البحث السريع بالمشاركة (1)

البحث السريع بالمشاركة (1)

Participatory rapprisal

ظهرتِ البحوثُ السريعة بالمشارَكة (PRT) في أواخر السبعينيات، وخاصَّة في بحوث النُّظم الزراعيَّة في الدول النامية، وازدهرتْ هذه البحوث وانتشر استخدامها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ويتزايد الاهتمام بالبحوث السريعة بالمشاركة يومًا بعد يوم على الأصعدة المحليَّة والدولية، وخاصة من قِبل المؤسسات والوكالات الدولية المموِّلة، مثل: هيئات الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية، وقد انتقل الاهتمام بالبحوث السريعة أيضًا إلى بعض المؤسسات والهيئات الحكومية، بخاصة في الدول النامية، وسوف نُناقش في هذا الجزء من البحث بعضًا من الأسس العامة للبحوث السريعة بالمشاركة على النحو التالي:

أولاً: الفكرة الأساسيَّة التي تقوم عليها بحوث المشاركة:

تقوم بحوث المشاركة على فكرة رئيسية مؤدَّاها: أن الناس يمكن - أو يجب - أن يصبحوا وكلاء التغييرِ أو المسؤولين عن التخطيط له والقيام به، لا أن يكونوا مجرَّد موضوعاتٍ، أو أشياءَ تخضع للبحث والدراسات؛ فمُعاملة الناس على أنهم أشياء يمكن عدُّها أو إخضاعها للدراسة، أو يمكن وضْع سلوكها تحت الملاحظة، أو التحكم في هذا السلوك - كما يحدُث في بعض البحوث التقليدية - يعكِس الأوضاع الاجتماعية للقهر الذي يُمارَس بشكل أو بآخر على أولئك الناس، وقد يؤدي ذلك إلى أن يجب إقرارُها، أو يَمتنِع هؤلاء عن المشاركة في صنع القرار، أو أن يصبحوا أُناسًا غير فاعلين في تنفيذ أي خُطة يُطلَب منهم تنفيذُها، بينما لم يؤخذ برأيهم أو لم يشترِكوا في وضعها أصلاً.

ومن ناحية أخرى، فإن أسلوب تَجاهُل مشاركةِ أصحاب المصلحة الحقيقية في اتخاذ القرار وتنفيذه يُضعِف إلى حدٍّ كبيرٍ من قدرة البشر على العمل المشترَك أو الانضمام إلى الجماعات لأداء مهمة من المهام، لأن لهم مصالح مشتركة أساسًا مع غيرهم من جيرانهم، ومن ثم فإن الفلسفة التي ترتكِز عليها بحوث المشاركة تقوم على أن الناس في المجتمعات لديهم القدرة على إدارة شؤونهم بأنفسهم، ولديهم خِبراتهم الخاصة التي خرجت من واقع حياتهم والتي تُناسِبهم، ولديهم حلولهم الذاتية للمشكلات التي يُعاونون منها، وأن على الآخرين أن يستمِعوا لها، وأن يُعطوا الفرصة للمستفيدين من اتخاذ القرار - أو المتأثِّرين به - أو من الخدمة التي ستُقدَّم، أو المشروع الذي سيُنفَّذ من إبداء رأيهم، وتحديد احتياجاتهم بكل حرية وشفافية، إن الغرض الرئيسي من بحوث المشارَكة أن يُشارك أفراد المجتمع في البحث ليُصبحوا على دراية تامَّة بموقفهم وقدراتهم أيضًا، وكذلك قدرتهم على استخدام المعلومات التي تم التوصُّل إليها لإحداث التغيير لصالحهم، وهكذا يأخذ المواطنون بزِمام المبادَرة في دراسة قضايا مجتمعهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن مشارِكي سكان المجتمع في البحوث السريعة بالمشاركة يمكن أن يساعد في بناء قُدرات البشر ليصبحوا فاعلين في عالَمهم بصورة أكبر.

ثانيًا: مزايا البحوث السريعة بالمشاركة:

تتَّسم البحوث السريعة بالمشارَكة بعددٍ من الخصائص التي تُميِّزها عن غيرها من البحوث التقليدية، ومن هذه المزايا ما يلي:

1- عدم تهميش أو تجاهُل أي فئة من الفئات التي ترتبط بالمشروع أو بموضوع البحث بأي صورة من الصور، سواء من المنفِّذين أو المخطِّطين له، وبخاصة المستفيدين منه.

2- العمق: يؤكِّد (لاجال ومارتين) (k. le gall& c martin) على أن البحوث السريعة بالمشاركة تتعدَّى السطحية المعتادة لبعض البحوث الأكاديميَّة التقليدية، والتي يغلِب عليها الطابَع النظري البعيد عن الناس.

3- الوصفيَّة (descriptive): تتميَّز البحوث السريعة بالمشاركة بأنها وصفيَّة وغير نمطية، الأمر الذي يؤدي إلى تقليل التعارُض بين الجانب النظري والعملي في أي بحث، وبذلك يَتناسَب هذا النمط من البحوث في دراسة القضايا أو المشكلات أو الظواهر ذات الطابَع الكيفي.

4- المرونة المنهجية (methodological flexibility): تتَّصِف البحوث السريعة بالمشاركة، أنها تَتْبَع منطقًا علميًّا مرنًا متعدِّدًا يتوافَق مع طبيعة الموضوع الذي يتمُّ دراسته أكثر من تتبُّعها للمنطق الأحادي، فبحوث المشاركة يمكن تشبيهها (بالياي الحلزوني)، الذي تؤدي فيه كل دائرة إلى دائرة أخرى أعلى من الأولى؛ حيث إن المعلومات التي يتوصَّل إليها الباحثون، خلال مراحل البحث تؤدي إلى تعديلِ الاختيارات المتاحة، وتعديل توجُّه البحث ذاته، ويبدأ البحث السريع بالمشارَكة بدائرة استكشاف وتحليل موضوع البحث، ثم ينتقل إلى دائرة أخرى، فيتم إحداث تغييراتٍ في الموقف الذي تم دراسته، وتغييراتٍ بالنسبة للمشاركين فيه أيضًا، وقد ينتقل البحث إلى دائرة أخرى متقدِّمة تتكامل مع الدائرة السابقة في التفسير واستخلاص النتائج والقرارات التي تم التوصُّل إليها، والتي قد تؤدي إلى إحداث تعديلاتٍ وإثراءٍ للخِبرات، التحليلات الأولى التي سبَق التوصُّل إليها... وهكذا.

5- إن البحث السريع بالمشاركة لا يعتبر فقط مجرد أداة لجمع البيانات أو التوصُّل إلى المعرفة العلميَّة، بل إنه أحد الأدوات القوية والفعَّالة التي تُسهِم في تطوير التفكير في أساليب مواجهة مشكلات المجتمعات - وخاصة النامية - بشكل جديد وفعَّال.

6- تتميَّز هذه النوعية من البحوث بالسرعة؛ حيث إن لها نِطاقا زمنيًّا يتراوح بين أيام معدودة إلى بعض أسابيع قليلة.

7- إن بحوث المشاركة تتميَّز بأنها تجمعُ البيانات من أكثر من مصدرٍ لجمع البيانات، الأمر الذي يُتيح إمكانية التأكُّد من صحة هذه البيانات بصورةٍ أفضل.

8- مشاركة أكثر من عضو من أكثر من تخصُّص مختلف في فريق البحثِ في جمع البيانات يُتيح تنوُّع وجهاتِ النظر وتعدُّدها بما قد يؤدي في النهاية إلى تكامُل الرؤية البحثية، وعُمق تحليل البيانات؛ إذ إن فِرَق بحوث المشاركة قد تتضمَّن أطباء ومهندسين ومختصين اجتماعيين، وباحثين اجتماعيين أو اقتصاديين.

9- بحوث المشاركة وإن كانت تعتمِد على البيانات الكيفيَّة إلا أنها لا تُهمِل البيانات الكَميَّة أيضًا، بل تجمع وتُزاوِج بين البيانات الكمية والكيفية، فجميع البيانات الكميَّة يتم تحليلُها والاستفادة منها في الوصول إلى نتائج أكثر دقة.

ثالثًا: المبادئ الأساسية للبحوث السريعة بالمشاركة:

وضَع كل من تروتوت وزملائه عددًا من المبادئ الأساسية التي يجب أن توجِّه عمليةَ البحوث السريعة بالمشاركة، وهي على النحو التالي:

1- الاستمرارية: فالبحوث السريعة بالمشاركة: هي جهود علميَّة على المدى الطويل، وليست عملية تدخُّل محدودة، (وقد يُقصَد من ذلك أن البحوث السريعة بالمشاركة قد تكون وسيلة لتعلُّم كيفية التعامل مع المشكلات التي تواجِه المجتمعَ في المستقبل).

2- التعاون مع مجتمع البحثِ الحقيقي؛ إذ تتم هذه البحوث بالتعاون مع جماعات حقيقية تعيش في بيئتها الطبيعية، وليس مع جماعات تتألَّف من أفراد معزولين اجتماعيًّا، قد لا يُمثِّلون المجتمع الحقيقي.

3- المناقشة والتفاوض: تتَّصِف البحوثُ السريعة بالمشاركة بأن نتائجها وأهدافها وتوجُّهاتها تتم مناقشتها والتفاوض بشأنها بين المجموعة التي تُجري البحثَ، والتي تستفيد منه.

4- الواقعية: إذ يتم تحديد مشكلة البحثِ وأهدافه من خلال الاحتياجات التي يُمليها الموقفُ والممارسة الاجتماعية الواقعية، لا من خلال النظريات القائمة أو الفروض التي يَثبُت صحتُها، بل يُراد التأكُّد منها.

5- العملية: إذ إن ما يتم جمْعه من معلومات، وما يتمُّ التوصُّل إليه من نتائج ليس له قيمة أو معنى في حدِّ ذاته، ولكن تلك النتائج تُعَد عناصرَ مهمة لعمليَّة التغيير الاجتماعي، وبهذا المعنى فإن البحوث السريعة بالمشاركة هي موقف اجتماعي، وليست سلسلة من المتغيَّرات المنعزِلة التي يمكن أن تفسَّر بشكلٍ مستقِلٍّ عن بعضها البعض.

6- المشاركة الحقيقية: على الباحث أن يترك دور الملاحظ الخارجي، ويتبنى اتجاهًا كمُشارِك في البحث، مع قيامه بالملاحظة الواعية التقمصيَّة للتفاعل المباشر، وإيجاد العلاقة بين كل المشاركين دون تَجاهُل المسافة التي يجب أن تكون بين كلٍّ منهم.

مصادر ومراجع:

• أحمد عبدالفتاح ناجي، وآخرون، البحث الاجتماعي في الخدمة الاجتماعية.

• محمد محمود عرفان وآخرون: تقويم مشروعات وبرامج الرعاية الاجتماعية.

• محمد عبدالغني هلال: مهارات البحث السريع بالمشاركة