• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

دور الجماهير في صمود الموصل سنة 1156هـ /1743م

أ. د. عماد عبدالسلام رؤوف

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/9/2014 ميلادي - 28/11/1435 هجري

الزيارات: 7179

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

دور الجماهير في صمود الموصل

سنة 1156هـ/1743م


مقدمة:

لعل أكثر الاتجاهات حداثة في مجال الدراسات التاريخية تلك التي تحاول تبيان دور الشعوب في صنع الحدث، أو- في الأقل- دور(القوى التحتية) في المجتمعات الإنسانية التي تدفع بعض الأفراد، أو الفئات، إلى صنع ذلك الحدث. بل ربما ذهبت بعض الاتجاهات إلى معالجة ردود الأفعال العفوية لتلك القوى، في مواجهة تحدٍ ما، ودراسة العوامل الخفية لهذا الموقف أو ذلك الفعل، عن طريق مقارنة ردود أفعال تلك القوى عبر حقب متعددة، أو مقارنتها مع غيرها من القوى المشابهة في مناطق وأمم أخرى، وهذا ما دعا بعض المؤرخين المحدثين إلى الإعلان عن أن المؤرخ تواجهه في كل لحظة حاجة مستمرة للنفاذ إلى (أسرار القوى الجماعية) التي تشكل حياة المجنمع والأفراد المكونين لذلك المجتمع في أية لحظة في التاريخ[1].

 

وهكذا فقد امتدت يد البحث، وفق هذه النظرة العلمية، إلى حقب التاريخ المختلفة، فحاولت استيضاح دور حركة الشعب، أو الناس العاديين، في رسم صورة حدث ما، وفي تقرير نتائجه أيضاً، كقيام ثورة، أو تغيير نظام سياسي، أو تحرير بلاد محتلة، أو الوقوف في وجه تحد خارجي، أو داخلي..الخ، مما لم تكن ملامح الشعب ظاهرة فيه من قبل، أو أنه كانت مختفية وراء دور هذا القائد العسكري، أو زعامة تلك الأسرة.

 

إن البحث في عوامل خفية كهذه يشبه ما يقوم به الجيولوجي في البحث عن الحركات التي تحدث في الأعماق السحيقة من باطن الأرض، والتي تنجم عنها تغييرات جسيمة على سطحها، كانفجار البراكين فجأة، أو زوال الجزر، أو تغيير المعالم الظاهرة، وهو أيضاً يشبه عملية التنقيب عن الأسس الخفية من البناء، لا مجرد تبين ملامحه الخارجية.

 

وبما أن البحث في الأعماق ليس ميسراً كغيره من ضروب البحث الأخرى، فربما استعان الباحث في عمله بما لم يفكر في استعماله أسلافه من المؤرخين السابقين، كعلوم الاجتماع، وعلم النفس الجمعي، والاقتصاد، وغير ذلك من علوم مساعدة تهديه إلى غايته.

 

ولا نشك في أن واقعة حصار الموصل من قبل الجيوش الإيرانية سنة 1156هـ/1743م/ هي من أكثر اللحظات التاريخية التي عبرت فيها القوى الشعبية عن نفسها في حدث ذي طابع سياسي وعسكري، حتى أنه من الصحيح القول بأن هذه اللحظة يمكن أن تكون نموذجاً دراسيا مهماً صالحاً لتبين ردود أفعال القوى المذكورة، إزاء ما مثله الغزو، ثم الحصار، من تحد خارجي عنيف، ومن المهم أن نذكر هنا أن الخروج بنتائج علمية، ومحددة، لا يمكن أن يكون إلا بدراسة اللحظات التاريخية التي سبقت نلك الواقعة، أي دراسة التطورات الداخلية العميقة، التي مر بها المجتمع الموصلي، منذ نصف قرن في أقل تقدير.

 

القوى الشعبية والسلطة:

فمنذ أوائل القرن الثامن عشر، وربما قبله أيضاً، كانت القوى الشعبية الموصلية قد نجحت في إصعاد أسر ذات تراث ديني وثقافي، إلى مواقع الزعامة الحقيقية للمدينة، وكان آل العمري، تلك الأسرة الموصلية القديمة، يمثلون الأنموذج الأبرز لمثل هذا النوع من الزعامة المحلية، وفي الواقع كانت هذه الزعامات قادرة على منافسة ممثلي السلطة العثمانية المركزية، أو مقاومتها إن استدعى الأمر ذلك، ذلك لأنها تقف على نفس القاعدة الاقتصادية التي تقف عليها تلك السلطة، وتقوم هذه القاعدة على ملكية اقطاعية محلية قوية[2]. وبتملكها العديد من القرى الزراعية المنتجة في ريف الموصل، أصبحت منافستها، أو مقاومتها، للنظام الإقطاعي- العسكري- الإداري العثماني فعالة ومؤثرة، بل أنها أصبحت تمثل القوى الشعبية الموصلية وتسيطر من ثم على أحياء مهمة من مدينة الموصل نفسها، وقادرة على إثارة الاضطرابات في وجه الولاة كلما شكلوا تهديداً لمصالح السكان، وبالفعل فإنها أعلنت الثورة غير مرة على الوالي العثماني سنة 1123هـ/1711م[3]، وسنة 1138هـ/1725م[4]، ودامت الثورة في المرة الأخيرة نحو ستة أشهر كاملة، ويكشف دوامها لهذه المدة عن مدى شعبيتها.

 

ويمكن القول أن تلك الأسر استطاعت أن تكون نوعاً من (الإقطاعية الوطنية) مقابل إقطاعية الدولة المركزية، وكان هذا أول تحرك سياسي مؤثر للقوى الشعبية في الموصل ضد سيطرة العثمانيين عليها في أوائل القرن السادس عشر.

 

تجلي روح المدينة:

بيد أن النضال الذي قادته (الإقطاعية الوطنية) سرعان ما أخذ يضر بمصالح قوى شعبية أخرى كانت أهميتها الاقتصادية آخذة بالنمو في الوقت نفسه، فقد أدى استتباب حد أدنى من الأمن في المنطقة، إلى استعادة المدينة نشاطها الاقتصادي الذي يفرضه عليها موقعها الجغرافي، فنمت طبقة الحرفيين بتنظيماتها الاجتماعية المحكمة المسماة بـ(الأصناف)، كما نمت أيضاً طبقة التجار بنفوذها الواسع في سوق المدينة وعلاقاتها الممتدة إلى المدن الأخرى[5]، وكان طبيعياً أن يضر الصراع الدائر بين القوتين الإقطاعيتين، المركزية والمحلية، بمصالح هذه الطبقات الجديدة، فمركز ثقل الإقطاعية الوطنية هو الريف، بينما مركز ثقل الطبقات المذكورة في المدينة، وكان انتقال الصراع إلى داخل الأخيرة يعني إغلاق الأسواق، وتوقف الإنتاج، وتعطيل التجارة، وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية المدنية، فكان لابد لجماهير الحرفيين والتجار إصعاد الزعامات الأكثر تمثيلا لها إلى المستوى السياسي المؤثر، وهكذا فقد جرى تولي الأسرة الجليلية مقاليد الزعامة الشعبية العامة لتلك الجماهير، وهو الأمر الذي مهد لها الوصول إلى السلطة السياسية للمدينة، والاحتفاظ بمقاليدها مدة تزيد على القرن (1139- 1248هـ/1726- 1834م) ولم يكن التغيير يعني، في أحد جوانبه، إلاّ نجاح القوى الشعبية مرة أخرى في اختيار قيادتها الممثلة لمصالحها، وانتقال الزعامة من (الإقطاعية الوطنية) التي كان يمثلها العمريون وحلفاؤهم، إلى ما يمكن أن نسميه (البرجوازية الوطنية) التي كان يمثل مصالحها الجليليون وحلفاؤهم.

 

وكان وصول القوى الشعبية إلى السلطة السياسية قد عجل في عملية تحول أخرى كانت تجري في فرق الجيش الإنكشاري المتخذة مواقعها في محلات المدينة الرئيسة، وخلاصة ذلك التحول أن أعداداً غفيرة من السكان، ومعظمها من أبناء الحرفيين، قد أخذت بالانضمام إلى الفرق المذكورة، مستغلة ضعف الإدارة المركزية للجيش الإنكشاري، وبهذا أصبحت هذه الفرق، منذ النصف الأول من القرن الثامن عشر، لا تعني إلا أصناف الحرفيين بأزياء إنكشارية[6]، وبهذا نجحت جماهير الموصل، أو قواها الشعبية، مرة ثالثة في الاستحواذ على السلطة الاقتصادية، بفرقها (أورطاتها) الخمس الموجودة في الموصل، فاستوت لها بذلك السيطرة على السلطات السياسية (السراي) والعسكرية (الإنكشارية) فضلا عن التنظيمات الاقتصادية (الأصناف) والثقافية (العلماء)، وهكذا فإن من المجافاة للواقع التاريخي، البحث في تلك المرحلة بالذات، عن خطوط تفصل بين هذه السلطات، لا سيما ما يتعلق بصناعة القرار السياسي، وعليه فليس من الممكن تصور موقف شعبي، قد يتناقض أو حتى يختلف، عن موقف أي من السلطات والقوى المذكورة، وبخاصة السلطة السياسية،. وفي الواقع فإن (روح المدينة) كانت تتخلل كل شيء فيها، وتتمثل في تلك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتينة بين فئات السكان، من ولاة وتجار وحرفيين وعلماء وضباط وجنود محليين، فلقد كانت الموصل كلآ واحداً له أوجه مختلفة، وليس اتحاداً أو توازناً بين أجزاء، وكان ذلك، على وجه التحديد، هو مبعث قوتها، وسر صمودها، في طول أيام الحصار الشاقة الطويلة.

 

المشاركة في قبول الحرب:

إن دور الموصليين في ذلك الحصار إذن، هو دور الجماهير لا أقل ولا أكثر، ليس من فرق بين وال وجندي وتاجر وحرفي ومثقف، وهذا في الوقت نفسه هو منشأ الصعوبة عند الحديث عن دور محدد لأي من هؤلاء. فمن الناحية السياسية فإن مجرد الحديث عن الموصليين بعيداً عن دور قائدهم الحاج حسين باشا الجليلي يعني تجريد القوى الشعبية الموصلية من زعامتها الشرعية، وإذ سمى الموصليون هذا الوالي القائد - كما يذكر دومنيكو لانزا - بأبيهم[7]، يعني أن العلاقة بينه وبينهم كانت تسمو على أي اعتبار طبقي، أو أسري، أو إداري مفروض، فهي علاقة أبوية أولاً، ولا يهم- بعد ذلك- بأي إطار تكون.

 

وفي ظل العقلية السياسية السائدة في تلك العهود، لم يكن مألوفاً على الإطلاق أن يكون للجماهير الشعبية كلمة، أو رأي، في القرارات الرئيسة التي يفترض أن تخص الدولة مباشرة، كإعلان حرب، أو عقد هدنة، أو توقيع اتفاق ما، وإنما كان ذلك من مهام السلطان وحده، ومن يختارهم ممثلين له، من ولاة وقادة كبار، ولكن الوالي حسين باشا الجليلي لم يكن ممثل السلطان وحده، وإنما كان يمثل جماهير الشعب في الوقت نفسه، فإنه خرق هذا العرف عامداً، تاركاً لأدنى الفئات في المجتمع الفرصة لإبداء الرأي في أكثر الأمور فصلاً وأهمية.

 

وذكر الشيخ فتح الله القادري[8]، أن الحاج حسين باشا الجليلي، حينما وردت إليه أنباء تحرك نادر شاه بجيوشه الضخمة نحو الموصل، دعا إلى اجتماع جماهيري حاشد في دار الحكم، أي سراي المدينة، ولم تكن الدعوة مقترنة بأي قوة أو إلزام، بوصفه والياً، إذ يذكر:

فنادى في الناس هلموا واقبلو    إن تسمعوا قولي وإلا فاهملوا

 

فكان مجرد حضور الناس إلى المكان المحدد، في الموعد المضروب، مع ترك الخيار لهم بعدم الحضور، يمثل أول استفتاء شعبي حول ضرورة اتخاذ موقف جماعي موحد من الأحداث، كما أن حضورهم "لسماع قوله" يعني أيضاً، قبولهم، في هذا الاستفتاء الحر، به، ليس بوصفه والياً رسمياً معيناً من قبل الدولة فحسب، فهذا أمر لم يكن يحتاج إلى استفتاء، وإنما كزعيم شعبي، أو كـ (أب) كما يذكر لانزا.

 

وفي الاجتماع الكبير لم يطرح الوالي رأيه، وإنما طلب من الجماهير التي حضرته رأيها، يقول القادري[9]:

وقال: يا ناس فما التدبير؟ ما الفعل ما القول وما التقرير؟

 

واكتفى هو بتقديم تقرير فني حول إمكانات المدينة العسكرية، وبحسب القادري فإن ذلك التقرير جاء واقعياً تماماً، وبعيداً عن أي مبالغة في تقدير حصانة المدينة ومنعتها، وإنما قدم الحقائق كما هي، أو كما تبدو فعلا، فالسور (مدثور)، والخندق (من قدم مهجور) و(آلة الحصر) معدومة، وهكذا فقد واجه الجماهير بالحقائق، بكل ما كانت تبدو عليه من قتامة، مكتفياً بنصيحة، لا بأمر، بأنه لم يفقد الأمل بقدرة الله على التدخل لصالحهم، إذا ما قاموا، متكاتفين متوحدين، لا فرق بين خواص وعوام، بإنجاز ما أشار إليه التقرير من مواطن ضعف وخلل[10].

فلتخرج الخواص والعوام
كذا خطب، وكذا  إمام
نحفر خندقاً ونبني  iiسورا
ونحفظ العيال، ثم iiالدورا

 

أحد أبواب الموصل القديمة

ولا نشك في أن مواجهة الجماهير بالحقائق المجردة، كان الخطوة الصحيحة الأولى في طريق المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار، وهو ما أدى- من ثم- إلى إطلاق كل طاقاتهم في سبيل تنفيذ ما توصلوا إليه من رأي مشترك. لقد أدركت الجماهير، بفطرة سليمة، أن المستهدف الأول هو وجودها نفسه، ومصير أجيالها المقبلة، قبل أن يكون نظاماً أو سلطاناً، فكان تعبير (حفظ الأولاد) و(العيال) و(الأطفال والعيال) و(الدور) هو السائد على ألسنة الموصليين، وهو ما أدى إلى إحساس كل واحد منهم، بأن الحركة إن هي إلا حركته هو، وأنه اتخذ قراره بنفسه في وجوب الدفاع عن مدينته حراً بلا إكراه[11]، وإن مصيره الشخصي ومصير أسرته مرتبط بنتائج قراره. ووفقاً لهذه الروح هيأت المدينة قواها واستعدت للمجابهة العسكرية.

 

وحينما أرسلت الدولة العثمانية مفتياً إلى الموصل يحمل فتوى شيخ الإسلام بوجوب محاربة الإيرانيين، فوجئ هذا المفتي بتهكم الجماهير الموصلية، فقد كانت هذه الجماهير أكثر وعياً مما افترض شيخ الإسلام، وبواعث الثبات والمقاومة أكبر شأناً مما أودع في تلك الفتوى. ويشير القادري إلى أن الناس طلبوا منه، إن كان صادق المقال، أن يثبت ليشاركهم القتال[12]، وهي إشارة مهمة، لأنها تدل على أن الناس كانوا يدركون، وهم يعيشون في عصر الفتاوى السياسية، أنه لا قيمة لقول دون عمل وقتال.

 

ولم تفت أنباء استيلاء نادرشاه، على كركوك وأربيل، وتوجهه إلى الموصل، من عضد الموصليين، بل زادت من تماسكهم، ودعا الوالي الجليلي الجماهير مرة أخرى إلى اجتماع حاشد، واجهها فيه بالوقائع المحددة، كما وردت إليه، وفي لحظة توحد وتلاحم شعبي حقيقي، أكد أن وحدة القيادة بالشعب - في حقيقة الأمر- وحدة عضوية. يقول القادري في أرجوزنه معبراً عن فحوى ذلك الخطاب:

1

2
فنحن  منكم،  ثم   أنتم   iiمنا
فلا   تخافوا   فشلا    iiوجبنا
وعرضكم عرضي، وأنتم iiمني
وطفلكم طفلي، خذوا ذا عني

وفي 21 رجب 1156هـ/ 9 أيلول 1743م وصلت طلائع الجيش الإيراني إلى القرى القريبة من الموصل، محرقة مهلكة مدمرة، ووفدت إلى المدينة سفارة من مقر الشاه في أربيل يرأسها مفتي كركوك السابق، وتحمل رسالة كتبها ملا باشي علي أكبر، الرئيس الديني للإيرانيين إلى مفتي الموصل، يحاول فيها استمالة الموصليين بتصوير الحرب على أنها وسيلة لحسم نزاع عقائدي مع السلطان العثماني لا شأن لمدينتهم فيه.

 

ومع أن أمر الرد على رسالة كهذه، كان يقع ضمن صلاحية الوالي وحده، إلا أنه فضل مرة أخرى اللجوء إلى ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الشعبية، فدعا (سكان المدينة على اختلاف طبقاتهم) إلى اجتماع كبير في الفضاء الواقع خارج باب السراي، أحد أبواب السور الجنوبية، قريباً من الجامع الأحمر[13]، أحد أقدم المساجد الأثرية في الموصل وأهمها. ويدلنا اختيار الفضاء موضعاً للإجتماع على ضخامة عدد الجماهير التي جرى توقع مجيئها إلى حضوره. وعند الجدار القبلي للجامع الأثري، تمت تلاوة الرسالة التي بعث بها نادرشاه على مسامع الجمهور المحتشد، وكما كان متوقعاً، تعالت الهتافات من كل ناحية تدعو إلى ضرورة التمسك بالمدينة إلى الرمق الأخير، وإلى تفضيل الموت في الحرب على الاستسلام المشين[14].

 

الجامع الأحمر (المجاهدي)

حيث اجتمع الموصليون لاتخاذ قرار الدفاع والمقاومة

 

وعلى إثر ذلك الاجتماع، صيغت رسالة جوابية احتوت على أكبر قدر ممكن من معاني الإباء والشجاعة واستصغار العدو[15]، ووضح " أنه لن تسلم المدينة وفيها إنسان حي، ولن يرتكب أحد منا دناءة التسليم ولا يتحمل ذل مثل هذه الخيانة"[16]، وانتهزت الجماهير هذه الفرصة فبايعت قائدها "على القتل وقد تحالفوا لا ينقضن منا أحد".

 

ولسنا نريد هنا أن نستعرض واقع الحصار نفسه، بصفحاته المتعددة، فذلك ما يخرج عن نطاق بحثنا والغاية التي توخيناها من هذا البحث.

 

إعداد ساحة المعركة:

وكان تحصين المدينة، الذي تعرض للإهمال إبان القرون الأخيرة، يمثل أول متطلبات التعبئة، فانطلقت الجماهير (الخواص والعوام) إلى فضاء الموصل لترميم ما تصدع من أسوارها، وتجديد ما اندثر من حصونها، وما انردم من خنادقها. ويشير القادري إلى أن خروج الناس كان (على الإطلاق)، وأن واحداً لم يستثن نفسه لأي سبب كان، وبضمنهم تلك الفئات التي اعتيد على عدم زجها في المعارك، كالعلماء والعلويين، وذوي المهن الدينية البحتة، كالخطباء وأئمة المساجد. ويذكر ياسين العمري أن الذين خرجوا هم أهل الموصل: الكبير والصغير، والغني والفقير، والعزيز والحقير. ويمكننا نتوصل من الإشارة إلى إغلاق الحوانيت والأسواق، إلى أن أغلب من خرج للعمل كان من أهل الحرف والكسبة والباعة والتجار، أي ما كانوا يسمون بالعامة، ويلاحظ أن خروجهم لم يكن عشوائيا، وإن كان عفوياً، إذ يذكر محمد أمين العمري أن الوالي"نصب على كل صنف من الناس واحداً من المتقدمين عنده"[17]، وهو ما يدل على أن حركتهم كانت تجري في نظاق تنظيماتهم الحرفية المعروفة بالأصناف. وفي مدينة كالموصل، ذات نشاط حرفي وتجاري كبير، كان أغلب السكان منتظمين في أصناف، وكان لكل صنف جمهوره المتمثل بعامة الفعلة والخلفات، وقيادته المنتخبة المتكونة من شيخه وكهيته (أي نائبه) ومجلس الصنف الذي يضم الأسطوات[18]، ولا نشك في أن أصناف البنائين والحجّارين والمعمارين والصقالين والجصّاصين والمكارين والخشابين والنجارين كانت في مقدمة تلك الأصناف العاملة، وقد تعاملت قيادة الولاية مع جماهير الأصناف وفقاً لأصنافهم، وكل ما في الأمر، أنها عينت على كل صنف مشرفاً عنها، من أجل تخطيط العمل وتنظيمه، وإقامة التنسيق بين الأصناف نفسها في إنجاز الأعمال المناطة بها.

وبتوجيه من القيادة الموصلية انطلفت الجموع إلى خارج أسوار المدينة لتزيل الروابي والأكمات المحيطة بها، وتجعلها فاعاً صفصفاً، خشية من أن يتخذها الأعداء سبباً في التسلط على داخل المدينة، ولنا أن نتصور ضخامة الأعداد التي خرجت ليلا وهي تحمل معاولها، و(زنابيلها)[19]، لتحيل مثل تلك المرتفعات أرضاً مستوية خلال وقت قصير[20].

يقول القادري[21]:

1

2
ثم  ترانا  في  ظلام   iiالليلِ
نرفع زنبيلاً كهطل  iiالسيل
وتسمع الصياح والضجيج
كأنما   في   مكة   iiحجيج

الإعداد المعنوي:

وكان للفنانين نصيبهم من التعبئة، أو التهيئة لها، فقد صدحت في فضاء المدينة أصوات الآلات الموسيقية، من الطبول والبوقات والنايات والمزامير[22]، وإذا افترضنا أن جانباً من ضاربي الطبول ونافخي الأبواق كانوا من فرقة الموسيقى العسكرية، المعروفة باسم (المهترخانه)، فإن النايات والمزامير كانت آلات شعبية تماماً، تنبئ بأن عازفيها لم يكونوا إلا موسيقيين عاديين من عامة أهل الموصل وفنانيها.

 

الإعداد المالي:

ولما كانت أعمال ضخمة كهذه تستلزم أموالاً جمة، تزيد على إمكانات الخزينة المحلية، فقد تسارع الموسرون إلى بذل الأموال للإنفاق على مستلزمات التحصين المختلفة. وعلى الرغم من أننا لا نملك معلومات عن الفئات التي أنفقت، ومقدار المبالغ المنفقة، ففي وسعنا القول أن الأمر شمل جميع البيوتات الموسرة، والتجار، وشيوخ الأصناف، وذلك أن حكومة الولاية قد اعتادت، في حالات الضرورة، دعوة اولئك الموسرين للإنفاق على المشاريع الخدمية ذات النفع العام، وهو ما عبر عنه القادري بقوله[23]:

1
بذلنا جهداً، وصرفنا مالا
لنحفظ الأولاد  iiوالعيالا

إن مشاركة الموسرين بالتبرع من أجل الإنفاق على مستلزمات المعركة المقبلة يكشف عن حقيقة مهمة، وهي أن إعداد هذه المستلزمات لم يكن يجري على سبيل السخرة، مع أنه لو جرى ذلك لما عد الأمر غريباً، فالمعركة قادمة والدفاع عن المدينة واجب أهلها، إلا أن المبادئ، على نبلها، لم تكن مبررا للتجاوز على الحقوق.

 

تأمين الغذاء:

وبعد أن أنجزت أعمال التحصين والحفر، واستردت المدينة منعتها، أسرع الشعب، بتوجيه من قيادته، في حملة حصاد الغلال، بهدف خزن الغذاء الكافي للسكان في أثناء الحصار المقبل. ولم تكن الحملة بالأمر الميسر بأي حال، فحصاد كميات ضخمة من القمح في مساحات واسعة من الحقول، وبسرعة استثنائية مع ضيق الوقت، ثم نقلها، وهذا الأصعب، من القرى التي في شرقي الموصل إلى المدينة عبر جسر عائم وحيد، كان أمراً صعباً، لا سيما وأن هذا الجسر كان مشغولاً في الوقت نفسه بعبور أعداد كبيرة من أهل تلك القرى الفارين إلى المدينة للاحتماء بأسوارها، ومنهم عيال وأطفال لهم "عويل وصراخ". ويصور القادري هذه الحملة على أنها كانت صورة أخرى من صور التلاحم الشعبي، منقطع النظير، إذ قال[24]:

فأخرج  الناس   إلى   iiالحصاد
أجابوا   بالسمع   بلا    iiعناد
وقال: دوسوا[25] ثم ذروا  iiوانقلوا
غلتكم واحذروا نصحي تهملوا

مما دل على أن الذين قاموا بحملة الحصاد الكبرى تلك، لم يكونوا من فلاحي القرى فحسب، وإنما شاركهم من خرج إليهم من جماهير المدينة، وهم الذين سبق أن شاركوا في حملة البناء والتحصين من قبل. ولم تقتصر عملية خزن الغذاء على القمح فحسب، وإنما تم نقل كميات كبيرة من الخشب ربما بوصفها مصدر طاقة للطبخ ونحوه، فضلا عن البقول[26].

 

وحينما تفتق ذهن نادرشاه عن خطة جديدة تعتمد على إضعاف معنويات الموصليين عن طريق قطع مياه الشرب عنهم، بتحويل مجرى الماء الذي منه يستقون، لم يعدم الشعب توفير هذه المياه من مصادر أخرى مختلفة، ومن ثم "بقي الجميع كما كانوا في طابيات الحصن الحصين معتصمين بالصبر الجميل"[27].

 

إعداد السلاح:

وجرياً على أسلوب تنظيم الحملات الشعبية، جرى إعداد حملة أخرى لإصلاح قطع السلاح المتوفرة في المدينة، ومن الراجح أن هذه الحملة شملت آلات الحصار، كما وصفها تقرير الوالي القازيقجي، فضلاً عن المدافع والأسلحة النارية والعادية الأخرى[28]. ويدل توزيع الوالي قطع السلاح من (التفك)[29] والسيوف على الجماهير، وتقسيم كميات البارود فيما بينها[30]، عن طبيعة المعركة كما فهمتها القيادة والجماهير معاً، فمسؤولية الدفاع لن تكون على عاتق الجيش النظامي وحده المتمثل بفرق الإنكشارية فحسب (رغم أن هذه الفرق لم تعد إلا أهل الموصل حصراً)، والحرب لن يتولاها الجنود المحترفون على الأسوار وفي الأبراج الحصينة، وإنما هي معركة الشعب كله، وعلى هذا ينبغي للسلاح أن يكون بأيدي الجميع، دونما تمييز.

 

التطوع الشعبي للقتال:

ويمكن القول أن جميع ما حدث بعد ذلك من وقائع كان يعبر بجلاء عن حالة نادرة من التماسك الاجتماعي، فلم نسمع بانتماء غير الانتماء إلى المدينة، ولم يكن ثمة هدف إلا الثبات ودفع العدوان. واندمجت قوى الشعب المسلحة، والقوات النظامية والقيادة العليا، بحيث يعسر على الباحث أن يضع أي خط فاصل بين هذه القوى، ولاشك في أن القوات النظامية لم تكن تكفي للمقاومة الفعالة، فهذه القوات لا تزيد على ستة آلاف أو سبعة آلاف مقاتل في أقصى تقدير، بينما احتاجت الموصل إلى عدد يفوق هذا بأضعاف لتواجه جيشاً قدر بنحو ثلاثمائة ألف جندي. ولما كان عدد السكان في داخل المدينة قد بلغ نحو (50000) نسمة[31]، يضاف إليهم من قدم إليها من أهل القرى[32]، فإن المجموع كان يصل إلى (70000) أو (80000) نسمة. ونستطيع القول بأن عدد من كان يستطيع حمل السلاح من هؤلاء كان لا يقل عن (20000) أو (30000) رجل، وهو أقصى ما تستطيعه مدينة محاصرة أن توفره من جنود، وهكذا فقد كانت الموصل كلها في المعركة، وقد كشفت مجريات الحصار والعمليات العسكرية التي رافقته عن أهمية هذا العامل في رسم نتائج جميع الوقائع وصفحاتها المتعاقبة.

 

ولما لم يكن جميع المتطوعين مدربين على استعمال السلاح، لا سيما في مثل هذه المعركة الحاسمة، فقد عمدت القيادة الموصلية إلى تكليف فئة من العسكريين "يعلمون طرق الجهاد" و"يهدون ناساً سبل الرشاد"[33].

 

جانب من محلات الموصل القديمة

 

المشاركة في القتال:

ويبرز دور (العساكر) النظامية في معركة الخيالة الخفيفة التي جرت عند مشارف الموصل بين (عساكر الإسلام المنصورة) بقيادة عبد الفتاح الجليلي (700 أو 800 فارس)، أخي والي الموصل وبين قوة كبيرة من الجيش الإيراني، قدرت بنحو عشرة آلاف مقاتل، وفيما عدا هذه المعركة، لم يعد ثمة دور مستقل لهذه القوات[34]، إلا بوصفها جزءً من قوى المدينة كلها، العسكرية والمدنية على حد سواء، ولم نعد نسمع إلا إشارات إلى (الناس) و(أهل الموصل) و(رجال الموصل) و(الجميع).

 

لقد استنفر الوالي الجليلي الشعب للقتال، فخرج الجميع حاملين ما يملكون من أنواع السلاح.

 

ويقول القادري عن لسان حسين باشا الجليلي:

1
فقوموا يا قومي إلى السلاح
وصاح فينا صائح: iiالفلاح!

وأعطي لكل مقاتل دوره في المعركة، فلم يكن ثمة جزء من الأسوار إلا وعليه مقاتل:

1
ورتب  الناس  على  iiالبروج
وما ترى في السور من فروج

وحينما بدأ نادرشاه هجومه بقصف المدينة "بالمدافع الكبار والقنبر"[35] في 8 شعبان 1156هـ/25 أيلول 1743م، كان أهل الموصل على الأسوار، مرابطين في الليل والنهار، لا يفترون عن الاستغفار. ولم تميز اطلاقات الجيش الهاجم بين أحد من أهل الموصل، فقد صارت المدافع تطلق قنابلها من اثني عشر جانباً على داخل المدينة. ويصف تقرير رسمي أثر تلك الإطلاقات بقوله إن "قطعها الهدامة للبيوت تسلب الراحة، وأصواتها الشبيهة بالصواعق تمثل حلول يوم القيامة"[36]. ووصف مؤرخ موصلي أن الناظر كأنه كان يرى" أن السماء أمطرت ناراً على الأرض، وهاجت الحرب، وماجت الأرض، وعلا الصراخ، وكثر الرعد كالصواعق". وذكر أن هذه الإطلاقات هدمت كثيراً من الدور، و"دثرت بيوتاً لا يحصى لها عدد وأهلكت أنفساً كثيرة"[37]. ولكن آثارها على الروح المعنوية للشعب كانت مختلفة تماماً، يقول هذا المؤرخ "ومع ذلك ما هالت قلوب الناس الغازين (أي المجاهدين) بل كلما زاد عليهم شديد ضرب المدافع والقنابر، ازدادوا شجاعة وثباتاً، وعلت أصواتهم بالتكبير والتوحيد للجليل الجبار إلى أن صاروا يعومون في بحر من نار كمثل طيور السمندر"[38].

 

الالتفاف الشعبي حول القيادة:

وبعد ثلاثة أيام من القصف المتواصل، لاح للعيان فشل الصفحة الأولى من الهجوم في ترويع السكان بالقنابل لحملهم على الاستسلام، وافتتح نادرشاه الصفحة الثانية بتكثيف الهجوم بالمدفعية الثقيلة على برج (باشطابية) الأثري، حيث مقر القيادة الموصلية، وتمكنت قواته من إحداث ثغرة جسيمة فيه " تمكن الخيالة من اجتيازها فضلاً عن الرجالة"، فكان أن أمر الوالي الجليلي بسد الثغرة على الفور، وتولت فرقة معدة لهذا الغرض من البنائين، تسمى (المعمارية) العمل، فضلا عن سائر (الناس) وجازف هو بنفسه "وأحجار السور تهوى عليه كالمطر"[39] ليحثهم على الإسراع بسد الثغرة، "فكلما انفتح جانب من السور سدوه بغرارات التراب، ووضعوا أجسام القتلى بدلاً من الحجارة" فأنقذت شجاعته، فضلا عن الموقف الشعبي المساند، الموقف، وتم إحكام البرج من جديد.

 

برج باش طابية حيث مقر قيادة

الحاج حسين باشا الجليلي

 

وتوالى هدير المدافع خمسة أيام أخرى دون انقطاع، قدر ما ألقي على الموصل خلالها بأربعين ألف أو خمسين ألف قنبلة مدفع، ومائة ألف قذيفة هاون، وكان الوالي الجليلي "من أول الليل إلى النصف الأول يدور حول البلد والبروج، ويقوي المجاهدين من الغزاة والثبات على الأعداء"[40] ثم يقوم ولداه مراد ومحمد أمين بالسهر على الحصون حتى الصباح.

 

وازاء مقاومة الموصليين واستعدادهم عمد الإيرانيون إلى تكتيك عسكري كان متبعاً في حصار المدن المنيعة في ذلك العصر، وهو حفر أنفاق طويلة تحت الأرض، تتصل بأسس الأسوار، تسمى (ألغاماً)[41] وتحشيتها بالبارود وتفجيرها لهدم تلك الأسوار، وهكذا فإنهم حفروا أنفاقاً من ناحية مرقد الشيخ قضيب البان، في خارج باب سنجار، وحشوها باروداً، إلا أن ذلك لم يؤد إلى الغاية المرجوة، إذ انفجر نفقان على الذين فوقهما، ولم يصل أثرهما إلى دعائم سور الموصل، فزاد ذلك في ارتفاع معنويات المدافعين، و"ثبت أهل الموصل أحسن ثبات"[42]. ويصف القادري حال أهل الموصل في تلك الأيام الحاسمة بقوله[43]:

1

2
فالتجأ الناس -نعمْ- للسور
وفوضوا  الأمر  إلى  iiالغيور
وأخلصوا    لله     iiبالنيات
ووطنوا الروح على  iiالثبات

قتال النفس الأخير:

ولما لم يُجد القصف، ولا قطع المياه، ولا إطالة أمد الحصار، في الفت في عضد الجماهير المدافعة عن مدينتها، بدأت الصفحة الثالثة والأخيرة من العدوان، وذلك بالهجوم الكبير على الأسوار بأفواج كثيرة من الجند، تحمل نحو ألف سلم عال أعدت لتسلقها، وفي الواقع، فإن جماهير الموصل عبرت في صد هجوم السلالم هذا عن أروع معاني البسالة والتماسك الاجتماعي، فحينما صد الجنود في الأسوار والمزاغل هجوم متسلقي السلالم بوابل من نيران بنادقهم، وبالقنابل اليدوية، وبالسلاح الأبيض، بل والحجارة[44]، وأوقعوا بمن كان في الخنادق، هبطت جماعات من الموصليين لتفتك بمن وجد في أسفل السور، فدارت معارك في الخندق "بالخناجر والسيوف"، وجرى سحب سلالم المهاجمين من على السور، "وكان كل واحد منهم كأنه أسد ضار"[45]. ويصف مؤرخ معاصر، هو محمد أمين العمري، تلك الساعات العصيبة من تاريخ الموصل بقوله[46]:

 

فنزل المسلمون وانقضوا عليهم انقضاض الشهب على الشياطين، وأعملوا فيهم السيف البتار، وفتكوا منهم ما لا عدد له، ولحق الغازون من خارج السور أثر الملحدين، كأمثال الذئاب، وقتلوا منهم ما لا يحصى عددهم، وأوقعوهم بالذل والخيبة، وكان يوماً على الكافرين عسيرا"

 

أذابت حمى الدفاع عن المدينة والاستبسال المتناهي عن كل حجر فيها، كل فرق بين من هو جندي في الجيش، وبين من هو فرد عادي من العامة، فلم نعد نقرأ عن جنود نظاميين، وأناس متطوعين، وإنما نقرأ عن (مسلمين) و(غزاة) و(شجعان موحدين) فحسب، يقاتلون بوصفهم كتلة متراصة واحدة.

 

وفي مساء ذلك اليوم "هبت نسائم النصر"[47] إذ تأكد لنادرشاه، بما لا يقبل الشك، خسارة جيشه المعركة نهائياً، وعدم جدوى الوقوف تحت أسوار المدينة الصامدة، لتلقي المزيد من الخسائر، بينما كانت بوادر التململ السياسي قد أخذت تبين في داخل ايران نفسها. وفي اليوم التالي جرت مفاوضات قصيرة حول الانسحاب، أريد بها الحفاظ على ما تبقى من ماء وجهه إزاء جنده[48]، وبانتهاء ذلك، شرع الجيش الإيراني بالانسحاب غير مخلف وراءه إلاّ ذكريات الفشل والهزيمة المرة[49].

 

نادرشاه

 

خلاصة:

لقد كشفت مجريات معركة حصار الموصل سنة 1156هـ/1743م عن أنها كانت – بالدرجة الأولى- معركة شعب يدافع عن وجوده، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وجميع ما ادعاه نادرشاه من أسباب الحرب، كشف الشعب بطلانه وزيفه. ولقد أدرك الموصليون، منذ اللحظة الأولى، أن الدفاع عن مدينتهم يبقى مسؤوليتهم هم، قيادة وجيشاً وشعباً، قبل أن تكون مسؤولية السلطان العثماني. لذا فقد استمات الجميع، دون انتظار لجيش أو مدد عثماني، من أجل الدفاع عن مدينتهم، ولذلك فإن النصر كله كان للجماهير الموصلية، على اختلاف أطيافها. ولم يجد معد التقرير الرسمي عن الحصار من فضل يُعزيه إلى السلطان سوى (دعواته المباركة)!.

 

لقد كانت- كما سماها باحث معاصر[50] بحق- (ملحمة الموصل) كل الموصل، وهي بذلك تعد أنموذجاً نادراً لمدى ما يمكن أن تؤديه روح المدينة، المعبرة عن تماسك جماهيرها ووحدتها، من دور مؤثر في الاستجابة للتحديات[51].



[1] جفري براكلو: الاتجاهات العامة في الأبحاث التاريخية، ترجمة صالح أحمد العلي، بيروت 1984، ص118.

[2] ينظر: كتابنا الموصل في العهد العثماني، فترة الحكم المحلي، النجف 1975، ص34.

[3] ياسين العمري: زبدة الآثار الجلية في الحوادث الأرضية، بتحقيقنا، النجف 1974، ض 80، والعمري أبضاً: منية الأدباء في تاريخ الموصل الحدباء، تحقيق سعيد الديوه جي، الموصل 1955، ص79.

[4] محمد أمين العمري: منهل الأولياء ومشرب الأصفياء من سادات الموصل الحدباء، تحقيق سعيد الديوه جي، ج1، الموصل 1968، ص141.

[5] ينظر: الموصل في العهد العثماني ص285- 311، وبحثنا: الملامح الاجتماعية لنظام الأصناف في العراق إبان العثصر العثماني، المجلة التاريخية المغربية، تونس، السنة 12، العدد 39- 30، كانون الأول 1985، ص416- 410.

[6] نيبور: رحلة نيبور إلى العراق في القرن الثامن عشر، ترجمة محمود حسين الأمين، بغداد 1965، وينظر جب وبوون: المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة أحمد عبد الرحيم مصطفى، القاهرة 1970، ص92، والموصل في العهد العثماني ص144- 246.

[7] دومنيكو لانزا: الموصل في القرن الثامن عشر، ترجمه عن الإيطالية رفائيل بيداويد، الموصل 1952، ص52.

[8] أرجوزة في حصار الموصل، نشرها سعيد الديوه جي في ملاحق منية الأدباء ص242- 272 ثم أعاد نشرها مستقلة بعنوان (ملحمة الموصل)، الموصل 1965، وتصور هذه الأرجوزة دور الجماهير الموصلية في أثناء الحصار بشكل يزيد تفصيلاً هلى ما أوردته المصادر التاريخية الأخرى، ومن الواضح، من الأرجوزة نفسها، أن اطلاع ناظمها كان دقيقا على مجريات الحصار والصمود، وسنعتمد هنا على النشرة المستقلة لها، ومن الجدير بالذكر انه من غير المحدد تاريخ هذا الاجتماع الشعبي المبكر، ولكن يفهم من الأرجوزة التي انفردت بالإشارة إليه، أنه سبق توجه نادرشاه إلى بغداد، ومعنى ذلك أنه جرى في أعقاب أول تغيير أحدثه نادرشاه في خطته، حينما أوقف عملياته في الشرق، وشرع يخطط لمهاجمة الدولة العثمانية، وكان قد جرى ذلك في ذي الحجة 1155هـ/ كانون الثاني 1742م، وهذا ما يؤكد رواية طه بن يحيى الباليساني (في رحلته التي دونها بعد الحرب بسنة واحدة) بأن أفراداً من داخل جيش نادرشاه "أرسلوا خفية إلى أهل الموصل الخبر أن طهماس (يريد نادرشاه) مراده غدا وفي وقت كذا يأتيكم كذا، أصحوا أن أعملوا جهدكم (رحلة طه الكردي الباليساني، بتحقيقنا، ط2، أربيل 2007) وإذ ذكر ياسين العمري في(الآثار الجلية) أن استعداد الموصليين جرى بعد أن تحققوا من قدوم نادرشاه في ذي الحجة 1175هـ/ 1742م، يكون ذلك الاجتماع قد عقد في أحد أيام الشهر المذكور، ولا يذكر محمد أمين العمري هذا الاجتماع.

[9] ملحمة الموصل ص8.

[10] المصدر نفسه والصفحة.

[11] من أرجوزة في وصف الحصار للسيد عبد الله الفخري. ينظر عثمان عصام الدين العمري: الروض النضر في ترجمة أدباء العصر، تحقيق سليم النعيمي، بغداد 1974 ج1 ص306.

[12] المصدر نفسه ص14.

[13] يقع هذا الجامع على شاطئ دجلة، في جنوبي الموصل القديمة، أمر بإنشائه مجاهد الدين قيماز سنة 576 كما شهدت بذلك كتابة أثرية قرأها نيبور سنة 1766م، وسمي بالجامع المجاهدي نسبة إليه، ثم عرف في القرون المتأخرة بالجامع الأحمر بسبب لون مصلاه، كما عرف بجامع الخضر، جرى تجديده غير مرة، وما زال عامرا بالمصلين. ينظر سعيد الديوه جي: الجامع المجاهدي، مجلة سومر، المجلد 11، الجزء 1955.

[14] منية الأدباء ص180.

[15] نشرها سعيد الديوه جي في ملاحق منية الأدباء.

[16] سالنامة الموصل لسنة 1325هـ، ملاحق منية الأدباء، ص274.

[17] منهل الأولياء ج1 ص152.

[18] بحثنا: الملامح الاجتماعية لنظام الأصناف في العراق ابان العصر العثماني، المجلة التاريخية المغربية، تونس السنة 12، العدد 39- 30، كانون الأول 1985/ ص416- 410. وتجده منشوراً على موقع (الألوكة) الغراء.

[19] الزنبيل: السلة الكبيرة التي تحاك من جريد النخل.

[20] ملحمة الموصل ص9.

[21] المصدر نفسه ص9.

[22] المصدر نفسه ص10.

[23] المصدر نفسه ص11.

[24] المصدرنفسه ص13.

[25] داس الزرع، تعبير عامي موصلي، بمعنى درسه.

[26] في النسخة المطبوعة من ارجوزة القادري ورد اللفظ بشكل (ثقل) ولكن المحقق ذكر أنه في نسخ أخرى من الأرجوزة ورد بشكل (بقل) ونرى أن اللفظ الأخيرهو الأنسب للسياق.

[27] تقدرير حسين باشا ص283.

[28] ملحمة الموصل ص13

[29] التفك والتفنك: البندقية والبنادق.

[30] المصدر نفسه.

[31] كتابنا:الموصل في العهد العثماني ص318- 319.

[32] حبش بن جمعة: مذكرات خطية نشرها روفائيل بيداويد في ملاحق مذكرات لانزا: الموصل في القرن الثامن عشر ص94.

[33] ملحمة الموصل.

[34] في تقرير حسين باشا (ص 281 ) إشارة إلى أن هذه القوات كانت تضم قوات من الدلاة (جمع دلي وهي كلمة تركية تعني حرفياً المجنون)، ويقصد بهم المندفعون في خوض غمار المعركة، واللوند، وهي فرقة من القوات المجندة محليا، وأغوات الأندرون، أي الضباط التابعون للسراي، إلا أن هذه الأسماء لم يعد لها أي ذكر في صفحات القتال التالية.

[35] زبدة الآثار الجلية ص102.

[36] هذا التقرير رفعه كل من محافظ الموصل حسين باشا القازيقجي، ووالي الموصل الحاج حسين باشا الجليلي، ملاحق منية الأدباء ص277.

[37] منهل الأولياء ج1 ص 154 و155.

[38] المصدر نفسه. وتقرير حسين باشا الجليلي ص282.

[39] المصدر نفسه ج1 ص156.

[40] منهل الأولياء ج1 ص155.

[41] أصل كلمة لغم: لقم، لأن البارود كان (يلقم) في أفواه الأنفاق.

[42] المصدر نفسه ص103.ُ

[43] ملحمة الموصل ص14.

[44] تقرير حسين باشا، مصدر سابق ص282. وياسين العمري: الدر المكنون ، الورقة 594.

[45] تقرير حسين باشا ص286.

[46] منهل الأولياء ج1 ص159

[47] تقرير حسين باشا ص288.

[48] وافق نادرشاه على إخلاء جميع الأراضي التي احتلها. رسول حاوي الكركوكلي: دوحة الوزراء س51.

[49] انسحب نادرشاه عن الموصل في 4 رمضان 1156هـ/21 تشرين الأول 1743م. ياسين العمري: غاية المرام في تاريخ محاسن بغداد دار السلام ص182.

[50] المرحوم سعيد الديوه جي، صفحة العنوان لأرجوزة القادري سنة 1965.

[51] ذكرالأديب البغدادي محمد بن عبد الغفور الرحبي في ترجمته للسيد عبد الله الفخري أن له منظومة "في وقائع نادرشاه وما نتج منها ومحاصرته للحدباء ورحيله عنها وعدم نيله منها ما أراده، ولم يحصل له مُتمناه ومُراده، إذ هي محروسة بعين عناية الملك المتعال، وإلاّ فهي وقعة تشيب لها الأطفال، وتدك الجبال، وتذهب العقول، وتحير الفحول، وقى الله شرها، وبرَّد حَرَّها، ودفع ضرَّها، فألف هذا الفاضل الذي فاق الأوائل هذه الأرجوزة، وجعلها ميدان تلك الوقعة والحروب والنوائب". غاية المشتاق في علماء العراق (مخطوط)





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من تاريخ الخدمات النسوية العامة في الموصل
  • من الموصل الزاهرة إلى ديار بكر العامرة
  • الموصل في عيد الموت

مختارات من الشبكة

  • سنان باشا(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مسؤولية الطالب الجامعي.. رؤية في واقع(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • قبائل صنهاجة الصحراء ودورها في حمل رسالة الإسلام (هـ)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • دور مؤسسات المجتمع المدني في حماية جمهور وسائل الإعلام(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • دور السنة في معالجة قضية اللحن وتأسيس العربية (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • دور علماء الحديث في الهند في حفظ السنة النبوية للشيخ محمد عزيز شمس رحمه الله (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • دور الصيام في تكوين شخصية الإنسان المسلم في ضوء الكتاب والسنة (PDF)(كتاب - ملفات خاصة)
  • انتشار البدعة والخرافة في الناس، ودور أنصار السنة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قراءات اقتصادية (56) الاقتصاد العاطفي: دور العواطف في الارتقاء بالأعمال التجارية(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • دور العلماء في التصدي للفكر التكفيري: تحليل شرعي وأدوات المواجهة(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب