صناعة الفكر (7)

صناعة الفكر (7)

التغذية الفكرية (3)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد.

أشرنا في موضوع مهارات التفكير الأساسية إلى مهارات: الملاحظة والحفظ والفهم، وتتمة لذلك نقول:

4- مهارة الربط: وتعني ربط معلومة بمعلومة أخرى لتوضيح المعنى وتزيل الإشكال أو من أجل استنتاج معلومة جديدة بطريقة علمية وعقلية وبدون تكلف.

وثمار هذه المهارة كثيرة ومنها:

التفسير والايضاح: وتعني تفسير نص من نص آخر في مكان مختلف، وهي مهمة في تفسير النصوص وتوضيح المقصود، و قدوتنا في ذلك الحبيب - صلى الله عليه وسلم - اقرأ وتأمل هذا الحديث: "لما نزلتْ هذه الآيةُ: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82، 83]. شقَّ ذلك على أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أيُّنا لم يلبسْ إيمانَه بظلمٍ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (إنهُ ليس بذلكَ، ألا تسمعون إلى قولِ لقمانَ: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾[1]^. وعلى هذا سار سلفنا الصالح وأعملوا الفكر والنظر في القرآن الكريم، وإليك مثال: قال تعالى: ﴿ فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [2]، فما الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه؟ لقد بحث علماؤنا و اتضح أن النص مذكور في القرآن الكريم في موضع آخر وهو قوله تعالى: ﴿  قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [3].

ثم سار على ذلك الدرب الكثير من العلماء ومنهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[4] صاحب كتاب "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" والذي يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن.

الاستنتاج: وتعني ربط معلومتين والحصول منهما على معلومة جديدة، وإليك هذه الحادثة: عن أبي الأسود: أنه رُفع إلى عمر - رضى الله عنهم - أن امرأة ولدت لستة أشهر، فهمَّ عمر - رضى الله عنهم - برجمها، فقال له علي - رضى الله عنهم -: ليس لك ذلك. قال الله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾[5]، وقال تعالى: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرً ﴾[6] فحولان وستة أشهر ثلاثون شهراً، لا رجم عليها، فخلى عمر - رضى الله عنهم - سبيلها، وولدت مرة أخرى لذلك الحد.

المقارنة: وهي النظر في أمرين وملاحظة ما بينهما من عناصر مشتركة وعناصر مختلفة ثم الحصول على معطيات جديدة، ومن الأمثلة على المقارنة القياس[7] فهو النظر في نصين (أصل وفرع) والبحث عن الصفة المشتركة (العلة) ثم الحصول على النتيجة وهي الحكم، وقد فعل ذلك حبيبنا - صلى الله عليه وسلم -، بل إنه (القياس) ساهم في حل مشكلة كبيرة يمكن ان تقع بين رجل وزوجته، فعن أبي هريرة - رضى الله عنهم -: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود، فقال: (هل لك من إبل). قال: نعم، قال: (ما ألوانها). قال: حمر، قال: (هل فيها من أورق). قال: نعم، قال: (فأنى ذلك). قال: لعله نزعه عرق، قال: (فلعل ابنك هذا نزعة )[8].

5- مهارة الاستنباط: وهي مهارة جميلة ومهمة وتعني الحصول على معلومة جديدة من معلومة موجودة بطرق خفية، لا يصلها كل احد. وهذه المهارة من الفوارق الرئيسة بين العلماء وقدرتهم في التعامل مع النصوص، وهي مجال خصب ورحب للوصول إلى بعض الحكم والأسرار الربانية في النصوص الشرعية وغيرها.

كما انها تساهم في إبراز عظمة شيء من عظمة الخالق - سبحانه - من خلال آياته الشرعية والكونية، ولسلفنا الصالح نصيب السد من هذه المهارة واستنباطاتهم أكثر من أن نذكر الآن، ولنأخذ مثلاً واحداً: فقد كان لهارون الرشيد علج طبيب, له فطنة وأدب, فود الرشيد أن لو أسلم فقال له يوماً: ما يمنعك عن الإسلام؟
فقال: آية في كتابكم حجة على ما أَنْتَحِلُه (أؤمن به).

قال: وما هي؟

قال: قوله تعالى عن عيسى: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء 171] وهو الذي نحن عليه.

فعظم ذلك على الرشيد وجمع له العلماء فلم يحضرهم جواب ذلك حتى ورد قوم من خراسان فيهم علي بن وافد من أهل علم القرآن, فأخبره الرشيد بالمسألة فاستعجم عليه الجواب ثم خلا بنفسه وقال: "ما أجد المطلوب إلا في كتاب الله".

فابتدأ القرآن من أوله وقرأ حتى بلغ سورة الجاثية إلى قوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13].

فخرج إلى الرشيد وأحضر العلج فقرأها عليه وقال له: إن كان قوله تعالى: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء 171] يوجب أن يكون عيسى بعضاً منه تعالى وجب ذلك في السموات والأرض.

فانقطع النصراني ولم يجد جواباً؛ فأسلم النصراني وسُر الرشيد بذلك وأجزل صلة ابن وافد.

فلما رجع ابن وافد إلى بلده صنف كتاب النظائر في القرآن[9].

و لاتزال تلك المهارة حتى وقتنا الحاضر فهذا الشيخ بن سعدي - رحمه الله -[10] استنبط من آية الوضوء (آية رقم 6 من سورة المائدة) أكثر من 50( خمسين) حكماً [11]، وكذلك الشيخ سليمان العلوان - أطال الله عمره على طاعته - استنبط من حديث (لا تغضب) اكثر من 50 (خمسين) فائدة[12]، وغيرهم كثير.

تلك خمس مهارات تفكير اساسية ويوجد غيرها الكثير، ولكني اكتفيت بذكر الأهم - والله اعلم -، ومن اراد الزيادة فعليه الرجوع غلى الكتب المعتمدة، وإن كنت اتمنى أن ينبري لهذا الفن (مهارات التفكير) فريق من العلماء وطلبة العلم، ليخرجوا لنا من كنوز القرآن والسنة ما يعين - بعد الله - على رسم الطريق في تعبيد الخلق للخالق.

وقبل ان نودع الكلام عن المهارات الأساسية، لابد من الإجابة على سؤال مهم أظنه في ذهنك - أخي القارئ الكريم - ألا وهو: كيف يمكن اكتساب أو تنمية تلك المهارات؟

والإجابة على هذا السؤال تكمن في ثلاث خطوات:

1- صناعة الإرادة: فالسؤال المهم لك: هل تريد أو لا تريد؟، فمن أراد فسيصل بإذن الله، والإرادة تعني الرغبة القوية في الاكتساب وتكوين الاستعداد النفسي لقبول التغيير، واوضح ذلك حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنما العلمُ بالتَّعلُّمِ، و إنما الحِلمُ بالتَّحلُّمِ، و من يتحرَّ الخيرَ يُعطَهْ، و من يتَّقِ الشرَّ يُوَقَّه"[13]، فمن "يتحر" يُعطى، ومن "يتق" يوقى، ومن لم يتحرى ولم يتوقى لأنها ربما كانت أماني فهي مجرد رغبات وأحلام لا تستند إلى دافعٍ قوي، لذا قال حبيبنا - صلى الله عليه وسلم -: "الكيسُ[14] منْ دانَ نفسَهُ، و عملَ لمَا بعدَ الموتِ، و العاجزُ منْ أَتْبَعَ نفسَهُ هواهَا، و تمنَّى على اللهِ الأمانيَّ"[15]، هل لاحظت الفرق بين الكيّس والعاجز!!، و من وسائل صناعة الإرادة إدراك أهمية الموضوع وحيويته بالنسبة لك ولأهدافك، وفي المقابل التعرف على مضار إهمال الموضوع ونتائج ذلك على المستوى الفردي والجماعي.

2- سلوك الطريق: ينبغي معرفة الطريق الموصل لاكتساب تلك المهارة، ثم السير على ذلك الطريق، ومن أهم طرق اكتساب المهارات الأساسية هو التدريب النظري والعملي وتكراره وتقييم الذات بعد كل فترة زمنية معينة، تأمل قول الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالصِّدقِ. فإنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البرِّ. وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّةِ. وما يزالُ الرَّجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتبَ عند اللهِ صِدِّيقًا. وإيَّاكم والكذِبَ. فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفجورِ. وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النَّارِ. وما يزالُ الرَّجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِبَ حتَّى يُكتبَ عند اللهِ كذَّابًا"[16].

3- الصبر: فالوصول قد يطول، والطريق قد يصعب، لكنه مفرح.

وفي كل الخطوات وقبلها وبعدها عليك بالإخلاص لله تعالى وتيقن من المعادلة الربانية " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[17].

مجاهدة (بذل اسباب) + إخلاص = هداية (تحقيق الهدف)

هكذا نكون ختمنا الكلام عن مهارات التفكير الأساسية، بقي استراتيجيات التفكير، وهي ما يجمع أكثر من مهارة، وهو حديثنا القادم بإذن الله.