• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: أم سليم صبر وإيمان يذهلان القلوب (2)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    تحريم أكل ما ذبح أو أهل به لغير الله تعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    الكبر
    د. شريف فوزي سلطان
  •  
    الفرق بين إفساد الميزان وإخساره
    د. نبيه فرج الحصري
  •  
    مهمة النبي عند المستشرقين
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (3)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    ماذا سيخسر العالم بموتك؟ (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    فقه الطهارة والصلاة والصيام للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    ثمرة محبة الله للعبد (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    خطبة: القلق من المستقبل
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    فوائد وعبر من قصة يوشع بن نون عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    خطبة: المخدرات والمسكرات
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    {وما النصر إلا من عند الله} ورسائل للمسلمين
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرزاق، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة
    عبد رب الصالحين أبو ضيف العتموني
  •  
    فضل الصبر على المدين
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم
علامة باركود

الإمام الشافعي ناصر السنة (2)

الإمام الشافعي ناصر السنة (2)
عبدالله ميزر الزوين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/11/2021 ميلادي - 21/4/1443 هجري

الزيارات: 7665

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الإمام الشافعي ناصر السنة (2)

 

رحلته إلى المدينة: قال عبدالغني الدقر في كتابه (الشافعي) ص67: (التهم الشافعي معظم ما في مكة من علم فأخذ عن الزنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وروى عن سفيان بن عيينة علم الحجا) الى آخر كلامه.

 

إذًا لقد نال الشافعي علم مكة وعليه أن يرحل إلى المدينة موئل الفضلاء ومنزل العلماء، والمدينة أجل بلد حافظ على الطابع الإسلامي، ولم تصدر منه بدعة قط؛ يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها مَن هو مُضمر لذلك، فكان عندهم مهانًا مذمومًا).

 

رحل الشافعي إلى المدينة لأخذ العلم على الإمام مالك بن أنس وعمره ثلاث عشرة سنة على الراجح، وكان مع الشافعي كتاب من والي مكة إلى والي المدينة، ثم إلى مالك يوصي بالشافعي، وكان مالك مهيبًا يهابه الأمراء، فلما رأى والي المدينة الكتاب قال: (إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيًا راجلًا، أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف ببابه).

 

ولَما قرأ مالك الكتاب غضب وقال: سبحان الله، أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالرسائل، فكلَّمه الشافعي كلامًا حسنًا، وكان لمالك فراسة، فقال للشافعي: (يا محمد، اتَّق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن)، ثم وافق مالك وقرأ الشافعي الموطأ على مالك في أيام يسيرة، وأعجب مالك بقراءته وإعرابه، وبَقِيَ الشافعي في المدينة حتى توفِّي مالك سنة 179 للهجرة، وهذا يعني أنه بقي ستة عشر عامًا عند مالك، وجمع ما عنده من حديث وفقه واجتهاد، بل جمع كل ما في المدينة من علم؛ يقول مصعب الزبيري عن الشافعي: (فما ترك عند مالك بن أنس من العلم إلا الأقل، ولا عند شيخ من مشايخ المدينة إلا جمَعه)، وهذا القول ورد في معجم الأدباء لياقوت الحموي.

 

وعندما نقرأ هذه الرحلة لا نكتفي بالسرد التاريخي، بل لا بد من التدبر والتمعن، وحينها نستفيد أشياء عظيمة؛ منها: مكانة علماء المدينة، وأن العلم لا يأتي إلا بالجهد والمثابرة والتعب، ومنها عدم التعصب للمذاهب الفقهية؛ لأن الشافعي كان يستطيع أن يكتفي بكونه فقيهًا مكيَّ المذهب، ولكنه تعِب واجتهد، وبقِي ستة عشر عامًا في المدينة يتعلم ويصابر ليصل إلى الحق؛ لأن الحق والصواب واحد لا يتعدد، كما نص على ذلك الأئمة رحمهم الله.

 

رحلته إلى اليمن: عاد الشافعي من المدينة سنة 179 للهجرة، والظاهر أنه بقي فترة في مكة، ثم قدم حماد البربري والي اليمن إلى مكة، فكلمه بعض القرشيين في أن يصطحب الشافعي معه إلى اليمن، لعله يجد له عملًا، ويظهر من مجموع الروايات أن الذي كلم الوالي هو مصعب الزبيري، وبالفعل اصطحب الوالي الشافعي إلى اليمن، وعمل في البداية عملًا صغيرًا، فأُعجب الناس بإتقانه وحمدوه وشُهِر بينهم، حتى وصل الثناء عليه إلى مكة، وهكذا يجب أن يكون التقي المستقيم لا يستهين بمصالح الناس مهما كانت صغيرة، بل يقوم بعمله على أكمل وجه وأحسن أداء، وبعد هذا الإتقان زاد له الوالي فولاه نجران كما في توالي التأسيس، وهنا وقع أول اختبار لتقوى الشافعي، فقد كان في نجران قوم من أهل الظلم والتعدي على حقوق الناس، فأرادوا أن يصانعوه كما صانَعوا من قبله، فرفض ورد جميع المظالم إلى أهلها، فبدأ القوم في التآمر مع الوالي حماد البربري، وكان ظالِمًا على الشافعي حتى دبَّروا له مكيدة كادت تودي به لولا حفظُ الله، وأرسل الوالي إلى الرشيد يتهم الشافعي بمحاولة الخروج على الرشيد مع تسعة من العلوية (أحفاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وهنا درس جديد نتعلمه من حياة الشافعي، وهو أن المسلم يجب ألا يخاف في الله لومة لائم، ويجب أن يقيم العدل والقسط، رضِي مَن رضي، وسخِط مَن سخط كما فعل الشافعي، فهو حكم بالتقوى والعدل بلا خوف من أحد؛ لأنه يعلم أن من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس.

 

مِحنته:

حُمل الشافعي سنة 184 للهجرة إلى بغداد مكبلًا بالحديد بتهمة الخروج على الرشيد - وقل من ينجو إذا اتهم بهذه التهمة - ولَما وصل لزم باب الخليفة - يعني بقي ببغداد رهن الطلب - ولكنه ما رضي بالانتظار فقط، بل راح يتزود من العلم ويطلع على علم أهل الرأي، وفي هذه الفترة العصيبة لزم محمد بن الحسن - إمام أهل الرأي كما نعته الخطيب البغدادي - وكتب كتبه، فأي روح هذه! وأي صبر هذا! رجل متهم بتُهمة مصيرها القتل، ومع ذلك انصرف يتزود من العلوم وهو واثق من أن الله لن يضيِّعه.

فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم ♦♦♦ إن التشبه بالكرام صلاح

 

وبفضل صدقه وعلمه، فرَّج الله عنه محنته، روى أبو نعيم أن الشافعي تناظر مع محمد بن الحسن في بحث اليمين والشاهد ومباحث كثيرة، فعلت حجة الشافعي ومدح أهل المدينة بأسلوب جميل، وكان الرشيد قد عيَّن رجلًا يكتب ألفاظ الشافعي؛ ليرى مدى علمه، فأعجب الرشيد بعلمه وقال: (ما أنكر أن يكون محمد بن إدريس أعلم من محمد بن الحسن).

 

ورضِي عنه وأمَر له بخمسمائة دينار، وزاد له هرثمة بن أعين - أحد القادة الشجعان - خمسمائة أخرة، فصارت ألفًا، وهكذا نجا الشافعي من هذه المحنة التي كادت تودي بحياته، وهنا نتعلم درسًا جديدًا هو فضل العلم، وكيف أن علم الشافعي أنجاه من هذه المحنة التي قلَّ مَن ينجو منها، وكفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من ليس فيه، ويفرح إذا نُسب إليه؛ كما قال الشافعي؛ (انظر مقدمة الديوان المجموع للشافعي).

 

وبقي الشافعي في العراق بعد نجاته يتزود من العلم مدة طويلة، قدَّرها عبدالغني الدقر بخمس سنوات، جمع خلالها علم العراق وقفل عائدًا إلى مكة ينشُر ما في جَعبته من علم الحرمين والعراق واليمن، وراح ينظر فيها ليستخلص منها الحق والصواب، وهنا اتَّجه إلى الاجتهاد المطلق مقارنًا بين علم الأمصار، مختارًا أقواه حجةً، وأقربه إلى الكتاب والسنة بعقل فذٍّ وتعصُّب للحق وحده، لا للمذاهب والآراء.

 

عودته إلى مكة:

عاد الشافعي إلى مكة سنة 189 للهجرة إلى مكة جامعًا علم الأولين والآخرين من الفقهاء والمحدثين، وراح يؤصل الأصول ويقعِّد القواعد، ويتجه إلى الاجتهاد المطلق كما سلف، واتخذ حلقة في المسجد الحرام ينشر فيه فيها علمه واجتهاده، فجلس إليه كثيرٌ من ذوي المكانة الرفيعة يستمعون منه ويصغون إليه، ويأتيهم بجديد من علم الأصول والكليات، حتى شهِدوا له بالتفوق العلمي والعقلي، ومن هؤلاء إمام السنة أحمد بن حنبل الذي كان يترك مجالس الرواية، ويأتي إلى العالم الجديد الشافعي يسمع منه أصولًا وقواعدَ تدل على سَعة علم وعميق فَهمٍ، جاء في صفة الصفوة عن إسحاق بن راهويه قال: (كنت مع أحمد بمكة فقال لي: تعال حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي)، بل حتى أعداء السنة شهدوا للشافعي بالتفوق والعقل، ومنهم الجهمي القدري بشر المريسي الذي قال عن الشافعي فيما رواه معجم الأدباء: (معه نصف عقل أهل الدنيا)، وهكذا ذاع صيت الشافعي وحلقته، وما يثار فيها من مباحث جديدة وعلوم مفيدة، حتى وصل إلى العراق، فكلف الحافظ الكبير عبدالرحمن بن مهدي من الشافعي الشاب أن يؤلِّف له كتابًا فيه معاني القرآن وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، فألف الشافعي الرسالة كما في معجم الأدباء.

 

فانظر إلى هذه المكانة العلمية التي وصل إليها الشافعي وهو شاب، وكيف وضع الرسالة أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، وكيف استنبط هذه الأصول العظيمة وهو شاب، وبطلب من أحد أكابر الحفاظ، وشباب اليوم تجده في الأربعين وما يزال يندمج مع أفلام الكرتون؟

 

تأليفه للرسالة: تقدم أن عبدالرحمن بن مهدي طلب من الشافعي كتابًا في الأصول، فألف له الشافعي كتاب الرسالة، ورد في الانتقاء عن علي بن المديني أنه قال: (قلت للشافعي أجب عبدالرحمن بن مهدي عن كتابك، فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلى جوابك)، قال فأجابه الشافعي وكتب كتاب الرسالة وهو لم يسمِّه بهذا الاسم، وإنما سُمِّي كذلك؛ لأنه أرسلها إلى ابن مهدي ونقلها الحارث بن سريج، فسُمي النقال والرسالة، وبلا شك هو أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، فالشافعي هو أول من أنشأ علم الأصول ودوَّنه بوصفه علمًا مستقلًّا، ولقد أجمع العلماء والفقهاء -كما يقول الدقر - على أن الشافعي أول من أنشأ علم الأصول.

 

يقول الزركشي في البحر المحيط: (الشافعي أول مَن صنَّف في أصول الفقه، صنَّف فيه كتاب الرسالة وكتاب أحكام القرآن) إلى آخر كلامه.

 

ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان: (الشافعي أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه).

 

ويقول الإسنوي: (الشافعي أول من صنف في أصول الفقه بإجماع، وأول من قرر ناسخ الحديث من منسوخه).

 

وجاء في معجم الأدباء عن الإمام أحمد أنه قال: (ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي).

 

ويقول ابن عثيمين في الأصول من علم الأصول: (أول مَن جمعه كفنٍّ مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله، ثم تابعه العلماء في ذلك).

 

فأنت ترى بإجماع أن الشافعي أول من وضع علم أصول الفقه، وألَّف فيه كتابه العظيم الرسالة الذي ما زال الناس ينتفعون به في كل عصر ومصر، والرسالة أُلِّفت مرتين، الأولى في مكة وهي العراقية أو القديمة، والثانية في مصر وهي المصرية أو الجديدة، وهي المطبوعة والموجودة اليوم، وأما القديمة ففُقدت منذ زمن كما يقول الدقر، وتجد منها نصوصًا في كتب ابن القيم وابن الصلاح وغيرهما.

 

فانظر رحمك الله كيف استنبط الشافعي هذا العلم العظيم الذي هو حاكم كل فن وهو شاب، وكيف ألَّف الرسالة وهو في سن مبكرة، واجعلوا يا شباب الأمة الشافعي وأمثاله قدوة لكم في العلم والعمل، وابتعدوا عن اللغو والباطل وعن كل ما لا يفيد، واهتموا رحمكم الله بمعالي الأمور واتركوا سفسافها.

 

رحلته الثانية إلى العراق:

رحل الشافعي مختارًا إلى بغداد سنة 195 للهجرة، والغالب كما يقول الدقر أن سبب الرحلة سبب علمي، فالشافعي يعرف بغداد وما فيها من علم، ويعرف المناظرات الدائمة ببن أهل الحديث وأهل الرأي، وقد أتى هذه المرة؛ ليعلن اجتهاده والطريق ممهدة له من جهة المحدثين، فقد جاء ينصر السنة ويدعم أهلها، ونزل حين أتى بغداد على أبي حسان الزيادي، وقيل: على الزعفراني كما في توالي التأسيس، ثم توجه الشافعي إلى الجامع الغربي، وفيه تعقد مجالس العلم، وراح يعرض أصوله وقواعده وموارد فقهه، فجلس إليه العلماء والمتعلمون بعضهم ممتحنًا لعلمه وبعضهم ساخرًا من المتفقه الجديد على حد زعمه، ورجع كثيرٌ من الناس عن مذاهبهم، وأذعنوا لقول الشافعي المؤيد بقوة الدليل وحسن البيان، ومن هؤلاء أبو ثور الذي قال: (كنت أنا وإسحاق بن راهويه وجماعة من العراقيين - ما تركتنا بدعتنا حتى جالسنا الشافعي)، وهذا القول رواه النووي في تهذيب الأسماء واللغات، واستمر الشافعي يبهر الناس كلَّ يوم بجديد من فَهْم الكتاب والسنة، حتى أقر العلماء بفضله، وظهر أمره بين الناس، وانفكت أكثر حلقات المخالفين كما يقول إبراهيم الحربي، ولا ريب أن أكثر الناس استفادة منه في هذه الرحلة هم أهل الحديث، فقد ترك فيهم أثرًا عظيمًا جعلهم يثنون عليه بمختلف العبارات ولقبوه ناصر الحديث؛ كما في شذرات الذهب، فهم رأوا في الشافعي رجلًا واسع الفهم لكتاب الله، عميق الفهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخذها من كبار المحدثين كالإمام مالك، والأهم أنه مهما يؤصل من أصل، أو يفرع من فرع يطرحه كله عندما تثبت السنة بخلافه، ولقد أثنى عليه أهل الحديث بكلمات كثيرة؛ منها ما قاله إمام السنة أحمد بن حنبل: (لولا الشافعي ما عرَفنا فقه الحديث)، وقال أحمد: (كان الفقه قفلًا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي)، وقال الحسن الزعفراني: (كان أصحاب الحديث رقودًا، فأيقظهم الشافعي فتيقظوا).

 

وبالجملة فقد أقبل المحدثون والفقهاء المنصفون على الشافعي إقبالًا منقطع النظير وأحبوه حبًّا، لم ينل بعضه عالم كما يقول الدقر، وعكف عليه للاستفادة منه الصغار والكبار والأئمة الأخيار من أهل الحديث والفقه وغيرهم؛ كما يقول النووي في التهذيب.

 

وألَّف في هذه الفترة كتاب الحجة وهو كما في كشف الظنون: (مجلد ضخم ألفه بالعراق، وإذا أطلق القديم في مذهبه يراد به هذا التصنيف)، وهكذا بقي عامين في العراق ينشر علمه واجتهاده، حتى اعترف بفضله المخالف والموافق، ثم قفل عائدًا إلى مكة سنة 197 للهجرة، ولزم حلقته في المسجد الحرام يبث علمه وينشر أصوله، ومن هذه الرحلة نتعلم فوائد عديدة؛ منها: أهمية التمحيص في المسائل والأدلة حتى الوصول إلى الحق الموافق للسنة، فالشافعي ما ارتفع قدره إلا باتباعه للسنة وطرحه ما خالفها، ومنها الإقرار بالفضل لصاحبه، فأنت ترى كيف أقر أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام أحمد بفضل الشافعي عليهم، وفتحه لهم الأقفال، وبالفعل كانت هذه الرحلة أنفع رحلة وأجداها على الشافعي وعلى الناس؛ كما قال الشيخ عبدالغني الدقر.

 

رحلته إلى مصر:

عاد الشافعي إلى مكة وبقِي فيها فترة تجاوز السنة تخلَّلتها رحلة قصيرة إلى العراق دامت أشهرًا؛ كما في توالي التأسيس، وليس فيها جديد على الساحة العلمية، وفي عام 199 للهجرة رحل الشافعي إلى مصر بعد دعوة وجَّهها له العباس بن عبدالله بن العباس والي مصر؛ كما في معجم الأدباء، ونزل أولًا على أخواله الأزد، ثم على الفقيه المالكي عبدالله بن عبدالحكم الذي بلغ الغاية في إكرامه، وظل الإمام عنده حتى توفي، وفي هذه الرحلة أعاد النظر في كتبه، فجدد تأليف الرسالة، وألَّف كتاب الأم بدل الحجة، وإذا قيل: القديم في المذهب الشافعي، فإنما يراد به الحجة، وإذا قيل: الجديد، فالمقصود الأم، والمذهب الجديد المجموع في كتاب الأم، هو المعتمد عند السادة الشافعية، إلا في بضع عشرة مسألة اعتمدوا فيها القديم، وألَّف في مصر كتبًا لم يُسبق إليها كما يقول النووي؛ منها: كتاب الجزية وقتال أهل البغي وغيرها، ولم يبدل في مصر جميع أقواله، وإنما بدَّل بعضها ولا ضير عليه في ذلك، فالعالم المجتهد يدور مع الدليل حيث دار، والأئمة الثلاثة أحمد ومالك وأبو حنيفة كثيرًا ما بدلوا آراءهم عندما ثبت لهم سنة بخلافها.

 

ولقد كانت حلقته في مصر من العجائب في تنوُّع علومها، فقد كان يجلس في الحلقة بعد صلاة الفجر، فيختلف إليه التلاميذ من كل صنفٍ، يتقدمهم أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس جاء أهل الحديث، فإذا ارتفعت جاء أهل المذاكرة، وانظر فإذا ارتفع الضحى جاء أهل العربية والشعر، ثم ينصرف الشافعي؛ كما جاء في معجم الأدباء نقلًا عن الربيع المرادي.

 

ولقد ظل الشافعي ينشر علمه واجتهاده، حتى اعترف بفضله العلماء، وأخذوا عنه علمه، وأثنوْا عليه بما هو أهله؛ يقول الفقيه المالكي عبدالله بن عبدالحكم: (ما رأيت مثل الشافعي، وما رأيت رجلًا أحسن استنباطًا منه).

 

ويقول النووي في التهذيب عن رحلته هذه: (وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من سائر النواحي والأقطار للتفقه عليه، وساد أهل مصر وغيرهم).

 

ولقد ترك الشافعي في مصر تلاميذَ كُثرًا نشروا علمه ومذهبه؛ منهم الربيع راوية كتبه والمزني والبويطي، وفي مرض موته استخلف على حلقته يوسف بن يحيى البويطي معلمًا وناشرًا للمذهب، وقال كما في طبقات السبكي: (ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف - هو البويطي - وليس أحد من أصحابي أعلم منه).

 

ولقد كان البويطي إمامًا جليلًا توفِّي في محنة خلق القرآن سنة 231 للهجرة كما في طبقات السبكي، وفي هذه الرحلة رابط الشافعي في ثغر الإسنكدرية، فقد كان يصلي الصلوات الخمس، ثم يخرج إلى المحرس، فيستقبل البحر بوجهه وهو جالس يقرأ القرآن؛ كما في توالي التأسيس، ومن هذه الرحلة نتعلم أشياءَ كثيرة؛ منها:

أن التقي لا يرى حرجًا في تبديل بعض أقواله إذا خالفت الأدلة؛ كما فعل الشافعي حين أعاد النظر في كتبه، ومنها أن العلم لا يُمكن أن ينفك عن العمل، فالشافعي لم يكتف بإملاء الوعظ على الناس فقظ، بل خرج بنفسه ورابَط في الثغر، بالرغم من أوجاعه، ولقد أحسن القائل:

وعالم بعلمه لم يَعمَلنْ ♦♦♦ معذَّبٌ مِن قبلُ عبَّاد الوَثَنْ

 

مرضه ووفاته:

ظهرت علة البواسير في الشافعي خلال فترة إقامته في مصر، والباسور ورم في باطن المقعدة؛ كما في فتح الباري، وبسبب هذه العلة ما انقطع عنه النزيف، وكان لا يبرح الطست تحته من شدة النزيف، ورد في التهذيب عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال: (ما رأيت أحدًا لَقِيَ مِن السقم ما لقي الشافعي)، ومن العجائب أن الشافعي كان يعاني من هذه البواسير بهذه الشدة، ومع ذلك ترك كل هذه الحصيلة العلمية في مصر وترك من اجتهاده ما ملأ عشرات المجلدات، مع عدم انقطاعه عن الدروس والأبحاث، أفليس في هذه القدوة العظيمة ما يبهر الألباب ويدهش العقول؟!

 

وفي عام 204 للهجرة ألح على الشافعي المرض، واشتد عليه النزيفُ ووقف الموت ببابه ينتظر انتهاء الأجل، وفي حال احتضاره، دخل عليه تلميذه المزني، فقال له: كيف أصبحت؟

 

قال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلًا وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله جل ذكره واردًا، ثم أنشد:

ولَما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّمَا
تعاظَمَني ذنبي فلما قرَنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظمَا

 

وفي توالي التأسيس قال الشافعي لحرملة وهو يحتضر: (اذهب إلى إدريس العابد، فقل له: يدعو الله عز وجل لي).

 

وبعد صلاة العشاء في آخر يوم من رجب سنة 204 للهجرة توفِّي الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن أربعة وخمسين سنة بالتمام والكمال، وحُمل يوم الجمعة على الأعناق من الفسطاط حتى مقبرة بني زهرة؛ حيث دفن هناك كما في تاج العروس، وقبره هناك مشهور معروف، وبجانبه قبر عبدالله بن عبدالحكم الفقيه المالكي؛ كما في معجم الأدباء، ولقد حزن الناس حزنًا شديدًا على وفاته، وخيَّمت الكآبة على وجوه العلماء وطلبة العلم، ورثاه الكثير بروائع الأبيات؛ منها ما ورد في تاج العروس عن أحد الشعراء قال:

أكرِم به رجلًا ما مثله رجل
مشارك لرسول الله في نسبه
أضحى بمصر دفينًا في مُقَطَّمها
نعم المقطم والمدفون في تربه

 

وبذلك طُويت صفحة من صفحات تاريخنا المشرق، وغاب قمر من الأقمار الساطعة، فرحم الله الشافعي، ورضي عنه، وجزاه كل الخير على ما قدَّمه للإسلام والمسلمين.

 

وفي مقال قادم إن شاء الله، نتحدث عن حياة الشافعي العلمية وفقهه واجتهاده وعقيدته، وغير ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

المصادر والمراجع:

الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، عبدالغني الدقر.

الشافعي آراؤه وفقهه، محمد أبي زهرة.

آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم.

توالي التأسيس، الحافظ ابن حجر.

طبقات الشافعية الكبرى، التاج السبكي.

معجم الأدباء، ياقوت الحموي.

حلية الأولياء، أبي نعيم الأصفهاني.

الانتقاء، ابن عبدالبر.

صفة الصفوة، ابن الجوزي.

وفيات الأعيان، ابن خلكان.

المجموع، شرح المهذب النووي.

تهذيب الأسماء واللغات، النووي.

تاج العروس، الزبيدي.

مجموع الفتاوى، شيخ الاسلام ابن تيمية.

كشف الظنون، حاجي خليفة.

الأصول من علم الأصول، محمد بن صالح العثيمين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الإمام الشافعي ناصر السنة (1)
  • الإمام الشافعي ناصر السنة (3)

مختارات من الشبكة

  • متن الزبد في علم الفقه على مذهب الإمام الشافعي للشيخ الإمام أحمد بن رسلان الشافعي(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • الإمام الشافعي ناصر الحديث النبوي الشريف(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • التعايش بين أئمة المذاهب الفقهية - الإمام الشافعي نموذجًا (PDF)(كتاب - موقع د. حسن سهيل الجميلي)
  • التعايش بين أئمة المذاهب الفقهية ( الإمام الشافعي نموذجا )(مقالة - موقع د. حسن سهيل الجميلي)
  • منهج الإمام الشاطبي في الفتوى من خلال كتاب: (فتاوى الإمام الشاطبي) (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • الأحاديث التي في مسند الإمام أحمد من طريق الإمام مالك (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • التراث العلمي عند الإمام الصالحي الشامي من كتابنا: الإمام الصالحي الشامي حياته وتراثه العلمي(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • ترجمة الإمام الصالحي الشامي من كتابنا: الإمام الصالحي الشامي حياته وتراثه العلمي(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • مخطوطة مسند الإمام أبي حنيفة النعمان برواية الإمام أبي بكر المقرئ(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • الإمام الشافعي بين أقلام المنتقدين، ودعاوى المتعالمين، وتبيان المنصفين: قراءة لأسباب الهجوم على الشافعي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب