مؤامرات على الحرم الشريف عبر التاريخ

مؤامرات على الحرم الشريف عبر التاريخ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُخرِّب الكعبة ذو السُّوَيْقتَيْنِ من الحَبَشة))، وفي رواية ابن عباس: قال: ((كأني به أسودَ أَفْحَجَ يقلعها حجرًا حجرًا)).

إنه خبرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرِ مؤامرة سيتعرَّضُ لها الحرم الشريف؛ غزو لجيش بزعامة ذي السُّوَيْقَتَيْنِ، يَسلُبُها حُلَّتَها ويجرِّدُها من كسوتها ويخرج كنوزها.

ليس هناك بقعةٌ أطهرَ وأزكى وأقدسَ من الكعبة المشرفة؛ فهي قِبلة المسلمين، ومهبط الوحي، ومِعراج الرسول صلى الله عليه وسلم، وموطن الحجر الأسود "حجر الجنة "؛ ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]، من هنا عَرَف أعداء الأمة مكانة الحرم الشريف في قلوب المؤمنين؛ فجعلوه مَحطَّ أنظارهم، ومرتكزَ خططِهم، فدبّروا له المكايد والمؤامرات منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا.

يذكر أهل التاريخ أن تُبَّعًا ملكَ اليمن أقبل يريد هدمَ البيت الحرام، وصرف وجوه العرب إلى اليمن؛ حيث ملكُه وسلطانُه، فجاءه نفرٌ من هُذَيْل فحسَّنوا له أمر هدم الكعبة، وأغرَوْه بمالها وكنوزها، فعزم على هدمها، فغشيتهم ظلمة شديدة وريح؛ فأصابه مرض أسال دموع عينيه على خدِّه، فبعث إلى الأحبار والسحرة والكهان فقال: ما لي؟ لقد بتُّ وما بي من شيء، وأصبحت كما ترون؟ فقالوا: لعلك حدَّثْتَ نفسك أن تفعل أمرًا بهذا البيت؟

فقال: نعم، أغراني بذلك نفر من هُذَيْل.

قالوا: والله ما أرادوا إلا هلاكَك.

قال: فماذا أصنع؟

قالوا: أن تصنع بأهله خيرًا.

ففعل فرجعت عيناه، وكسا الكعبة وطاف وحلَّق.

وتستمر المؤامرة على البيت الحرام، فيأتي رجل وامرأة من جُرْهُمَ - يدعيان: إسافًا ونائلة - ليفعلا الفاحشة في وسط الكعبة، تقول عائشة رضي الله عنها: "ما زلنا نسمع أن إسافًا ونائلة رجل وامرأة من جُرْهُمَ، زنَيَا في الكعبة، فمُسِخا حجرَيْنِ".. في مؤامرة قذرة لتدنيس البيت الحرام.

ثم يأتي رجل من برمك ليبني بيتًا يضاهي الكعبة، فيجعل أَرْوِقتَه 360 رواقًا؛ ليُثنيَ الناس عن بيت الله، فيهلك الرجل.

ثم يأتي رجل اسمه ظالم بن سعد ليبنيَ لغطفانَ بيتًا يُشبِهُ الكعبةَ، فيُقتل وتُهدَمُ كعبتُه، ثم يأتي أبرهة بمؤامرة كبيرة، فيبني كنيسًا أسماه: القليسَ؛ ليصرف العرب عن كعبتهم، ويدعو الناس إلى حج كنيسه، فيدخله رجلان من العرب، فيتغوَّطان فيه، فيغضب أبرهة، ويُهيِّئُ جيشًا لغزو البيت الحرام، وفي مقدمة جيشه الفيل، وليخلِّد اللهُ عز وجل تلك الواقعة في سورة يمُنُّ بها على أهل مكة؛ فيقول عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1 - 5]، حتى أصبحت العرب تتفاخر على الأمم بأن الله دافع عنها، وقاتل المعتدين، وكفاهم كيد الأعداء.

وتستمر المؤامرات الباطنية على الحرم الشريف، فتتبنّاها حركات كثيرة؛ منها عام 129هـ بقيادة أبي مسلم الخراساني، وعام 259هـ بقيادة الدولة الطاهرية، وعام 278هـ بقيادة الدولة القرمطية، وعام 334هـ بقيادة الدولة البويهية، وهناك في المغرب تظهر مؤامرة تستهدف الحرم الشريف عام 296هـ بقيادة الدولة العُبَيْديَّة الفاطميَّة، بويهيون في العراق، وقرامطة في الجزيرة، وفاطميُّون في مصر وما جاورها.

كانت الكعبة هي محورَ تلك الدول والحركات والجماعات، فالقرمطيُّ يدخل الكعبة ويستبيح الدماء في موسم الحج، فيقتل الحُجَّاج وهم متعلِّقون بأستار الكعبة، ويقتلع الحجر الأسود فينقله إلى البحرين؛ ليبقى أسيرًا قُرابةَ العشرين عامًا.

مؤامرة تلو المؤامرة، ولن تنتهي حتى يشهد الناس ذلك الحبشي الذي يقتلع أحجارها، تقول عائشة رضي الله عنه - والحديث في الصحيحين -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يغزو جيشٌ الكعبة، فإذا كانوا ببَيْداءَ من الأرض يُخسَفُ بأولهم وآخرهم)) قالت: قلتُ: يا رسول الله، كيف يُخسَفُ بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقُهم، ومن ليس منهم؟ قال: ((يُخسَفُ بأولهم وآخرهم، ويُبعَثون على نيَّاتهم)).

وها نحن اليوم نعيش في عصر قريب من عصور المؤامرات على الحرم الشريف من حركات باطنية منحرفة، تريد تدنيسَه، وتشويهَ صورة الإسلام فيه.

فاللهَ اللهَ في الحرم الشريف، والدفاع عنه! اللهَ اللهَ في قِبلة المسلمين! لا يدخلُها أهل الشرك والبدع والخرافة، اللهَ اللهَ في الكعبة الطاهرة أن تُدنَّسَ بوَثَنٍ، أو ترفع فيها راياتُ الشرك! فوالله إن استُبِيحَ الحرمُ فباطن الأرض خير لنا من ظاهرها.

تأمَّل معي كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعظِّمُ البيت الحرام، فقد ذكر ابن سعد في الطبقات أنه قد جاء في السيرة أن عثمان بن طلحة بن أبي شيبة (سادن الكعبة وخادمها) يقول: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظتُ له ونلتُ منه، فحلم عني، ثم قال: ((يا عثمان، لعلك سترى هذا المِفتاح يومًا بيدي، أضَعُه حيث شئتُ)) فقلت: لقد هلكتْ قريشٌ يومئذ، وذلَّتْ! فقال: ((بل عمَرتْ وعزَّتْ يومئذ)) ودخل الكعبة، فوقعتْ كلمتُه مني موقعًا ظنَنْتُ يومَئِذٍ أن الأمر سيصير إلى ما قاله، فلما كان يوم الفتح قال: ((يا عثمان، ائتني بالمِفتاح)) فأتيته به فأخذه مني، ثم دفعه إليَّ، وقال: ((خذوها خالدةً تالدةً، لا يَنزِعُها منكم إلا ظالمٌ، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكُلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف)) قال: فلما ولَّيْتُ ناداني، فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: ((لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أَضَعُه حيث شئتُ((، فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله.

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفْوًا أحدٌ، أن تنزل الأمن والأمان على حَرَمِك الطاهر، وأن تصرف عنه كيد الأعداء، ومكر الأشقياء، اللهم من أرادنا أو أراد دينَنا أو أراد بلادَنا بسوء، فاجعل دائرة السوء تدور عليه، وأَرِنا فيه عجائب قدرتك، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.