاحية عن المعنى المرتبط بالتقدُّم، فهي بداية الكتاب والمدخل إليه، كما هي بداية العلوم، وهناك كلمة (تقديم) التي لا تختلف مع المقدمة إلا في كونها مصدرًا للفعل قدَّم؛ أي: تدلُّ على الحدث الذي دلَّت عليه صيغة "فعَّل" الدالة على التعدية، أمَّا المقدمة، فمن مشتقات الفعل، ولا فرق بين المقدمة بكسر الدال وفتحها؛ إلا أنَّ الكسر يدلُّ على اسم الفاعل، وكأن نصَّ المقدمة هو مَن يتكلَّف بتقديم الكتاب للقارئ، ويدلُّ الفتح على اسم المفعول، وكأن الكاتب وضع نصَّ المقدمة، وقدَّمه للقارئ من أجل مساعدته على قراءة فصول وأبواب الكتاب.

وقد تُعرَّف مقدِّمة الكتاب كما تعرَّف المقدمة في المنطق بأنها: "ما يتوقَّف عليها الشيء"[5]، والحقيقة أنَّ مقدمة الكتاب قد يتوقَّف عليها فَهم محتوى الكتاب في بعض الأحيان، والمقدمة عند جيرار جينيت هي "كل أنواع النصوص الممهِّدة لنصٍّ ما، أو الملحقة به، التي هي بمثابة خطاب حول هذا النصِّ"[6]، ويعرفها جاك دريدا بأنها: "إرادة قول vouloire dire وخطاب للمساعدة، وتعليم إعدادي للكتاب المثاليِّ، وتنسيق خطابيٍّ، وخطاب أخلاقيٍّ له طابع مختزل"[7]، ويرى عباس أرحيلة أنَّ المقدمة هي "جزء من كتاب، طائفة من كلامه، من كلام مؤلفه، لها ارتباط بموضوع الكتاب وبالغاية منه، وظيفتها أن تقدم ما يُنتفع به في فَهم الكتاب"[8]، ويعرفها البعض بأنها "مقال يقدِّم به المؤلِّف أهمَّ المبادئ والمناهج التي سيقوم عليها مؤلَّفُه فيما بعد"[9]، وهناك مَن يرى أنها "كل أنواع النصوص الاستهلاليَّة التي تشكِّل خطابًا سابقًا أو لاحقًا لنصٍّ ما"[10].

2- التمهيد: قال ابن فارس: "(مهد) الميم والهاء والدال كلمة تدلُّ على توطئةٍ وتسهيل للشيء، ومنه المهد، ومهدت الأمر: وطَّأته، وتمهَّد: توطَّأ"[11]، وجاء في اللسان" تمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها"[12]، وفي المعجم الوسيط: "(مهد) الفراش مهدًا: بَسَطَه ووطَّأه، والأمرَ: وطَّأه وسهَّله... و(تمهد) له الأمر: تسهَّل وتوطَّأ"[13]، وعمومًا تلتقي معاني التمهيد في التهيئة والتسهيل والتسوية، وهذا عين دلالته الاصطلاحيَّة، فهو يهيئ للقارئ شروطَ القراءة، ويسهِّل عليه الولوج لعالم الكتاب.

3- التوطئة: قال ابن فارس: "(وَطَأَ) الواو والطَّاء والهمزة كَلِمَةٌ تَدُلُّ على تمهيد شيءٍ وتسهيله"[14]، وفي القاموس: "وطأه: هيأه ودمثه وسهَّله"[15]، فالتوطئة إذًا من التهيئة والتسهيل، وهي تلتقي بالتمهيد في هذا المعنى.

4- التصدير: قال صاحب الصحاح: "وصدرُ كلِّ شيء: أوَّلُه، وصدر السهم: ما جاز مِن وسطه إلى مستدَقِّه، وسمِّي بذلك؛ لأنه المتقدِّم إذا رُمي"[16]، وفي القاموس: "الصَّدْرُ: أعلى مُقَدَّمِ كُلِّ شيءٍ وأوَّلُه، وكلُّ ما واجَهَكَ... وصَدَّرَ كتابَه تَصْدِيرًا: جَعَلَ له صَدْرًا"[17]، وجاء في المعجم الوسيط: "صدَّر الكتاب: افتتحه بمقدمة... والصدر مقدَّم كلِّ شيء"[18].

5- الفاتحة: الفتح ضد الإغلاق، والفاتح اسم الفاعل الذي يفتح، وفي اللسان: "فاتحة الشيء: أوَّلُه"[19]، وجاء في المعجم الوسيط: "(فتح) بين الخَصمَينِ فتحًا: قضى، وفي التَّنزيل العزيز: ﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 89]، وفتح عليه: هداه وأرشَدَه... ويقال: فتح الكتاب: نشر طيَّه، وفتح الطَّرِيق: هيَّأه وأذن بالمرور فيه"[20]، وهذا يعني أنَّ في فاتحة الكتاب هدايةً وإرشادًا للقارئ، وإذنًا لولوج متنه، كما قد تكون حَكَمًا بين القارئ والكاتب؛ حيث يعود إليها الأوَّل لمعرفة مدى التزام الثاني بما سطَّره لنفسه في فاتحة كتابه، وهذا معنى يعضُدُه المعنى اللغويُّ للفتح؛ ففي اللسان: "وفي أسماء الله تعالى الحسنى: الفتَّاح؛ قال ابن الأثير: هو الذي يفتح أبواب الرِّزق والرحمة لعباده، وقيل: معناه الحاكم بينهم، يقال: فتح الحاكم بين الخَصمين: إذا فصل بينهما، والفاتح: الحاكم"[21]، فالفاتحة تساعد القارئ من جهةٍ على دخول عالم الكتاب، والاستفادة منه، ومن جهةٍ أخرى تساعده على محاكمةِ الكاتب حيث يكون من اليسير عليه المقارنة بين ما تعد به الفاتحة وما يضمُّه متن الكتاب.

6- الديباجة: من دبج، قال ابن فارس: "(دبج) الدال والباء والجيم أصلٌ واحد يدلُّ على شيء ذي صفحة حسنة"[22]، وفي المعجم الوسيط: "(دبج) الشيء دبجًا: نقشه وزيَّنه، ويقال: دبج المطرُ الأرضَ: سقاها فاخضرَّت وأزهرت... (الديباجة) ديباجة الوجه: حسنُ بشرته، وديباجة الكتاب: فاتحته، ويقال: لكلامه وشعره وكتابَتِه ديباجة حسنة: أسلوب حسن، و(في القضاء): ما يصدر به الحكم من ذكر المحكمة ومكانها وقضاتها وتاريخ صدور الحكم، و(في القانون الدولي) ديباجة المعاهدة: مقدمة تتضمَّن ذكر الدواعي والأغراض التي دعت إلى عَقْدها"[23]، وهذه المعاني كلها نجدها في المقدِّمة.

7- الاستهلال: مِن استهلَّ يستهلُّ، جاء في اللسان قوله: "يقال: استهلَّت السماء، وذلك في أول مطرها... واستهلَّ الصبيُّ بالبكاء: رفع صوته وصاح عند الولادة"[24]، وعلى هذا فإنَّ الكتاب مولود حديث، ونص المقدمة (الاستهلال) أولُ صوته وكلامه، وفي المعجم الوسيط: "استهلَّ الشهر: أهل، ويقال: استهلَلْنا الشهر: ابتدأناه، أو رأينا هلاله... والاستهلال أن يقدِّم المصنِّف في ديباجة كتابه، أو الشاعر في أول قصيدته جملةً من الألفاظ والعبارات يشير بها إشارةً لطيفةً إلى موضوع كتابه أو قصيدته"[25].

8- الخطبة: قال ابن فارس: "(خطب) الخاء والطاء والباء أصلان: أحدهما الكلام بين اثنين، يقال: خاطبه يخاطبه خطابًا، والخُطبة من ذلك"[26]، إذًا فخطبة الكتاب خطاب وكلام من الكاتب للقارئ، وهي أول عمليَّةِ اتصالٍ بينهما بعد العنوان، ولا شكَّ أنَّ في هذه الخطبة رسالةً يريد الكاتب أن يوصلها للقارئ؛ لذلك نجد بعضَ المؤلَّفات العربيَّة القديمة تسمِّي المقدمة برسالة الكتاب[27].

9- المدخل: هو اسم مكان من الفعل دَخَل، ويدلُّ على مكان الدخول، وبهذا يكون الكتاب بناء، والمقدِّمة مدخله الذي على القارئ أن يجتازه للوصول إلى وسط البناء حيث حاجته ومراده.

يظهر أن هذه المصطلحات الكثيرة تجمعها علاقةٌ وثيقة، رغم الاختلاف الدقيق سواء لغةً أو اصطلاحًا، ويمكن النظر إليها من جهتين:

• جهة الترتيب والموقع: أي ترتيبها مقارنةً بباقي أجزاء الكتاب؛ حيث لا بد أن تكون في أول الكتاب كما يدلُّ على ذلك معناها اللغويُّ، وهنا تدخل المقدِّمة والتصدير والفاتحة والاستهلال والمدخل.

• جهة الوظيفة: أي دورها في الكتاب؛ إذ لا يكفي أن تكون في أول الكتاب، بل عليها أن تؤدِّي وظيفتها المرتبطة بدلالتها اللغويَّة والاصطلاحيَّة، فلا يكفي - مثلًا - أن تكون الفاتحة في أول الكتاب، بل لا بد أن تُعِينَ القارئَ، وتهيِّئ له الطريق للمتن، والديباجة لا بد أن تكون حسنةً مزيَّنةً تحمل على متابعة قراءة الكتاب، والتوطئة والتمهيد لا بد أن يُذلِّلا الطريق للقارئ ويسهِّلاه، وأكثرُ المصطلحات ارتباطًا بالوظيفة هي التوطئة والتمهيد.