• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    علامات الساعة (1)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    تفسير: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تحية الإسلام الخالدة
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    الشباب والإصابات الروحية
    د. عبدالله بن يوسف الأحمد
  •  
    من فضائل الصدقة (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

أساسيات الرؤية الإسلامية للتاريخ

أساسيات الرؤية الإسلامية للتاريخ
أ. د. عبدالحليم عويس

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/7/2013 ميلادي - 15/9/1434 هجري

الزيارات: 11985

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أساسيات الرؤية الإسلامية للتاريخ


وفي ضوء هذا البحث الإنساني الدؤوب عن تفسير إنساني موضوعي للتاريخ، يتبدى لنا أن من حق الشرائح الإنسانية كلها أن تقدم ما لديها؛ وصولاً إلى بعض المفاتيح - وليس كل المفاتيح - لحركة التاريخ والكون.

 

وفي الوقت نفسه يجب على المسلمين أن يتقدموا - إنصافًا لرسالتهم وحضارتهم - بجهودهم في مجال فلسفة كونية وتاريخية أصيلة، تقوم على ركائز التصور الإسلامي الأساسي، إنه ليس حقهم فحسب؛ بل إنه واجبهم كذلك.

 

لقد أدلى النصارى بما لديهم، وهم - واليهود - يشكلون رؤية دينية للتاريخ ينقصها المشروعُ الحضاري والصلة الوثيقة بالواقع، وقد أفرز هذا التصور ماديةً مغرقة، كانت رد فعل للاستغراق اللاهوتي، وكلا التفسيرين أغفل عناصرَ أساسيةً، ولم يستطع تصورَ النسيجِ الكامل والمحكم والمتوازن والمتشابك للعملية الحضارية، وكلاهما عمَّق الرؤية في جانب، على حساب الجوانب الأخرى؛ وبالتالي فالتفسيران المثالي واللاهوتي عاجزان!

 

والنظرة الإسلامية للتاريخ تتميز عن غيرها بأنها تؤمن بثبات الفطرة الإنسانية، وثبات السنن الكونية التي تتحرك الأحداثُ في داخلها وبمقتضاها.

 

فالرؤية الإسلامية تؤمِن بأن الجانب المعرفي يتطور في الإنسان، ولكن مع بقاء عناصرَ ثابتةٍ يتلقاها الإنسان عن الوحي، ولا يستطيع إدراكَها بعقله وحده.

 

وقراءة التاريخ - من جانب آخر - لا تقتصر على حياة الحكام، وأخبار الوقائع والحروب، بل لا بد أن تصل إلى نسيج الحياة؛ من خلال الدراسة الجادة للحياة الاجتماعية، والفكرية، والاقتصادية.

 

والتصور الإسلامي يرى أن الجانب المعرفي والفكري يتطور في الإنسان مع حاجته إلى ضوابطَ وعناصر تكمِّله؛ لأن هناك معارفَ ثابتةً يجب على الإنسان أن يتلقاها من الوحي، لا من العقل، الذي هو - بطبيعة محدودية طاقته - عاجزٌ عن إدراك تفصيلاتها، وثمة مسلَّمات في الجانب المعرفي الكوني والاجتماعي يجب التسليمُ بها.

 

وبعد ذلك، فالمجال مفتوح لعمل العقل في مساحة واسعة: كونية واجتماعية، يستطيع من خلالها تسخير الكون، ومجالات العلوم، والفنون، والآداب، وفقه النفس الإنسانية، والطاقات الإنسانية المختلفة، واستكشاف عظمة الله من خلال تدبُّر آلائه وآياته في الكون والنفس، ومن ثم استخلاص القوانين الطبيعية والاجتماعية.

•••


ومن الجدير بالذكر - وقبل الوصول إلى مرحلة استخلاص القوانين - ضرورة قراءة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية قراءةً فاحصة، بل إن تركيز تفسير الحركة التاريخية يجب أن يتجه إلى قراءة الجوانب السالفة الذكر، والتي لم تأخذ حقَّها من التاريخ، مع أنها التاريخ الأجدر بالاهتمام، ومع أن أبطالها وقادتها هم صانعو الحضارة الحقيقيون.

 

والحق - عند النظر الفاحص - أن التاريخ السياسي والعسكري قد يشكِّل عبئًا على حركة الحضارة؛ فقليل من الحكام كان صالحًا، وقليل من المعارك كانت ذات فائدة، أو كانت موجهة دفاعًا عن المُثُل العليا أو لحماية الحق، وأكثر المعارك كانت لخدمة أطماع توسعية، أو لخلافات شخصية بين أمزجة الحكام، كما أنها كانت تتم بأساليبَ همجيةٍ، لا يُقرُّها الوحيُ الإلهي، ولا العقلُ الصحيح.

 

إن تاريخنا ليس فردًا في هذا المجال؛ فمعظم تواريخ العالم - إن لم يكن كلها - يشوبها سلوكُ معظم حكامها وعسكريِّيها: أباطرة كانوا، أو قياصرة، أو كياسرة، أو ملوكًا، إن معظم هؤلاء كانوا كالديدان التي تعيش على أفضل ما في الجسم وتقتله في آن واحد.

 

فكيف يصبح هؤلاء محور الدراسة التاريخية والحضارية، مع أنهم يمثلون أكبر جوانب السلب فيها؟!

 

وإن عظَمة كثير من الحضارات - وعلى رأسها الحضارة الإسلامية - أنها بقيت بالرغم من الفساد الذي يجلبه هؤلاء!

 

إن التنظير الإسلامي الحضاري للتاريخ ضرورةٌ للمسلمين وللإنسانية كلها، وهو - في الوقت نفسه - حق للمسلمين، وواجب عليهم، وعندما نتجه - عمليًّا وبصورة جماعية - للبحث في أساسيات هذا التفسير، فإن علينا أن نعيد قراءة حولياتنا التاريخية، وموسوعاتنا الحضارية، وكتب الفقه، والأدب، والرجال، والطبقات؛ باذلين معظم الجهد في التعرف على حياتنا الحضارية التي تقوم على الفكر والثقافة والعلم أولاً، وعلى النشاط الاجتماعي ثانيًا، والنشاط الاقتصادي ثالثًا، والنشاط السياسي والعسكري رابعًا.

 

ومن الواجب أن نصهر كلَّ هذه الفعاليات في بُوتقة واحدة؛ لأن الفعل الحضاري يتأثر بالبيئة المعاشية كلها، مراعين في الوقت نفسه النسبة المحددة لكل نشاط، وأثره في الحضارة، ومراعين ترتيب العناصر وَفْق أولويتها، والنسب المحددة لها.

 

ويتضح لنا كيف أننا ظَلمْنا تاريخَنا الحضاري، وأعطينا الساسةَ والعسكريين أكثرَ من حقهم، عندما نتأمل هذه العبارة التي كتبها أحد المفكرين وهو يتحدث عن الكنوز المنسية والمظلومة الموجودة في تراثنا، والتي أُهمِلَت بسبب طغيان الجانب السياسي والعسكري.

 

يقول الكاتب:

"لو أني بقيت خمسين سنة أحدِّث الناس كل أسبوع عن عَلَم من أعلام المسلمين، أو أعرض عليهم قصة من قصص بطولاتهم وعبقرياتهم، لَمَا انتهت، ولَمَا قاربت الانتهاء... وكيف؟ وعندي في مكتبة بيتي الصغيرة أكثرُ من خمسين مجلدًا في تراجم الرجال، لو أن في كل مجلدة منها مائة ترجمة، لكان في ذلك وحده خمسة آلاف ترجمة، لخمسة آلاف عَلَم من أعلام الإسلام، وما ليس عندي من كتب التراجم أضعافُ ذلك.

 

ثم إن في كتب التاريخ والأدب، والمحاضرات والرحلات، آلافًا أخرى لم تفرد في كتب التراجم"[1].

 

إن صفحة من صفحات حضارتنا - ومثلها عشرات الصفحات - لم تُكتَبْ من منظور حضاريٍّ كما ينبغي أن تكتب، إنها صفحة القضاء، والقضاة هؤلاء الذين كانوا الحكام الاجتماعيين للشعب، وكان الحكام كثيرًا ما يخضعون لهم، وعلى امتداد العصور الإسلامية، وقبل العصر الثوري المدمِّر اشتهر القضاة بالقوة، والعدل، والورع، وتطبيق الشريعة بلا مجاملة أو محاباة.

 

كان محمد بن عمران قاضي مكة، فادعى لديه جمَّال على أمير المؤمنين العباسي أبي جعفر المنصور، فبعث إليه (مذكرة جلب)، فجاء في خف وطيلسان ما عليه من شارات الإمارة شيء، حتى وقفه بين يديه مع الجمَّال!

 

وكان شريك قاضي الكوفة، وادَّعت لديه امرأة مجهولة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة، وثاني رجل في الدولة بعده عيسى بن موسى، فحكم عليه حكمًا غيابيًّا، فامتنع الأمير من إنفاذه وتوسل إليه بكاتبه، فحبس القاضي الكاتب؛ لأنه مشى في حاجة ظالم، فاستعان عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعًا إلى الحبس، فغضب الأمير، وبعث مَن أخرجهم، عند ذلك عصفتْ نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذتْه عزةُ الإيمان، فقال: "والله ما طلبْنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمِنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلدناه لهم"، ثم ختم قِمَطره، وجمع سجلاته، واحتمل بأهله وتوجَّه نحو بغداد، ووقعت الرجفة بالكوفة لما علمتْ بخروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي: "لا والله حتى يرد أولئك إلى الحبس، فما كنت لأَحبس أنا وتطلق أنت"، فبعث الأمير أن يرجعهم إلى الحبس، والقاضي واقف ينتظر، حتى جاءه الخبر بأنهم قد أرجعوا، فقال القاضي لغلامه: "خذ بلجام فرس الأمير، وسُقْه أمامي إلى مجلس الحكم في المسجد"، وهناك أجلسه بين يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة، وحكم لها عليه، نهض فسلَّم عليه بالإمارة، وقال له: "هل تأمر بشيء؟"، فضحك الأمير، وقال: "بماذا آمر؟ وأي شيء بقي؟"، قال له شريك: "أيها الأمير، ذاك حق الشرع، وهذا حق الأدب"، فقام الأمير، وهو يقول: من عظَّم أمر الله، أذلَّ له عظماء خَلْقه[2].

 

وكان القضاة إذا عقدوا مجلسًا للقضاء، لا يفضلون صاحب قضية على آخر، بناءً على مركز صاحبها، ومن أخبار القاضي "عمر بن عبدالله" أنه كان إذا جلس أمَرَ من كانت عنده خصومة أن يكتب اسمه في رقعة، ثم يجمع هذه الرقاع ويخلطها بين يديه، ويدعو بأصحابها الأول فالأول، حسبما تخرج يده من رقاع[3].

 

وقد وقف بين يدي المأمون وهو في مجلس المظالم رجُلٌ يتظلم منه نفسِهِ، فترادَّا الكلام ساعة، فما اتفقا، قال المأمون: فمن يحكم بيننا؟ قال: الحاكم الذي أقمته لرعيتك "يحيى بن أكثم"، فدعا به المأمون فقال له: اقضِ بيننا، قال: في حكم وقضية؟ - أي: في دعوى - قال: نعم، قال القاضي: لا أفعل، فعجِب المأمون، وقال: لماذا؟ قال يحيى: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضاء، فإن كانت له دعوى، فليأتِ مجلس الحكم؛ "أي: المحكمة"، قال المأمون: قد جعلت داري مجلسًا للقضاء، قال: إذًا فإني أبدأ بالعامة؛ ليصح مجلس القضاء، (وتكون المحاكمة علنية)، قال المأمون: افعل، ففتح الباب، وقعد في ناحية من الدار، وأذِن للعامة، ونادى المحضر، وأخذت الرقاع (أوراق الدعوة والإعلان)، ودعا الخصوم على ترتيبهم حتى جاءت النوبة إلى المتظلم من المأمون، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين (المأمون)، فنادى المحضر: "عبدالله المأمون"، فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل في نعلٍ رقيق، ومعه غلام يحمل مصلى حتى وقف على يحيى، ويحيى جالس، فقال للمأمون: اجلس، فطرح الغلام المصلى ليقعد عليه، فمنعه القاضي حتى جاء بمصلى مثله، فبُسط للخصم وجلس عليه[4].

 

ولم يكن معظم القضاة يتجه للقضاء رغبة في كسب المال أو المركز؛ وإنما كان اتجاههم للقضاء رغبة فيما عند الله من الأجر والثواب، ومن هؤلاء - على سبيل المثال - القاضي (أحمد بن محمد بن خلف، الملقب بأبي القاسم الحوفي الإشبيلي)، فقد كان يسترزق أثناء القضاء من عمل يده، وكان القاضي ابن سماك الهمداني عندما تولى القضاء يقوم بحاجته اليومية بنفسه، فكان يكسر الحطب على باب داره والناسُ من حوله يختصمون إليه ويسألونه[5].

 

ومن الوزراء يقدم لنا مجد الدين أبو السعادات بن الأثير (ت 606هـ) نموذجًا للوزير العالم الزاهد في الحكم وفي الدنيا، فقد خدم الأتابك عز الدين بن مودود وولده نور الدين أرسلان شاه، فصار واحد دولته، لدرجة أن نور الدين كان يقصد منزله ليستشيره عندما أقعد بسب المرض في آخر زمانه، وقد كاد طبيب مغربي أن يصل به إلى الشفاء من مرض النقرس، وأشرف على الشفاء الكامل، لكنه صرف الطبيب عن إتمام العلاج، وقال لأخيه عز الدين عندما عاتبه على طرد الطبيب الذي ظهر نجاحه: إنني في راحة من صحبة هؤلاء القوم (يعني: الأمير والحاشية)، وقد سكنت رُوحي إلى الانقطاع والدعة، وقد كنت بالأمس وأنا معافى أذلُّ نفسي بالسعي إليهم، وها أنا اليوم قاعد في منزلي، فإذا طرأت لهم أمور ضرورية جاؤوني بأنفسهم لأخذ رأيي، وبين هذا وذاك كثير، ولم يكن سبب هذا إلا هذا المرض؛ فما أرى زواله ولا معالجته، ولم يَبْقَ من العمر إلا القليل، فدعني أعِشْ حرًّا سليمًا من الذل، وقد أخذت منه أوفر حظ.

 

وهكذا لزم الرجل بيته صابرًا محتسبًا يغشاه الأكابر والعلماء، وكان قد أنشأ رباطًا بقرية من قرى الموصل تسمى (قصر حرب)، ووقف أملاكه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل[6].

 

وقد عَمَرَ علماؤنا الحياةَ بالعلم والعمل، وكانوا - مع ذلك - زاهدين في الدنيا، زهد القادرين، لا خضوع المستسلمين المنهزمين، وقد جاء بعض مَن أرَّخوا لهم فظلموهم وصوروهم وكأنهم صوفية متواكلون، يعيشون بلا عمل، ويعتمدون في حياتهم على الصدقات، مع أن الزهد بمعنى التوكل والكسل لم يكن في الزهاد المخلصين؛ وإنما اتسم به نفرٌ من أدعياء التصوف من الجهلة والعوام.

 

كلا، فما كان صناع حضارتنا كذلك، وما فهموا الزهد إلا بمعنى الثراء والاستعلاء، وما فهموا العبادة إلا بمعناها الكوني الفسيح، الذي يسخِّر الدنيا لراية التوحيد.

 

ولقد جرت محاورة بين اثنين من كبار الصالحين وضَّحت هذا التصور الصحيح؛ فقد قال الفضيل بن عياض لعبدالله بن المبارك - رضي الله عنهما -: أنت تأمرنا بالزهد ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، فيكف تأمرنا بشيء وتفعل بخلافه؟

 

فقال له عبدالله بن المبارك: يا أبا علي، أنا أفعل هذا لأصونَ به وجهي، وأُكرِمَ به عِرْضي، وأستعين به على طاعة ربي، ولا أدري لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به[7]!

 

فالزهد أن تكون قادرًا غنيًّا، ثم تزهد وتعطي، لا أن تكون خاملاً فقيرًا تأكل من أوساخ الناس وصدقاتِهم.

 

وكان الليث بن سعد فقيه مصر وعالمها الأكبر في عصر هارون الرشيد، وكان مع ذلك من أثرى أثرياء عصره، وكان زاهدًا كريمًا، ويروى أن الخليفة (هارون الرشيد) بعث إلى الإمام مالك بن أنس بخمسمائة دينار، فبلغ ذلك الليثَ بنَ سعد، فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب الرشيد وقال له: كيف تعطيه أكثر مني وأنت من رعيتي؟

 

فقال له الليث: إن لي مِن غلتي كل يوم ألف دينار، فاستحييت أن أعطي مثل هذا الإمام أقلَّ من دخل يوم[8].

 

وقد ورد في ترجمة الإمام أبي حنيفة النعمان أنه كان تاجر أقمشة مع شريكٍ اسمُه: حفص، فباع شريكه لأحد الزبائن ثوبًا فيه عيب، ولم يخبره بعيبه، ولم ينقص له الثمن، بل استوفى منه الثمن كاملاً، فلما علم أبو حنيفة بذلك، راح يبحث عن المشتري ويفتش عنه، وساعده شريكه في البحث والتفتيش، فلم يقفَا له على أثر، ولم يعثُرَا عليه، فعندئذٍ رفض أبو حنيفة أن يقبل ثمن الثوب، ولم يضمَّه إلى ماله، بل تصدَّق به كله، وفسخ الشركة مع شريكه؛ احتياطًا لدينه.

 

وكان يونس بن عبدالجليل من كبار علماء العصر العباسي، وكان صاحبَ متجر لبيع الأقمشة والثياب، وقد رُوِيت عنه قصص دالة على النهاية في الورع والرَّوعة في الإخلاص في البيع والشراء[9].

 

وكان كثيرٌ من القضاة والفقهاء والمحتسبين ذوي شجاعة وتدرُّب على فنون القتال، وقد ذَكَرت كتب الرجال كثيرًا من هؤلاء، نورد منهم هنا (الفرج بن كنانة)، أحد كبار القضاة في قرطبة، الذين قادوا الجيش وجاهدوا مع المجاهدين، وقاموا في الوقت نفسه بدور اجتماعي كريم، ومنهم أيضًا الفقيه القاضي المعروف: (أسد بن الفرات) في تونس.

 

ويعتبر الإمام ابن جرير الطبري، والإمام أبو محمد علي بن حزم، والإمام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية، وغيرهم من أصحاب الموسوعات الكبرى والهِمَم العالية، التي ندر وجودُ مثلها في الحضارات في عصور كانت تخلو من كثيرٍ من الوسائل المساعدة الحديثة؛ يُعتبَر هؤلاء ظاهرةً تحتاج إلى رصد واستقصاء، ودراسة موضوعية لأسباب هذه العبقريات - كيفًا وكمًّا - وأسباب هذا العطاء العملاق.

 

ويقول الطبري عن نفسه: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثمان سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع.

 

وقد قسم ما ألَّفه الطبريُّ على أيام عمره منذ ولد، فكان أربع عشْرة ورقة كل يوم، وكان ابن حزم ثاني مؤلِّفي الإسلام، وقد ألَّف أكثر من أربعمائة كتاب ورسالة.

 

وتقع فتاوى الإمام ابن تيمية في أكثر من خمس عشرة ألف صفحة، ويقع كتابه: "درء تعارض العقل والنقل" في أكثر من عشرة أجزاء في الطبعة المحققة، بالإضافة إلى عشرات الكتب الأخرى التي تصل إلى آلاف الصفحات، فضلاً عن جهاده المعروف، ومعاركه ضد البدع والأهواء.

 

وقد كان علو الهمة وقوة الإرادة، والعمل الدؤوب - شاغلهم الأشغل.

 

والإمام ابن الجوزي يقول عن نفسه: نظرت إلى علو همتي، فرأيتها عجبًا؛ وذلك أنني أروم نيل كل العلوم، وأروم نهاية العمل بالعلم، مع مطالعة التصانيف وإفادة الخَلْق، وأروم الغِنى عن الخَلْق، والاشتغالُ بالعلم مانعٌ من الكَسْب، وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع نَفَسٌ في غير فائدة[10].

 

إن هؤلاء - وآلافًا مؤلَّفة غيرهم - هم الذين صنعوا حضارتنا، وهم الذين يقدِّمون لنا أبرز ملامح الرؤية الإسلامية للتاريخ! (وليس الساسة أو العسكر)!

 

وفي نهاية هذا الشوط، يجب أن نكون واضحين في موقفنا من أنفسنا، ومن الآخرين، فهل نحن مجرد شريحة من شرائح الجنس البشري، لا تتميز بشيء، وهمُّها الأكبر أن تصل إلى التقدم والرفاهية؛ وبالتالي يمكننا - إذا كان ذلك ممكنًا - أن نحطم كل شيء في سبيل هذا الهدف العاجل والظرفي، أو أننا شريحة من الجنس البشري تمثِّل (قلب) هذا العالم (وضميره)، وأن مهمتنا في التاريخ أن نضم (العقل) إلى القلب والضمير، بحيث نقدم صياغة حضارية تأخذ بما هو (معقول) ومنتوج عقلي بحت من كل الحضارات، وتضم ذلك إلى (قلبها) و(ضميرها) في نسيج متكامل متناغم؟!!

 

إنه لا بد من توضيح موقفنا إذا شئنا أن نقدم رؤية علمية تنتمي إلينا وإلى حضارتنا في تفسير التاريخ، فإذا آمنَّا بأننا مجرد شريحة من الجسم البشري لا خصوصية لها، فما علينا إلا أن نمضيَ وراء المدرسة التي تحمل أسماءنا، لكن قلبها وضميرها قد ضاعا منها، وأصبحت (كلاًّ) أوروبيًّا لا يتجزأ، حتى وإن ظلت تزعم بأنها مسلمة، وتحتفظ بأسمائها العربية أو الإسلامية، ونموذج محمد أركون وتلميذه أحمد عبدالمعطي حجازي، وعزيز العظمة، وماجد فخري، وسعيد العشماوي، وحسين أحمد أمين وأمثالهم تناضل في هذا الطريق، وتحاول أن تقضي على الثوابت والخصوصيات؛ بحيث تفقد الأمة في معركة الحضارة كلَّ سلاح تستلهمه من ثوابتها، ومن تراثها وحضارتها، وتركع سريعًا - لفقدانها جهاز المناعة - أمام الشرائح الحضارية الأخرى، التي تكون - في النهاية - الجسم البشري!



[1] الشيخ علي الطنطاوي: قصص من التاريخ (المقدمة)، طبع بيروت.

[2] علي الطنطاوي: فكر ومباحث، ص: 104 - 105، طبعة 2 (1408هـ) بيروت.

[3] الخشني: قضاة قرطبة، ص: 149، بيروت.

[4] علي الطنطاوي: فكر ومباحث، 2/105، 106، طبعة 2 (1408هـ) بيروت.

[5] الخشني: قضاة قرطبة، ص: 57.

[6] د/ محمود الطناحي: مقدمة تحقيق منال الطالب في شرح طوال الغرائب؛ لابن الأثير، طبع جامعة أم القرى 1983م، ص: 16- 18 بتصرف.

[7] نقلاً عن: ناجي الطنطاوي: كلمات نافعة، ص: 221، دار المنارة، جدة، سنة 1408هـ.

[8] المرجع السابق، ص: 229، بتصرف.

[9] المرجع السابق، ص: 241، 242.

[10] المرجع السابق، ص: 260.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • نسيج التاريخ الإسلامي ومنظومة الحضارة الإسلامية
  • تفسير التاريخ: مطلب إنساني تخلف فيه المسلمون
  • توظيف المنهج التاريخي وفلسفة التاريخ

مختارات من الشبكة

  • اكتمال دورة أساسيات الإسلام بمدينة بخشيساراي(مقالة - المسلمون في العالم)
  • العشرات يشاركن في دورات أساسيات الإسلام بشبه جزيرة القرم(مقالة - المسلمون في العالم)
  • مسابقة القرآن ربيع قلبي و200 شخص يتعلمون أساسيات الإسلام في تتارستان وطاجيكستان(مقالة - المسلمون في العالم)
  • استمرار دورات أساسيات الإسلام وقراءة القرآن في مدينة سيفاستوبول(مقالة - المسلمون في العالم)
  • تخريج دفعة جديدة من طلاب دورات أساسيات الإسلام في تتارستان(مقالة - المسلمون في العالم)
  • برنامج أساسيات العمل المصرفي الإسلامي (عرض تقديمي)(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • صدور كتاب أساسيات فقه المعاملات المالية: تعريف بالكتاب(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • دورة مكثفة لتعليم أساسيات الإسلام في تتارستان(مقالة - المسلمون في العالم)
  • أساسيات الفيزياء: 450 مثال وتمرين محلول (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • دورة جديدة عن أساسيات الإسلام والقرآن بمدينة سيمفيروبول(مقالة - المسلمون في العالم)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب