• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    سفيه لم يجد مسافها
    محمد تبركان
  •  
    ليس من الضروري
    د. سعد الله المحمدي
  •  
    خطبة: إذا أحبك الله
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    هل الخلافة وسيلة أم غاية؟
    إبراهيم الدميجي
  •  
    إساءة الفهم أم سوء القصد؟ تفنيد شبهة الطعن في ...
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    تعظيم شعائر الله (خطبة)
    ساير بن هليل المسباح
  •  
    كثرة أسماء القرآن وأوصافه
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    عفة النفس: فضائلها وأنواعها (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    لا تغضب
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    من مائدة السيرة: تحنثه صلى الله عليه وسلم في
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أوصاف القرآن الكريم في الأحاديث النبوية الشريفة
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    أفضل أيام الدنيا (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    الحج وما يعادله في الأجر وأهمية التقيّد بتصاريحه ...
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    تفسير قوله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم
علامة باركود

محمد بن القاسم الثقفي

محمد بن القاسم الثقفي
عبدالحميد العبادي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 7/3/2020 ميلادي - 12/7/1441 هجري

الزيارات: 9602

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

محمد بن القاسم الثقفي

73 - 96هـ

 

لو أنَّ من يدرس تاريخ الأمة العربية فتَّش في ثنايا هذا التاريخ عن شخصية تتمثل فيها سجايا تلك الأمة الكبيرة وعناصر قوتها، لما وجد أجمع لتلك السجايا وهذه العناصر من شخصية الفتى الشهيد والفاتح العظيم والشاعر الحساس محمد بن القاسم الثَّقفِي، الذي شرع في غزو السند في السابعة عشرة من عمره، وأتمه ولمـَّا يتجاوز الثالثة والعشرين، فأدخل بذلك في الهند الثقافة الإسلامية التي يدين بها في الوقت الحاضر زهاء ثمانين مليونًا من أهلها.

 

إنها شخصية تجمع إلى فتاء السن حنكة الكهولة، وإلى خشونة الجندي رقة الشاعر، وإلى الحرص على الدنيا زهد الفيلسوف وطمأنينة الحكيم.. وكل هذه صفات أتصف بها العرب في نهضتهم التاريخية الكبرى التي رجت العالم القديم فنبهته من سباته، ورسمت للتاريخ مجرًى جديدًا!.

 

وهو محمد بن القاسم بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، فهو من "ثَقِيف" المشهورة في الجاهلية والإسلام بقوة الدهاء وسعة الحيلة ومضاء العزيمة، ثم هو ابن عم الحجاج أمير العراق ورجل الدولة الإسلامية في الرُّبعِ الأخير من القرن الأول الهجري؛ يلتقي نسبهما في الحكم بن أبي عقيل.

 

ولد حوالي سنة 73هـ، ونَقعُ الحوادث مُثارٌ وريح الفتن نكباء، والسيوف يتجاوب صليلها في فارس والعراق والحجاز وأفريقيا، فجعل غلامنا يتنفس في جو مكفهر عابس، ولُقِّف صناعة الحرب سماعًا وعيانًا، ثم شاء ربُّك - رحمةً منه بالناسِ - أن يكون إلى جانب هذه الحياة القلقة المضطربة الخائفة حياة أخرى آمنة هادئة هي حياة الأدب الذي يتمثل في الشعر الغنائي الرقيق المأثور عن ابن أبي ربيعة وجميل وكُثَيِّر والنُّميري وغيرهم من شعراء ذلك الزمان. فعشا نظر الفتى الثقفي الحائر إلى ذلك النور المشرق. فجاءه واهتدى به، وهَفتْ نفسُه العطشى إلى ذلك المورد العذب فورده وارتوى منه، وبذلك اعتدل مزاجه، ورقَّت حواشي نفسه، وأصبح وهو في السابعة عشرة من عمره أشرف ثقفي في زمانه كما يقول صاحب "الأغاني"، وأقبل الحجاج وهو هو في نقد الرجال وتمييز الكفايات يعقد به آمالًا كبارًا، ويرشحه على حداثة سنه للأمر الجليل بعد الأمر الجليل.

 

لم يكد ينتصف العقد التاسع من القرن الأول الهجري حتى كانت الفتن التي صدَّعتْ وحدة الدولة الإسلامية من بعد معاوية قد ركدت ريحها، فانتهت ثورة ابن الزبير بالحجاز، وكُسِرت شوكة الخوارج بفارس، وسكنت العاصفة الهوجاء التي أثارها ابن الأشعث بالعراق. هنالك عاود العرب حبهم القديم للفتح والتغلب، وكان الحجَّاج واضع سياسة ذلك الاتجاه الجديد ومنفِّذها، فغزا قتيبة بن مسلم ما وراء النهر وأوغل فيها، وتوطد سلطان الدولة ببلاد عمان، وغزا موسى بن نصير المغرب، وقرع أبواب الأندلس نفسها.

 

وقد أراد الحجاج أن تأخذ ثقيف بنصيبها من شرف هذه الفتوح الجسام، فأغزى ابن عمه محمد بن القاسم السند التي هي مدخل ذلك العالم الزاخر بالناس والحافل بالخيرات، والذي يسمى بلاد الهند.

 

الحق أن الحجاج لم يبتكر سياسة غزو الهند فقد عرف هذه البلاد عرب شرقي الجزيرة منذ الجاهلية، وطالما ركبوا البحر إلى شواطئها مستبضعين وتجارًا، فلما قامت الدولة الإسلامية طمعوا في غزوها وتملكها. يروي صاحب "فتوح البلدان": «أنَّ عمرَ بن الخطاب ولىَّ عثمان بن أبي العاص الثقفي البحرين وعمان سنة 15هـ فوجَّه أخاه الحكم إلى البحرين ومضى إلى عمان، فأقطع جيشًا إلى (تانه) - قريب من موقع بومباي الحاضرة - فلما رجع الجيش كتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: يا أخا ثقيف حملت ذودًا على عودٍ، وإني أحلفُ بالله أنْ لو أصيبوا لأخذتُ من قومِك مثلَهم».

 

وتتابعت غارات عرب البحرين من عبد القيس وغيرها على شواطئ الهند وجزائرها وخاصة جزيرة سيلان التي كان يقال لها إذ ذاك (جزيرة الياقوت) لحسن وجوه نسائها، فمن هؤلاء العرب من أفلح في المقام بها ومنهم من عاد إلى بلاده وملء يديه السبي الرائع والمغنم الوافر. هذا من ناحية العرب، أما من ناحية الهند أنفسهم فقد «هاجرتْ منهم في الجاهلية طوائفُ إلى رأس الخليج الفارسي وخضعت للدولة الفارسية القديمة، فلما مُصِّرت البصرة نزلوها وحالفوا مَنْ بها من العرب».

 

فلمَّا كان زمن الحجاج أغْزَى عماله على مكران ثغر السِّند فكلهم كان يُنْكب أو يُقتل. وأرض السند عبارة عن حوض نهر السند العظيم تنزلها قبائل عديدة قوية نذكر منها الزُّط والسيابجة والميد والبرهة. وكان بالسِّندِ بُلدان كثيرة منتشرة في أهضام الأودية ورؤوس الجبال منها الديبل، وكانت ثغر السند قبل كراتشي الحاضرة وبرهمنا باذوراور والملتان.

 

وكانت هذه البلدان قوية بمعابدها البوذية القديمة وخاصة معبد الملتان. قال البَلاذُري: «وكان بُد الملتان تهدى إليه الأموال، وتنذر له النذور، ويحج إليه السند، ويطوفون به، ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده، ويزعمون أنَّ صنمًا فيه هو أيوب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم».

 

أمَّا من الناحية السياسية فقد كان يتوَزَّع بلدان السند وقبائلها عدة ملوك متقاطعي الكلمة مختلفي الأهواء وكان أقواهم سلطانًا إبان غزو العرب للسند ملك يقال له داهر، فهو الذي أشجى قواد الحجاج وأذاقهم مرارة الهزيمة المرَّة بعد المرَّة. والطريف أنَّ مصرع هؤلاء القواد لم يحمل الحجاج على الجد في قتال داهر بمقدار ما حمله عليه استغاثة امرأة عربية اعتدى عليها وعلى نسوة عربيات كنَّ معها بعض قراصين البحر من أهل السند التابعين لداهر.

 

وذلك أن ملك جزيرة الياقوت فيما يروي البلاذري، أراد التقرب من الحجاج فأهدى إليه نسوة وُلِدنَ في بلاده مسلمات ومات آباؤهنَّ وكانوا تجَّارًا، فعرض للسفينة التي كنَّ فيها قراصين من ميدالديبل فاخذوا السفينة بما فيها، فنادت امرأة منهن من بني يربوع: «يا حجَّاج!» وبلغ الحجاج ذلك، فقال يا لبَّيك! وأرسل من فوره إلى داهر يسأله تخلية النسوة، فأجاب بأنَّه أخذهنَّ لصوص لا قدرة له عليهم. فأغزى الحجاج اثنين من عماله ثَغْرَ السِّنْد فكلاهما قُتِل، فاهتاج الحجاج وتجرَّد لقتال داهر، وكان قد أعد محمد بن القاسم لغزو الرَّي فلما حدث ما حدث على حدود السند رأى في هذا الشاب من يرأبُ الصَّدع ويدرك الثأر، فردَّه عن غزو الري وعقد له على مكران وثغر السند، وأمره أن يقيمَ بشيراز حتَّى توافيه القوة التي أخذ يُعدُّها لقتال داهر.

 

كانت هذه القوة مؤلفة من جيشٍ وأسطول، أمَّا الجيش فكانت عدَّتُه زهاء عشرين ألف مقاتل، منهم ستة آلاف فارس من جند الشام الذين كانوا عُدَّة الدولة الأموية، ومعولها والذين وطئوا للأمويين أكناف ملكهم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.

 

وأما الأسطول فكان يحمل المشاة والمؤن وعُددَ الحرب الثقيلة، ومن هذه خمس مجانيق ضخام، يقال لأكبرها (العروس)، ويروي البلاذُري أنَّه كان يمدُّ فيها خمسمائة رجل. وبالغ الحجاج على عادته في إعداد الجيش حتى إنه «... جهزه بكل ما احتاج من الخيوط والمسال، وعمَد إلى القطن المحلوج فنقع في الخل الخمر الحاذق ثم جفف في الظل، فقال إذا صرتم إلى السند فإنَّ الخل بها ضيق فانقعوا هذا القطن ثم أطبخوا به وأصطبغوا»، ثم تقدَّم إلى محمد ألَّا يقطع عنه أخباره بحيث يختلف البريد بينهما مرَّةً كل ثلاثة أيام.

 

خرج محمد بن القاسم بجيشِه مِن شيراز عام سنة 90هـ فسار مُشَرِّقًا متبعًا ساحل البحر يطوي الحزون والسهول، ويجوب المَهامِهَ والقِفار، ويحْدُوه ما يحْدُو الشباب الحي من حبٍّ للمجد وتعلق بأسباب المعالي، فتغلَّبَ على صَحارى كرمان ومكران، وبلغ الديبل سالمًا. ولم يكد يحط رحاله حتى كان الأسطول قد وافاه بها. فشرع من فوره في مهاجمة المدينة. قال صاحبُ "فتوح البلدان": «فقَدِم الدَّيْبل يوم جمعة ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسِّلاح والأداة، فخنْدق حين نزل الديبل، وركزت الرماح على الخندق، ونشرت الأعلام، وأُنزِلَ الناس على راياتهم، ونصب منجنيقًا تعرف بالعروس كان يمد فيها خمسمائة رجل. وكان بالديبل (بد) عظيم عليه دقل طويل، وعلى الدقل - سهم السفينة - راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة وكانت تدور... وكانت كتب الحجاج تَرِدُ على محمّدٍ وكتب محمد ترد عليه بصفةِ ما قِبَلَه، واستطلاع رأيه فيما يعمل به في كل ثلاثة أيام. فورد على محمّدٍ من الحجاج كتابٌ أنْ انصِبْ العروس واقصر منها قامة، ولتكن مما يلي المشرق، ثم أدع صاحبها فمره أن يقصد برميتِه الدقل الذي وصفت لي. فرمى الدقل فكُسر، فاشتد طرة (جزع) الكفر من ذلك، ثم إنَّ محمدًا ناهضهم وقد خرجوا إليه فهزمهم حتى ردَّهم، وأمر بالسلاليم فوضعت وصعد عليها الرجال... ففتحت عَنوةً... وهرب عامل داهر عنها... واختط محمد للمسلمين بها، وبنى مسجدًا وأنزلها أربعة آلاف، ثم سار محمدٌ مصْعِدًا مع النهر يريد داهر، وعظم جيشُه فاستولى على مدينة الرور صلحًا. وانضمَّ إليه على إثر ذلك أربعة آلاف من الزُّطِّ، وصار كثيرٌ من قبائل السند عونًا له في حربه مع داهر.

 

ثمَّ عبَر نهر مهران والتقَى بداهر وجيشِه. وكان على فيلٍ عظيم ومِنْ حوله الجندُ على فيَلةٍ تنذر محمدًا وجيشَه بفتكٍ ذريعٍ، ولكنَّ محمّدًا اتَّقى شر الفيلة، بقذائف النفط الملتهب يرميها بها، فهاجت واحترقت هوادجها بمن فيها من الجند، وانتشب بين الفريقين قتالٌ هائل انجلَى عن قتل داهر وتمزقُ جيشه، وتراجع فلوله إلى مدينة (برهمنا باذ) واقتفي محمد أثر تلك الفلول فاستولى على مدينة (رور) فـ (برهمنا باذ) نفسها، ومن ثم زحف إلى مدينة الرور فحاصرها أشهرًا، ثم دانت له على أن يحقنَ دماء أهلها وألا يعرِضَ لبُدِّهم، وأن يؤدُّوا إليه الخراج. وقد وفي لهم بشرطهم وبنى بالمدينة مسجدًا.

 

ثم قطع نهر بياس إلى (الملتان) أعظم بلدان السند العليا فامتنعت عليه أول الأمر، ثم استولى عليه بممآلاة رجل من أهلها له. ووضع يده على أموالٍ جسيمة كانت بمعبدها البوذى.

 

كانت الملتان أقصى ما وصل إليه ابن القاسم من ناحية الشمال، قال البَلاذُرِيُّ: «ونظر الحجاج فإذا هو قد أنفق على محمد بن القاسم ستين ألف ألف درهم، ووجد ما حمل إليه عشرين ومائة ألف ألف، فقال: شفينا غيْظَنا وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر».

 

أخذت الملتان سنة 95هـ وعلى أثر ذلك أتت محمدًا وفاة الحجاج فقَفَل راجعًا نحو الجنوب مستوليًا في طريقه على مدن لملوك آخرين غير داهر، وكان آخر ما فُتِح مدينة يقال لها (الكيرج) استولى عليها عنوة سنة 96هـ ثم أتاه نعي الخليفة الوليد بن عبد الملك وولاية أخيه سليمان، فلم يبرح تلك المدينة، وقلَبَ له الدَّهرُ من ذلك الوقت ظهْرَ المجَنِّ، وأخذ نجمُه في الأفول.

 

لا شكَّ أن الحجاج كان موَفَّقًا عندما عهد إلى ذلك الشاب قيادة تلك الحملة الخطيرة؛ فإنَّ محمّدًا بحداثةِ سِنِّه وصدق فروسيته قد ملك زمام أصحابه فلا نسمع أن أحدًا منهم حدثته نفسُه بخلاف عليه أو عصيان له. ثم إنَّه بهذه الخلال نفسِها وبرجاحةِ عقله وسعة حلمه اجتذب قلوبَ السند أنفسهم، فقد قارنوا بينه وبين ملوكهم المترفين المتجبرين المتخاذلين فلم يتمالك كثيرٌ من قبائلِهم أنْ أعطاه الطاعةَ وأخذ جانبه في الحرب كما سبق القول.

 

ويروى أنه عندما شرط عليه أهل مدينة الرور ألَّا يقرب بُدَّهم وَفَى لهم بذلك، وقال: «ما البُدُّ إلَّا ككنائس النصارى واليهود وبيوتِ نيران المجوس»، وكانت حكومته إيّاهم عادلة رفيقة إذا قيست بحكومة ملوكهم وأمرائهم، فقد تقدَّمَ إلى عمَّاله بهذه النصيحة: «أنْصفوا الناس من أنفسكم، وإذا كانت قسْمةٌ فأقسموا بالسويَّةِ، وراعوا في فرض الخراج مقدرةَ الناس على أدائه ولا تختلفوا ولا تنازعوا فتشقى بكم البلاد. ثم إنَّه كان مدركًا كل الإدراك أنَّ عليه واجبين عظيمين: عليه أن ينشر في البلدان التي فتحها الثقافة الإسلامية، وأن يصل بين الشرق والغرب الإسلاميين، من أجل ذلك كان إذا فتح مدينة أنزلها بعض أصحابه، وبنى بها مسجدًا. ومن أجل ذلك نقل طوائف من الزط والسيابجة إلى العراق فأنزل الحجاج بعضهم كورة كسكر بفارس، ووجه بقيَّتَهم إلى الخليفة، فأنزلهم أنطاكية وسواحل الشام لينتفع بخبرتهم البحرية في قتال الروم، كذلك أرسل إلى الحجَّاج فِيلة سُمِّيت ببعضِها مشرعة الفيل التي كانت بواسط، كما بعث إليه بآلاف من الجواميس السندية، فأطلق الحجاج بعضها في آجام كسكر وكور دجلة، وبعث كثيرًا منها إلى الخليفة فأطلقها في الآجام التي بين أنطاكية والمصيصة، واتقى بها سباع تلك الآجام وكانت قد كثرت وأخافت السابلة. وقد نمت هذه الماشية بالعراق على مر الزمن حتى أصبحت من أسباب ثروته الاقتصادية في الوقت الحاضر.

 

تلك غزوة محمد بن القاسم للسند. إنَّها لا شكَّ تذكرنا بغزو الاسكندر المقدوني لتلك البلاد نفسها في أخريات القرن الرابع قبل الميلاد؛ فالغزوتان تتشابهان من عدَّة وجوه، تتشابهان من حيث أن كلتيهما برية بحرية إلى حدٍّ بعيد، ومن حيث حداثة كلا الفاتحين وكفايته، ومن حيث أن كليهما نهج في نشر ثقافته بالسند نفس المنهج الذي نهجه الآخر، ومن حيث أن كليهما كان يهدي إلى أستاذه طرفًا من طرف فتوحه ويراسله مستطلعًا رأيه، فالفاتح المقدوني كان يهدي إلى أرسطو ويراسله، والفاتح العربي كان يهدي إلى الحجاج ويراسله مصدرًا في بعض المواقف عن رأيه. ولو أن أهل السند الذين غزاهم ابن القاسم، والذين قد يكون منهم من يدين بشرعة التناسخ ذكروا تاريخ بلادهم القديم فربما رأوا في الفاتح العربي الحديث انبعاث روح الفاتح المقدوني القديم.

 

وبعد فماذا كان مصير ذلك الفاتح العظيم؟ لقد جوزي جزاء سنِمَّار وصار إلى شرِّ مصيرٍ، فقد نكبه الخليفة سليمان بن عبد الملك نكبةً كان فيها تلفُ مُهجَتِه وبوارُ نفسِه. والمصادر القديمة مختلفة في تعليل تلك النكبة، فالمصادر الفارسية - وهي حديثة نسبيًّا غير موثوق بها - تزعم أنَّ بنات داهر أفضين إلى الخليفة بأن ابن القاسم عبث بهنَّ، فأضطرم الخليفة غيظًا وأمر بمحمّدٍ فوضع في أديم بقرةٍ ثم خيط عليه الأديمُ وحمل إلى دمشق، ففاضت روحه بالطريق فلمَّا بلغ بنات داهر مصرع الفتى استشعرن النَّدمَ وقلن أنهنَّ تجنَّين على ابن القاسم انتقامًا ممن قتَلَ أباهنَّ وثلَّ عرشه، فاشتدَّ غضب الخليفة عند ذلك وأمر بهنَّ فقتلَهنَّ شرَّ قتلة.

 

أما المصادر العربية - وهي أقدم من المصادر الفارسية وأوثق - فلا تذكر شيئًا من أمر النسوة، ويؤخذ منها أن الخليفة سليمان بن عبد الملك كان مضطغنًا على الحجاج لأنه كان قد زين للخليفة الوليد بن عبد الملك خلع سليمان من ولاية العهد؛ أما وقد فارق الحجاج هذه الدنيا فقد رأى سليمان أن يشفي غيظه من أقربائه متأثِّرًا في ذلك بنظام الثأر عند العرب. وقد أذكى نار الحقد والموجدة في صدره رجلان كلاهما قد وتره الحجاج وكلاهما كان متأثرًا بالعصبية القبلية بين قيس واليمن؛ أحدهما يزيد بن المهلب وكان أثيرًا مكينًا لدى الخليفة، والآخر صالح بن عبد الرحمن وقد ولَّاه سليمان خراج العراق.

 

عُزِل محمّدٌ عن السِّندِ ووُلِّى مكانه يزيد بن أبي كبشة السكسكي، فأخذ محمّدًا وقيدَّه وسيَّره إلى العراق مع رجلٍ من بني المهلب على حالٍ حرَّكت قلوب أهل السند فبكوا عليه وصوَّره أهل الكيرج بمدينتهم التي كان منها شخوصه، وقد تلقَّى محمَّدٌ المحنةَ صابرًا محتسبًا، ولم يكن في محنته أقل شجاعةً وصبرًا أو أنفةً منه وقتَ الحرب وحين البأس.

 

والغريب أنَّه على إخلاص أصحابه له وعطف السند عليه لم تحدِّثه نفسُه بالخلاف والانتقاض. والظاهر أنه أيقن أن قد أدَّى واجبه وأنَّ الحياة أصبحت بعد ذلك لغوًا وفضولًا لا طائل فيه. وقد جعل يُسرِّي عن نفسه بمقطوعات من الشعر ضمَّنَها آلامه وخواطر نفسه؛ فمن ذلك قوله مشيرًا إلى أنه لو أراد الثورة لشَقَّ على أعدائه تهضمه.

 

ولوْ كنتُ أجمعتُ القرارَ لوطِّئت
إناث أُعدَّت للوغَى وذكورُ
وما دَخلتْ خيل السَّكاسكِ أرضَنا
ولا كان مِنْ عكٍّ عليَّ أميرُ
ولا كنتُ للعبدِ المزوني تابعًا
فيالك دهرٌ بالكرامِ عَثورُ

 

ولما صار إلى واسط حبسه صالح بن عبد الرحمن فقال:

فلإن ثويت بواسطٍ وبأرضِها
رهنَ الحديدِ مُكبَّلًا مغلولَا
فلرُبَّ قينة فارس قد رُعتَها
ولرُبَّ قرْنٍ قد تركت قتيلَا

 

وعذَّبه صالح في رجالٍ من أقرباء الحجاج حتى قتلَهم، فطفِق الشعراءُ يرثون محمّدًا ويذكرون فضائلَه، فمن ذلك قولُ بعضِهم:

أنَّ المروءةَ والسَّماحةَ والنَّدَى
لمحمَّدِ بن القاسمِ بنِ محمَّدِ
ساس الجيوشَ لسبعَ عشرةَ حُجَّةً
يا قُرْبَ ذلك سؤددًا من مولدِ

 

وقال آخر:

سَاس الجيوشَ لسبع عشرة حِجَّةً *** ولداته عن ذاك في أَشْغالِ

 

تلك خاتمةُ فتى فتيان العرب وسيِّدِ فرسانهم غير مدافع، فمن مُبلِّغ مسلمي الأرض عامة والهند خاصَّة أنَّ الدوحة الإسلامية العالية التي أظلت بلاد الهند طوال العصور الوسطى، إنما كانت غرس ذلك الفتى العربي النبيل؟ فليذكر ذلك الذاكرون فقد تُبلِ الذكرَى رفات ذلك الشهيد في قبره، بعد أن عدِمَ في حياتِه من يحمد بلاءه أو يرحم شبابه؟

 

المصدر: «مجلة الرسالة»، العدد: 22- بتاريخ: 04 - 12 – 1933





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند
  • قصة فاتح الهند الأول "محمد بن القاسم الثقفي" ومأساة نهايته
  • محمد بن القاسم الثقفي

مختارات من الشبكة

  • لباب الإعراب لمؤلفه تاج الدين محمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني المتوفى سنة 684 هـ (PDF)(كتاب - موقع الدكتور بهاء الدين عبدالرحمن)
  • مسلسل الأولية رواية الصدر محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي (664-754)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة حديث أبي منصور محمد بن محمد بن عثمان السواق(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • حسن السلوك الحافظ دولة الملوك للإمام محمد بن محمد بن عبدالكريم الشافعي(كتاب - موقع الأستاذ الدكتور فؤاد عبدالمنعم أحمد)
  • سيرة محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي التلمساني(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مخطوطة فوائد أبي محمد عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان أبي الشيخ(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة جزء فيه حديث ابن حيوية أبي عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • التعليقات الكافية في ضبط الوافية نظم الشافية لقوام الدين محمد بن محمد السيفي القزويني (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من مآثر الشيخ محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ترجمة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي(مقالة - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب