الشيخ أحمد ديدات .. مناظر من طراز فريد

مع اقتراب الذكري الثالثة على رحيله، إذ انتقل إلى جوار ربه في مطلع أغسطس 2005م، يظل الداعية الكبير والمناظر الشجاع، الشيخ أحمد ديدات حاضرًا في أذهان وقلوب ملايين المسلمين، فهو الرجل الذي بلغت شهرتُه الآفاق، بعد أن نذر نفسه ليكون سفيرًا للإسلام حول العالم، وجعل هدفه نشر الهداية والتعريف برسالة الإسلام العالمية وتوضيح صورته الحقيقية التي يحاول الغرب تشويهها، ومن أجل ذلك أنشأ المركز العالمي للدعوة الإسلامية في مدينة ديربان بجنوب إفريقيا، وأصبح له فروع في اثنتي عشرة مدينة أخرى لتخريج دعاة مؤهلين للدعوة ومواجهة خصوم الإسلام.

ولقد أحدث ديدات دويًّا هائلا في الغرب بمناظراته الشهيرة التي بدأ إذاعتَها على العالم كله منذ منتصف الثمانينيات، وتميزت بالسهولة واليسر والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم تسفيه الآخرين، وإقامة جسور من الحوار والتبادل الثقافي والمعرفي البعيد عن التعصب والتطرف.

وقد ترك وراءه حوالي 24 كتابًا متاحة للجميع وليس عليها حقوق نشر أو توزيع، وبلغ عدد محاضراته ومناظراته المسجلة 125 محاضرة ومناظرة، ووزع من كتبه ومؤلفاته ملايين النسخ، وتُرجمت إلى العديد من لغات العالم مثل الروسية والأردية والعربية والبنغالية والفرنسية والأمهرية والصينية واليابانية والإندونيسية والزولو والأفريكانز والهولندية والنرويجية ولغات أخرى كثيرة.

ولقد ظن البعض أنه قد مات منذ سنوات، وقبل حلول أجله، بسبب إصابته بشلل تام في كل جسده -عدا دماغه- ولزومه الفراش منذ عام 1996م، إلا أنه برغم ذلك كان يواصل دعوته من خلال الرسائل التي كانت تتدفق عليه يوميًّا من جميع أنحاء العالم وتصل في المتوسط إلى 500 رسالة يومية سواء بالهاتف، أو الفاكس أو عبر الإنترنت والبريد.

وكان ديدات يدعو المسلمين إلى تعلم لغات الآخرين، خاصة الدعاة منهم؛ لأن تعلم اللغة هو أنجح الوسائل في إقامة حوار فاعل مع الآخر. ومن الأمور التي كانت تزعجه وصف المتطرفين بالأصوليين، فكان يؤكد أن الأصولية تستخدم بصورة خاطئة تصم الناس بأنهم قوم أشرار، والحقيقة أنها تعني الالتزام بأصول الدين، ومن المفترض أن يكون كل مؤمن أصوليا، وكل من يؤمن بأن الله واحد لا شريك له فهو رجل أصولي.

* النشأة الفقيرة والهجرة:
ولد الشيخ أحمد ديدات في أول يوليو عام 1918م، في مقاطعة سورات بالهند، ونشأ في أسرة فقيرة، ولما بلغ التاسعة من عمره هاجرت أسرته من بلدتهم الصغيرة عام 1927م إلى جنوب إفريقيا هربًا من الجوع وبحثًا عن حياة أفضل، ولم يتلق من التعليم الديني إلا القليل، فلم يكمل دراسته الرسمية، وترك المدرسة وهو في الصف الثاني الإعدادي، نتيجة لحاجته إلى العمل لكي يعول أسرته، وبرغم ذلك علَّم نفسه بنفسه وتزود بخبرة واسعة، وساعده على ذلك وَلَعُه بالقراءة والمجادلة والمناقشة، وحسه العميق وإلزامه لنفسه بتحقيق هدف.

وفي جنوب إفريقيا بدأ حياته الجديدة بالعمل في بقالة يمتلكها أحدُ اليهود في مدينة ديربان بمواجهة أحد الكنائس، فكان يبيع الزهور والسكر والملح والأرز، وفي المتجر كان الشيخ أحمد ديدات يلتقط بعض أوراق الصحف والكتب التي تستخدم لتغليف مشتريات الزبائن إذ لم تكن في ذلك الوقت أوراق النايلون التي تستخدم في التغليف في وقتنا الحاضر معروفة.

وكان يُشبع نهمه للقراءة عن طريقها، وكان هذا سبيله لقراءة أي شيء.

وقد جاءه يومًا من يدعوه إلى المسيحية ويحدثه عنها، الأمر الذي جعله يقرأ عنها ليتعرفها، ولاحظ تردد أبناء المسلمين المهاجرين على الكنيسة المواجهة لمحل البقالة الذي يعمل فيه، فكان ديدات يحادثهم ويلتقيهم في غدوهم ورواحهم، وبدأ يلاحظ أن الصبية يطرحون عليه بعض الأسئلة حول الإسلام فيصطدم بعجزه عن الإجابة ويعلم أنها شبهات للتشكيك يلقيها في أذهانهم رجال الكنيسة.

* كتاب إظهار الحق:
ويشتد بريق التحدي في صدر الشيخ أحمد،خشية على أترابه من التنصير،وغيرة على دينه القويم، فبدأ ينقب باحثًا عن الكتب التي تمده بالثقافة والردود اللازمة لدرء الخطر حتى وقع في يده كتاب (إظهار الحق) لمؤلفه رحمة الله الهندي، وهو كتاب بالإنجليزية يتحدث عن الإسلام، فأقبل عليه يدرسه ويتزود بأدلته وبراهينه الساطعة في تفنيد المزاعم التنصيرية وطعون أصحابها ضد الإسلام.

وقد غير هذا الكتاب مجرى حياته، وبدأ رحلة من البحث والقراءة في كل الأديان ليتعرف ما بين الإسلام وما بين الكتب الأخرى، ولكي يصل إلى حقيقة ما يحدثه به البعض عن المسيحية ويرد عليهم بعلم وعقل ومنهج، لا بعاطفة وتشنج.

ومضى ديدات يستزيد من العلم في دينه ويركز في تحصيله على ما يدعمه ويسلحه بالحجج والبراهين التي يواجه بها خصوم الإسلام ويبين تهافت دعواهم. وبدأ يلقن أبناء المسلمين بعض الأسئلة ليطرحوها على القساوسة من قبيل التعجيز. واتسع الأمر بعد ذلك وبدأ يناظرهم بنفسه ويلزمهم الحجة.

* مناظراته الشهيرة:
واشتهر أمر ديدات، خاصة بعد أن أنشأ المركز العالمي للدعوة الإسلامية في ديربان، وأصبح له فروع في اثنتي عشرة مدينة أخرى بجنوب إفريقيا لتخريج دعاة مؤهلين للدعوة ومواجهة خصوم الإسلام، ووزع من خلاله أكثر من 20 مليون نسخة من كتبه وأشرطته السمعية مجانًا لخدمة الدعوة الإسلامية. وقد دخل في الإسلام المئات من أبناء بلده جنوب إفريقيا بينهم عدد كبير من المبشرين بفضل مجهوداته في مجال الدعوة. وألقى الشيخ ديدات محاضرات في كل أنحاء العالم، ونجح في مواجهة مسيحيين إنجيليين في مناظراته العامة.

وانتقلت شهرته خارج جنوب إفريقيا وخارج القارة الإفريقية كلها، فانتقل في مناظراته حيث سبقته شهرته، فكانت مناظرته الأولى والشهيرة عام 1977م في قاعة (ألبرت هول) الملكية بلندن، وتبعها بعد عام بمناظرة القس الأميركي المليونير "جيمي سويجارت"، التي سجلت على أشرطة فيديو ونشرت حول العالم. ثم جاءت مناظرته الشهيرة "هل صُلب المسيح؟" التي ناظر فيها بنجاح الأسقف جوسيه ماكدويل في ديربان عام 1981م. وفي عام 1988م ناظر القس العربي "أنيس شرش" في قاعة بيرمنجهام بلندن.. ودعا رمز أوربا الديني بابا الفاتيكان لمناظرة بينهما، إلا أن الأخير رفض ذلك، برغم تشدقهم بالحوار والديمقراطية وحرية الرأي.

وكان الشيخ ديدات يتمتع ببصيرة ومعرفة بالكتاب المقدس دفعت العديد من المسيحيين إلى إعادة التفكير ومراجعة معتقداتهم، خاصة تناول الكتاب المقدس والقرآن لمسألة الرسالة الدينية وحياة الرسول عيسى عليه السلام.. وقد ألقى الشيخ ديدات آخر محاضراته في سيدني بأستراليا عام 1996م وقد كانت من أقوى خطبه تأثيرًا، وذلك قبل مدة وجيزة من إصابته بهذا المرض العضال.

هذا إلى جانب جولاته الكثيرة في الكثير من الدول العربية والإسلامية التي ساعدت إلى حد بعيد في جلاء الخطر الكبير الذي تمثله حركة التبشير الكنسية، وكشف ديدات بخبرة ودراية عميقة كل أساليبها وفنونها في محاولة التدليس وخداع العوام والفقراء من المسلمين لصرفهم عن دينهم.

* 6 وقفيات للدعوة الإسلامية:
ولضمان استمرار نهجه في الدعوة إلى الله بالمناظرة، أنشأ ديدات 6 وقفيات في ديربان من بينها المركز العالمي للدعوة الإسلامية، الذي يقوم على "الدعوة على طريقة ديدات"، ويجري تنظيم دورات لمدة عامين تتضمن (8 كورسات) ويقوم بالتدريس فيها علماء ودعاة، ويشارك فيها دارسون من جميع أنحاء العالم رجالاً ونساء لتعلم هذه الطريقة الفريدة.

كما أن ثمة وقفية أخرى لتشغيل معاهد مهنية لتدريب المهتدين إلى الإسلام على حرف جديدة، مثل النجارة والكهرباء يكسبون بها قوتهم. ويطمح المسئولون في مؤسسات ديدات إلى مد يد الرعاية والتطوير لتواكب هذه المؤسسات.

* تراث علمي وديني:
وللشيخ ديدات الكثير من المؤلفات والكتب والنشرات التي ترد على افتراءات خصوم الإسلام، فقد أصدر ما يزيد عن 24 كتابًا، ومن أهم الكتب التي أثرى بها المكتبة الإسلامية "الاختيار بين الإسلام والمسيحية" و"هل الكتاب المقدس كلام الله؟" و"القرآن معجزة المعجزات" و"ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد؟" و"مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء"، "المسيح في الإسلام"، "العرب وإسرائيل صراع أم وفاق؟"، "ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد؟"، وكتب أخرى طبع الملايين منها لتوزع مجانًا بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، وقام بإلقاء آلاف المحاضرات في جميع أنحاء العالم.. وكان يقول: "لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية، وخاصة كتب معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية".

وقد وزع من كتبه -كما ذكرنا- ملايين النسخ وتُرجمت مؤلفاته إلى الكثير من اللغات منها الروسية والأردية والعربية والبنغالية والفرنسية والأمهرية والصينية واليابانية والإندونيسية والزولو والأفريكانز والهولندية والنرويجية ولغات أخرى.

* جائزة الملك فيصل العالمية:
ولجهوده الكبيرة في مجال الدعوة فاز ديدات عام 1986م بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الدعوة الإسلامية مناصفة مع الفيلسوف والمفكر الإسلامي الفرنسي الشهير روجيه جارودي، وكان -رحمه الله- شديد التواضع، سهلا في حياته وملبسه، لا يشغله المال ولا زخارف الدنيا وبريقها، فنجده عندما فاز بجائزة الملك فيصل، ينفق عائدها المالي على طباعة كتاب سماه (المختار) ووزع منه نسخًا وإهداءات على المستوى العالمي.. إنه مثال رائع للإنسان المسلم وللعالم والداعية المسلم.. وطراز فريد من الدعاة المشغولين بالإسلام وهمومه.

* المراجع:
1- أحمد ديدات أشهر داعية فقده العالم - فريد إبراهيم - جريدة الجمهورية - مصر - 12 أغسطس 2005م.
2- شخصيات إسلامية - أحمد ديدات - فؤاد حسن الحاج - الراية 25 ديسمبر 1999م.
3- أحمد ديدات.. رفاق على طريق الدعوة - شعبان عبد الرحمن - إسلام أون لاين - 24 نوفمبر 2002م.
4- أحمد ديدات.. دعوة حتى آخر رمق - يسري شاهين - الشبكة الإسلامية - 11/08/2005م.