• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / منبر الجمعة / الخطب / السيرة والتاريخ / التاريخ
علامة باركود

ابن عوف

الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان

المصدر: ألقيت بتاريخ: 5 / 8 / 1428 هـ
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/4/2010 ميلادي - 20/4/1431 هجري

الزيارات: 19471

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ابن عوف

 

معاشر المسلمين:

تحيا القلوب بذِكْر الصالحين، وتتطلَّع النفوس لمعرفة حياتِهم، وتُصغي الآذان لسماع أخبارهم، ولاسيَّما إذا كان أولئك هم أصحابَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذين اصْطفاهم الله لصُحْبة نبيِّه، واختارهم لتبْليغ رسالتِه، نقترب من حياة الأصْحاب الأخيار؛ لعلَّ قلوبنا تلين من قسوتِها، ونفوسنا تستيقظ من غفلتها، نقف مع أخبار القوم، في زمنٍ نُمطَر فيه بوابلٍ من الغزْو الثَّقافي، والمسْخ الأخلاقي، حتَّى ضاعتْ معاني القدوة الحسنة بين شبابِنا وناشِئَتنا ما بين مشرقٍ ومغرب.

 

نحنُ اليوم مع رجُل من رجالات المدرسة المحمَّدية، رجلٍ أَعجب أهلَ عصْره، جَمع الفضائل كلَّها، نبض قلبُه بالإيمان، فرخص في سبيل رضا ربِّه كل غالٍ ونفيس، كان مثالاً صادقًا للرجل الذي يُعطي ولا يأخذ، ويؤْثِر ولا يستأْثِر، ويَجود ولا يستجدي، أحد السَّابقين الأوَّلين، والعشَرة المبشَّرين، هاجر الهِجْرَتين، وشهِد بدرًا والمشاهد كلَّها بين يدَي النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم.

 

كان شريفَ النفس، عفيفَ اليد، كثيرَ المال، متينَ الحال، تجودُ يدُه بالأعطيات، وعينُه وقلبه بالعَبرات، نحنُ مع الغنيّ الشَّاكر، والتَّاجر النَّاجح، أبي محمَّد عبدالرحمن بن عوْف القرشيِّ رضي الله عنه.

 

إخوة الإيمان:

وُلد ابنُ عوفٍ بعد عام الفيل بعشر سنين، ونشأ نشأةً صافية، وعُرِف بين قومه بسداد رأيه، ورجاحة عقله.

كان لا يَأْبه بأعمال الجاهلية وعاداتِها، فكان ممَّن حرَّمَ الخمر في الجاهليَّة، وقال في ذمِّها:

رَأَيْتُ الخَمْرَ شَارِبُهَا مُعَنًّى ♦♦♦ بِرَجْعِ القَوْلِ أَوْ فَصْلِ الخِطَابِ

 

باشر الإيمانُ قلبَه منذ أن لاحت تباشير الإسلام في أيَّامه الأولى، أسلَمَ على يد الصِّدِّيق، بعد يومَيْن من إسلام الصدِّيق، فكان بذلك أحدَ الثَّمانية الَّذين لَم يَكُن على وجْه الأرض مسلمٌ غيرُهم.

 

كان اسمُه في الجاهليَّة: عبد الكعبة، وقيل: عبد عمرو، فسمَّاه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم بـ: عبدالرحمن، وكان من مأْثور قوله بعد إسلامه:

أَجَبْتُ مُنَادِي اللَّهِ لَمَّا سَمِعْتُهُ
يُنَادِي إِلَى الدِّينِ الحَنِيفِ المُكَرَّمِ
فَقُلْتُ لَهُ: بِالبُعْدِ لَبَّيْكَ دَاعِيًا
إِلَيْكَ مَتَابِي بَلْ إِلَيْكَ تَيَمُّمِي
أَلا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ فِي الأَرْضِ كُلِّهِمْ
نَبِيٌّ جَلا عَنَّا شُكُوكَ التَّرَجُّمِ

 

ثم كان ابن عوف بعد ذلك منَ الثُّلَّة المؤمنة الَّذين أوذوا بسبب إسلامهم، فصبروا وصابَروا، وما وهنوا لِمَا أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، وبسَبَب هذا البلاء والإيذاء الَّذي لا يطاق، هاجروا بأمْر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الحبشة، ولسانُ حالهم:

وَإِذَا الدِّيَارُ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا
فَدَعِ الدِّيَارَ وَبَادِرِ التَّحْوِيلا
لَيْسَ المَقَامُ عَلَيْكَ فَرْضًا وَاجِبًا
فِي بَلْدَةٍ تَدَعُ العَزِيزَ ذَلِيلا

 

عاش ابن عوف في الحبشة ثلاثةَ أشهر، ثمَّ قفَل بعد ذلك إلى مكَّة، ثمَّ هاجر مرَّة أُخرى إلى الحبشة، ثمَّ عاد مرَّةً أخرى إلى مكَّة، ثمَّ أذِن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لصحابتِه بعد ذلك للهجرة إلى المدينة، فكانَ ابنُ عوف فيمَن خرج مهاجرًا في سبيل الله، ونال بذلك وِسام الثَّناء من ربِّه في قوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].

 

دخل ابن عوف المدينة فقيرًا معدمًا، لا دِرْهم له ولا متاع، لا يَمْلك إلاَّ ثيابَه الَّتي عليْه، فآخَى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بيْنه وبين سعْد بْن الرَّبيع، فقال له سعْد بن الرَّبيع، بِحفاوةٍ إيمانيَّة صادقه، وكرم عربي أصيل: "يا عبدالرحمن، أنا أكثرُ أهل المدينة مالاً، فانظُرْ شطْر مالي فخُذْه، وتَحتي امرأتانِ، فانظُر أيَّتهنَّ أعجب لك حتَّى أُطلِّقَها لك وتتزوَّجها".

فقال له الشَّريف العفيف: "بارك الله لك في أهْلك ومالك، دلُّوني على سوق المدينة".

 

دخل ابنُ عَوفٍ سوقَ المدينة وعمره ثلاثٌ وأربعون سَنَة، وكان صنَّاع السّوق وسَمَاسِرته من يهود بني قينقاع، فلم يثْنِ عزيمتَه، ولم يفتَّ في همَّته هذا الاحتكارُ اليهودي، بل زاحمَ في السُّوق، واشترى وباع، وربح وادَّخر، وهكذا سارتْ به الأيَّام، وهو يكدح في العمل وطلَب الحلال والعفاف.

 

رآه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد مدَّة، في هيْئةٍ حسنة، وعليه أثر الطِّيب، فقال: ((ما هذا يا ابنَ عوف؟))، قال: يا رسولَ الله، تزوَّجتُ امرأةً على وزْن نواةٍ من ذهب، قال: ((باركَ الله لك، أَوْلِم ولو بِشاة)).

 

إخوة الإيمان:

يقول المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما فتحَ إنسانٌ على نفسِه بابَ مسألة، إلاَّ فتح الله عليْه باب فقْر))؛ رواه الترمذي وغيره، وصحَّحه ابن حبان.

 

ومفهوم الحديث - عبادَ الله -: أنَّ العبد إذا عفَّ عن المسألة، واتَّقى ربَّه في طلب الحلال، مع فِعْل الأسباب - أغلقَ اللَّه دونَه أبواب الفَقْر، وهكذا كان ابنُ عوف، بسبَب عفافِ يدِه، وشرف نفْسه، فتح الله عليْه باب الرِّزق، وساعدَه في ذلك حماستُه في التِّجارة، وذكاؤه في استِجْلاب السِّلع، وطريقة تصْريفها.

 

سأله أحد أصحابه: بِمَ أدركتَ من التِّجارة ما أدْركتَ؟ فقال: "لأنِّي لم أشترِ معيبًا، ولم أُرِد ربحًا كثيرًا، والله يبارك لِمَنْ يشاء".

 

وبارك الله لابنِ عوف في تِجارتِه، فكان لا يشتري شيئًا إلاَّ ربِح فيه، حتَّى قال عن نفْسِه مُتَعجِّبًا: "لقد رأيتُني لو رفعتُ حجرًا، لوجدتُ تَحتَه فضَّة وذهبًا".

 

وهكذا أصبح الفقيرُ المُعْدم في سنواتٍ معْدودة مِن أثْرياء أهل المدينة، ومن أصحاب الأموال الضَّخْمة والأرْصدة العالية.

 

عباد الله:

أخبرنا ربُّنا تعالى أنَّ المال يفتن العبدَ ويُلهيه، وهو سلاح ذو حدَّين، إمَّا أن يُنجي أو يُردي؛ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10].

 

لكنَّ ابنَ عوف كان له شأنٌ وأيُّ شأن مع هذا المال، نعم، لقد عرف ابن عوف كيف يجمع المال، ولكنَّه أيضًا، عرف كيف يُحسن استِخدام هذا المال، لَم يكن رضي الله عنه كدَّاسًا للثَّروات، جمَّاعًا للمال، في غير نفع ولا منْفعة، فسبحان مَن خَلَقَ السَّخاء والإنفاق، ثمَّ سلَّمه لابْنِ عوفَ! كان رضي الله عنه لا يهنأ إلاَّ بإنفاق المال، سرًّا وجهرًا، في العُسْر واليُسْر، حتَّى ملك القُلوبَ بِماله، فشاطرَه بالانتِفاع في هذا المال أهلُه وأقاربُه، وإخوانُه ومجتمعه، حتَّى قيل: كان أهلُ المدينة عيالاً على عبدالرحمن بن عوف: ثلُثٌ يُقْرِضهم مالَه، وثلُث يقضي دَينهم، ويَصِلُ ثلثًا.

 

♦ سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدْعو النَّاس للصَّدقة، لكي يُجهِّز سريَّة، فذهب إلى بيْتِه مسرعًا ثُمَّ عاد، ونثَر بين يدَي النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أربعة آلاف دينار، هي نِصْف مالِه، فدعا له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ماله.

♦ قدَّم يومًا لجيوش الإسلام خمسَمائةِ فرسٍ، ومرَّة ألفًا وخمسمائة راحلة.

♦ باع يومًا أرضًا بأرْبعين ألف درهم، فقسمها في فقراء أقاربه، والمهاجرين وأمَّهات المؤمنين.

♦ في غزوة تَبُوك، حينما كان الحاجةُ للمال أكثرَ من الرجال، أنفقَ ابنُ عوف إنفاق مَن لا يخْشى الفقر.

♦ وتصدَّق بصدقةٍ عظيمة، حتَّى قال عمر بن الخطَّاب بعد أن رأى كثرةَ صدقتِه: "إنّي لا أرى عبدالرَّحمن إلاَّ مرتكبًا إثمًا، فما ترك لأهله شيئًا!".

 

وغمزه المنافقون ولَمزوه بالرِّياء، مِن كثرة ما جاء به إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 79].

 

كان دائمًا رضي الله عنه ما يتفقَّد أحْوال أمَّهات المؤمنين، ينهض بحوائجهنَّ، ويسعى في أمورهنَّ، ويحج معهنَّ إذا حججْن، أرسل يومًا مالاً وفيرًا لعائشة رضي الله عنها فقالتْ: سقى الله ابن عوف من سلْسبيل الجنة، سمعْتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لا يَحنو عليْكنَّ بعْدي إلاَّ الصَّابرون))؛ رواه التّرمذي، وصحَّحه ابن حبَّان.

 

إخوة الإيمان:

ومع هذا المال وتلك الثَّروة، كان ابن عوف رضِي الله عنْه يَحمل بين جنبيْه نفسًا صغيرة مُتواضعة، لا تعرف الكِبْر ولا التَّعالي، حتَّى قيل: لوْ رآه غريبٌ لَم يعْرفه بين عبيده وخدمِه.

 

لقد كان رضِي الله عنْه مثالاً حقًّا للمؤْمِن الغنيِّ الزَّاهد.

 

يُطْعَنُ الفارُوق رضِي الله عنه فيجعل أمْر المسلمين بين ستَّة من الصَّحابة، والَّذين توفِّي رسولُ الله وهو عنهم راضٍ، وكان منهم عبدالرحمن بن عوف، فتنازَل رضِي الله عنه عن المنصب وزَهَد في الخلافة، ورضي أن تُجعَل في الخمسة الباقين.

 

كان - رضي الله عنه - صوَّامًا قوَّامًا، شجاعًا مقدامًا، لَم يتخلَّف عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلم في غزوةٍ قطّ.

 

وكان من القلَّة الَّذين ثبتوا بين يدَي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أُحُد، فَهُتِمَ فمُه، وسَقَطَتْ ثَنيَّتاه، وخرج من هذه الغزوة وفيه بضعةٌ وعشرون جرحًا، بعضها عميق تدخل فيه يد الرَّجُل.

 

وأمَّره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على جيش فيه أبو بكر وعمر، وسيَّره إلى دومة الجنْدل، ليؤدِّب القبائل التي كانتْ تُغير على قوافل المسلمين.

 

عباد الله:

ومع هذه الفضائل الكبرى يبقى لابن عوف وسام لا يعْدِله وسام، وتاجٌ تمتدُّ نحوَه الأعناق، وتهفو إليه (النفوس)، إنَّه إكرام الله تعالى له، حينما صلَّى خلفه إمام الأنبياء، وسيِّد الأوَّلين والآخرين صلَّى الله عليه وسلَّم وذلك في غزوة تبوك، حينما خرج رسولنا إلى حاجته في السَّحَر، فأبطأ على الناس، فقدَّم الناسُ ابنَ عوف يصلِّي بهم، فأدْركَهم النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم في الرَّكعة الثَّانية، فهمَّ ابنُ عوفٍ أن يرجع مأمومًا، فأشار إليْه النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم أنْ أتمَّ صلاتك، فأتَمَّها إمامًا، هذا الشَّرَف لَم يتقلَّدْه إلاَّ ابنُ عوف، ثُم الصدِّيق بعد ذلك في مرَض النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي مات فيه.

 

ومن فضائِل ابْنِ عوفٍ: مكانته في قلْب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ودِفَاعه عنْه في كثيرٍ من المواقف، حصل بين خالدِ بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف مشادَّةٌ كلاميَّة؛ بسبب أسرى جذيمة، فأسْمعَ كلٌّ منهما ما يؤْذي الآخر، فبلغ ذلك النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال لخالد مبيِّنًا فضل عبدالرحمن بن عوف: ((دعُوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدٌ مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).

 

أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم: ﴿ مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23].

 

بارك الله لي ولكُم في القُرآن، ونفعني وإيَّاكم بهدْي سيِّد المرسلين، أقول ما سمعتُم وأستغفر الله.


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريك له، له الحمْد في الأولى والأخرى، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، النبيُّ المرتضَى، والرَّسول المجتبى، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحْبِه ما دامت الأرضُ والسَّماء.

 

أما بعدُ، فيا عباد الله:

ومِن معالِم شخصيَّة ابن عوف: أنَّه كان واسعَ العلم، معدودًا في فُقهاء الصَّحابة رضِي الله عنهم وهو أحد النَّفَر القلائل، الَّذين كانوا يُفْتون في المدينة ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حي.

 

وقد حدَّثَتْنا دواوينُ السنَّة وكتب التَّاريخ أنَّ ابن عوف قد فصل في عدَّة حوادث أُعضلتْ على الصَّحابة، واحتارتْ فهومُهم فيها، فحينما احتار الفاروق في أمْر المجوس، جاءه العلْم والخبَر من الخبير عبدالرحمن بن عوف، فقال: أشهد أنِّي سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((سنُّوا فيهم سُنَّة أهل الكتاب))، فأخذ عمرُ الجزْية من مَجوس هجر، ولمَّا خرج عمرُ إلى الشَّام، جاءه الخبر وهو في الطَّريق أنَّ الطاعون قد حلَّ بالنَّاس، فأوقف الفاروق المسير، واستشار النَّاس في ذلك، فمنهم مَن رأى الذَّهاب والتوكُّل على الله، ومنهم مَن رأى الرُّجوع، فجاء ابن عوف وفصل في القضيَّة، بأنَّه سمع النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إذا سمعتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها، فلا تخرجوا فرارًا منه))، فرجع عمر بعد ذلك قافلاً إلى المدينة.

 

وحينما رأى عمر أيضًا جُرأةَ النَّاس على شُرْب الخمر، استشار الصَّحابة في زيادة الحدّ؛ لكي يرتدع الفسَقةُ عنها، فأشار عليْه عبدالرحمن بن عوف بثمانين جلدةً؛ لأنَّ أخفَّ الحدود ثمانون، فأخذ عمر برأيه، وعمل به الخلفاءُ بعده.

 

كان ابنُ عوف رضي الله عنه مُرْهَفَ الإحساس، كثير المحاسبة للنفس، تدمع عينُه إذا تذكَّر حال أمسِه ويومه، ويبكي كثيرًا إذا تذكَّر الحال التي كان عليها نبيُّه وحبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

اجتمع يومًا بعضُ أصحابه عنده على طعامٍ له، وما كاد الطَّعام يُوضع حتَّى بكى ابنُ عوف، فسألوه: ما يبكيك يا أبا محمَّد؟ فقال: "لقد مات رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما شَبِع هو وأهلُ بيتِه من خبز الشَّعير".

 

وفي آخِر حياته أوْصى بكثيرٍ من ماله، فأوْصى بخمسين ألفَ دينار صدقةً في سبيل الله، وأوْصى بألف فرس لجيوش الإسلام، وأعتق خلقًا كثيرًا من مَماليكِه، ولم ينسَ إخوانه أهْلَ بدْر، فأوْصى لهم من ماله، وكانوا مائة، فأُعْطيَ كلُّ واحدٍ منهم أربعمائة دينار.

 

ثمَّ بعد ذلك جاءَه أمر الله، الذي لا يخطئ أحدًا من البشر، فمرض - رضي الله عنه - ولازمته الأوجاع، فلزم بيته شهرًا، وكان في أيَّامه تلك كثيرَ الصَّوم والاستغفار، جيءَ له بإفطاره يومًا، وكان صائمًا، فلمَّا وقعتْ عينه على الطَّعام جال في خاطره شريطُ الذِّكْريات، فتذكَّر إخوانه المهاجرين الأوَّلين، والحال الَّتي ماتوا عليها، فَفَقَدَ شهية الطَّعام، وسَكَبتْ عينه دمعاتٍ حارَّات، وقال: "استُشْهِد مصعب بن عمير وهو خيرٌ منِّي، فكفِّن في بُرْدة، إن غَطَّتْ رأسَه بدتْ رِجْلاه، وإن غطَّتْ رجلَيْه بدا رأسُه، واستشهد حَمزةُ - وهو خير منِّي - فلم يُوجدْ له ما يُكفَّنُ فيه إلاَّ بردة، ثمَّ بُسط لنا من الدُّنيا ما بُسط، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا، وإنِّي لأخشى أن تكونَ قد عجِّلت لنا حسناتُنا"، ثمَّ أمر بالطَّعام فرفع.

 

وفي أيَّامه تلك عرضتْ عليه أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنْها أن يُدْفَن في حجرتها إلى جوار الصدِّيق والفاروق، فاعتذر رضِي الله عنْه عن هذا التَّشريف العظيم؛ لأنَّه تذكَّر ميثاقه وعهْده مع أخيه عثمان بن مظعون، عندما توافَقَا وتعاهَدَا أيَّام حياة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أيهما مات بعدَ الآخر أن يُدفن إلى جوار صاحبه، وما هي إلاَّ أيَّامٌ قلائل، حتَّى فاضتْ رُوحه الزكيَّة، ولقي ربَّه مؤمنًا صادقًا زاهدًا، بعد حياة مليئة بالعلم والتُّقى، والبذْل والإنفاق، وتأثَّر أهل المدينة برَحيلِه، وبكى عليه القريبُ والبعيدُ، والكبيرُ والصغيرُ، والجار والصديق.

 

وقف عليٌّ - رضي الله عنه - على جنازته قبل دفنه فقال: "اذهب يا ابن عوف، فقد أدركْتَ صفْوَها، وسبقت رنْقَها".

والرنْق: الكدر.

 

وفي البقيع ثُوِي جثمان ذاك الجواد الكريم، مع إخوانه الصَّحْب الكرام، رحل ابن عوف لكن اسمه ونفقاته ستبْقى محفورة في ذاكرة الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وستبقى الأمَّة تترضَّى عنْه.

 

اللهُمَّ صلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه
  • يا بن عوف إنها رحمة

مختارات من الشبكة

  • من سلسلة أحاديث رمضان حديث: يا معشر قريش، احفظوني في أصحابي وأبنائهم وأبناء أبنائهم(مقالة - ملفات خاصة)
  • ابن النجار وابنه تقي الدين ابن النجار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ابن بطة الأب وابن بطة الابن(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من تراجم المنشئين: الخوارزمي - ابن العميد - ابن عبد ربه - ابن المعتز - الجاحظ - الحسن بن وهب(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب (WORD)(كتاب - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه(مقالة - ملفات خاصة)
  • أثر العامل الفكري في فكر الإمام ابن مفلح(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مخطوطة الدلائل في شرح ما أغفله أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • من مائدة الصحابة (عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه)(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
1- رضي الله عن الصحابة
سامي - السعودية 05-04-2010 04:08 PM

رضي الله عن الصحابة كانوا مشاعل نور مضيئة ، وما أجمل ان يكون الحديث عنهم ، وخصوصاً عمن في منزلة عبدالرحمن ابن عوف رجل اوتي مالاً وجاهاً ورضي الله عنه،وبُشِّر بالجنة؛ فما زاده إلا حباً لله وتواضعاً، وخوفاً وخشية من الله.
جزاكم الله خيراً.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب