• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    سورة الكافرون.. مشاهد.. إيجاز وإعجاز (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    من آداب المجالس (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    خطر الميثاق
    السيد مراد سلامة
  •  
    أعظم فتنة: الدجال (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
  •  
    فضل معاوية والرد على الروافض
    الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
  •  
    ما جاء في فصل الشتاء
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرحمن، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    تفسير: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تخريج حديث: إذا استنجى بالماء ثم فرغ، استحب له ...
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    اختر لنفسك
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (خطبة) - باللغة ...
    حسام بن عبدالعزيز الجبرين
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / منبر الجمعة / الخطب / السيرة والتاريخ
علامة باركود

من دروس الهجرة النبوية: سنة الأخذ بالأسباب

من دروس الهجرة النبوية: سنة الأخذ بالأسباب
الشيخ محمد عبدالتواب سويدان

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/9/2023 ميلادي - 22/2/1445 هجري

الزيارات: 9506

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من دروس الهجرة النبوية سُنَّة الأخذ بالأسباب


نص الخطبة:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبود بحقٍّ سواه، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثه ربُّه بالهدى ودين الحق ليُظهِره على الدين كله، فصبر وصابر وجاهد وهاجر حتى ارتفعت أعلام الدين، وحق القول على الكافرين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فيا عباد الله، يَحُلُّ شهر الله المُحرَّم، فيتذكَّر المسلمون ذلك الحدث العظيم الذي قلَب موازين التاريخ، وغيَّر وجه البشريَّة، هذا الحدَثُ الجليل الذي قضَى الله -جلَّ جلالُه- أنْ يكون بداية مِيلاد دَولة الإسلام الأولى، إنَّه حادث الهجرة النبوية المباركة، من مكَّة إلى المدينة، وإنَّ حدَث الهِجْرة لم يكن مُجرَّد انتِقال من مَكانٍ إلى مكانٍ، أو خُروج الدَّعوة من مَوطِنٍ إلى آخَر، وإنما كان قَضاءً مُبرمًا من الحكيم الخبير -سُبحانه- قدَّره ليعلو الإسلام، وليَجْعَل كلمة الذين كفروا السُّفلى ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].

 

وإن الهجرة النبوية موقعٌ من مواقع التأمل في هذه المسيرة المباركة، إنها بحقٍّ تشريع للأمة ومَعْلَم من معالم دينها، ولقد كرَّر القرآن المجيد الحديث عن الهجرة، ومجَّد أهلها، وعطَّر حديثها، فهو حدث ليس ككل حدث؛ بل يحتاج منا إلى الوقوف عنده طويلًا والتأمل في دروسه ونتائجه كثيرًا؛ حتى تزداد العقول نورًا وإيمانًا وعطاءً، ومن أهم دروس الهجرة الأخذ بالأسباب، فلقد كانت الهجرة في ذاتها نوعًا من أرقى أنواع الأخذ بالأسباب؛ والأسباب: جمع سبب، وهو كلُّ شيءٍ يُتوصَّل به إلى غيره.

 

وسُنَّةُ الأخذ بالأسباب مقرَّرةٌ في الكون بصورةٍ واضحةٍ، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودع فيه من القوانين والسُّنن ما يضمن استقراره واستمراره، وجعل المسبِّبات مرتبطةً بالأسباب بعد إرادته تعالى، ولو شاء الله ربُّ العالمين لجعل كلَّ هذه الأشياء وغيرها -بقدرته المطلقة- غير محتاجةٍ إلى سببٍ، ولكن هكذا شاء الله تعالى وحكم، وهذا من أجل أن يوجِّه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السُّنَّة؛ ليستقيم سير الحياة على النَّحو الَّذي يريده سبحانه.

 

وإذا كانت سُنَّة الأخذ بالأسباب بارزةً في كون الله تعالى بصورةٍ واضحةٍ، فإنَّها كذلك مقرَّرةٌ في كتاب الله تعالى، ولقد وجَّه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السُّنَّة في كل شؤونهم الدُّنيويَّة والأخرويَّة على السَّواء، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 105]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].

 

أحِبَّتي الكِرام، ومن تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن الأخذ بالأسباب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، فلقد مكث النبي بضع عشرة سنة بمكة وما حولها يدعو الناس إلى أصول الإيمان وعبادة الله، فآمن بدعوته من آمن وكفر من كفر، ولما ضاقت شعاب مكة به وبأصحابه، رأى أنه لا بد من البحث عن مكان جديد تنطلق منه الدعوة، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر -الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته أنه لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد، وأخفى شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثمًا؛ لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم، وأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يُبَيِّن إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ -يَعْنِي: عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ- قَالَ: "أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ"، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الصُّحْبَةَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: "قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ"؛ (رواه البخاري).

 

وكان الخروج ليلًا ومن باب خلفي في بيت أبي بكر، وانتقى شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شئون الهجرة، ووضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب الذي يجيد القيام به على أحسن وجه؛ ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته: فعلي-رضي الله عنه- ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تَمويهًا على المشركين وتخذيلًا لَهم، ويُسلِّم الودائع، وعبدالله بن أبي بكر، صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحرُّكات العدو؛ قالت عائشة - رضي الله عنها كما عند البخاري-: ثُم لَحِقَ رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر بغارٍ في جبل ثَوْر، فكَمُنَا (اختفَيا) فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر، وهو غلامٌ، شابٌّ، ثقفٌ (حاذق فطن)، لَقِنٌ (سريع الفهم)، فيدلج من عندهما بِسَحَر (قُبَيل الفجر)، فيصبح مع قريش بِمكَّة كبائتٍ، فلا يَسْمع أمرًا يُكتادان به إلَّا وعاه، حتَّى يأتيَهما بِخَبَرِ ذلك حين يختلط الظَّلام (تشتدُّ ظلمة الليل)؛ وهو دور الفتيان الأقوياء.

 

وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه؛ كيلا يتفرَّسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.

 

واتَّخَذ النبِيُّ -صلى الله عليه وسلَّم- عبدالله بن أريقط دليلًا عارفًا بالطريق برغم كونِه مشركًا، ما دام مؤتَمنًا، متقِنًا لعمله؛ ولذلك أرشدَهم -بِمهارته- إلى اتِّخاذ طريق غير الطريق المعهودة.

 

وأمَّا دور النِّساء، فهذه عائشة رضي الله عنها وأسماء حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثًا عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه؛ تقولُ عائشة -رضي الله عنها- متحدِّثة عن نفسها وأختها أسماء: "فجهَّزْناهما أَحَثَّ الجَهازِ" (أسرعه، والجَهاز: ما يُحتاج إليه في السَّفر)، وصنَعْنا لهما سُفْرة (الزَّاد الذي يُصْنع للمسافر) في جِراب (وعاء يُحْفَظ فيه الزاد ونَحْوه)، فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فربطَتْ به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيَت ذات النطاقين؛ البخاري.

 

أيها المسلمون، كما سمعتم لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل حسب استطاعته وقدرته؛ ولكنه في الوقت نفسه يعلق قلبه بالله، فرغم الاحتياطات العالية، والأخذ بالأسباب في أحداث الهجرة؛ من السرية التامة، وتغيير الطريق، وإرسال المهاجرين دفعات، وترتيب الأدوار، وأخذ الحذر في كل خطوة، فإن المشركين قد عَلِموا بالأمر، وحرَّكوا الفرسان للحاق برَكْبِ المهاجرينِ، وكان من الممكن أن تمر الهجرة هكذا دون أن تحاط بالأخطار، وخصوصًا بعد أخْذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب، ولكن الله أراد أن يعلِّم عباده المؤمنين أن الأسباب وحدها لا تحقق نصرًا، وأن العبد يُحرَم التوفيق إذا لم يعتمد على مسبِّب الأسباب ومسخِّرها؛ لذا انكشف أمر الهجرة، وحانتْ معية الله التي لا يَخِيب معها أحد، فمَنِ الذي منع المشركين من أن يَعْثروا على النبِيِّ -صلى الله عليه وسلَّم- وصاحبه؟ وقد وقَفوا على شفير الغار، حتَّى قال أبو بكر: "لو أنَّ أحدهم نظر تَحْت قدمَيْه لأبصرنا!" إنه الله؛ ولذلك كان جواب الرسول -صلى الله عليه وسلَّم-: "ما ظَنُّك يا أبا بكر باثْنَيْن اللهُ ثالثُهما؟"؛ البخاري.

 

أخي، هل تدبرت هذه اللفظة النبوية في التعبير عن معية رب البرية "اثنين الله ثالثهما" اثنين الله ثالثهما، إذًا فلتخرج مكة كلها بخيلها ورجلها، برجالها ونسائها وأطفالها، بشيوخها وشبابها، بل لتخرج الدنيا بأسرها لتبحث عن محمد وصاحبه، فوالله لو قلبوا رمال الصحراء حبةً حبةً فلن يصلوا أبدًا إلى اثنين الله ثالثهما؛ يقول الله تعالى كما في سورة التوبة: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

 

وهكذا يؤكِّد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب مع اعتماد القلب على الله في كلِّ الأمور، والأحوال، وإن من تأمَّل القرآن يجد أن الله تعالى يُعلِّمنا أن نتخذ الأسباب وإن كانت في نفسها ضعيفة، قد لا يتصور أن تكون لها نتيجة.

 

فهذا أيوب عليه السلام لما اشتدَّ به المرض دعا الله تعالى فقال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83، 84].

 

استجاب الله دعاءه، لكن أمره باتخاذ الأسباب حتى وهو في حالة ضعف ومرض، وهو القادر سبحانه على أن يَشفيه ولو بدون اتخاذه لأيِّ سبب، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، لكنه لا يريد من عباده أن يتربوا على الخمول والكسل والتواكل وترك العمل، فقال تعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42]، وهل ضربة الصحيح للأرض منبعة للماء؟ لا، فكيف بمَنْ هو مريض كأيوب عليه السلام؟ ولكن الله يريد أن يعلمنا أنه لا بُدَّ من اتخاذ السبب ولو كان ضعيفًا، فالأمر أمره، والكون كونه، ولكن لا بُدَّ من فعل الأسباب، مع حسن اعتماد القلب على الله عز وجل.

 

وهذه مريم عليها السلام، لما كانت في حالة مخاض عند ولادتها لعيسى عليه السلام، وهي في حالة وهَن وضعف، واحتاجت إلى طعام- طُلب منها أن تباشر الأسباب، وهي في أشدِّ حالات ضعفها؛ قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] مع ظهور أن فعل هذا السبب لا يأتي بالثمر، لضعفها وقوة الجذع، ولكنه ترسيخٌ لمبدأ أن التوكُّل الحقيقي يقتضي منا أن نأخذ بالأسباب، وأن التَّوكُّل على الله تعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب؛ فالمؤمن يتَّخذ الأسباب من باب الإيمان بالله، وطاعته فيما يأمر به من اتِّخاذها، ولكنَّه لا يجعل الأسباب هي الَّتي تنشئ النَّتائج، فيتوكَّل عليها؛ فإنَّ الَّذي ينشئ النَّتائج -كما ينشئ الأسباب- هو الله، ولا علاقة بين السَّبب والنَّتيجة في شعور المؤمن.. فاتِّخاذ السَّبب عبادةٌ بالطاعة، وتحقُّق النتيجة قدَرٌ من الله مستقلٌّ عن السَّبب، لا يقدر عليه إلا الله، وبذلك يتحرَّر شعور المؤمن من التعبُّد للأسباب والتَّعلُّق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاعته؛ لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى وبعد:

فالناس مع سنة الأخذ بالأسباب طرفان ووسط، فهم بين مبالغ في الأخذ بالأسباب فيعتمد عليها اعتمادًا كليًّا، فإذا حزبه أمرٌ طرق كل الأبواب، وسعى في جميع الأسباب، ونسي قدرة الله تعالى والاعتماد عليه، وأن الأمور كلها بيده، فيسعى يمينًا وشمالًا، ويذهب إلى هذا وذاك، ويقلب عينيه في كتب الطب والعلوم، ويطرق باب كل طبيب ليداوي علته، وينسى بابًا لا يغلق دون طلب الطالبين، ولا دعاء المضطرين، وهو باب الله تعالى الذي يحكم فلا مُعقِّب لحكمه.

 

والطرف الآخر يترك السبب بالكلية، فلا يسعى لرزق، ولا يسير في مناكب الأرض؛ بل ينتظر أن تنشق السماء عن رزقه، فينهال عليه كمطر الشتاء، أو كحَرِّ المصيف، تمامًا كمن يتمنَّى الولد بغير زواج، أو يسعى للشبع بغير طعام، أو لقتال العدو بغير سلاح، ويسمون أنفسهم المتوكلين، بل هم متواكلون اتِّكاليون، يبررون لقعودهم وتقاعسهم عن العمل بالتوكُّل والاعتماد على الله، في حين أنهم مُقصِّرون في الأخذ بالأسباب.

 

فكلا الطرفين مذموم، فالأول نسي الخالق المدبِّر وأعرض عنه وركن إلى السبب، فوقع في شرك الأسباب، والآخر نسي الأسباب بالكلية وأعرض عنها على الرغم من الأمر الشرعي بالأخذ بها والموازنة بينها وبين الاعتماد واللجوء إلى الله تعالى، فأنَّى له الرزق أو النصر؟!

 

أمَّا الوسط فهو صرف القلب إلى الله تعالى بصدق اللجوء إليه، والاعتماد عليه، وتمام التعلُّق به وبحوله وطوله، مع بذل الأسباب المؤدية إلى المأمول، فهما ركنان ينبغي ألَّا يغفل أيًّا منهما: تعلق القلب بالله، وبذل الأسباب، فمن تَرَك الأسباب فقد سلك طريق العجْز والكسل، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا في أحاديث كثيرةٍ ضرورة الأخذ بالأسباب مع التَّوكُّل على الله تعالى كما نَبَّهَ -عليه الصَّلاة والسَّلام- على عدم تعارضهما؛ فعن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه-: أنَّ رجلًا وقف بناقته على باب المسجد، وهمَّ بالدُّخول، فقال: يا رسول الله، أُرسِلُ راحلتي، وأتوكَّل؟ وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التَّوكُّل على الله تعالى فوجَّهه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى أنَّ مباشرة الأسباب أمرٌ مطلوبٌ، ولا ينافي بحالٍ من الأحوال التَّوكُّل على الله تعالى ما صدقت النِّيَّة في الأخذ بالأسباب، فقال له صلى الله عليه وسلم: "بل قيِّدها وتوكَّل"؛ مستدرك الحاكم، وفي لفظ: "اعقلها وتوكَّل"؛ رواه الترمذي.

 

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أنكم توكَّلتم على الله حـقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزق الطَّير، تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا"؛ الترمذي، وابن ماجه.

 

وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتواكلون، إنما "المتوكل الذي يُلقي حَبَّه في الأرض، ويتوكل على الله"، وهو الذي قال رضي الله عنه: "لا يقعدن أحدكم في المسجد يقول: الله يرزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".

 

فالفلاح يحرث الأرض ويزرعها، لكنها تنبت بإذن مَنْ؟ وبإرادة مَنْ؟ تنبت بإذن الله وبإرادة الله، وتثمر بإذن الله وبإرادة الله، ولولا إرادته ما أنبتت ولا أثمرت، وهذا ما أرشد إليه سبحانه وتعالى فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الواقعة: 63 - 67].

 

والجائع يبحث عن الطعام، والظمآن يبحث عن الشراب، والمريض يبحث عن الشفاء، وكل ذي حاجة يبحث عن حاجته، وهذه مجرد أسباب، لكن الذي بيده ذلك كله هو الله، قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 77 - 82].

 

فاتقوا الله تعالى الذي خلقكم ورزقكم، وأطعمكم وكفاكم وآواكم، والذي أنقذكم من الردى وهداكم.

 

اللهم ارزقنا حسن الاعتماد عليك، اللهم ارزقنا الثقة فيك، وحسن الظن بك، واليقين فيما عندك، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين، اللهم اجعلنا ممن توكَّل عليك فكفيته، واستعان بك فأعنته، واستهداك فهديته، ودعاك فأجبته، وسألك فمنحته وأعطيته، يا رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وأقِم الصلاة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من دروس الهجرة النبوية "الأخوة"
  • من دروس الهجرة النبوية المباركة
  • "إن الله معنا" درس من دروس الهجرة النبوية (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • الصحبة الصالحة.. درس من دروس الهجرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • رحلة الهجرة النبوية: دروس وعبر (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الهجرة النبوية الشريفة: دروس وفوائد ولطائف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • في ظلال الهجرة النبوية: دروس وعبر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من دروس الهجرة النبوية المباركة(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • دروس مستفادة من الهجرة النبوية (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دروس وعبر من الهجرة النبوية(مقالة - موقع د. أمين بن عبدالله الشقاوي)
  • دروس من الهجرة النبوية(مقالة - ملفات خاصة)
  • دروس من الهجرة النبوية(مقالة - ملفات خاصة)
  • من دروس الهجرة: التخطيط والأخذ بالأسباب(محاضرة - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 13/11/1446هـ - الساعة: 23:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب