الثمر الداني في ترجمة المسند الشيخ رحمة الله بن عبدالغني الأركاني

الثُّمرُ الدَّاني في تَرجمةِ الْمُسندِ الشَّيخِ رَحمةِ الله بْنِ عَبدِ الغَنِيِّ الأرَكاني

(رحمه الله تعالى)

(1343 - 1436هـ)

شيخنا العالم العابد، والعامل الزاهد، المسند الشيخ:

رحمة الله بن عبدالغني بن إبراهيم خليل بن أبي ذرٍّ ماهر، الأركاني بلدًا ومولدًا، الديوبندي تعلمًا وتحصيلًا وتخرجًا، الحنفي فقهًا ومذهبًا، الأثري سلوكًا ومنهجًا، ثم المدني مُهاجَرًا ومسكنًا ومدفنًا، من أعيان أهل الحديث والإسناد، وأشياخ الرحلة إليه من البلاد، ممن تشرف بعلو سلاسل الإسناد، وارتقى مراقي الفلاح والإسعاد، وأصبحَت الرِّواية به وارية الزِّناد، وطلبَته الطَّلبةُ من كلِّ جَانب، ومَالت إليهِ أَعناقُ الرَّغائب، ارتدَى منَ المكارِم بحُلل، وحَظِيَ من المحَامدِ بجُمَل، أدرك َكبارَ المشايخ أهل الرِّواية، ذوي العلمِ الرَّاسخِ والدِّراية، وتلقَّى عليهم مُدَّة مديدة، وأخذَ عَنهُم فنونًا عَديدة، وشهدَ له شُيوخه بالنُّبلِ والتَّفوُّقِ والفَضل.

يقول رحمه الله متحدثًا عن رحلته في طلب العلم، وعن أسماء شيوخه، وبعض أسانيدهم ومقروءاته ومسموعاته عليهم، كما في إجازته المرقومة: (فإن من فضل الله تبارك وتعالى عليَّ أن وفقني لطلب العلم الشريف منذ نشأت في منتصف القرن الرابع عشر بمسقط رأسي وديار آبائي - بقرية سانيه بمدينة كيوقتو بولاية أركان - ببورما، ثم رحلت إلى الهند لإكمال الدراسة؛ فدرست بجامعة مظاهر العلوم بسهارنفور ثلاثة أشهر، ثم انتقلت إلى الجامعة الدينية الشهيرة العريقة: "دار العلوم" بمدينة ديوبند شمالي الهند، وبعد فراغي من الدراسة بها سنة 1371هـ، أجازني كبار شيوخي بها:

1- فمنهم العلامة شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني بن حبيب الله الحسيني الفيض أبادي (1296 - 1377هـ)، لازمته كثيرًا، وتلقيت عنه: "الجامع الصحيح" للإمام البخاري، والنصف الأول من "جامع الترمذي".

2- ومنهم: العلامة الشيخ محمد إبراهيم البلياوي (1304 - 1387هـ) صحبته، وتلقيت عنه "صحيح مسلم".

3- ومنهم: العلامة شيخ الأدب الشيخ إعزاز علي بن مزاج علي الأمروهي الديوبندي (1300 - 1374هـ)، تلقيت عنه: "سنن أبي داود"، والنصف الثاني من "جامع الترمذي"، و"ديوان المتنبي"، والنصف الثاني من "الهداية" للمرغيناني.

4- ومنهم: العلامة الأصيل محمد طيب بن محمد أحمد بن محمد قاسم النانوتوي القاسمي (1315 - 1404هـ)، مدير المدرسة، لازمته كثيرًا، وهو شيخٌ إرشادي، وتلقيت عنه: "حجة الله البالغة" للشاه ولي الله، ونحو الربع من أول "مشكاة المصابيح".

5- ومنهم: العلامة المفتي أبو أحمد مهدي حسن بن كاظم حسن بن فضل الله الشاهجهانفوري (1300 - 1396هـ)، أخذت عنه: "شرح معاني الآثار" للطحاوي.

6- ومنهم: العلامة الشيخ ظهور أحمد الديوبندي (1318 - 1383)، تلقيت عنه "سنن ابن ماجه"، و"مسلم الثبوت".

7- ومنهم: العلامة الشيخ فخر الحسن العمروهي (1332 - 1398هـ) تلقيت عنه "سنن النسائي"، و"سلم العلوم".

وهؤلاء الشيوخ أخذوا سماعًا وإجازةً عن عدة مشايخ؛ فمن أجلِّ شيوخ مشايخي الخمسة الأولين: شيخ الهند العلامة محمود حسن بن ذي الفقار علي الديوبندي (1268 - 1339هـ)، ومن شيوخ شيوخي الأول والرابع والخامس: العلامة المحدث الشيخ أبو إبراهيم خليل أحمد بن مجيد علي السهارنفوري (1269 - 1346هـ) بروايتهما ما بين سماعٍ وإجازة عن الشيخين: الشيخ محمد مظهر النانوتوي، ومحدث دار الهجرة عبدالغني بن أبي سعيد الدهلوي، زاد شيخ الهند: وعن الشيخين أحمد علي السهارنفوري طابع كتب الحديث، والقاري عبدالرحمن الباني بتي، وزاد الشيخ خليل أحمد: عن الشيخ عبدالقيوم البدهانوي، برواية هؤلاء الخمسة عن الشاه محمد إسحاق الدهلوي، عن جده لأمه الشاه عبدالعزيز، عن أبيه الشاه ولي الله الدهلوي بأسانيده المعروفة، وبرواية الباني بتي عن عبدالرحمن بن زين العابدين جمل الليل، عن أبيه، ومحمد الكزبري، وصالح الفلاني.

(ح): وأجاز لشيخنا المدني بالحجاز: أديبه عبدالجليل براده، ومحمد بن سليمان حسب الله، ومفتي الحنفية بالمدينة عثمان بن عبدالسلام الداغستاني، ومفتي الشافعية بها أحمد بن إسماعيل البرزنجي؛ كلهم عن الشاه عبدالغني الدهلوي، عن عابد السندي.

(ح): وبرواية حسب الله وبراده عن أحمد بن منة الله العدوي، زاد أولهما: وعن عبدالغني الدمياطي، ومصطفى المبلط، وزاد براده: وعن يوسف الصاوي.

(ح): وأجاز لشيخ مشايخنا خليل أحمد: مفتي الشافعية بمكة أحمد بن زيني دحلان بـأسانيده، ومنها روايته عن عثمان الدمياطي بروايته والأربعة قبله عن الأمير الكبير المصري بأسانيده، ولجميع من ذكر من المشايخ مشايخ آخرون، وأسانيد وروايات مذكورة في مبسوطات كتب الرواية، وما تقدم من تعيين مسموعاتي فبحسب الذاكرة.

وقد أكرمني الله تعالى بالإقامة في البلد الحرام منذ سنة 1373هـ، ثم استوطنت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم من سنة 1385هـ إلى الآن، كما قدر تعالى لي التجول في بلدانٍ عديدةٍ، منها: بيت المقدس، ودمشق، وحلب، ونحوها من بلاد الشام، وغيرها من البلاد، ولقيت فيها وفي الحرمين على مر الأيام خلقًا من العلماء والصالحين والفضلاء، واستفدتُ من كثيرٍ منهم، وربما حضرت دروسهم، غير أني لم أعتن باستجازة أحدٍ منهم)؛ اهـ.

ثم أخذ في التدريس وشرع، وتميز وبرع، مع إنشائه تصانيف وتواليف، حتى ظهر شأنه، وسما ذكره، ونما قدره، وكان ذا نطقٍ فصيح، وذكاءٍ مليح، وصبرٍ وقناعة، وحلمٍ ونصاعة، كثير البر والإيثار، هامي الجود على ذوي الإعسار، يعاشر تلاميذه أحسن المعاشرة، ويلاطفهم أجمل الملاطفة، ومما تميز به: جلده على إسماع دواوين السنة، وإقراء كتب الفقه والتفسير، واللغة والتاريخ والسير، وتفرده بغالب شيوخه سماعًا وقراءة وإجازة، مع انكبابه على الإفادة طول عمره، وملازمته للعبادة والزهادة إلى خاتمة أمره، فانتفع الناس به، وازدحم الطلبة عليه، ولم يزل مقبلًا على شأنه في العلم والعمل، إلى أن حصل له من المرض ما حصل، وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الأحد الثامن عشر من رمضان عام ستٍّ وثلاثين وأربعمائة وألف هجرية، وصُلِّي عليه فجرًا في المسجد النبوي الشريف، ودفن في البقيع، تغمده الله بواسع مغفرته ورحمته، وأسكنه فسيح جنته، وجزاه عما قدم خير الجزاء..

ورحم الله القائل:

أهلُ الحديث حماةُ الدِّين، تابعُهم في متجرِ الحقِّ والتحقيق قد ربحا فازوا بدعوة خيرِ الخلق، ما وُجدوا إلا ونورُ الهدى من وجهِهم لاحا روَوْا حديثَ رسول الله عن كَثَبٍ غضًّا طريًّا عليه الصِّدق متضحا والعلمُ أفضل ما ازدان اللبيبُ به وخيرُ ما اغتبَق النِّحْرير واصطبحا وأسعدُ الناس مَن كانت بضاعته عِلم الحديث الذي قد صحَّ واتضحا وقد نفَوْا كلَّ شكٍّ عن شريعته فأرغموا أنفَ مَن للشكِّ قد جنَحا جزاهم الله خيرًا عن نبيِّهم ودينِه، وحباهم أجرَ مَن نصحا

نموذج من خط صاحب الترجمة رحمه الله تعالى