• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / منبر الجمعة / الخطب / الرقائق والأخلاق والآداب / في النصيحة والأمانة
علامة باركود

الأمانة: فضائلها ومجالاتها (خطبة)

الشيخ سعد الشهاوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 3/11/2015 ميلادي - 20/1/1437 هجري

الزيارات: 63988

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الأمانة

فضائلها ومجالاتها


الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى يعطى ويمنع، ويخفض ويرفع ويضر وينفع، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما يمنع. يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. يعلم الأسرار، ويقبل الأعذار، وكل شيء عنده بمقدار، سبحانه كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

 

من للعباد غيره يدبر الأمر ومن يعدل المائل من يشفى المريض ومن يرعى الجنين فى بطون الحوامل من يحمى العباد وهم نيام وهل لحمايته بدائل من يرزق العباد ولولا حلمه لأكلوا من المزابل من ينصر المظلوم ولولا عدله لسووا بين القتيل والقاتل ومن يظهر الحق ولولا لطفه لحكم القضاة للباطل من يجيب المضطر اذا دعاه وغيره استعصت على قدرته المسائل من يكشف الكرب والغم ومن يفصل بين المشغول والشاغل من يشرح الصدور ولولا هداه لنعدم الكوامل من كسانا.من أطعمنا وسقانا..من كفانا وهدانا من خلق لنا الأبناء والحلائل من سخر لنا جوارحنا ومن طوع لنا الأعضاء والمفاصل من لنا إذا انقضى الشباب وتقطعت بنا الأسباب والوسائل هو الله،،،هو الله...هو الله الإله الحق وكل ما خلا الله باطل.

 

يا أيها الماء المهين من الذي سواك
ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا
ومن الذي غذاك من نعمائه
ومن الكروب جميعها نجاكا
ومن الذي شق العيون فأبصرت
ومن الذي بالعقل قد حلاكا
ومن الذي تعصي ويغفر دائما
ومن الذي تنسى ولا ينساكا

 

﴿ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النمل: 63].

وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.

♦♦♦


نوح الحمام على الغصون شجاني
ورأى العذول صبابتي فبكاني
إن الحمام ينوح من ألم النوى
وأنا أنوح مخافة الرحمن
يا من يجيب العبد قبل سؤاله
ويجود للعاصين بالغفران
أنا إن بكيت فلن ألام على البكا
فلطالما استغرقت في العصيان
أنا ﻻ أضام وفي رحابك عصمتى
أنا ﻻ أخاف وفي حماك أماني
♦♦♦
يا من إذا قلت يا موﻻي لباني
يا واحدا في ملكه ما له ثاني
أعصيك تسترني أنساك تذكرني
فكيف أنساك يامن لست تنساني
♦♦♦
يا من إذا وقف المسيء ببابه
ستر القبيح وجاد بالإحسان
وأنا المسيء وقد عرفتك سيدي
تعفو وتصفح للعبيد الجاني
أمسيت ضيف الله في دار الرضا
وعلى الكريم كرامة الضيفان
تعفو الملوك عن النزيل بساحهم
كيف النزيل بساحة الرحمن
يا رب عبدك من عذابك مشفق
بك مستجير من لظى النيران
فارحم تضرعه إليك وحزنه
وامنن عليه اليوم بالغفران
يا رب وفقني ﻷن أعيش موحدا
ومهللا أدعوك بالقرآن
يا رب أوردنا لحوض المصطفى
نسقى هنيئا من يد العدنان
صلى عليك الله يا علم الهدى
ما ناح قمري على الأغصان

 

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا وسيدنا وقدوتنا وحبيبنا سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن أهل بدر والعقبة، وسائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

يا أيها الراجون خير شفاعةٍ
من أحمدٍ صلُّوا عليه وسلِّموا
صلَّى وسلَّم ذو الجلال عليه ما
لبَّى مُلبٍّ أو تحلَّل مُحرِمُ

 

أما بعد:

سوف نتحدث إن شاء الله تعالى مع حضراتكم في هذه العناصر المعدودة:

♦ لماذا نتحدث عن الأمانة

♦ الأمانة فى القران

♦ الترغيب في أداء الأمانة وبيان ما في ذلك من فضلٍ

♦ معنى الأمانة ومجالاتها

♦ جزاء من خان الأمانة

 

أولا:- لماذا نتحدث عن الأمانة:

أحبَّتي في الله...إنَّ هذا الموضوع من الأهميَّة بمكان، خُصوصًا في هذا الزمان.عندما نرى كثيراً من أُمورِ الدينِ قد فُقِدتْ، ثم نسمعُ قولَه صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ: الْأَمَانَةُ".نعلمُ أننا إذا تكلَّمنا عن الأمانةِ، فإننا سنتكلّمُ عن أمرٍ هو كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، ولا نعلمُ هل بلغَ بنا الزمانُ الذي ذكره النبيُ - عليه الصلاة والسلام - حين ذكرَ رَفْعَ الأَمَانَةِ، فقالَ: " كما أخرج البخاري ومسلمٌ من حديث حُذيفة رضي الله عنه قال: ": ينامُ الرَّجلُ النومة فتُقبَضُ الأمانةُ من قلبه، الى أن قال عليه الصلاة والسلام -، فيُصبحُ الناس يَتبايَعُون، فلا يَكادُ أحدهم يُؤدِّي الأمانة، فيُقالُ: إنَّ في بَني فُلانٍ رجلاً أمينًا، ويُقال للرجل: ما أعقَلَهُ، وما أظرَفَهُ، وما أجلدهُ! وما في قلبه مثقَالُ حبَّة خَردلٍ من إيمانٍ.

 

نتكلمُ عن الأمانةِ؛ لأن الكلامَ عن الأمانةِ أمانةٌ أخذَها اللهُ - تعالى - على أهلِ العلمِ، وأصبحَ الحديثُ عن الأمانةِ ضرورةً في هذا الزمانِ. فعندما ترى الرجلَ قد عَلاهُ الغمُّ، وأنَقَضَ ظهرَه الهمُّ، قد طَأْطَأَ رأسَه، وتلعثمَ لسانُه، يطلبُ قَرْضاً ليُفرِّجَ عن نفسِه الكُربةَ الشديدةَ، ويعيشَ حياةً سعيدةً، فتتذكرَ حديثَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيامَة".فتُعطِيه ما يَردُّ البسمةَ إلى وجهِه، ويُعيدُ الفرحةَ إلى أهلِه، ثُمَّ بعد ذلك ينسى لك ما فاتَ، ولا يُجيبُ على الاتصالاتِ، ولا تنفعُ الشفاعاتُ، وينسى أنه: "يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ".وعندما ترى الموظفَ قد تساهلَ في عملِه، وفَرَّطَ في وظيفتِه، وعَطَّلَ مصالحَ المسلمينَ، وكأنَه لم يسمعْ دعاءَ نبيِ الرحمةِ، على من شقَّ على أبناءِ الأُمَّةِ: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ".بل ويتجاوزُ هذا إلى تعقيدِ الأمورِ، واختلاقِ الأعذارِ لتأخيرِ المعاملاتِ، لينالَ بذلك من متاعِ الدنيا القليلِ، ويُعَرِّضَ نفسَه للطردِ والإبعادِ عن رحمةِ ربِّ العبادِ؛ كما جاءَ في الحديثِ: "لَعَنَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ".نحتاجُ للحديثِ عن الأمانةِ، إذا رأيتَ كثيراً من الناسِ، يلهثونَ خلفَ تحصيلِ المالِ، من حرامٍ كانَ أم من حلالٍ، أكلٌ لأموالِ الناسِ بالباطلِ، سِلعٌ مغشوشةٌ، مساهماتٌ كاذبةٌ، وعِصاباتٌ، يتحكمونَ بالأسهمِ والعقاراتِ، لوحاتٌ على محلاتٍ قد عَشَّشَ فيها العنكبوتُ، أسعار وهميةٌ، كَذِبٌ وخِداعٌ، كأننا في غابةٍ لا يعيشُ فيها إلا السِباعُ، تحايلٌ على النظامِ، ومخالفةٌ لتعاليمِ الإسلامِ.

 

عندما ترى المِلياراتِ، تُصرفُ في الميزانيات، ثم تُقَلِّبُ بصرَك في الواقعِ المريرِ، فيَنْقَلِبُ إِلَيْكَ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ: فترى المواطنَ لا يجرؤ حتى أن يحلُمَ بمسكنٍ فسيحٍ، ومستشفى مُريحٍ، ومدارسَ متطوَّرةٍ، وطُرُقٍ واسعةٍ.أيُعقلُ أن يتحولَ المطرُ في بلادِنا إلى شِبهِ كارثةٍ؛ تغرقُ فيه الشوارعُ، وتتساقطُ معه الأَسقُفُ، ويظهرُ فيه عُوارُ المشاريعِ السقيمةِ، والصَفقاتِ الأثيمةِ، والنتائجِ الأليمةِ، و واللهِ إن التلاعبَ بأرواحِ البشرِ لجريمةٌ؟. هل مستوى التعليمِ يَصلُ إلى تَّطَلُّعاتِنا؟

 

أين برامجُ تعزيزِ التربيةِ وتنميةِ الأخلاقِ في مدارسِنا؟لماذا أصبحنا فى المنزلة قبل الأخيرة فى التعليم على مستوى العالمرغم كثرة ما ينفق على التعليم من مليارات؟لماذا طغت الدروس الخصوصية على بيوتنا وأثقلت كواهلنا وطغت على مجتمعاتنا؟

 

الأمانة فى القران:

من خلال تتبعنا للآيات الواردة في القران الكريم عن «الأمانة»نرى أنها وردت على معان عدة منها:
أولا: ما يؤتمن عليه الإنسان من ودائع ونحوها: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ « البقرة: 283 مدنية ».

 

و قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ « آل عمران: 75 مدنية ».


ثانيا: ما يؤتمن عليه الإنسان من الفرائض والتكاليف:ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ « الأنفال: 27 - 28 مدنية ».

 

و قوله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ « الأحزاب: 72- 73 مدنية ».


ثالثا: ما يؤتمن عليه الإنسان من الأعراض (العفة والصيانة):ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ « القصص: 20- 26 مكية »


رابعا: ما يؤتمن عليه الملائكة والرسل في التبليغ عن المولى - عز وجل -: قال - جلَّ وعلا - عن جبريل عليه السلام أمينِ الوحي الذي ينزلُ بالوحي على أنبيائه: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193]. قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 336): هو جبريل- عليه السّلام- أمين الوحي، وقد وصفه اللّه بذلك في قوله- ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 192 - 194].

 

لقد جاء جميعُ الرسل وأخبروا قومَهم بأمانَتِهم في تبليغ الرسالة إليهم:فالأمانة من أبرز أخلاق الرسل والأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - فهذا نوحٌ وهودٌ وصالح ولوطٌ وشعيب.. كل واحدٍ منهم قد قال لقومه: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ (سورة الشعراء الآيات 107 - 143- 125 - 162 - 178 )

 

• وقال نبيُّ الله موسى عليه أفضل الصلاة والسلام لقومه: ﴿ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الدخان: 18].

 

وأمانة موسى وقوته هي التي دفعت إحدى ابنتي شعيب إلى استئجاره لرعي أغنامهم، ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ ( القصص: 26).

 

ويوسف الصديق- عليه السلام - لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعلمه وأمانته أيضاً، قال تعالى: ﴿ وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ * قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ (يوسف:54 - 55).

 

ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - ما كان يُعْرَف في قومه قبلَ البعثة إلا بالصادق الأمين وهل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يمتلكُ إلا هاتين الصِّفتين؟ لابل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يجمعُ كلَّ الصفات الحسنة، ولكن لَمَّا كانت صفة الصِّدق وصفة الأمانة من أعظم الصِّفات البارزة فيه؛ لُقِّبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- موضع ثقة عند أهل مكة جميعًا، وكان الناس يَختارُونه لحفْظ وَدائعهم، فكان كل من يملك شيئًا يخاف عليه من الضياع يودعه أمانة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان عند الحبيب أمانات وودائع حتى لمن لم يؤمن به لمشركي أهل مكة، كان المشركون مع كفرهم بالله لا يستأمنون أحداً في مكة إلا الصادق الأمين الوفي الكريم، كانوا به كافرين، وكانوا في أمانته واثقين وكان النبي يحافظ على هذه الأمانة ويردها إلى صاحبها كاملة غير منقوصة حين يطلبها وعندما اشتد أذى المشركين له صلى الله عليه وسلمأُذِن له بالهجرة من "مكة" إلى "المدينة"، وكان عند النبي أمانات كثيرة لهؤلاء الكفار الذين كانوا يدبرون له مؤامرة لقتله، فلم يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن كلف ابن عمه عليَّ بن أبى طالب -رضي الله عنه- بردّ كل تلك الأمانات إلى أهلها، فقام علي -رضي الله عنه- بتلك المهمة على خير وجه.

 

وظل المشركون يشهدون بأمانته صلى الله عليه وسلم فهذا أبو سفيان فيل إسلامه يتحدث مع هرقل كما جاء عن عبد اللّه بن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال: «أخبرني أبو سفيان أنّ هرقل قال له:سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنّه يأمر بالصّلاة والصّدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبيّ»)* « البخاري- الفتح 1 (6)، ومسلم (1773).».

 

ولم تكن أمانته صلى الله عليه وسلم له وحده بل كان يأمر الناس بها أخرج الإمام أحمدُ عن أمِّ سلمة - رضِي الله عنها - في حديث هجرة الحبَشة، ومن كلام جعفَرٍ في مُخاطَبة النجاشيِّ، فقال له: "أيُّها الملك، كُنَّا قومًا أهلَ جاهليَّة، نعبُد الأصنام، ونأكُل الميتَة، ونأتي الفواحِشَ، ونقطعُ الأرحام، ونُسِيءُ الجوار، يأكُل القويُّ منَّا الضعيف، فكُنَّا على ذلك حتى بعَث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرفُ نسَبَهُ وصِدْقَهُ وأمانتَه وعَفافَه، فدعانا إلى الله، لنُوحِّدَهُ ونعبُدَه، ونخلع ما كُنَّا نعبدُ نحن وآباؤنا من دُونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصِدق الحديث وأداء الأمانة وصِلة الرَّحِم وحُسن الجوار، والكفِّ عن المَحارِم والدِّماء، ونَهانا عن الفَواحش، وقول الزُّور، وأكْل مال اليتيم، وقذْف المحصَنة، وأمَرَنا أنْ نعبُدَ الله وحدَه لا نشرك به شيئًا، وأمَرَنا بالصلاة والزَّكاةِ والصِّيامِ، قال: فعدَّد عليه أمُورَ الإسلام، فصَدَّقناهُ وآمَنَّا، واتَّبعناهُ على ما جَاءَ به..." الحديث. « أحمد (1/ 202) وقال المحقق الشيخ أحمد شاكر (3/ 180): إسناده صحيح، وهو في سيرة ابن هشام (217- 221) عن ابن إسحاق. والحديث بطوله في مجمع الزوائد (6/ 24- 27) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.».

 

وكان صلى الله عليه وسلم يقولُ عن نفسه: "أمَا والله إنِّي لأمينٌ في السَّماء وأمينٌ في الأرض" (الطبراني في "الكبير": 1/ 231)، (وهو في "صحيح الجامع": 1327) وعند البخاري بلفظ: "ألا تأمَنُوني وأنا أمينُ مَن في السماءِ، يأتيني خبرُ السماء صباحًا ومساءً؟ "

 

وأخرج الترمذيُّ والنسائيُّ ـ: عن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: "كان على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثَوْبانِ قطريَّانِ غَلِيظانِ، فكـان إذا قعَد فعرقَ، ثَقُلا عليه، فقَدِم بَزٌّ (البَزُّ: الثِّياب. وقيل: ضربٌ من الثِّياب، انظر: "لسان العرب"، (بزز).) من الشام لفلانٍ اليهوديِّ، فقلت: لو بَعَثْتَ إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرةِ، فأرسل إليه فقال: قد علمْتُ ما يريد، إنما يريدُ أنْ يذهب بمالي أو بدَراهمي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كَذَبَ؛ قد عَلِمَ أنِّي من أتقاهُم لله وآداهُمْ للأمانَِة" « الترمذي 3 (1213) وقال: حديث حسن غريب صحيح، والنسائي 7/ 294)، البيوع: باب البيع إلى أجل معلوم، وقال محقق «جامع الأصول» (10/ 660): إسناده صحيح. صحَّحه الألباني في "صحيح سنن الترمذي")».

 

الترغيب في أداء الأمانة وبيان ما في ذلك من فضلٍ:

1- الأمانة سببٌ لمحبَّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن سَرَّهُ أن يُحِبَّهُ الله ورسوله فليَصْدُق حَدِيثَهُ إذا حدَّث، وليُؤَدِّ أمانَتَه إذا اؤتُمِن" (حسَّنه الألباني في "تحقيق المشكاة": 4990).

 

2- الأمين كالغازي في سبيل الله: أخرج الإمام أحمدُ وأبو داود عن رافع بن خَدِيجٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"العامِلُ على الصدَقة بالحقِّ كالغازي في سبيل الله حتى يرجعَ إلى بيتهِ" ("صحيح الجامع": 4117 ).

 

3- وبيَّن الرسولُ الأمين صلى الله عليه وسلم أنَّ الخازن الأمين هو أحد المتصدِّقين:أخرج البخاري ومسلمٌ عن أبي مُوسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخازنُ الأمين الذي يُؤَدِّي ما أُمِرَ به طيِّبَةً نفسُهُ أحَدُ المتصدِّقين".

 

وفيهما أيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخازن المسلم الأمينُ الذي يُعْطِي ما أُمِرَ به كاملاً مُوفَّرًا طيِّبَة به نفسُه فيدفعُهُ إلى الذي أُمِرَ لَهُ به، أحدُ المُتصدِّقين".

 

4- الأمانة سبب البركة والنماء:فقد أخرج البخاري ومسلمٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "البيِّعان بالخِيار ما لم يتفرَّقا، فإنْ صَدَقَا وبيَّنا بُورِكَ لهما في بيعهما، وإنْ كتَما وكذَبا مُحِقتْ بركةُ بيعهما".

 

فإذا ذهبت الأمانة وكانت الخيانة فقد ذهَبت البركة؛ فقد أخرج أبو داود بسندٍ ضعيف أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا ثالثُ الشريكين ما لم يخنْ أحدهما صاحبَه، فإذا خانَه خرجتُ من بينهما".

 

5- الأمانة سبب للرزق والسعادة في الدنيا:عن نافعٍ مولى ابنِ عمر رضي الله عنه قال: "خرج عبد الله بن عمر - رضِي الله عنهما - في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ لهُ، ووضَعُوا السفرة لَهُ، فمَرَّ بهم راعي غنمٍ، فسلَّم، فقال ابن عمر: هَلُمَّ يا راعٍ فأصِبْ من هذه السفرة، فقال له: إنِّي صائم، فقال ابن عمر: أتصومُ في مثل هذا اليوم الحارِّ الشديد سمومُه وأنت في هذه الحال ترعى الغنم؟! فقال: والله إنِّي أبادر أيامي الخالية، فقال لهُ ابن عمر وهو يريد أنْ يختبر ورعه - وأمانته -: فهل لك أنْ تبيعنا شاةً من غنمك هذه فنُعطِيَك ثمنها ونُعطِيَك من لحمِها ما تفطر عليه؟ قال: إنها ليست لي بغنمٍ، إنها غنمُ سيدي، فقال له ابنُ عمر: فما يفعلُ سيدك إذا فقَدَها؟ فولَّى الراعي عنه، وهو يرفعُ أصبعَه إلى السَّماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فجعل ابن عمر يُردِّدُ قولَ الراعي، يقول: قال الراعي: أين الله؟ قال: فلمَّا قدم المدينة بعَث إلى مولاه، فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتَقَ الراعي ووهَبَ له الغنم " ("أسد الغابة"؛ لابن الأثير (3/ 341).

 

6- الأمانة سببٌ لحِفظ الأهل والمال:قال الخضرُ لموسى عليه السلام مُبيِّنًا سبب بنائه للجدار: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82].

 

وكان سعيد بن جبير يقول في قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]: "كان يُؤدِّي الأمانات والودائع إلى أهلها، فحَفِظَ الله تعالى له كنزَه، حتى أدرَكَ ولداه، فاستخرجا كنزهما" ("حلية الأولياء" (4/ 287).

 

وقد سأل بعضُ خُلَفاء بني العبَّاس بعضَ العلمَاء أنْ يُحدِّثه عمَّن أدرَكَ، فقال: "أدرَكتُ عمر بن عبد العزيز، قيل له: يا أمير المؤمنين، أقفرَتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيءَ لهم! - وكان في مرض موته - فقال: أدخِلُوهم عليَّ، فأدخَلوهم، وهم بضعة عشر ذكرًا، ليس فيهم بالغٌ، فلمَّا رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بنيَّ، والله ما منعتُكم حقًّا هو لكم، ولم أكن بالذي آخُذ أموالَ الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إمَّا صالح؛ فالله يتولَّى الصالحين، وإمَّا غير صالح؛ فلا أخلف لَهُ ما يستعينُ به على معصية الله تعالى، قُوموا عنِّي، قال: فلقد رأيت بعض بنيه حمل على مائة فرس في سبيل الله؛ يعني: أعطاها لِمَن يغزو. ("مجموع الفتاوى" (28/ 219).

 

7 - الأمانة دليلٌ على إيمان العبد:فقد أثنَى الله عز وجل في أكثر من آيةٍ على رعاية المؤمنين للأمانة، وفي هذا إعلاءٌ لشَأنها، من هذا الثَّناء قولُه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، فجعَلَها صفةً بارزةً للمؤمنين.

 

• قال ابن كثيرٍ - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: "إنَّ المؤمنين إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدُّونها إلى أهلها، وإذا عاهَدُوا أو عاقَدُوا أَوْفوا بذلك".وجمَع الله الأمانات باعتبار تَعدُّد أنواعها وتعدُّدِ القائمين بحِفظها؛ وذلك تنصيصٌ على العُموم، والحِكمة في جمْع الله تعالى الأمانةَ دُون العهد - والله أعلم - أنَّ الأمانة أعمُّ من العهد؛ ولذا فكُلُّ عهدٍ أمانةٌ" ("فتح القدير"؛ للشوكاني:3/ 646).

 

والأمانة متلازمة مع الإيمان فإذا فقد أحدهما فقد الآخر ولذلك ربط النبي عليه الصلاة والسلام الأمانة بالإيمان كما جاء في الحديث الصحيح فقد أخرج الإمام أحمدُ وابن حبان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ )) [و(لا) كما تعلمون نافية للجنس، أي تنفي جنس الإيمان عن الذي لا أمانة له، تنفي عنه أصل الإيمان، خرج من الإيمان كله..

 

عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده والمؤمن مَن أَمِنَه على دمائهم وأموالهم»)* « الترمذي 5 (2627) وقال: هذا حديث حسن صحيح، النسائي (8/ 104، 105)، وقال محقق جامع الأصول (1/ 240): إسناده قوي وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (26) وأورد من حديث أنس بلفظ نحوه ».

 

وأخرج ابن ماجه وأحمد وابن حبَّان عن فضالة بن عُبَيْدٍ قال: قال صلى الله عليه وسلم:"المؤمنُ مَن أَمِنَهُ الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر مَن هَجَر الخطايا والذُّنوب" ("صحيح الجامع": 6658)

 

لذلك قالَ عمرُ -رضي الله عنه-: "لا تغرُّني صلاةَ امرئ ولا صومَه، مَن شاءَ صامَ، ومَن شاءَ صلى، لا دينَ لمن لا أمانةَ له".

 

وكان عُروة بن الزبير - رضِي الله عنهما - يقول: ما نقصَتْ أمانةُ الرجل إلا نقَص إيمانُه.

 

وبهذا تعلمُ أخي الحبيب أنَّ المؤمن صادقَ الإيمان لا يُتصوَّر منه خِيانةٌ، وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج البيهقيُّ في "سننه" وأبو يَعلى في "مسنده" عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يُطبَعُ المؤمِنُ على كُلِّ خلَّةٍ غيرَ الخيانة والكذب" (قال الحافظ: سنده قوي (10/ 508).

 

8- الأمانة سببٌ للنجاة والمرور على الصراط: فلعِظَمِ الأمانة والرَّحِمِ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ الأمانة والرَّحِمَ تَقُومان يومَ القيامة على جنبتي الصراط عندما يمرُّ الناس على الصراط الذي وُضِعَ فوق جهنَّم يا له من موقفٍ عصيبٍ! فكلُّ مَن ضيَّع الأمانة وقطع الأرحام فلن يثبت على الصراط، أمَّا مَن وصَل رحمَه وأدَّى الأمانة فسيثبت - إنْ شاء الله - على الصراط، ويمرُّ إلى جنَّة الخلد حيث النعيم المقيم، يتمتَّع فيها بلذَّة النَّظر إلى وجه الله الكريم.

 

أخرج الإمام مسلمٌ عن حُذيفةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجمعُ الله - تبارك وتعالى - الناس، فيقوم المؤمنون حتَّى تُزْلَفَ (تُزْلف: تُقرَّب) لهم الجنَّةُ، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا، استفْتحْ لنا الجنَّة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنَّة إلاَّ خطيئةُ أبيكم آدم، لستُ بصاحِبِ ذلك، اذهَبُوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال: فيقول إبراهيمُ: لستُ بصاحب ذلك، إنما كُنت خليلاً من وراءَ وراءَ (وراءَ وراءَ: كلمة مُؤكِّدة؛ كشذر مذر، وشغر مغر، فرَكَّبَها وبَناهما على الفتح.)، اعمدوا إلى موسى عليه السلام الذي كلَّمَهُ الله تكليمًا، فيأتون موسى عليه السلام فيقول: لستُ بصاحبِ ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحِهِ، فيقول عيسى عليه السلام: لستُ بصاحبِ ذلك، فيأتون محمَّدًا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيُؤذَن له، وتُرسَل الأمانَةُ والرحمُ فتقومان جنبتي الصِّراطِ يمينًا وشمَالاً، فيمُرُّ أولكم كالبرقِ، قال: قلت: بأبي أنت وأمي أي شيءٍ كمرِّ البرقِ؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمُرُّ ويرجعُ في طرفِة عينٍ؟ ثمَّ كمرِّ الرِّيحٍ، ثمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وشدِّ الرِّحالِِ(شد الرِّحال: الشدُّ هو العدو البالغ الجرْي.) تَجْري بهم أعمَالهم(تجري بهم أعمالُهم: هو تفسيرٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيمرُّ أوَّلكم كالبرق، ثم كمَرِّ الرِّيح")، ونبيُّكم قائمٌ على الصِّراطِ يقول: ربِّ سلِّمْ سلِّمْ، حتى تعجزَ أعمَالُ العبادِ حتى يَجِيءَ الرَّجُلُ فلا يستطيع السير إلاَّ زحفًا، قال: وفي حافتي الصِّرَاط كلالِيبُ معلَّقةٌ مأمورةٌ بأخْذ مَن أُمرتْ به؛ فمخْدُوشٌ ناجٍ، ومكْدُوسٌ في النَّار (مكدوس في النار؛ أي: مدفوعٌ فيها) ".

 

9- أداء الأمانة سببٌ لدُخول الجنَّة: أخرج الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضمَنُوا لي سِتًّا من أنفسِكُم أضمنْ لكم الجنَّة؛ اصدقُوا إذا حدَّثُتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا اؤتمنتُم، واحفَظُوا فُروجكم، وغضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكُمْ"("الصحيحة": 1470، "صحيح الجامع": 1018).

 

وأخيرًا أخي الحبيب، لا عليك ما فاتَك من الدُّنيا إنْ كنت أمينًا:روى أحمد والحاكم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتَك من الدنيا: صِدْقُ الحديث، وحِفْظُ الأمانِة، وحُسن الخُلُقِ، وعِفَّةُ مَطْعَم" ("الصحيحة": 733، "صحيح الجامع" 873).

 

ويقول عبد الله بن عمرو بن العاص - رضِي الله عنهما -:"أربعُ خِلالٍ إذا أُعطيتَهُنَّ فلا يَضُرُّك ما عُزل عنك من الدُّنيا: حُسْنُ خَلِيقةٍ، وعَفافُ طُعمة، وصِدْق حديثٍ، وحِفظ أمانة" ("الأدب المفرد" صـ109).

 

معنى الأمانة ومجالاتها:

أيها الإخوة الكرام: معنى الأمانة واسع وهناك آية في كتاب الله، تبين ذلك حيث وضحت أن الأمانة تدور مع الإنسان حيثما تحرك في بيته وفي عمله، في إقامته وفي سفره، فينبغي أن نعلم بادئ ذي بدئ أن مفهوم الأمانة في القرآن الكريم أوسع بكثير مما يتوهم بعض الناس، ليس أن تضع مبلغاً عند إنسان فإذا طالبته به أداه إليك بالتمام والكمال، هذا بعض مفهوم الأمانة، لكن مفهوم الأمانة أوسع من هذا بكثير.

 

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [سورة النساء: 58] فأول شيء يلفت النظر في هذه الآية، أن الأمانة جاءت جمعاً.﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [سورة النساء: 58].

 

أيها الإخوة الأحباب: لو سألنا كل الحاضرين ما هي الأمانة؟ لأجاب الجميع أنها رد الودائع والأمانات إلى أصحابها، وهذا فهم قاصر لمعنى الأمانة، فالأمانة ليست كما يعتقده كثير من الناس أنها تتعلق بالودائع وحفظ الأمتعة والأموال لحين عودة صاحبها ثم يردها له أو ينكرها، لكن الأمانة أشمل من ذلك وأعظم منه بكثير، فالدين الذي منَّ الله به عليكم أمانة في أعناقكم، جسدك أمانة، أبناؤك أمانة، زوجتك أمانة، مالك أمانة، وظيفتك وعملك أمانة، وطنك أمانة،كل ما يتعلق بك أمانة.

 

الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من شعائر الدين أمانة، من فرط في شيء منها أو أخل به فهو مفرط فيما ائتمنه عليه ربه تبارك وتعالى، البصر أمانة، والسمع أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، واللسان أمانة، والفرج والبطن وغير ذلك أمانة عندك، فلا تأتي الحرام من قبل ذلك، وإلا أصبحت مفرطاً فيما ائتمنت عليه، واحذر أن تكون هذه الجوارح شاهدة عليك يوم القيامة إن فرطت فيها، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24].

 

وكل إنسان مؤتمن فيما بينه وبين ربه على هذه الحقوق التي لا يطلع عليها إلا رب العباد، فلا أحد يراقبك سوى ربك الذي ائتمنك على هذه العبادات: ووكّل كل ذلك إلى قلبك ومعتقدك، ولا يطّلع عليه أحد سوى الله - تعالى - فالناس لا يعرفون عنك شىء، ولكنك تعرف من نفسك أن ربك لا يخفى عليه شيء.

 

• فلو صليت بلا وضوء لم يشعر بك أحد من الناس، لكن الله هو الذي يشعر بك، فالوضوء هو الطهارة، وهو أمانة بينك وبين ربك.

 

• ولو صففت في الصلاة، وأخذت تنحني مع الناس وترفع، وأنت لا تسبح، ولا تقرأ، ولا تذكر، ولا تأتي بشيء من واجبات الصلاة السرية ولا أركانها؛ فإن الناس لا يدرون عنك، ولكن الله يدري، فهذه الأذكار التي في الصلاة أمانة بينك وبين ربك.

 

• ولو أكلت في رمضان سرًّا، لم يشعر بك أحد؛ لأن الناس لا يراقبونك في كل حال، ولكن الله -تعالى- هو الذي يطلع عليك، فهذا الصيام أمانة بينك وبين ربك.

 

• ولو بخست الحقوق الواجبة لله من الزكاة ونحوها، ولم تؤدِّ زكاة المال السرية، لم يطّلع عليك إلا ربك، فالناس ليس لهم إلا الظاهر، فهذه أمانة مالية بينك وبين ربك.

 

• وكذلك لو خلوت بالمعاصي والذنوب، لم يطلع عليك إلا ربك.

• ولو أكلت الحقوق المالية للناس مثلًا لم يطلع عليك أحد من الناس.

 

• ولو أضمرت في نفسك أي شيء من الشك، أو من الشرك، أو من الكفر، أو من الوسوسة، لكان ذلك فيما بينك وبين الله، ولن يطلع الناس عليك إلا أن تخبرهم، فالله هو الذي ائتمنك على هذا.

 

وبهذا نعرف أن الأمانة عامة لكل العبادات التي فرضها الله على الناس، وإنما كانت تلك أمثلة، وهي على سبيل الاختصار وليست على سبيل الحصر.

 

مجالات الأمانة:

فمن الأمانة: حفظ الأسرار:

فالمسلم يحفظ سر أخيه ولا يخونه ولا يفشي أسراره، فعن جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « إذا حدَّث الرَّجُلُ الحديثَ ثم التَفَتَ فهي أمانَةٌ ») « الترمذي 4 (1959) وقال: هذا حديث حسن. أبو داود 4 (4868) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 922): حسن وهو في الصحيحة برقم (1089) وفي صحيح الجامع (486).».

 

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما المجالسُ بالأمانة".فالمجالس تُعقَد بالأمانة على ما يَجرِي فيها من أمورٍ، ويجب أنْ تحفظ أسرارها، ولا يحلُّ للمرء أنْ يفشي من أسرار إخوانه ما لا يحبُّون أنْ يخرج عنهم.

 

قال المباركفوري - رحمه الله - في شرحه للحديث: حُسْنُ المجالس وشرَفُها بأَمانة حاضِريها على ما يقعُ فيها من قولٍ وفعل؛ فكأنَّ المعنى ليكن صاحب المجلس أمينًا لما يسمعه ويراه" ("تحفة الأحوذي" (6/ 93).

 

ويُؤكِّد هذا المعنى العظيم الحسن البصري - رحمه الله - بقوله: "إنما تُجالسوننا بالأمانة، كأنَّكم تظنُّون أنَّ الخِيانة ليست إلاَّ في الدِّينار والدِّرهم، إنَّ الخيانة أشدَّ الخيانة أنْ يُجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا.."("إحياء علوم الدين" (4/ 125).

 

قال الكفويُّ - رحمه الله -: "كلُّ ما افتُرِضَ على العباد فهو أمانةٌ؛ كصلاةٍ وزكاة وصيام وأداء ديْن، وأَوْكدها الودائع، وأوكد الودائع كتمُ الأسرار" ("الكُليات" صـ187).

 

أبو بكر الصديق الحافظ الأمين لِسِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلمأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر - رضِي الله عنهما -: أنَّ عمر بن الخطاب حين تأيَّمت حَفصةُ بنت عمر من خُنَيْس بن حذافة السَّهمي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتُوُفِّي بالمدينة - فقال عمر بن الخطاب: أتيتُ عثمَان بن عفَّان، فعرضتُ عليه حفصةَ فقال: سأنظُر في أمري، فلبث ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدَا لي ألا أتزوَّج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكرٍ الصِّدِّيق فقلت: إنْ شئتَ زوَّجتُك حَفصةَ بنت عمر، فصَمَتَ أبو بكر، فلم يَرجِعْ إليَّ شيئًا، وكنتُ أَوْجَدَ عليه منِّي على عثمان فلبثتُ ليالي، ثم خطبها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأنكَحتُها إيَّاه، فلقيني أبو بكرٍ فقال: لعلَّك وجدتَ عليَّ حين عَرضتَ عليَّ حفصةَ، فلم أرجعْ إليك شيئًا، قال عمر: قلتُ: نعم، قال أبو بكرٍ: فإنَّه لم يمنَعْني أنْ أرجعَ إليك فيما عرضتَ عليَّ إلا أنِّي كنتُ قد علمتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكَرَها، فلم أكن لأُفشي سِرَّ رسول الله، ولو تركها رسول الله قبِلْتُها".

 

(معنى وكنتُ أَوْجَد" قال الحافظ في "الفتح" (9/ 221): يعني: أشدُّ موجدة؛ أي: غضبًا على أبي بكر من غضبي على عثمان، وذلك لأمْرَيْن: أحدهما: ما كان بينهما من أكيد المودَّة؛ وذلك لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بينهما، والثاني: لكون عثمان أجابَه أوّلاً ثم اعتذر له. ثانيًا: لكون أبي بكر لم يعدْ عليه جوابًا. ووقَع في رواية ابن سعد: "فغضب عليَّ أبو بكرٍ، وقال فيها: كُنت أشدَّ غضبًا حين سكت منِّي على عثمان"، اهـ.).

 

حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه أكتَم الناس أمين ِسِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلمكان حذيفة رضي الله عنه أمينًا على سِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنافقين، وكان يُقال له: "صاحب السِّرِّ الذي لا يعلمه أحدٌ غيره" (البخاري).


أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمَّة:وحيث إننا نتكلم عن الأمانة فلا ننسى أنْ نُذكِّر بأمين هذه الأمَّةفقد أخرج البخاري ومسلمٌ عن حُذَيفة بن اليمان رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجْران: "لأبعَثنَّ إليكم رجلاً أمينًا حقَّ أمين، فاستشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فبعث أبا عبيدة"( قال العلماء: الأمانة مشتركةٌ بينه وبين غيرِه من الصَّحابة، ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَصَّ بعضَهم بصفاتٍ غلبَتْ عليهم، وكانوا بها أخصَّ. ("شرح النووي لمسلم" (15/ 273).)


وأخرج الترمذي عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكلِّ أمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمَّةِ أبو عُبَيدة".


وأخرج البخاري ومسلمٌ عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ أمَّةٍ أمينٌ، وأمين أمَّتي أبو عُبَيدة بن الجرّاح"..


فاطمة - عليها السلام ورضي الله عنها - تحفْظ لسِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلمكـانت - رضِي الله عنها - حافظةً لسِرِّ أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمُّ المؤمنين عـائشة - رضِي الله عنها -: "إنَّا كُنَّا أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنده جميعًا لم تُغادِرْ منَّا واحدةٌ، فأقبلت فاطمة تمشي ما تُخطِئ مِشيتها من مِشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا رَآها رَحَّبَ وقال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسَها عن يمينه - أو عن شماله - ثم سارَّها، فبَكَتْ بُكاءً شديدًا، فلمَّا رأى حُزْنَها سَارَّهَا الثانية، فإذا هي تضحَكُ، فقلت لها: أنا من نسائه - خَصًّك رسول الله بالسِّرِّ من بيننا ثم أنت تبكين، فلمَّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها عمَّا سَارَّهَا؟ قالت: ما كُنتُ لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سِرَّه، فلمَّا تُوفِّي قلتُ لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحقِّ لَما أخبرتِني، قالت: أمَّا الآن فنَعَمْ، فأخبرَتْني قالت: أمَّا حين سارَّني في الأمر الأوَّل فإنَّه أخبرني أنَّ جبريل كان يُعارضه بالقُرآن كلَّ سنة مرَّة، وإنَّه قد عارَضَنِي به العام مرتين، ولا أرى الأجَلَ إلاَّ قد اقترب، فاتَّقِي الله واصبري، فإنِّي نعمَ السلفُ أنا لك، قالت: فبكيتُ بُكائي الذي رأيت، فلمَّا رأى جزَعِي سارَّني بالثانية: قال: يا فاطمة، ألا ترضين أنْ تكوني سيِّدةَ نساء المؤمنين؟ أو سيدة نساء هذه الأمَّة؟ " (البخاري).


حِفظ الغٍلمان لأسرار الكبار:ولا يتوقَّف الأمرُ على أمانة حِفظ الأسرار عند الرجال والنساء من الصَّحابة، بل حتى الغلمَان، فهذا أنسُ بن مالك رضي الله عنه الغُلام الصَّغير الذي يخدمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَسَرَّ إلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرًّا فمَا أخبرتُ به أحدًا بعدَه، ولقد سألتني أمُّ سُلَيم فمَا أخبرتُها به"(البخاري، باب حِفظ السر).


وكلُّ امرئ عُهِدَ إليه بسرٍّ يجب أنْ يحفظه؛ سواء أكان حاكمًا أم طبيبًا أم مُوظَّفًا أم عاملاً، وكمَا قيل: "قلوب العقلاء حُصون الأسْرار" ("أدب الدنيا والدين" صـ296).


ومن الأمانة رعاية كلٍّ من الزوجين لحقِّ الآخَر:

والزوجان مُؤتَمنان على رِعاية مِيثاق الزواج الذي وصَفَه الله بالميثاق الغليظ؛ قال تعالى: ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 21]، فعقد الزواج أمانةٌ عظيمة، لا يجوز خِيانته والتفريط فيه.


وهذا ما يُؤكِّد عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ففي الحديث الذي أخرجه البخاريُّ ومسلم من حديث ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته؛ الإمام راعٍٍ ومسئولٌ عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيِّده ومسئولٌ عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ ومسئولٌ عن رعيَّته".


أولاً: أمانة الزوج تجاه حقوق زوجته:

• فعلى الزوج أنْ يعرف أنَّ زوجته عنده أمانة، فليتَّقِ الله فيها:فقد أخرج الإمام مسلمٌ عن جابر بن عبد الله - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَب في حَجَّة الوداع، فكان ممَّا قال: "اتَّقوا الله في النساء؛ فإنَّكم أخذتموهُنَّ بأَمَان الله، واستحللتم فُرُوجَهُنَّ بكلمة الله، وإنَّ لكم عليهنَّ ألا يُوطِئْنَ فُرُشكُم أحدًا تَكْرهُونَه... ".فعلى الزوج أنْ يُطعمها إذا طَعِم، ويكسوها في البيت إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يُقبِّح (لا يسمعها ما تكره؛ كقَّبح الله وجهك ونحوه)، ولا يهجر إلا في الفِراش، وأنْ ينفق على زوجته ولا يطعمها إلا من الحلال، ويحسن عِشرتها، وأنْ يعلمها، وأنْ يمنعها من التبرُّج والسفور ويأمرها بالحجاب، ويغار عليها، وعدم التماس عثرات الزوجة، والتجسُّس عليها وتخْوينها، وهو أمر منهيٌّ عنه؛ روى جـابر رضي الله عنه: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرقَ الرَّجُلُ أهله ليلاً يَتَخوَّنُهُم أو يلْتَمِسُ عَثَرَاتِهم" (مسلم).


ثانيا: أمانة الزوجة تجاه حُقوق زوجها:

1- طاعتها لزوجِها: الزوجة مُؤتَمَنة ومُلزَمة بطاعة الزوج الذي له حَقُّ القوامة عليها ما دام لم يأمرها بمعصية، والمرأة الصالحة الأمينة هي التي تحفَظُ معروفَ زوجها وتطيعُه في المعروف؛قال تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34].


وقال ابن عباس - رضِي الله عنهما - وغير واحدٍ في قوله - تعالى -: ﴿ قَانِتَاتٌ ﴾ [النساء: 34]: "يعني: مطيعات لأزواجهنَّ" ("تفسير ابن كثير" (2/ 293).


2- حِفظ نفسها وعِرضها: فالزوجة مُؤتَمَنةٌ على حِفظ نفسها وعِرضها؛ فقد أخرج ابن حبَّان عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلَّت المرأةُ خَمسَها، وصَامَتَ شَهرَها، وحَصَّنَت فَرجَها، وأطَاعَت بَعلَها، دَخَلَت الجَنَّة من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شَاءَت" ("صحيح الجامع": 660).


وجاء عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه قوله: "من الأمانة أنَّ المرأة اؤتمنت على فَرْجِها" ("تفسير بن كثير" (1/ 489).


3- حِفظ مال الزوج وعدَم الإسراف في إنفاقه: الزوجة مُؤتَمَنة على حِفظ مال زوجها وعدَم الإسراف في المأكل والمشرب؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].


وقوله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].وغاية هذه الأمانة أنَّ المرأة لا تتَصرَّف في مال زوجها إلاَّ بإذْنه إلاَّ في الصَّدقة المعتدلة؛ كما في حديث عائشة - رضِي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تَصَدَّقَت المرأةُ من طعام زوجها، غَير مُفْسِدةٍ، كان لها أجرُها، ولزوجها بما كَسَب، وللخازنِ مثل ذلك"(البخاري).


ويُعفى من ذلك عن الشيء اليسير الذي لا يُؤبَه له، ولا يظهر فيه النُّقصان، أو إذا كان الزوج يأذَنُ لها إجمالاً. ("فتح الباري" (3/ 303).


وكذلك من أمانة الزوجة إعلامُ زوجها بما كتَب الله تعالى لها من الحمل في بَطنها؛ لتتأكَّد رعايتُه على المولود له، خاصَّة عندما تضيقُ سُبُلُ المعاشرة بالمعروف بينهمَا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 228].


4- حِفظ أسرار الزوج: الزوجة مُؤتَمَنة على حِفْظِ أسرار زوجها، ويجبُ عليها أنْ تحرصَ أشدَّ الحِرص علي عدَم إفشائها، ولا شَكَّ أنَّ حِفْظَ سِرِّ الزوج من أخصِّ خَصائص أمانة الزوجة تجاه زوجها، ومن أكثرها إسهامًا في ديمومة الحياة الزوجيَّة واستِقرارها.


ثالثا ً: أمانة مشتركة بين الزوجين وهى حفظ أسرار الفراش: ومن أعظم الأمانة من الزوجة لزوجها ومن الزوج لزوجته حفظُ سرِّها وخُصوصًا أسرارَ الفِراش؛ ومن أعظم الأسرار ما يكونُ من أمور الاستمتاع. فقد حرَّم الإسلام إشاعة ما يَحْدُث بين الزوجين من عَلاقة خاصَّة، فلا يُطْلَع على ذلك أحدٌ أيًّا كان فقد أخرج الإمام مسلمٌ في صحيحِه عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ « إن من أعظم الأمانة: على حذف المضاف، أي أعظم خيانة الأمانة.» عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا". « مسلم (1437).».


وفي رواية: "إن أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشُر سِرَّها". فاحذر من هذا النوع من الخيانة الذي انتشر بين الناس حتى وصل إلى حد التباهي والغرور فيحرم على الزوج والزوجة أن ينشرا سرهما وما يجري بينهما من علاقات زوجية لغيرهما، ولو على سبيل المزاح.


و أخرج الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد: أنها كانت عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قُعودٌ فقال: "لعلَّ رجلاً يقولُ ما يفعل بأهله، ولعلَّ امرأة تخبرُ بما فعلت مع زوجها"، فأَرَمَّ القوم، فقُلت: والله يا رسول الله إنهنَّ ليفعلن وإنهم ليفعلون قال: فلا تفعَلُوا؛ فإنما ذلك مثلُ الشيطان لقي شيطانةً في طريقٍ فغشيها والناس ينظُرون".


ومن الأمانة: حِفظ الأولاد وحُسن تربيتهم.


وهذه النِّعمة التي أعطاك الله إيَّاها ستُسأَل عنها يوم القيامة، هل حَفِظت أو ضيَّعت؟ فللأولاد وتربيتهم مسؤوليَّةٌ سيُسأَلُ عنها الآباء أمامَ الله عز وجل يوم القيامة؛ فلن تزولَ قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عمَّا استَرْعاه، أحفظ أم ضيَّع؟


فقد أخرج البخاري ومسلمٌ عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته، فالرجل راعٍ في بيته وهو مسئولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولةٌ عن رعيَّتها".


قال الإمام النووي - رحمه الله -: الراعي هو الحافظ المؤتمَن الملتزِم صلاحَ ما قام عليه وما هو تحت نظَرِه، ففيه أنَّ كلَّ مَن كان تحت نظَرِه شيءٌ فهو مُطالَبٌ بالعدل فيه والقيام بِمَصالحه في دِينه ودُنياه ومُتعلَّقاته، اهـ.


وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته"؛ أي: في الآخِرة، فإنْ وفَّى ما عليه تجاه الولد من الناحية الصحيَّة والجسديَّة وتوفير القوت والملبس والمسكن؛ حيث إنَّ الطفل لا يستطيع أنْ يُوفِّر ذلك لنفسه، وكذلك يُوفي ما عليه من ناحية التربية، فيُربِّيه على المبادئ الإيمانيَّة السامية؛ حيث إنَّ الطفل يُولد وعقله وقلبه صفحة بيضاء يستوعبُ ما يُنقَش فيه، ويتعلَّم ما يُملَى عليه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [النحل: 78]. فإنْ رُبِّي الولدُ على الخير نشَأ عليه وأصبح بارًّا بوالديه يدعو لهما ويقول: ﴿ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].


فشَكَرَ الولد حُسن صَنيع الوالدين؛ حيث بذَلا المجهود الكبير في تربيته حتى استَقام على دِينه واستَغنى بنَفْسه عن غيرِه.


وأمَّا إذا ضيَّعا وفرَّطا في تربية الولد، فإنَّه سيخرُج عُضوًا فاسدًا ومِعوَل هدمٍ وعاقًّا لوالديه.


فالولَدُ كما أنَّه مسئوليَّة فإنَّه أمانةٌ عند والدَيْه، وسيُسألان عنه يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].


وإنْ كانت الأمانة هي التَّكاليف الشرعيَّة إلا أنها بمفهومها أعمُّ وأشملُ من ذلك؛ فالإحسان إلى الأولاد وتربيتهم تربيةً إسلاميةً صحيحةً أداءٌ للأمانة، وإهمالهم والتقصير في حُقوقهم غِشٌّ وخِيانةٌ؛ لأنهم لم يعمَلُوا بوصيَّة الله لهم.


قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].


قال الشافعي - رحمه الله - في هذه الآية: على الآباء والأمَّهات تعليم أولادهم الصِّغار ما يتعيَّن عليهم عند البُلوغ؛ فيُعلِّمه الوليُّ الطَّهارة والصَّلاة والصوم ونحوه، ويُعرِّفه تحريم الزنا واللواط.


وقال الحسن البصري - رحمه الله -: أي: مُرُوهم بطاعة الله وعَلِّموهم الخير.


وقد نقَل ابنُ كثيرٍ في تفسير هذه الآية قولَ الإمام عليٍّ رضي الله عنه حيث قال: "عَلِّموهم وأدِّبوهم".


وكذلك نقَل هذا الكلام الإمام النووي عن مجاهد وقتادة.إذًا فالزوجان مُؤتمَنان على تربية أولادِهما وتعليمهم ما ينفَعهم في دِينهم ودُنياهم.


يقول ابن القيِّم - رحمه الله - كما في "تحفه المودود" صـ139: فمَن أهمل تعليمَ ولدِه ما ينفعُه، وترَكَه سُدًى، فقد أساء إليه غايةَ الإساءة، وأكثَرُ الأولاد إنما جاء فَسادُهم من قِبَلِ الآباء وإهمالهم لهم، وترْك تعليمهم فرائض الدِّين وسننه، فأضاعوها صِغارًا، فلم ينتَفِعوا بأنفُسهم ولم ينفَعُوا آباءَهُم كبارًا، ا.هـ.


ولله در القائل:

لَيْسَ اليَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ
مِنْ هَمِّ الحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلا
إنَّ اليَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ
أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولا

 

فمن الأمانة حُسن تربية الأولاد. ولهذا وصَّانا الله تعالى وأمَرَنا بِحُسن التربية ورعاية الذريَّة؛ فقال تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11].


وقد ذكَر ابن القيِّم - رحمه الله - أدلَّةً كثيرةً على وُجوب التربية منها:

1- ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاة لسبعٍ، واضرِبُوهم عليها لعَشْرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع" (حسَّنَه الألباني).


2- وفي "مُسند الإمام أحمد" بسندٍ فيه مَقال: "ما نحل والدٌ ولدًا أفضل من أدبٍ حَسَنٍ".


3- وفي "المسند" أيضًا وعند ابن حبان كذلك: "لأنْ يُؤدِّبَ أحدُكم ولدَه خيرٌ له من أنْ يتصدَّقَ كلَّ يومٍ بنصف صاعٍ على المساكين".


4- وفي "شعب الإيمان"؛ للبيهقي عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: "أدِّب ابنك فإنَّك مسؤول عنه ماذا أدَّبته؟ وماذا علَّمته؟ وهو مسؤول عن برِّك وطواعيته لك".


فأمرُ التربية خطير، فمَن رُبِّي على طاعة الله عُصِمَ ووُقِيَ النارَ، ومَن قصَّر وأهمل في أمر التربية لم يَقِ نفسه ولا أهلَه النار، وكان عرضةً لغضَب الجبَّار.


قال الغزالي - رحمه الله -: اعلَمْ أنَّ الطريق في رياضة الصِّبيان من أهمِّ الأمور وأوكدها، والصبيُّ أمانةٌ عند والديه، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نفيسة ساذجة خالية من كلِّ نقشٍ وصُورة، وهو قابلٌ لكُلِّ شيءٍ، ومائلٌ إلى كلِّ ما يُمالُ به إليه، فإنْ عُوِّدَ الخيرَ وعُلِّمَه ونُشِّئَ عليه - سَعِدَ في الدُّنيا والآخِرة، وشارَكَه في ثَوابه أَبواه وكلُّ مُعلِّمٍ له ومُؤدِّب، وإنْ عُوِّدَ الشرَّ وأُهمِل إهمالَ البهائم شقي وهلك، وكان الوزرُ في رقبة القيِّم عليه والولي له، اهـ.


والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُقرِّر هذه الحقيقةَ؛ فقد أخرَجَ البخاري ومسلمٌ من حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولودٍ إلا يُولَد على الفِطرة، فأبَواهُ يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه". ثم قال أبو هُرَيرة رضي الله عنه: واقرؤوا إنْ شئتم: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30].

وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في شرح هذا الحديث ("فتح الباري" 3/ 249): قال القرطبي في "المفهم": المعنى: أنَّ الله خلَقَ قُلوبَ بني آدم مُؤهَّلة لقبول الحقِّ كما خلَق أعيُنَهم وأسماعهم قابلةً للمَرئيَّات والمسموعات، فما دامت باقيةً على ذلك القبول على تلك الأهليَّة أدركت الحقَّ، ودِينُ الإسـلام هو الدِّين الحقُّ اهـ.


ونرى في هذا الحديث: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ الطفل حين يُولَدُ يُولَدُ على الفِطرة السليمة القابلة للخير، إنما تنحرفُ هذه الفِطرة، وتتغيَّر بسُوء التربية والقُدوة السيِّئة.


كما قال القائل: وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ.


فالواجب على الآباء أنْ يُحِيطوا الأبناء بالحِفظ والرِّعاية وحُسن التربية، خاصَّة وأنَّ الشيطان توعَّد الإنسان، فقال له ربُّ العزَّة: ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 64].


فيُحاول الشيطان أنْ يُشارك في تربية الأولاد ويجعَل الآباء ينحَرِفون بأبنائهم عن الطريق القَوِيم والصراط المستقيم، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخَر فإنَّه يُشارك في تربية الأولادِ كلٌّ من: وسائل الإعلام بأشكالها المختلفة من تلفاز أو دش أو فيديو أو كمبيوتر أو مجلات، والبرامج التي ربما لا تخلو من خيالات وخُرافات وخُزَعبِلات، وحياة الأساطير والتي تؤثِّر على شخصيَّة الطفل.


أَضِفْ إلى ذلك دور المدرسة والمناهج التعليميَّة، وكذلك أصدقاء المدرسة وأبناء الجيران... وغير ذلك من الوسائل التي تؤثِّر في تربية الولد بشكلٍ أو بآخَر، ومن هنا يأتي دور الآباء وأهميَّة التربية الصحيحة، وذلك عن طريق تجنيب الأولاد وسائل الفساد بأشكالها المختلفة، وأنْ يدفَعوا بأبنائهم إلى المربِّين الصالحين، كما كان يفعَلُ السَّلف الصالح؛ حيث كانوا قديمًا ينتَقُون لأولادهم أفضلَ المربِّين عِلمًا وأحسنهم خُلُقًا وأميزهم أسلوبًا وطريقةً؛ وذلك ليتعلَّم الولد منه.


وهذه باقةٌ من أخبارهم:

روى الجاحظ أنَّ عُقبة بن أبي سفيان لما دفَع ولده إلى المؤدِّب قال له:

"ليكن أوَّل ما تبدأُ به من إصلاح نفسك؛ فإنَّ أعينهم معقودةٌ بعَيْنِك، فالحسَنُ عندهم ما استَحسَنتَ، والقبيحُ عندهم ما استَقبَحتَ، وعلِّمهم سِيَرَ الحكماء، وأخلاقَ الأدباء، وتهدَّدْهم بي، وأدِّبهم دُوني، وكُنْ لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتَّكِلَنَّ على عُذرٍ منِّي، فإن اتَّكلت على كفايةٍ منك.


وروى ابنُ خلدون في "مقدمته": "أنَّ هارون الرشيد لما دفَع ولدَه الأمين إلى المؤدِّب قال له: يا أحمد، إنَّ أمير المؤمنين قد دفَع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصيِّر يدك عليه مبسوطة، وطاعتك له واجبةً، فكن له بحيث وضَعَك أمير المؤمنين؛ أقرئه القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّره بمواقع الكلام وبدئه، وامنَعْه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنمٌ فائدة تفيده إيَّاها من غير أنْ تحزنه فتميت ذِهنَه، ولا تُمعِن في مسامحته، فيستحلي الفَراغ ويألفه، وقَوِّمْه ما استطعت بالقُرب والملاينة، فإنْ أباها فعليك بالشِّدَّة والغِلظة.


وقال عبد الملك بن مروان - ينصح مُؤدِّبَ ولدِه -: "علِّمهم الصِّدق كما تُعلِّمهم القرآن، واحمِلْهم على الأخلاق الجميلة، ورَوِّهم الشعرَ يشجعوا وينجدوا، وجالِسْ بهم أشرافَ الرجال وأهل العِلم منهم، وجنِّبهم السفلة والخدم؛ فإنهم أسوأ الناس أدبًا، ووقِّرهم في العلانية، وأنِّبهم في السر، واضربهم على الكذب، فإنَّ الكذب يدعو إلى الفُجور، وإنَّ الفجور يدعو إلى النار.


وقال الحجاج لمؤدِّب بنيه: علِّمهم السِّباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون مَن يكتبُ عنهم، ولا يجدون مَن يسبح عنهم.


وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الشام يقول لهم:

"علِّموا أولادكم السباحةَ والرَّمي والفروسيَّة". وقال أحد الحكماء لِمُعلِّم ولده:

لا تُخرِجْهم من علمٍ إلى علمٍ حتى يُحكِمُوه؛ فإنَّ اصطِكاكَ العلم في السمع، وازدحامَه في الوهم مضلَّةٌ للفهم.


ومن وصيَّة ابن سيناء في تربية الولد:

أنْ يكون مع الصبي في مكتبه صِبيةٌ حسَنة آدابهم، مرضيَّة عاداتهم؛ لأنَّ الصبيَّ عن الصبي ألقن، وهو عنه آخَذُ، وبه آنَسُ.


قال هشام بن عبد الملك لسليمان الكلبي مُؤدِّب ولدِه: "إنَّ ابني هذا هو جلدةُ ما بين عيني، وقد ولَّيتك تأديبَه، فعليك بتقوى الله وأَدِّ الأمانة، وأوَّل ما أُوصِيك به أنْ تأخُذَه بكتاب الله، ثم روِّه من الشعر أحسَنَه، ثم تخلَّلْ به في أحياء العرب، فخُذْ من صالِح شِعرهم وبصِّره طُرَفًا من الحلال والحرام، والخطب والمغازي. ("تربية الأولاد في الإسلام": 1/ 154).


وهكذا كان السَّلف الصالح يحرِصُون على تربية أولادهم تربيةً إسلامية مُتكاملة خلقيًّا وفِكريًّا وجسمانيًّا، ويغرسون فيهم مَعانِيَ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر والقدَرِ خيره وشرِّه، ويُعوِّدونهم حبَّ الله ورسوله، ومُراقبةَ الله في السِّرِّ والعلَن، ويُعلِّمونهم أحكامَ الحلال والحرام، ويُجنِّبونهم الكذبَ والسَّرقة والسباب والشَّتائم والخلطة الفاسدة والميوعة والانحِلال والقُدوة السيِّئة، ويستَحِثُّونهم على الرياضات البدنيَّة النافعة كما مَرَّ بنا قولُ عمر رضي الله عنه لأهل الشام.


ومن الأمانة الوفاء بالعقود والعهود:

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]. والعقود متنوِّعة؛ فهناك عقد البيع، وعقد الإيجار، وعقد الشركة، وغيرها، وكلُّ عَقْدٍ يُبْرِمُه المرء مع غيره هو أمانةٌ يجبُ الوفاءُ بها.


والوفاء بالعهود والوعود من شِيَمِ الأتقياء الأنقياء.قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76].


فيجبُ الوفاء بالعهود حتى ولو مع الكافرين، وهذا ما فعَلَه الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.


فقد أخرج الإمام مسلمٌ عن حُذَيفة بن اليَمان رضي الله عنه قال: ما منعَنِي أنْ أشهد بدرًا إلا أنِّي خرجتُ أنا وأبو حُسَيل قال: فأخَذَنا كفَّارُ قريش، قالوا: إنَّكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريدُ إلا المدينة، فأخذوا منَّا عهدَ الله ومِيثاقه لَنَنصَرفنَّ إلى المدينة ولا نُقاتِل معه، فأتَيْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر... فقال: انصَرِفا نَفِي لهم بعَهْدِهم ونستعين الله عليهم.


يا له من درسٍ عظيم يُعلِّمنا فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوفاءَ بالعهد حتى مع الأعداء!


قال ميمون بن مهران: "ثلاثةٌ يُؤَدَّيْن إلى البَرِّ والفاجر: الأمانةُ، والعهدُ، وصلة الرَّحم" "التفسير الكبير"؛ للفخر الرازي (10/ 112).


ومن الأمانة.. ردُّ الودائع:

ولقد أمَر ربُّ العالمين في كتابه الكريم برَدِّ الوَدائع إلى أهلها؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].


جاء في سبب نزول الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، ليأخذ منه المفتاح فاختبأ عثمان فوق الكعبة، فتبعه علىٌّ وأخذ منه المفتاح عنوة، وفتح الباب، فدخل رسول الله البيت وصلى فيه ركعتين، فقام إليه العباس، ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أين عثمان بن طلحة؟" فدعي له، فأمر رسول الله عليًّا أن يرد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ويعتذر إليه، ففعل ذلك عليٌّ، فقال له: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء " فقال له عثمان: يا عليّ أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال: لقد أنزل الله في شأنك قرآناً، وقرأ عليه هذه الآية.( تفسير ابن كثير)، وتكريماً لشأن عثمان والمفتاح والأمانة، خصه صلى الله عليه وسلم وذريته من بعده بسدانة البيت والمفتاح فقال: " خُذُوهَا يَا بني طَلْحَةَ خَالِدَةً تالدةً لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ، يَعْنِي حِجَابَةَ الْكَعْبَةِ."( مجمع الزوائد) ولما مات عثمان سلمه لابنه شيبه ومازال المفتاح حتى يومنا هذا في بني شيبة.


ولقد ضرَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أروَعَ الأمثلة في رَدِّ الوَدائع إلى أهلها؛ فقد كان الكفار يأتمنونه على أموالهم ويُودعون عنده وَدائعهم؛ فقد كان معروفًا عندهم بالصادق الأمين، فلمَّا أُمِرَ بالهجرة لم يَفُتْهُ أنْ يُوصِيَ عليَّ بن أبي طالبٍ أنْ يَرُدَّ الودائع والأمانات إلى أهلها.


وجاء في "صحيح البخاري": "أنَّه ذات يومٍ صلَّى العصر فلمَّا سلَّم قام سريعًا فدخَل على بعض نسـائه، ثم خرَج ورأى ما في وُجوه الصحابةِ من تعجُّبهم لسُرعته فقال: ذكرتُ وأنا في الصلاةِ تِبْرًا (التبرُ: هو الذهب والفضة قبل أنْ يُضرَبا دَراهم ودَنانير؛"النهاية في غريب الحديث".) عندنا، فكرهت أنْ يُمسيَ - أو يبيت - فأمرتُ بقِسْمتِهِ".


ولقد أثنى الله تعالى على رِعاية المؤمنين للأمانة؛ فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾[المؤمنون: 8].


وقال ابن مسعودٍ رضي الله عنه كما عند الطَّبري (20/ 340):

الأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائع.وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمُرنا بأداء الأمانة، حتى لو كان الناس من حولنا غيرَ أُمَناء؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانَك" (أبو داود والترمذي، وهو في "الصحيحة": 123).


فإذا كان ردُّ الأمانات واجبًا، فرَدُّ المغصوب والمسروق أوجب.


يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة كما في "مجموع الفتاوى"(28/ 266): "إذا كان الله تعالى قد أوجب أداءَ الأمانات التي قُبِضَتْ بحقٍّ، فمن باب أَوْلَى وجوب أداء الغَصْبِ والسَّرقة والخِيانة ونحو ذلك من المظالم".


ومن الأمانة.. المحافظة على أموالِ مَن تعمل لديهم:

فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "كنتُ أرعى غنمًا لعُقبة بن أبي مُعَيْطٍ، فمَرَّ بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍٍ، فقال: يا غُلامُ، هل من لبنٍ؟ قال: قلت: نعم، ولكنِّي مُؤْتَمَنٌ، قال: فهل من شَاةٍ لم يَنْزُ (نزا عليها الفحل؛ أي: وثَب.) عليها الفحْلُ؟ فأتيتُه بشاةٍ، فمَسَح ضَرْعَها، فنزَل لبنٌ، فحلَبَهُ في إناءٍ، فشربَ وسقَى أبا بكرٍ، ثم قال للضَّرْع: اقْلِصْ فقَلَصَ (فقلص؛ أي: اجتمع.)، قال: ثم أتَيْتُه بعد هذا فقلتُ: يا رسول الله، علِّمْني من هذا القول، قال: فمسَح رأسي، وقال: يَرحمُكَ اللهُ، فإنَّك غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ"-.


وفي روايةٍ: فأتاه أبو بكرٍ بصَخرةٍ مَنقورةٍ، فاحتلب فيها وشرب، وشرب أبو بكرٍ وشربتُ قال: ثم أتيته بعد ذلك، قلت: عَلِّمني من هذا القُرآن: قال: إنَّك غُلامٌ مُعَلَّم قال: فأخَذتُ من فيه سبعين سورةً".


"فمع أنَّ عبد الله غلامٌ صغير إلاَّ أنَّه بفِطرته النقيَّة قال: إنَّه مُؤتَمَنٌ على الماشية ولبنها، ولم يُفرِّط في الأمانة، رغم شِرك عُقبة سيده وأذاه للمسلمين".


أمانة المبارك:

كان المبارك عبدًا رقيقًا يشتغلُ أجيرًا عند صاحب بستان، وفي ذات يومٍ خرَج صاحبُ البستان مع أصحابٍ له إلى البستان وقال للمُبارك: ائتِنا برمَّان حلو، فقطف المبارك بعض حبات الرمان ثم قدَّمَها إليهم، فإذا هي حامضةٌ، فقال صاحب البستان: قلت لك أريد حبة حلوة الطعم، أحضر لي رمانة أخرى، فذهب الحارس مرتين متتاليتين وفي كل مرة يكون طعم الرمان الذي يحضره حامضاً، فقال صاحب البستان للحارس مستعجباً: إن لك سنة كاملة تحرس هذا البستان، ألا تعلم مكان الرمان الحلو؟!! فقال حارس البستان: إنك يا سيدي طلبت مني أن أحرس البستان لا أن أتذوق الرمان،كيف لي أن اعرف مكان الرمان الحلو؟!! فظَنَّ أنَّه يخدعه، فسأل الجيران، فقالوا: ما أكَل رمانة واحدة. فقال له صاحب البستان: يا مبارك، أريد أنْ أستشيرَك في أمر هام، إنَّني ليس عندي إلا ابنة واحدة، فلمَن أُزوِّجها؟ فقال له: يا سيِّدي، لقد كان اليهود يُزوِّجون للمال، والنصارى يُزوِّجون للجمال، والعربُ يُزوِّجون للحسَب، والمسلمون يُزوِّجون للتَّقوى، فمن أيِّ الأصناف أنت زوج ابنتك للصِّنف الذي أنت منه. فقال: والله لا أُزوِّجها إلا على التقوى، وما وجدت إنسانًا أتقى لله منك فقد أعتقتُك وزوَّجتك ابنتي".


سبحان الله! عَفَّ المبارك عن رمَّانةٍ من البستان فسِيق إليه البستانُ وصاحبته، والجزاء من جِنس العمل. ومَن ترَك شيئَا لله عوَّضَه الله خيرًا منه!


وتزوج هذا الرجل من تلك الزوجة الصالحة، وكان ثمرة هذا الزواج هو: عبد الله ابن المبارك الزاهد العابد" الذي ملأ الدنيا عِلمًا ووَرَعًا، وكان يقولُ: لأنْ أردَّ درهمًا من شُبهةٍ خيرٌ لي من أنْ أتصدَّق بمائة ألف دِرهم ومائة ألف درهم، حتى عَدَّ ستمائة ألف درهم،وصدَق الله حيث قال: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ [الأعراف: 58] هذه رسالة لحراس المزارع والمصانع والشركات والمؤسسات الحكومية.


ومن الأمانة توفية الكيل والميزان، والأمانة في البيع والشراء:

قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152].

وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ [الإسراء: 35].


وذكَر الله تعالى في كتابه الكريم عن أهل مَدْيَنَ أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويبخَسون الناس أشياءهم؛ أي: يُنقِصُونهم قيمة أشيائهم في المعاملات؛ لذا كانت دعوةُ نبيِّه شعيب - عليه الصلاة والسلام - قومَه إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ورعاية أمانة المكيال والميزان في المعاملات - ظاهرةً؛ قال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 84، 85].


وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "بخس المكيال والميزان من الأعمال التي أهلَكَ الله بها قومَ شُعيب - عليه الصلاة والسلام - وقصَّ علينا قصَّتهم في غير موضعٍ من القُرآن؛ لنعتبر بذلك، والإصرارُ على ذلك من أعظم الكبائر، وصاحِبُه مُستوجِبٌ تغليظَ العُقوبةِ، وينبغي أنْ يُؤخَذ منه ما بخسَه من أموال المسلمين على طُول الزَّمان، ويُصرَف في مَصالح المسلمين، إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه" ("مجموع الفتاوى" (29/ 474).


وجاء عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قوله: "لَمَّا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا مِنْ أخْبثِ الناس كيلاً، فأنزَل الله سبحانه: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾[المطففين: 1]، فأحسَنُوا الكيل بعد ذلك" (ابن ماجه، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه").


ويمكن القول: إنَّ الأمانة في الكيل والميزان من جملة الأمانات التي أمَر الله تعالى بأدائها ومُراعاتها. ("التفسير الكبير")؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وهي من الأخلاق العظيمة التي تبعَثُ على حِفظ حُقوق الآخَرين، وتُؤكِّد ما بينهم من مُودَّةٍ ومحبَّةٍ، وتُزيل طمَع النُّفوس إلى ما في أيدي الناس دُون جهدٍ، وحبَّذا للمرء أنْ يُرجِّح إذا أعطى، ويُنقص إذا أخَذ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وزنتُم فأَرْجِحوا" (ابن ماجه، "صحيح الجامع": 825).


والتاجر الأمين في جنَّة ربِّ العالمين مع النبيِّين والصِّدِّيقين:أخرج الترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التاجر الصَّدوق الأمين مع النبيِّين والصِّديقين والشُّهَداء" (إسناده جيد، وأشار الألباني إلى ضعفه في "جامع الترمذي"، ولكن له شواهد كثيرة يتقوَّى بها، قال الذهبي: هو حديثٌ جيِّد الإسناد صَحيح المعنى).


وكمَا يعتَنِي الإسلام بالأمانة في توفية الكَيْلِ والميزان يُحذِّر من التَّطفِيف؛ لأنَّ التَّطفِيف فيه دلالةٌ على أنَّ فاعلَه قد تأصَّلت فيه مَساوئ الأخلاق من غِشٍّ وخداع وخِيانة، والتَّطفيف في الكيل والميزان أمرٌ محرَّم وكبيرةٌ من الكبائر؛ قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3]، وهو مُنذِرٌ بعقوبة الجبَّار في الدُّنيا التي تحصل في جلْب الشِّدَّة وغَلاء الأسعار والضِّيق في المعيشة. ("الأمانة في الإسلام" صـ190).


أخرج البيهقيُّ والحاكم عن ابن عمرَ - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مَعشَر المهاجرين، خِصالٌ خمسٌ، إذا ابتُلِيتُم بهنَّ - وأعوذ بالله أنْ تدركوهنَّ -: لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضَتْ في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاَّ أُخذوا بالسنين، وشدَّة المؤنة، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلاَّ مُنِعوا القَطْرَ من السَّماء ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا. ولم ينقضوا عهدَ الله وعهدَ رسولِه إلاَّ سلَّط الله عليهم عَدُوًّا من غيرهم، فأخَذوا بعض ما كان في أيديهم. وما لم تحكم أئمَّتهم بكتاب الله عز وجل ويتحرَّوا فيما أنزل الله إلاَّ جعَل الله بأسَهُم بينهم شديدًا" ("الصحيحة": 106، "صحيح الجامع": 7855).


وعند الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ بخمْسٍ، ما نقضَ قومٌ العهدَ إلاَّ سُلِّط عليهم عدوُّهم، وما حكَموا بغير ما أنزَل الله إلاَّ فَشَا فيهمُ الفقرُ، ولا ظهَرت فيهم الفاحشةُ إلاَّ فشا فيهمُ الموتُ، ولا طفَّفوا المكيالَ إلاَّ مُنِعوا النَّبات وأُخذوا بالسنين، ولا منَعوا الزكاة إلاَّ حُبِسَ عنهُم القَطْرُ" ("صحيح الجامع": 3240).


وبأمانة التُّجَّار المسلمين وصِدقهم دخَل الناس في دِين الله أفواجًا:إنَّ أثَر التُّجَّار الأمناء الصادقين في انتشار الإسلام لا يقلُّ عن أثَر الجيوش في الفتوحات الإسلاميَّة، بل إنَّه فاقَ أثَر هذه الجيوش، ووصَل إلى مناطق لم تدخُلها جيوش المسلمين، وإنما دخَلها التُّجَّار المسلمون بأمانتهم؛ كمناطق جنوب شرق آسيا، وغرب إفريقيا ووسطها.


ولِمَكارم الأخلاق وعلى رأسها الأمانةُ أسرَعَ كرامُ الناس إلى اعتناق الإسلام لدَعوته إليها.


وما أسلم صفوةُ الصحابة على يد أبي بكرٍ الصِّدِّيق إلاَّ لِمَا عَهِدوه فيه من خُلُقٍ وأمانة؛ فأسلَمَ على يديه عثمان بن عفَّان، والزبير بن العوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عبيدالله - رضِي الله عنهم - وذلك لِمُخالطتهم الصِّدِّيقَ التاجرَ الأمين، وما لمسوه من أخلاقه الكريمة.


"وذات يوم خرج أحد التجار الأمناء في سفر له، وترك أحد العاملين عنده ليبيع في متجره، فجاء رجل يهودي واشتري ثوبًا كان به عيب. فلما حضر صاحب المتجر لم يجد ذلك الثوب، فسأل عنه، فقال له العامل: بعته لرجل يهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم يطلع علي عيبه. فغضب التاجر وقال له: وأين ذلك الرجل؟ فقال: لقد سافر. فأخذ التاجر المسلم المال، وخرج ليلحق بالقافلة التي سافر معها اليهودي، فلحقها بعد ثلاثة أيام، فسأل عن اليهودي، فلما وجده قال له: أيها الرجل! لقد اشتريت من متجري ثوبًا به عيب، فخذ دراهمك، وأعطني الثوب. فتعجب اليهودي وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال التاجر: إن ديني يأمرني بالأمانة، وينهاني عن الخيانة، فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (مسلم)، فاندهش اليهودي وأخبر التاجر بأن الدراهم التي دفعها للعامل كانت مزيفة، وأعطاه بدلاً منها، ثم قال: لقد أسلمت لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله."


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا"( البخاري ).


فهذه رسالة للتجار والبائعين والمقاولين وأصحاب العقارات الذين لا يراعون في مؤمن إلا ولا ذمة.


ومن الأمانة ردُّ اللقطة والأموال الضائعة إلى أصحابها:

أمانة ثابت بن إبراهيم:

أيها المؤمنون، تعالوا وإياي لنقف على هذه القصة، فقد رجعت بالذاكرة وخضت في أعرض شوارع الكوفة في بلاد العراق، هناك رجل يسمى ثابت بن إبراهيم، كان يمشي في أحد شوارع الكوفة ويمرُّ ثابتٌ على بستانٍ من البساتين، وكان قد جاع حتى أعياه الجوع، فوجد تفاحةً ساقطة منه، فأكل منها النصف، ثم تذكَّر أنها لا تحلُّ له؛ إذ ليست من حقِّه، فدخل البستان فوجد رجلاً جالسًا فقال له: أكلتُ نصف تفاحةٍ فسامحني فيما أكلتُ وخُذِ النصف الآخَر، فقال الرجل: أمَا إنِّي لا أملك العفو ولكن اذهب إلى سيدي فالبستان ملكٌ له، قال: أين هو؟ قال: بينك وبينه مسيرة يوم وليلة، قال: لأذهبنَّ إليه مهما كان الطريق بعيدًا؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ لحمٍ نبت من سُحْتٍ فالنار أَوْلَى به"، فذهب ثابت حتى وصَل إلى صاحب البستان، فلمَّا دخَل عليه ألقى ثابت عليه السلام، فرد السلام، قال ثابت وهو فزع قلق: يا عبد الله أتدري فيم جئتك؟ قال: لا، قال: جئتك لتسامحني في نصف تفاحة، وها هو ذا النصف الآخر قال صاحب البستان: والله لا أسامحك إلا بشرطٍ واحد. فقال ثابت: خُذْ لنفسك ما رضيت من الشروط. فقال: تتزوَّج ابنتي، ولكن هي صماء عمياء بكماء مُقعدة. فقال ثابت: قبلت خطبتها، وسأُتاجر فيها مع ربي ثم أقوم بخِدمتها، وتَمَّ عقد الزواج وقال له أبوها: إن شئت جئتنا بعد صلاة العشاء لتدخل بزوجتك، وجاء ثابت ليدخل على هذه العمياء الصماء البكماء القعيدة، وكأنه دخل إلى معركة حامية الوطيس، فلما دخل عليها حجرتها لا يعلم هل يلقي السلام عليها أو يسكت، ولكنَّه آثر إلقاء السلام لتردَّ عليه الملائكة، فلمَّا ألقى السلام وجدها تردُّ السلام عليه، بل وقفت وسلمت عليه بيدها فعلم أنها ليست كما قال الأب، فعجب من ذلك، ما هذا؟ لماذا أخبرني أبوك عنك بما أخبرني؟ قالت له: وماذا قال أبي؟ قال لها: أخبرني بأنك عمياء، فقالت: إنَّ أبي أخبرك بأنِّي عمياء والله ما كذب فأنا عمياء عن الحرام فلا تنظر عيني إلى ما حرَّم الله، صمَّاء من كلِّ ما لا يرضي الله والله لا أسمع إلا ما فيه رضا الله، بكماء لأنَّ لساني لا يتحرَّك إلا بذِكر الله، مقعدة لأنَّ قدمي لم تحملني إلى ما يغضب الله لا أمشي برجلي إلا إلى مرضاة الله، لا أمشي إلى مكان فيه غضب الله.، ونظر ثابت إلى وجهها فكأنَّه القمر ليلة التمام، وتزوجها، ودخل بها وأنجب منها مولودًا ملأ طباق الأرض علمًا"، إنه الفقيه أبو حنيفة النُّعمان، فمن نسل الورع والأمانة جاء الفقيه". ليت نساءنا عمياوات مثلها! ليت نساءنا صماوات مثلها! ليت نساءنا بكماوات مثلها! لين نساءنا مقعدات مثلها!

فلو كانت النساء كمن ذكرنا
لفضلت النساء على الرجال
فمالتأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال

 

أمانة ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله -:

قال أبو المظفَّر سِبط ابن الجوزي: "حكى ابن عقيل عن نفسه قال: حججت، فالتقطت عقْدَ لؤلؤٍ في خَيْطٍ أحمرَ، فإذا شيخ أعمى ينشده، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه، فقال خُذِ الدنانير، فامتنعتُ، وخرجت إلى الشام، وزُرْتُ القدسَ، وقصدت بغداد، فأويت بحلب إلى مسجد وأنا بردان جائع، فقدَّموني، فصلَّيْتُ بهم، فأطعَموني، وكان أوَّل رمضان، فقالوا: إمامُنا تُوفِّي فصَلِّ بنا هذا الشهر، ففعلتُ، فقالوا: لإمامنا بنتٌ، فزُوِّجتُ بها، فأقمتُ معها سنةً، وأولدتها ولدًا ذكرًا، فمرِضَتْ في نِفاسها، فتأمَّلتُها يومًا فإذا في عُنُقِها العقدُ بعينه بخيطِه الأحمر، فقلتُ لها: لهذا قصة، وحكيت لها، فبكَتْ، وقالت: أنت هو، والله لقد كان أبي يبكي، ويقول: اللهمَّ ارزق بنتي مثل الذي ردَّ العقْدَ عليَّ، وقد استَجاب الله منه، ثم ماتت، فأخذت العِقد والميراث، وعُدْت إلى بغداد" (سير أعلام النبلاء" (19/ 445، 451)، ("نزهة الفضلاء" (3/ 1372).


هاتان رسالتان لمن لا يبالي بأكله وجمع ماله أمن حرام أم من حلال؟!

ومن الأمـانة قضاءُ الدَّيْن:

ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ مسألة الدَّيْنِ من المسائل الخطيرة التي يتَهاوَنُ فيها كثيرٌ من المسلمين، ويدلُّ على خطَرِها ما أخرَجَه الإمام أحمد والترمذي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "نَفْس المؤمن مُعَلَّقةٌ بِدَيْنِه حتى يُقضَى عنه".


وأخرج الإمام مسلمٌ عن عبد الله بن عمرٍو - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُغفَر للشهيد كُلُّ ذنبٍ إلاَّ الدَّيْن".


وأخرج الإمام مالكٌ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إيَّاكُم والدَّيْن؛ فإنَّ أوَّله هَمٌّ، وآخره حرب".


ولذلك أمَرَنا ربُّ العالمين في كتابه الكريم بأداء الدَّيْنِ وأكَّد على ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البقرة: 283].


والمولى عز وجل أطلق اسمَ الأمانة على الدَّيْنِ الذي في الذِّمَّة، وفي ذلك تعظيمٌ لأمانة الدَّين وحَثٌّ على تأدِيَتِه". ("تفسير التحرير والتنوير" (3/ 122).


وعلى هذا ينبغي للمَدِين أنْ يُبادِرَ إلى إبْراء ذمَّته، والوَفاء بالدَّيْن في مَوعِدِه ما دام قادرًا على السَّداد، والمماطلةُ هنا: من الخِيانة والظُّلم.فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَطلُ الغَنِيِّ ظلمٌ".


مثال رائع في قَضاء الدَّيْن:روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟! قَالَ: ألم أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بألْفِكَ راشِدًا "(البخاري)، هذا حالهم، أما حالنا فيقول: " السلف تلف والرد خسارة "، انظر لو سلفت رجلاً مبلغاً من المال، يماطلك ثم يخاصمك ويتجنبك إن طالبته، وتصير قطيعة بينكما بسبب معروفٍ قدمته له!!!


والحبيب النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين قال كما في "صحيح البخاري": "مَن أخَذ أموال الناس يُريدُ أَداءَها أَدَّى الله عنه، ومَن أخَذَها يريدُ إتلافها أتْلَفَه الله".


ومَن وفَّى في القضاء وأحسَنَ فهو من خِيار الناس:فقد أخرج البخاري عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ خِيارَكم أحسَنُكم قضاء".


ومَن وفَّى في القضاء وأحسن، فرَّج الله كُربتَه: في حديث الثلاثة أصحابِ الغار وكيف نجَّاهم الله: "... وقال الثالث: اللهمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَراءَ وأعطَيتُهم أجرَهم غيرَ رَجُلٍ واحد، تركَ الذي له وذهب، فثمَّرتُ أجرَه، حتى كثرتْ منه الأموال، فجاءني بعد حينٍ، فقال: يا عبد الله، أَدِّ إليَّ أجري، فقلتُ: كُلُّ ما تَرى مَن أجرك: من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستَهزِئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخَذَه كُلَّهُ فاستاقَهُ، فلم يترُك منه شيئًا، اللهم إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنَّا ما نحنُ فيه، فانفرجت الصخرةُ؛ فخرجوا يمشُون" والحديث عند البخاري.


ومن الأمانة ألا يبخس الأجير حقَّه:ينبغي مُراعاةُ الأمانة في استِئجار الأُجَراء، والمبادرةُ في إعطائهم حُقوقَهم وأجورَهم؛لقول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "أعْطُوا الأجيرَ أجرَه قَبْلَ أنْ يجفَّ عَرَقُه" (ابن ماجه عن ابن عمر، وحسَّنه الألباني في "الإرواء" (1498)، "صحيح الجامع": 1054).


ومن الأمانة أمانة نقل العلم والحديث:

روى أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذهب مسافراً إلى شيخ من الشيوخ ليروي عنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المدينة لا يعرف أين الشيخ؟ فلما دخل في أحد شوارعها وجد رجلاً مع فرس وهو يريد أن تلحق به الفرس، ووجد أنه قد رفع ثوبه كأنه يحمل في ثوبه شيئاً، فرأى الفرس تلحق به، فلما وصل إلى بيته أمسك بالفرس وفتح ثوبه وإذا به خالياً ليس فيه شيء، فلما نظر البخاري إلى هذه الفعلة قال له: أريد فلان بن فلان. فقال له الرجل: وماذا تريد منه؟ قال: لا أريد منه شيئاً سوى أني حدثت أنه يروي عن فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. وذكر الحديث، فقال هذا الرجل: أنا فلان، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا. فماذا صنع البخاري؟! أبى أن يروي عنه، وقال: إذا كان الرجل يكذب على بهيمته فأخشى أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.


هذه رسالة للعلماء والمحدثين- وأخص الباحثين- الذين لا يراعون الأمانة العلمية في نقولهم وبحوثهم، ونسبة الأقوال لأنفسهم، ونقل فصولٍ كاملةٍ بمراجعها على أنها من جهدهم، من أجل حصول أحدهم على شهادة يضر نفسه بها في دنياه، ويُسأل عنها في أخراه.


ومن الأمانة وضع كل شيء في مكانه اللائق به، قال أبو ذر رضي الله عنه لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تستعملني - يعني ألا تجعلني والياً أو أميراً أو رئيسا لك على إحدى المدن - قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: " يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها " [ أخرجه مسلم ].


ومن الأمانة أمانة الراعي والرعية و قيام الأمراء والسلاطين والرُؤساء على مَصالح العباد والبلاد، والمحافظة على ثَروات شُعوبهم وبلادهم:

أخرج البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته؛ فالإمام راعٍ، وهو مسئولٌ عن رعيته، والرجُل راع في أهله، وهُو مسئولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيِّدِه، وهو مسئولٌ عن رعيَّته، والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسئولٌ عن رعيَّته؛ فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته".


ولفظ مسلم: "ألا كُلُّكُم رَاعٍ، وكُلُّكُم مسئولٌ عن رعيَّته؛ فالأميرُ الذي على الناس راعٍ، وهو مسئولٌ عن رعيَّته، والرجل راعٍ على أهل بَيِته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بَعلها وولَدِه، وهي مسئولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده، وهو مسئولٌ عنه، ألا فكُلُّكُم رَاعٍ، وكُلُّكُم مسئولٌ عن رعيَّتِه".


والرعاية: بمعنى الحِفظ والأمانة، فكلُّ هؤلاء المذكورين في الحديث رُعاةً وحُكَّامًا على اختِلافِ مَراتِبهم، مُؤتَمنون بأماناتٍ يجبُ الوفاء بها.


قال النووي - رحمه الله - في شرحه للحديث: "الراعي هو الحافظ المُؤتمَن الملتزِم صلاحَ ما قام عليه، وما هو تحت نظَرِه، ففيه أنَّ كلَّ مَن كان تحت نظَرِه شيءٌ فهو مُطالَبٌ بالعدل فيه والقِيام بِمَصالحه في دِينه ودُنياه ومُتعلَّقاته"("شرح صحيح مسلم" (12/ 213).


فمَن وَلِي أمرَ المسلمين فهو أمينٌ عليهم ومسئولٌ عنهم، ومَن فرَّط وضيَّع في هذه الأمانة فإنَّه يأتي يوم القيامة مُكبَّلاً؛ فقد أخرَجَ البيهقي بسندٍ صحيحٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:

"ما من أميرِ عشرةٍ إلا وهو يُؤتَى به يومَ القيامة مَغلولاً، حتى يفكَّه العدلُ، أو يُوبِقه الجور" ("الصحيحة": 344، "صحيح الجامع": 5695).


وفي روايةٍ: "ما من رجلٍ يَلِي أمرَ عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتَى اللهَ مغلولاً يده إلى عنقه؛ فكَّه برُّه، أو أوثقه إثمُه".


فالولاية مسئوليَّة جسيمة، وأمانةٌ ثقيلة، لا يصحُّ أنْ تُسنَد إلا لِمَن كان أهلاً لها، قادرًا أنْ يقومَ بحقِّها، ومَن فرَّط وقصَّر وخان الأمانة فله حَظٌّ ونصيبٌ من كَلام الحبيب صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ يستَرعِيه الله رعيةً، يموتُ يوم يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّته، إلا حَرَّمَ الله عليه الجنَّة" (البخاري ومسلم عن معقل بن يسار).


فكلُّ مَن يَلِي أمرًا من أُمور المسلمين لا بُدَّ أنْ يتَوفَّر فيه أمران: الأمانة والقوَّة؛ ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].


قال ابن عباس - رضِي الله عنهما -: أي: قويٌّ فيما وَلِي، أمينٌ فيما استُودِع.اهـ. ("فتح الباري" (4/ 440).


فالقوَّة والأمانة مُتلازِمتان، فالمؤمن إذا كان أمينًا ولم يكن قويًّا فقد لا يستطيعُ أداءَ الأمانة لضَعفِه، وإذا كان قويًّا ولكن غير أمين خانَ وبغى وطغَى، ومن هنا كان وُجوب اقتِران الأمانة بالقوَّة.


وكان عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه يقولُ في خطبةٍ له: "ألا وإنِّي وجَدتُ صَلاحَ ما ولاني الله تعالى بأداء الأمانة، والأخْذ بالقوَّة.


وانظُر لهذا الموقفِ الجليل لعُمر القويِّ الأمين الذي سطَّر على جَبِين التاريخ صَفحاتٍ مُضِيئة تتألَّق روعةً وجمالاً وإجلالاً وحِرصًا على مَصالح الرعيَّة وأداء الأمانة.


وهذا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، تَضَوَّرَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، أي تلوَّى وتقلَّب في فراشه من الهمّ والحزن، فَقِيلَ لَهُ: مَا أَسْهَرَكَ؟ قَالَ: "إِنِّي وَجَدْتُ تَحْتَ جَنْبِي تَمْرَةً، فَأَكَلْتُهَا، وَكَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ" رواه الإمام أحمد، والحاكم والذهبي وصححاه.


إنها تمرةٌ واحدةٌ، تُسهر أعظم رجلٍ في العالم، وأزهد وأتقى مَن وطِئَتْ قدمُه الأرض، ويتألَّم ويتقلَّب في فراشه، خوفاً ألا تكون حلالاً عليه، فكيف لا يتألم ويسهر مَن أكلَ أموال المشاريعِ التي ائْتمنه عليها وليُّ الأمر؟ كيف بِمَنْ سرق الملايين، التي هي مِلكٌ للمواطنين؟ كيف لا يتألم ويسهر مَن عمل المشاريع الوهمية أو الضعيفة، التي ما إنْ داهمتها السيولُ والأمطار حتى جعلتها هباءً منثوراً، فمات وجُرح الكثير من الناس بسببها، وتضرروا في معيشتهم، وتنكدوا في طرقاتهم وسيرهم؟.


وانظر لهذا الموقف العظيم للنبي الأمين صلى الله عليه وسلمفقد أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة - رضِي الله عنهما - فقالت: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضٍ له وكانت عنده ستة دنانير أو سبعة دنانير، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ أُفرِّقها فشغلني وَجَعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها.


فقال: "ما فعلت؟ أكنت فرقتِ الستَّة دنانير؟ ". فقلت: لا والله لقد كان شغلني وجعُك.قالت: فدعا بها فوضعها في كفِّه فقال: "ما ظنُّ نبيِّ الله لو لقي الله وهذه عنده"، وفي لفظٍ: "ما ظنُّ محمدٍ بربِّه لو لقي الله وهذه عنده".


يا الله! الرسول خائفٌ أنْ يلقى الله وعنده هذه الدنانير، فما الظنُّ بالرُّؤساء والأمراء والسَّلاطين الذين يأكُلون أموالَ الناس بالباطل؟ ماذا سيقولون لله غدًا؟!


وهذا الصدِّيقُ -رضي الله عنه-، روى عنه ابنُ سعدٍ وابنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كما قال ابن حجرٍ -رحمه الله-، أنَّه عندما ولي الخلافة -وكان يشتغل بالتجارة قبل ذلك- قال: "لا والله! ما يُصلح أمرَ الناس التجارة، وما يَصلح لهم إلا التفرغ، والنظر في شأنهم".فهو يُؤسِّس مبدأً ومنهجاً لمن ولي أمرَ المسلمين: أنَّ الإمارة والتجارة لا يجتمعان في أحد، إلا أفسدتْ إحداهُما الأخرى.ثم قال -رضي الله عنه-: "وما بُدٌّ لعيالي ممّا يُصلحهم"، فترك التجارة، واسْتنفق من مال المسلمين ما يصلحه، ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر.ثم بدأت الْمُشاورات بينه وبين رعيَّته حول الْمُرتَّب الذي يستحقُّه هو وعيالُه، ففرضوا له كلَّ سنةٍ ستةَ آلاف درهم.خليفةُ الْمُسلمين، لا يتجاوزُ مُرتَّبه ستةُ آلاف درهمٍ في السنة كلِّها، فهل وصل الشرقُ والغرب، لمثل هذه الحضارة العظيمة، والسياسةِ العجيبة؟.فأنفقَ -رضي الله عنه- في مُدَّةِ خلافته ثمانية آلاف درهم، فلما حضره الموت قال: إذا أنا متُّ، فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم، وردوها في بيت المال، فلما مات -رضي الله عنه، جاء الرسولُ إلى عمر بهذه الأموال، فبكى عمر وقال: "رحم الله أبا بكر! لقد أتعبَ مَن بعده".


وهذا عمرُ الفاروقُ -رضي الله عنه- بلغ من أمانته وحرصه على بيت مال المسلمين أنه وضع على بيت المال رجلاً أميناً، يُقال له معيقيب، فقد روى قتادة قال: كان مُعَيقِيبٌ على بيت مال عمر فكسَح بيت المال يومًا فوجد فيه درهمًا، فدفَعَه إلى ابن عمر، قال مُعَيقِيبٌ: ثم انصرفت إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجِئت فإذا الدرهم في يده فقال: "ويحك يا مُعَيقيب! أوجدت عليَّ في نفسك سببًا؟ أَوَمالي ومالك؟ فقلت: وما ذاك؟ قال: أردت أنْ تُخاصِمني أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدرهم يوم القيامة.

جوعُ الخليفةِ والدُّنيا بِقَبْضَتِهِ
في الزُّهْدِ مَنْزِلَةٌ سُبحان مُوليها!
لَمَّا اشْتَهتْ زوجُهُ الحلْوَى فقال لها
مِن أين لي ثمنُ الحلوى فأشريها؟

 

ولَمَّا فَتح سعدُ بن أبي وقاصٍ المدائن، سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ من الهجرة، وجُمِعَتِ الْغَنَائِمُ، فإذا هي أموالٌ عظيمةٌ، تزيدُ على الثمانين مِلْيوناً، في غزوةٍ واحدةٍ فقط، وحاكمُ الْمُسلمين الْعادل، يموت وعليه دينٌ يُساوي ثَمَانِينَ ألْفاً!.


ولَمَّا حُمِلَ إلَيه بعضٌ من هذا الْمَالِ، وحُملتْ إليه الكنوزُ والْمُجوهرات، قَالَ مُتعجِّباً: "إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ!"، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ".أى إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى، فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت لرتعوا."(السياسة الشرعية، لابن تيمية بتصرف).


وعن أسلم قال:كنت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس المدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه، قومي إلى ذلك اللبن، فامذقيه بالماء، فقالت: يا أَمتاه، وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين؟ فقالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: لقد أمر منادياً، فنادى ألا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها:يا ابنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك في موضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ واعصيه في الخلاء. وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم، عَلٍّم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه، فلما أصبح قال: يا أسلم، امض إلى الموضع، فانظر من القائلة، ومن المقول لها؟ وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع، فنظرت، فإذا الجارية أيم لا بعل لها، وإذا تيك المرأة ليس لها بعل، فأتيت عمر وأخبرته، فدعا عمر ولده فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أو زوجة؟ فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي، زوجني. فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتاً، وولدت الابنة عمر بن العزيز، رحمة الله عليه وعليهم أجمعين." (الحلية لأبي نعيم).


"وفي يوم شديد الحرارة كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يجلس في الظل مع خادم له خارج المدينة فرأى رجُلاً يَسُوق بِكْرَيْن، من الإبل - وعلى الأرض مثلُ الفراش من الحر، فقال: ما الذي أخرج هذا الرجل في هذا الحر الشديد؟ لماذا لا ينتظر حتى يبرد الجو؟ فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد، ثم يروح، ثم دنا الرجل فقال لمولاه: انظُر مَن هذا؟ فنظر، فقال: أرى رجلاً مُعْتَمَّا برِدائه، يَسُوقُ بكرَيْن. ثم دنا الرجل فقال: انظُر، فنظَر، فإذا عمر بن الخطاب!فقال: هذا أمير المؤمنين. فقام عثمان فأخرَج رأسَه من الباب، فإذا نَفْح السَّمُوم، فأعاد رأسَه حتى حاذاه، وصار أمامه فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟! فقال عمر: بِكران من إبل الصَّدقة تخلَّفَا، وقد مُضِي بإبل الصدقة، فأردتُ أن ألحقهما بالحِمَى وخَشِيت أنْ يضيعَا، فيسألني الله عنهما يوم القيامة فبحثت عنهما حتى وجدتهما، وأردت أن أردهما إلى الحمى (وهو المكان الذي ترعى فيه إبل الصدقة). فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، هَلُمَّ إلى الماء والظِّل، ونكفيك أى ونرسل غيرك ليقوم بهذا العمل. ولكن أمير المؤمنين رفض، وقال: عُد إلى ظِلِّك يا عثمان. وساق الجملين أمامه حتى أدخلهما الحمى. فقال عثمان: مَن أحبَّ أنْ ينظُر إلى القويِّ الأمين فلينظُر إلى هذا، وأشار إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه." ("أسد الغابة"؛ لابن الأثير (4/ 165)، بتصرف يسير وسنده صحيح).


يا خالقَ عمر سبحانك! قال ابن الجوزي في "مناقب عمر": وعن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال:

رأيتُ عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - على قتبٍ يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين، أين تذهب؟ فقال: بعيرٌ نَدَّ (أي: فرَّ وهرب) من إبل الصدقة أطلبه. فقلت: لقد أذللتَ الخلفاء بعدَك.فقال: يا أبا الحسن، لا تلُمْني، فوالذي بعث محمدًا بالنبوَّة لو أنَّ عَناقًا ذهبت بشاطئ الفُرات لأُخِذَ بها عمرُ يوم القيامة.


وحين وفاته، يُنادي ابنَه عَبْدَ اللَّهِ ويقول له: "يَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ، انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ"، فَحَسَبُوهُ فوَجَدُوهُ سِتَّةً وثَمَانِينَ ألْفاً أوْ نَحْوَهُ، قَالَ: فأدِّ عَنِّي هَذَا المال.انظروا إلى النزاهةِ والأمانة الْعُمريَّة، الذي تُجبى إليه كنوز كسرى وقيصر، وتُنفَقُ على جميع المسلمين، وهو لم يأخذ درهماً واحداً لحجِّه وعمرته وأعماله الخاصة به، إنما يأخذ ما حُدِّد له من مُرتَّبٍ من الدولة، فإذا بقي طعامٌ زائدٌ عن حاجته ردَّه إلى بيت مال الْمسلمين، فأيُّ أمانةٍ وعدالةٍ هذه يا أمَّة الإسلام؟.


فهذه أمانة عُمرَ رضي الله عنه وغيرِه من صَحابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذين ربَّاهم الحبيب النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عينيه فخرَجُوا علينا بمواقف رائعة، لولا النقلُ الصحيح لقلنا: إنها ضربٌ من الخيال أو شيءٌ محالٌ، لكن لا عجب ولا غرو؛ فقُدوتهم هو الحبيب النبيُّ صلى الله عليه وسلم.


"علم عمر الأمانة لأولاده ولرعيته فمَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَاعِي غَنَمٍ وأراد أن يختبره فَقَالَ: يَا رَاعِيَ الْغَنَمِ بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، وأسألك بالله رويعي غنم في الصحراء ما الذي يدفعه لحفظ أمانته؟ أليس هو استشعار مراقبة الله عز وجل؟! أليس هذا هو الخلق الذي في داخله الذي يدفعه إلى مراقبة الله جل في علاه، فيرتاد بأغنامه أحسن المراعي ولا رقيب عليه إلا الله؟!واليوم الموظف يتأخر ويتكاسل ويتهاون، ولا يستطيع أي رئيس شركة أو مدير مؤسسة أن يراقب كل موظف في مكتبه، فالأمانة خلق داخلي يدفع الإنسان لأداء الواجب وعدم التفريط فيه.فهذا رويعي غنم في الصحراء يحفظ أمانته، ويرعاها حق الرعاية، فرآه ابن عمر يرتاد بغنمه أحسن المراعي فقال له امتحاناً: بعنا من هذه الشياه، فقال رويعي الغنم: أنا مؤتمن ولا أستطيع التصرف، فقال له ابن عمر امتحاناً واختباراً: قل للمالك: أكلها الذئب، فقال الأمين: وماذا أقول لله؟ إن كنت سأقول للراعي أكلها الذئب، فماذا سأقول لله حين أفرط في الأمانة؟ ماذا سأقول إذا وقفت بين يدي الله وختم على اللسان وأنطق اليدين والرجلين؟!! ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَأَنَا وَاللَّهِ أَحَقُّ أَنْ أَقُولَ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ وبكى ابن عمر، وأرسل إليه من يعتقه، فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ الرَّاعِي وَاشْتَرَى الْغَنَمَ، فَأَعْتَقَهُ وَأَعْطَاهُ الْغَنَمَ ". وقال: كلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم أن تلقاه، قل معي وأنت تسمع مثل هذه الأخبار: أين نحن من هؤلاء؟


ورَحِمَ الله عمر بن عبد العزيز هذا الإمام الخليفة الراشد قِسطاس الموازين.. كان - رحمه الله - إمامَ هدى وسِراجًا نشَر نُور العدل في كلِّ مكانٍ من أركان دولته، وقام بأمانة الخلافة أجملَ قيام، قالت زوجته فاطمة بنت عبد الملك:

"دخلتُ عليه وهو في مصلاه ودُموعه تجري على لحيته، فقلت: أحَدَثَ شيء؟ فقال: إنِّي تقلدتُ أَمْرَ أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فتفكَّرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والغازي، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العِيال والمال القليل، وأشْباههم في أقطار الأرض، فعلمت أنَّ ربي سيَسألُني عنهم يوم القيامة، وأنَّ خَصمي دُونهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى، فخشيت ألا تثبت حُجَّتي عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت".


فعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ مثالٍ من أمثلِة الإسلامِ العظيمةِ التي تُكتبُ بماءِ الذهبِ، لرجلٍ لم يكنْ فوقَه إلا اللهَ -تعالى-، مَلَكَ الأرضَ من الأندلسِ إلى أطرافِ الصينِ، ومن تُركيا إلى اليمنِ، هو عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمه الله تعالى-. كتبتْ له امرأةُ سوداءَ مسكينةٌ -تسمى فَرْتُونَةُ السوداءُ- من الجيزةِ بمصر َكتاباً، وفيه: "أن لها حائطاً لدارها قصيراً متهدماً، يتسوّرُه اللصوصُ، ويسرقونَ دجاجَها، وليسَ معها مالٌ تنفقُه في هذا السبيلِ".فكتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى والي مصرَ أَيُّوبِ بْنِ شُرَحْبِيلَ: "من عبدِ اللهِ عمرَ أميرِ المؤمنينَ إلى أيوبِ بنِ شرحبيلَ، سلامُ اللهِ عليك، أما بعدُ، فإن فَرتونةَ السوداءَ، كتبت إليَّ تشكو قِصرَ حائطِها وأن دجاجَها يُسرقُ منها، وتسألُ تحصينَه لها، فإذا جاءَك كتابي هذا، فاركبْ إليها بنفسِك وحصّنْه لها".وكتبَ إلى فَرتونةَ: "من عبدِ اللهِ عمرَ بنِ العزيزِ أميرِ المؤمنينَ إلى فَرتونةَ السوداءِ: "سلامُ اللهِ عليك، أما بعدُ: فقد بلغني كتابُكِ، وما ذكرتِ فيه من قِصرِ حائطِك، حيث يُقتحمُ عليك، ويُسرقُ دجاجُك، وقد كتبتُ إلى أيوبِ بنِ شُرحبيلَ، آمرَه أن يبنيَ لك الحائطَ حتى يُحصّنَه مما تخافينَ -إن شاءَ اللهُ-"."فلما جاءَ الكتابُ إلى أيوبِ بنِ شُرحبيلَ ركبَ بنفسِه حتى أتى الجيزةَ وظلَّ يسألُ عن فَرتونةَ حتى وجدَها، فإذا هي سوداءُ مسكينةُ، فأعلى لها حائطَها".


قارن بين هؤلاء الأعلام وما نحن فيه الآن:

عباد الله: لقد آلمنا وآلم كل مواطن غيور على وطنه ما حدث في محافظة "الإسكندرية" من كارثة الأمطار الأخيرة، وما تم تداوله من مقاطع الفيديو والصور، وبكاء ودموع المواطنين التي انتشرت في الأيام الماضية.


إن ما حدث تحديداً من دمار للبشر والحجر، ليثير الكثير من المشاعر الحزينة، ويذكرنا العديد من التساؤلات والاستفهامات: من الذي يتحمل المسؤولية؟ ومن هو خائن الأمانة؟ ومن المسؤول الذي لم يرتقِ لمستوى المسؤولية التي كلفه بها ولاة الأمر؟.إن لم يكن هدر المال العام، وتبذير الميزانيات الضخمة على مشاريع هشة لم تصمد أمام الأمطار، لا يعدَّان جريمة في حق الوطن، فما هي الجريمة؟ وإذا أصبحت الأمطار التي كانت تسعد الإنسان تبكيه، وتجعله يتسول البطانيات والأغذية في بلد العطاء والخير، ولا يكون ذلك جريمة، فما هي الجريمة؟ وإن كان ضياع الأنفس والممتلكات بسبب الكوارث الطبيعية، لا يعد جريمة، فما هي الجريمة إذن؟


الصورة أصبحت تتكرر في مدننا ومحافظاتنا، والعامل المشترك بينها واحد، هو: تقصير المسؤول نحو مجتمعه ووطنه، ومدى التهاون من أكبر مسؤول في المحافظة حتى أصغرها.


إن هذه الكارثة الإنسانية التي أصابت محافظة "الإسكندرية" لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن التغاضي عنها، ولا يمكن تبريرها ببيانات إعلامية غير صادقة، تفتقد المنطق والواقعية؛ لا بد من المصارحة والشفافية، ومحاسبة المسؤولين بكل جرأة؛ فلو كان هناك اهتمام ومتابعة ومحاسبة لكل صغيرة وكبيرة لما حدثت هذه الكارثة.


لقد انكشفت البنية التحتية في محافظة "الإسكندرية" على حقيقتها، و انهارت الطرق،! والكوارث ستستمر باستمرار الفساد والفاسدين ما لم يعاقَب المسؤول علناً وبكل جرأة، كائناً من كان.


فاتقوا اللهَ -أيها المسلمونَ- في الأمانةِ، اتقوا اللهَ في الأمانةِ، اتقوا اللهَ في الأمانةِ، ويأيها المسؤولين، افتحوا قلوبَكم قبلَ مكاتبِكم للمواطنِ الذي توَلّيتم أمرَه، واستَرْعاكم إيَّاهُ وليُ أمرِكم، وسيسألُكم عنه ربُكم، اسهروا لراحتِه، اسعَوا في حاجتِه، واقضوا مصالحَه، يسّروا أمورَه، اجعلوه يعتزُّ بإسلامِه، ويفخرُ ببلادِه، فقد قالتْ العجوزُ للخليفةِ الراشدِ عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله عنه- وهي لم تعرفْه: "اللهُ بيننا وبينَ عمرَ! قالَ: وما يُدري عمرُ بكم؟ فقالت: "أيَتَولّى أمرَنا ويغفلُ عنّا؟".


ولذلك لا يمكن أن تستقر الحياة بدون الأمانة ففقدانها دمار وخراب وهلاك ومن علامات الساعة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يُحدِّثُ القومَ، جاءَهُ أعرابيٌّ فقال: مَتَى السَّاعَةُ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فقال بعض القوم: سَمِعَ ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يَسمع، حتَّى إذا قَضَى حديثَه، قال:" أين السائل عن الساعة؟ " قال: ها أنا يا رسول الله، قال: " إذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظر الساعة" قال: كيف إضاعتُها يا رسول الله؟ قال:" إذا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غير أهله فانتظر السَّاعة"( البخاري- الفتح 1 (59).


وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص- رضي اللّه عنهما- أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « والّذي نفس محمّد بيده لا تقومُ الساعةُ حتى يُخوَّنُ الأمين ويؤتمن الخائن...») « مسند أحمد (2/ 162، 199، 238) وقال الشيخ أحمد شاكر (11/ 90): إسناده صحيح. وروى ابن ماجة 2 (4036) نحوه عن أبي هريرة ».


وضَياع الأمانة دليلٌ على فساد الزمان:وبين النبي -صلى الله عليه وسلم أنها سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ). قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: (الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلَّم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني("الصحيحة": 1888، "صحيح الجامع": 3650)


جزاء من خان الأمانة:

بداية لا تجوز خيانة الأمانة حتى مع الخائنين قال تعالى: "﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27] وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأداء الأمانة وعدم خيانة الخائنين:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». سنن أبي داود ( 3535) وصححه الأرنؤوط في جامع الأصول وغيره وصححه لألباني في الصحيحة (423) وقد رُوي عن ابْنُ عَبَّاسٍ:"لَمْ يُرَخِّصِ اللَّهُ لِمُعْسِرٍ وَلَا لِمُوسِرٍ أَنْ يُمْسِكَ الْأَمَانَةَ". تفسير القرطبي ( 5/ 256)


خائن الأمانة يرفع له لواء يوم القيامة:عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ " البخاري (6177) و مسلم (1735)



فخائن الأمانة سوف يأتي يوم القيامة مذلولاً عليه الخزي والندامة فيا لها من فضيحة وسط الخلائق! تجعل المسلم يحرص دائمًا على الأمانة، فلا يغدر بأحد، ولا يخون أحدًا، ولا يغش أحدًا، ولا يفرط في حق الله عليه.

خيانة الأمانة من علامات النفاق:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " البخاري ومسلم.

وقد توعدهم الله تعالى بأقسى العقوبة، وأسفل مكان في النار، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145].


وضرب الله لنا مثلًا بامرأتين من نساء الأنبياء والرسل َقِيلَ لهما ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ بسبب الخيانة، ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10].. أي خانتاهما في الدين، وكانتا تدلان أقوامهما بمن يؤمن مع أزواجهما.

والخائن سيدخل جهنم حتى لو مات شهيدا ويطالب بأداء الأمانة بعد دخولها روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، يؤتى بالعبد يوم القيامة -وإن قتل في سبيل الله- فيقال لهذا العبد: أدِ أمانتك، فيقول: أي رب! كيف وقد ذهبت الدنيا؟!)، أي: من أين سأدفع الآن؟! فقد ذهبت الدنيا، وليس معي مال الآن، (فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية)، أي: التي قال عز وجل فيها: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ [القارعة:8 - 9]، فمصيره ونهايته الهاوية، فقال هنا: (فينطلق به إلى الهاوية) يعني: النار والعياذ بالله! وتتمثل له أمانته، ففي الدنيا يذكر أن فلاناً أعطاه وديعة فخانها ولم يعطها لصاحبها، وآخر أعطاه أمانة فخان في الأمانة ولم يعطها لصاحبها، وآخر باع له واعتمد على أمانته فلم يدفع الثمن وهرب من صاحبه. وهكذا كل أمانة من أمانات الدنيا، وكذلك أمانات الدين.قال: (وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه)، فيذكر أن واحداً أدى له ذهباً، والثاني أدى له فضه، والثالث أدى له كذا، فتمثل له هذه الأمانة أمامه وهو متوجه إلى النار.قال: (فيراها فيعرفها)، فيجري وراء هذه الوديعة التي خانها في الدنيا، فيهوي في أثرها في النار، تهوي في النار وهو يهوي وراءها في النار، فيمسكها في النار، ثم يحاول أن يصعد بها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج من النار زلت عن منكبه وهوت في النار، فينزل وراءها في النار مرة ثانية، ولا يزال يصعد بها ويهوي في أثرها أبد الآبدين.فأمر الأمانة خطير جداً، وما أكثر ما نرى من يصلي ويصوم ويزكي، وإذا جاء وقت الأمانة فهو خائن، فلا تقدر أن تمدحه، ولا تقدر أن تقول لمن سألك عنه: فلان أمين، فضع مالك عند هذا الإنسان، لا تقدر أن تقول هذا الشيء، هذا في الدنيا، وهذه العقوبة يوم القيامة، فكم من الناس من يأتي يوم القيامة وهو خائن، فيأتي الذي اختلس مليون جنيه، والذي أخذ ألف جنيه، والذي أخذ جنيهاً واحداً، والذي أخذ أقل من ذلك، ويقال له: هذه الأمانة فهات هذه الأمانة، فيهوي في النار ليأتي بها، فيحملها على منكبه، فإذا كاد أن يخرج زلت من على منكبه، ووقعت في النار، فينزل في النار ليأتي بها، ولا يزال كذلك أبد الآبدين إن لم يكن من الموحدين. ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة -وأشياء عددها- وأشد ذلك الودائع.يقول راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود رضي الله عنه؟ قال كذا وقال كذا، قال البراء: صدق، أما سمعت الله يقول:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء:58].


لذلك احرصوا على أداء الأمانة، فمن وجد في نفسه القدرة فليتحمل، ومن لم يجد فليبتعد عن أخذ ودائع الناس وأخذ أموال الناس، وإلا فالجزاء كما سمعتم

 

وبعد:

فهذا آخر ما تيسَّر جمعه في هذه الرسالة:

نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبَّلها منَّا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بها مؤلفها وقارئها، ومَن أعان علي إخراجها ونشرها...... إنه ولي ذلك والقادر عليه.


هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادعُ لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي:

وإن وجدت العيب فسد الخللا ♦♦♦ جلّ من لا عيب فيه وعلا


فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


هذا والله تعالى أعلى وأعلم.........


سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

 

المراجع:

• القران الكريم

• موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم

• خطبة الجمعة - الخطبة 0551: الأمانة.لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1995-12-15

• أحاديث رمضان 1422 - موضوعات قرآنية - الدرس ( 48 - 57 ): إحياء ليلة القدر2.لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 11-12-2011

• خطبة بعنوان: أهمية الأمانة وصور مشرقة من أمانة نبينا وخلفائه الراشدين - أحمد بن ناصر الطيار

• خطبة عيد الفطر 1431هـ (الإنسانية وتحمل الأمانة) الشيخ/ عبد الله بن محمد البصري

• شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة - للشيخ: أحمد حطيبة

• شرح الترغيب والترهيب - الترهيب من تضييع الأمانة - للشيخ: أحمد حطيبة

• خطبة بعنوان: الأمانة.. وكارثة أمطار تبوك الشيخ إبراهيم بن سلطان العريفان

• خطبة بعنوان: الأمانة: فضائلها ومجالاتها عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

• خطبة بعنوان: الأمانة مكانتها و أثرها في المجتمع موقع الشيخ الشريم

• خطبة بعنوان: (( الأمانة في القول والعمل (للشيخ رجب الأزهري

• « الأمانة » لِسَمَاحَةِ الشَّيْخِ العلاّمةِ عَبْدِ اللَّـهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ

• خطبة بعنوان: إنا عرضنا الأمانة - الشيخ علي عبد الرحمن الحذيفي

• خطبة بعنوان: يوم ضيعنا الأمانة - للشيخ: خالد الراشد

• خطبة بعنوان: حاملة الأمانة - للشيخ: محمد المنجد

• خطبة بعنوان: الأمانة في الإسلام د / خالد بدير بدوي

• خطبة بعنوان: وحملها الإنسان الشيخ هلال الهاجري

• مقال عن أداء الأمانة للشيخ عبد الله حسن الغندور

• خطبة الأمانة يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه

• خطبة الأمانة يحيى بن موسى الزهراني

• خطبة بعنوان: الأمانة 2 إبراهيم الدويش

• الأمانة للشيخ ندا أبوأحمد





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الأمانة: شرف أدائها، وخطر خيانتها
  • أداء الأمانة مفتاح الرزق (خطبة)
  • أدوا الأمانة ( خطبة )
  • الأمانة ( خطبة )
  • المحافظة على الأمانة ( خطبة )
  • الأمانة كما يصورها القرآن الكريم (خطبة)
  • طلب الولايات (خطبة)
  • النذير المبين لمن جاوزوا الخمسين (خطبة)
  • وقفات مع الأمانة (خطبة)
  • الأمانة العظمى

مختارات من الشبكة

  • خطبة: خلق الأمانة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة عن فضل الأمانة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الحرص والاهتمام بأداء الأمانة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مسؤوليتنا في أخذ لقاح الإنفلونزا الموسمية وحفظ الأمانة الصحية (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أداء الأمانة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأمانة دستور حياة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الخطوات المثالية لزرع قيمة الأمانة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من دروس الهجرة: كيف حالك مع الأمانة؟ (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ذهب عصر الأمانة وظهر عصر الخيانة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب