ساعة في صحبة الشيخ د. عبد الحكيم الأنيس

ساعة في صحبة الشيخ د. عبد الحكيم الأنيس

صدق الإمام النووي - رحمه الله تعالى - حين قال في «شرح صحيح مسلم» (1/ 48): «ومذاكرةُ حاذقٍ في الفن ساعةً أنفعُ من المطالعة والحفظ ساعاتٍ بل أيامًا». وقد روى الدارمي في «سننه» (برقم 638) عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «تَدارُس العلم ساعةً من الليل خيرٌ من إحيائها». لذا ينبغي لطالب العلم أن ينتهز أي فرصة لمجالسة العلماء الصالحين والاستفادة من علومهم ومعارفهم وخبراتهم. وقد استنبط الإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله تعالى - اثنتي عشرة فائدة تربوية من قول سيدنا موسى عليه السلام للخضر: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: 66]، ومن أهم تلك الفوائد هي أهمية صحبة العلماء لتلقي العلم النافع. وأرى من الضروري أن يقف طلبة العلم على تلك الآداب التي راعاها سيدنا موسى عليه السلام في رحلته لطلب العلم من الخضر (انظر: «تفسير الرازي»: 21/ 483-484).

فالحمد لله تعالى الذي منحني الشوق والرغبة للقاء العلماء والمثول بين أيديهم والاستفادة من صحبتهم، وقد رحلتُ إلى أكثر من عشر دولٍ حول العالم لهذا الغرض العلمي الخالص. وأحاول -بفضل الله وتوفيقه- أن لا أفوت أي فرصة للانتفاع بصحبة العلماء إذا سنحت لي الظروف.

من بين تلك الفُرص، تشرفتُ بقضاء بعض الوقت ليلة الثلاثاء (14/ 3/ 1446) في صحبة العالم المحقق الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس حفظه الله تعالى ورعاه. وهو أحد العلماء البارزين الذين نالوا صحبة عدد من كبار العلماء، منهم العلامة المربي المحدث الكبير الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله. ويقيم الشيخ في الإمارات منذ سنوات عديدة، ويشغل مناصب مهمة في مؤسسات علمية بارزة هناك. خلال فترة جائحة كورونا، أُتيحت لي فرصة الاستماع إلى عدد من محاضراته العلمية عبر الإنترنت، كما شاركتُ في بعض مجالس قراءة الحديث، فأعجبتُ بشخصيته العلمية وطرحه للمعلومات النادرة. وله أبحاث علمية منشورة في شبكة الألوكة وموقع أريد وغيرهما من المواقع العلمية الإلكترونية والمجلات العلمية الورقية، وهو متخصص في تراث العالمين الجليلين: العلامة ابن الجوزي والعلامة جلال الدين السيوطي رحمهما الله، فقد قام بتحقيق عدة من مصنفاتهما تحقيقا علميا رصينا. فجزاه الله كل خيرٍ عنا معشر طلبة العلم.

في ظهر يوم الاثنين، وصلتني رسالة من الشيخ هارون أنيس، وهو عالم شاب ناشط في بريطانيا مهتم بجمع الكتب العلمية المخطوطات منها والمطبوعات. فأخبرني أن الشيخ عبد الحكيم الأنيس موجود حاليًا في لندن، وذكر لي أن الشيخ أرسل سلامه إلىَّ بعدما أخبره هو عني. فبادرتُ على الفور بإرسال رسالة إلى الشيخ معبرًا عن رغبتي في لقائه.

في ليلة الثلاثاء، وبعد انتهائي من درس «جامع الترمذي» في مدرسة قوة الإسلام -معهد شرعي للدراسات الإسلامية العليا في لندن- حوالي الساعة الثامنة والنصف مساءً، توجهتُ مباشرةً إلى الفندق الذي يقيم فيه الشيخ. يقع الفندق في منطقة راقية بلندن، وكان من الصعب العثور على موقف للسيارات، ولكن بفضل الله سهّل لي الأمر. عند وصولي، وجدت الشيخ بانتظاري على باب الفندق، فاستقبلني بحفاوة كبيرة.

بدأ اللقاء بتعليقه على جهدي المتواضع الذي طُبع بعنوان «الفوائد المنتقاة من أمالي إمام العصر محمد أنور شاه الكشميري»: «إن عنايتك واهتمامك بخدمة تراث الإمام الكشميري رحمه الله توفيق من الله عز وجل، وهي نعمة عظيمة، فعليك أن تواصل هذا العمل». وكان هذا تشجيعًا منه لهذا العبد. وبمناسبة ذكر الدراسات الأكاديمية، سألني الشيخ عن موضوع رسالتي للماجستير، فأجبت أن موضوع الرسالة: «جهود علماء بنغلاديش في علوم الحديث: إسهامات الشيخ محمد عبد المالك الكملائي نموذجًا» وكانت الرسالة باللغة الإنكليزية، فقال الشيخ: «إن الشيخ عبد المالك عالم محقق، له جهود مشكورة في علوم الحديث».

سألت الشيخ عن رأيه في البيئة الدينية في بريطانيا من خلال تجربته في هذه الرحلة، فأجاب: «ما شاء الله! سررتُ بما رأيتُه هنا من مساجد ومدارس إسلامية تزرع الأمل. ولكن ما يؤلمني هو الخلافات بين المسلمين حول مسائل دينية بسيطة. لقد لاحظتُ في بعض المساجد أن الأئمة يتحدثون بكلام حاد حول قضايا خلافية، وهذا يضر بالأمة. خاصةً في بلد غير مسلم مثل هذا، كان الأولى أن نحافظ على الألفة والتفاهم فيما بيننا لتعزيز العمل الديني».

كان برفقته الدكتور محمد كامل جاد، مدير مركز جمعة الماجد في دبي. فأخبرته كيف ساعدني المركز خلال عملي على كتاب «المدخل إلى كتاب الهداية» بتوفير مخطوطتين نادرتين مجانًا خلال جائحة كورونا، فجزاهم الله خيرا. فردَّ الدكتور كامل: «لا تتردد في التواصل معنا إذا احتجت إلى أي مساعدة، وسنبذل قصارى جهدنا لدعمك».

لاحقًا، طلبتُ من الشيخ عبد الحكيم الأنيس أن يتحدث عن ذكرياته مع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى. فقال: «كان الشيخ عبد الفتاح يقدر كل لحظة من حياته، ولم يكن يسمح بإضاعة الوقت. كان صاحب قلب رقيق جدًا، وسرعان ما كانت دموعه تنهمر، فكان رحمه الله بكَّاءً، ولم أر مثله في حياتي في كثرة البكاء والتضرع إلى الله تعالى».

وأضاف الشيخ: «كان الشيخ عبد الفتاح يدون ملاحظات دقيقة أثناء قراءته للكتب. كان يكتب بجانب الفقرات المهمة كلمة 'قف'، وكان يوضح معاني الكلمات الغامضة ويضع الحركات على الكلمات الصعبة».

فأخبرتُ الشيخ عبد الحكيم الأنيس حفظه الله: «عندما زرتُ منزل الشيخ سلمان أبو غدة حفظه الله، في جدة، وهو الذي -من بين أبناء الشيخ عبد الفتاح رحمه الله- يتولى خدمة ونشر تراث والده العلمي، فأتيحت لي فرصة رؤية بعض ملاحظات الشيخ رحمه الله على ديباجات بعض الكتب في مكتبة الشيخ سلمان. في إحدى تعليقاته على كتاب 'فيض الباري' للعلامة الكشميري، كتب الشيخ عبد الفتاح رحمه الله: «الترحم على الشيخ ابن تيمية عند كل مرة من ذكره رحمه الله تعالى مما يدل على تعظيمه وإجلاله». سُر الشيخ عبد الحكيم بما سمع وسألني: «هل دونت هذه الملاحظة»؟ ثم ذكر الشيخ ورفيقه د. كامل أن مكتبة الشيخ عبد الفتاح الضخمة قد انتقل نصفها إلى مركز جمعة الماجد في دبي ونصفها الآخر إلى المركز الإسلامي التابع لجامعة أكسفورد في بريطانيا. ثم قال الشيخ عبد الحكيم الأنيس حفظه الله: لو قام أحد بنثر كتب الشيخ من مكتبة أكسفورد وجمع كل ملاحظات وتعليقات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لكان عملا علميا قيما.

في مناسبة أخرى، قال الشيخ عبد الحكيم: "لدي نسخة من كتاب العلامة البقاعي رحمه الله والذي أنت عُنيت بخدمته ونشره «مصنفات شيخ الإسلام ابن حجر». وكنتُ قد بدأتُ العمل على تحقيقه، ولكن بعدما صدرت نسختك، توقفت عن مواصلة العمل. لقد قرأتُ عملك وكتبتُ بعض ملحوظات قد تفيدك في الطبعات المقبلة." شعرتُ بسعادة كبيرة عندما سمعتُ ذلك من الشيخ، وأعربت عن رغبتي في الاستفادة منها.

قبل مغادرتي، طلبت من الشيخ عبد الحكيم الأنيس حفظه الله أن يتيح لي فرصة قراءة شيء من كتب العلم أمامه. في ذلك الوقت، كان معي في السيارة «رسالة الإمام أبي داود السجستاني رحمه الله إلى أهل مكة في وصف سننه» بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، فوافقني الشيخ -مشكورًا- فقرأتُ الرسالة بتمامها بين يديه فعلَّق على بعض المواضع بأسلوبه العلمي الماتع الرقيق. كما نصحني بكتابة شرح للرسالة، وقدم لي بعض توجيهات حول النقاط التي يجب أن أركز عليها في الشرح. فطلبتُ من الشيخ الدعاء والنصيحة للقيام بهذا العمل، وفي النهاية منحني الشيخ إجازة الحديث بخط يده، كما أكرمني حين قال: وكَّلتُك لقراء حديث الرحمة على زوجتك وقد أجازها وأجاز بنتي بشرى أيضا. فلا شك أن هذا من حسن خلق الشيخ وكرمه.

كان الشيخ عبد الحكيم الأنيس حفظه الله تعالى جاء إلى إنجلترا لحضور مؤتمر في جامعة كامبريدج حول المخطوطات العربية. لقد تأثرت بتواضعه وأخلاقه الرفيعة في ذلك اللقاء العلمي، واستلهمتُ الكثير من لقائنا. أسأل الله أن يجزيه خير الجزاء وأوفاه، ويبارك في حياته وعلمه وجهوده.

وكتب/ محفوظ أحمد السلهتي

في لندن، بريطانيا