• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

الفيودالية

يوسف نكادي


تاريخ الإضافة: 26/10/2010 ميلادي - 18/11/1431 هجري

الزيارات: 102975

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مقدمة


شكلت ظاهرة الفيودالية أحد أخصب المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين في مختلف أقطار المعمور منذ القرن الثامن عشر، ولازالت إلى يومنا هذا مثار جدال بين المختصين، سواء فيما يتعلق بحيثيات نشأتها أو فيما يتعلق بمجال انتشارها ومستويات تبلورها هنا وهناك.

 

وقد انعكست ديناميكية البحث وسيولة التأليف في مختلف جوانب الظاهرة بالإيجاب على المكتبة التاريخية عموما ومكتبة التاريخ الأوربي الوسيط بشكل خاص. حتى أنه أصبح من الصعب - وربما من المستحيل - على القارئ العادي أو الباحث المختص الإحاطة بجميع ما تم انجازه فيها من أبحاث منغرافية أو دراسات ذات طابع تركيبي أو مقالات أو مداخلات ألقيت في إطار الندوات والملتقيات العلمية؛ نظرا لكثرة هذه التآليف من جهة ونظرا لاختلاف اللغات التي كتبت بها من جهة أخرى.

 

والملاحظ أن ظاهرة الفيودالية تكاد تكون ظاهرة كونية؛ انتشرت كليا أو جزئيا في مختلف أقاليم العالم القديم، ولذلك اهتم الباحثون الغربيون المحدثون والمعاصرون بدراسة مظاهرها في مجالات أوربية طبعا وفي مجالات غير أوربية أيضا. وفي هذا السياق انبرى عدد منهم لمعالجة بعض تجلياتها في المجال العربي- الإسلامي خلال العصر الوسيط أو خلال الحقبة السابقة على الاستعمار الأوربي. غير أن الباحثين العرب ظلوا، مع الأسف، بمنأى عن هذه الحركية، باستثناء قلة قليلة منهم اقتحمت غمار هذا الموضوع. ومن ثم، فان ما كتب عن الفيودالية باللغة العربية، أو ما تم تعريبه من مؤلفات أجنبية تناولتها، لا يمثل سوى نسبة هزيلة جدا. ويبدو هذا الأمر غير مفهوم إذا علما بأن التاريخ الأوربي الوسيط، الذي تمثل الفيودالية إحدى أبرز قضاياه، يندرج ضمن برامج ومقررات أقسام التاريخ بالجامعات العربية. ومن هذا المنطلق كان من المفروض أن تحضى الفيودالية (و تاريخ أوربا الوسيط ككل) باهتمام الجامعيين بحثا وتأليفا.

 

ورغبة منا في سد جانب من الفراغ الحاصل، ارتأينا وضع هذا المؤلف رهن إشارة الطلبة والباحثين وعموم القراء؛ آملين أن يحضى بالقبول والله ولي التوفيق.

 

وجدة في 5 ذي القعدة 1431، الموافق  14 أكتوبر 2010

 

مدخل


1- خصائص العصر الوسيط (عصر الفيودالية والنظام الفيودالي):

درج المؤرخون الأوربيون منذ عصر النهضة على تقسيم تاريخ أوربا إلى مجموعة عصور متعاقبة هي: العصر القديم بمرحلتيه اليونانية والرومانية، والعصر الوسيط ثم العصر الحديث. واتخذوا من بعض الأحداث السياسية-العسكرية الكبرى مفاصل بين عصر وآخر.

 

ويجمعون في هدا الشأن بأن سنة 476 ميلادية، التي تم فيها وضع حد لسيادة الإمبراطورية الرومانية تمثل نهاية العصر القديم وبداية العصر الوسيط. بينما اعتبروا سنة 1453 ميلادية، تاريخ سيطرة الأتراك العثمانيين على القسطنطينية، نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الحديث. ومن ثم، يكون العصر الوسيط قد استغرق حوالي ألف سنة. شهدت خلالها أوربا بوجه عام ومناطقها الغربية بوجه خاص أحداثا متميزة وتطورات متباينة، سواء من حيث الإيقاع أو من حيث المظاهر.

 

تعود مقدمات تلك الأحداث والتطورات إلى الفترة الممتدة بين القرنين الثالث والخامس. وهي فترة اصطلح على تسميتها بالعصر الإمبراطوري الأسفل. شهدت خلالها الإمبراطورية الرومانية أزمة متعددة المظاهر انتهت بسقوط روما سنة 476 م. على اثر موجة غزو أولى قامت بها شعوب قدمت من شمال أوربا عبر فترات، واستقرت على أطراف الإمبراطورية قبيل بداية الغزو.

 

وإذا كان ذلك الغزو قد أدى إلى نهاية وجود اﻹمبراطوربة الرومانية، فقد أدى من جهة ثانية إلى الإسراع بوتيرة تلك الأحداث والتطورات. إذ استطاعت تلك الشعوب، المعروفة بالشعوب الجرمانية، أن تسيطر على أقاليم غرب أوربا التي كانت ولايات تابعة للإمبراطورية. وأسست بها كيانات سياسية. فكان ذلك إيذانا ببداية مسلسل التجزئة السياسية وتدهور المؤسسات العمومية. وهو مسلسل استفحلت حلقاته خلال السنوات والقرون التي تلت عمليات الغزو، رغم بعض المحاولات التي رامت العودة بأوربا إلى عهود الوحدة. وقد تمت تلك المحاولات في نطاق محدود وآلت إلى الفشل. وبالتالي، وجب الانتظار حتى أواسط القرن الخامس عشر لتبدأ محاولات الوحدة ولتشرع المؤسسات في التبلور في إطار الدول المركزية الناشئة.

 

وواكبت مسلسل التجزئة السياسية سلسلة حروب شبه متواصلة داخل أوربا وخارجها (كانت الممالك الأوربية طرفا فيها) استغرقت العصر الوسيط برمته. حدثت أولاها بين الممالك الجرمانية التي تأسست غداة الغزو. وتلتها حروب خاضها أكبر حكام هاته الممالك، كحروب شارلمان الملك-الإمبراطور في جرمانيا وايطاليا واسبانيا. ثم الحروب التي جرت فصولها بمناسبة الموجة الثانية من موجات الغزو التي قام بها هذه المرة السكندنافيون والهنغاريون. والحروب بين المسيحيين والمسلمين، وأبرزها الحروب الصليبية في المشرق وحرب الاسترداد في الأندلس. وانتهت سلسلة حروب العصر الوسيط بحرب المائة سنة بين فرنسا وانجلترا اللتان انضمت لهما ممالك أخرى.

 

ومن المفيد أن نذكر في هذا المقام بأن العصر الوسيط في أوربا هو عصر الفروسية والفرسان. فقد شكل الفرسان الشريحة السفلى في الأرستقراطية. وكانوا موزعين على شكل فرق(مليشيات). تعمل كل واحدة منها تحت إمرة أحد أفراد الشريحة العليا في الأرستقراطية. وتربط بين الطرفين روابط خاصة تعرف بالروابط الفيودو- فصلية (liens féodo-vassaliques les). وقد مثلت هذه الروابط كنه ظاهرة الفيودالية.

 

وبما أن الحرب كانت اهتمام الفرسان الأول والأخير، فقد كانت الوقائع بين أفراد الأرستقراطيات المحلية أو الجهوية أمرا مألوفا. وقد بلغت الوقائع ذروتها سنة 1337 حين اندلعت حرب المائة سنة المشار إليها آنفا. وكانت تتخلل سلسلة الحروب والوقائع، أو تسبقها أو تتلوها، حركات اجتماعية- دينية كان يقوم بها الفلاحون. وأبرزها حركات القرنين الحادي عشر والرابع عشر.

 

و في جميع الأحوال كان هؤلاء الفلاحون، الذين شكلوا السواد الأعظم في مجتمع أوربا العصر الوسيط، هم حصاد تلك الحركات والحروب. كما كانوا في نفس الوقت هم الحطب المغذي للحروب بما يقدمونه من خدمات وضرائب ومغارم ومكوس لفائدة الأرستقراطية العقارية التي سخر أفرادها كل الوسائل القانونية والعسكرية للاستفادة من فائض إنتاج عمل الفلاحين. الذين كان الواحد منهم ملزما بقضاء أكثر ساعات النهار في وضعية انحناء نحو الأرض التي غدت خلال العصر الوسيط مصدر الإنتاج الرئيسي، بل مصدر حياة ووجود مجتمع بأكمله.

 

و الجدير بالذكر في هذا الصدد أن عملية إعادة تشكيل الخارطة السياسية في أوربا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية واكبتها عملية إعادة تشكيل مماثلة (للخارطة الاقتصادية) التي لم تعد مشكلة من أنشطة واضحة المعالم: نشاط فلاجي في الأرياف ومبادلات تجارية وأنشطة حرفية وخدماتية في الحواضر. بل اختزلت كثيرا، حتى أنها لم تعد تشمل سوى النشاط الزراعي. في حين اختفت المبادلات التجارية والأنشطة الحرفية ومختلف الخدمات، بما فيها الأنشطة الفكرية التي اشتهرت بها مدن الإمبراطورية الرومانية. ولم تعرف هذه الأنشطة الانتعاش إلا بعد مطلع القرن الحادي عشر. حين أفضت النهضة الزراعية التي شهدتها الأرياف إلى حدوث تحولات هائلة شملت جميع مناحي الحياة.

 

بدأت تلك النهضة تسجل تراجعا ارتسمت معالمه الأولى حوالي 1316- 1317. وأصبحت واضحة منذ حوالي 1320 ايذانا بحدوث انقلاب في الظرفية، سرعان ما تحول إلى أزمة اقتصادية وديموغرافية واجتماعية وسياسية وعسكرية وفكرية استغرقت القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

 

وانطلاقا مما تقدم نخلص إلى القول بأن مجمل أحداث وظواهر وتطورات العصر الوسيط، بما فيها ظاهرة الفيودالية، التي سنتناول جوانبها بتفصيل، حدثت في الأرياف التي مثلت إطارها الرئيسي؛ على الأقل حتى مطلع القرن الحادي عشر. حيث ستشرع المدن الناشئة في الانضمام إلى الأرياف كفضاء لأحداث وتطورات ما بعد سنة 1000. ولذلك نؤكد مند البدء بأن تاريخ العصر الوسيط في أوربا هو عموما تاريخ أرياف.

 

فمنذ القرن الثالث للميلاد شهدت الإمبراطورية الرومانية مشاكل متعددة المظاهر، ازدادت تفاقما حتى سنة 476 تاريخ سقوط روما. وكان من بين مظاهر تلك المشاكل تدهور المدن. وتواصل هذا التدهور خلال القرون اللاحقة حتى أن العديد منها اختفى تماما. وإن المدن القليلة التي استمرت في الوجود تقلصت مساحتها وتراجع عدد سكانها. وبالتالي، أصبحت الأرياف هي إطار جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية حتى مطلع القرن الحادي عشر. حيث شهدت حركة التمدين بداية انتعاش سيتواصل خلال القرون الموالية. فشرعت المدن بموازاة تلك الحركة في استعادة جانب من وظائفها وجانب من الهيمنة التي كانت تمارسها على الأرياف قبل القرن الثالث.

 

ويجب التنبيه، بأن عملية الاستعادة تلك كانت محدودة نسبيا، حيث إن المبادلات التجارية التي تعتبر من أبرز الوظائف التي تحتضنها المدن ظلت مرتبطة بما كانت تقدمه الأرياف من منتجات زراعية ستشهد تراجعا منذ سنتي 1316-1317. وسيتأكد هذا التراجع بعد سنة 1320 وعلى امتداد قرنين من الزمان.

 

كما أن التشكيلة الاجتماعية التي تمنح المدن هوية مجتمعية تتطابق وتسميتها كمدن لم تأخذ في التبلور إلا بعد مطلع القرن الرابع عشر. لأن البورجوازية، التي كان يفترض أن تكون الطبقة السائدة في تلك المدن، كما سيحدث بعد مطلع القرن السادس عشر، ظلت هجينة بعد عودة حركة التمدين إلى الانتعاش.

 

مما لا شك فيه أن الفقرات السابقة تسلط بعض الضوء على خصائص العصر الوسيط، وتساعد على فهم السياق العام الذي " نشأت " فيه وتطورت فيه الفيودالية في معناها الضيق كروابط والتزامات ذلت صلة بالفيف (le fief) أو في معناها الواسع كنظام اقتصادي واجتماعي.

 

2- دلالات مفهومي "الفيودالية " و"النظام الفيودالي ":

تعتبر كلمة " فيودالية " تعريبا للمصطلح الفرنسي " Féodalité " الذي شرع في استعماله بفرنسا ابتداء من مطلع القرن السابع عشر؛ في وقت أخذت تستعمل فيه بباقي أقطار أوربا مصطلحات مرادفة كمصطلح "Feudalismo" الذي استعمله الايطاليون واﻹ سبانيون ومصطلح " Feudalism" الذي استعمله الأنجليزيون ومصطلح " Feudalismus " الذي استعمله الألمانيون. ويندرج هذا التعدد والتنوع في سياق تعدد وتنوع اللغات الناشئة في أقطار أوربا. حيث أصبح سكان كل قطر يستعملون لغة خاصة بهم ابتداء من هذه الفترة.

 

و قد تم اشتقاق جميع المصطلحات السالف ذكرها من الكلمة اللاتينية فيوداليس" Feodalis " أو من كلمة " Feodum" التي أصبحت الكلمة الأكثر تداولا في النصوص ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر، وتعني الفيف[1] " le fief". وهو قطعة أرض كان شخص (و قد يكون أيضا مؤسسة دينية) يسمى " سنيورا " (un seigneur) يقدمها لشخص آخر. فيصبح المستفيد من قطعة الأرض تابعا للمانح ويسمى فصلا (un vassal). يلتزم بتقديم خدمات والتزامات معينة للسنيور. وتنشأ عن عملية تقديم الفيف وعن تلك الالتزامات روابط خاصة بين الطرفين.

 

و قد ظلت كلمة فيودوم " Feodum" تعني منذ هذا التاريخ وحتى مطلع القرن الثامن عشر الفيف والالتزامات المترتبة على التابع المستفيد منه. وبعد مطلع القرن الثامن عشر أخذ مفكرو أقطار غرب أوربا يعطون للمصطلحات الحديثة المشتقة من كلمة فيودوم مضامين ودلالات متنوعة. وتجلى هذا التنوع بشكل أكبر في فرنسا عاصمة فكر الأنوار الذي ساد في أوربا خلال القرن الثامن عشر.

 

فقد ظل رجال القانون والمهتمون بتاريخ المؤسسات حريصين على استعمال مصطلح " féodalité " بمعناه الضيق الأصلي، أي الفيف وما يترتب عن الاستفادة منه من التزامات وروابط. أما أقطاب الفكرالسياسي، أمثال لويس مونتسكيو (Charles Louis Montesquieu) (1689 - 1755) وهنري دي بولانفليي (1658- 1722 Henri deBoulainvilliers) الذين عاصروا مرحلة سيادة السلطة المركزية في كل من فرنسا وانجلترا، فقد استعملوه عند الحديث عن التجزئة السياسية التي شهدتها أوربا بعد القرن التاسع، وما نشأ عنها من طرق وأساليب خاصة في تدبير السلطة؛ التي أصبح يمارسها أفراد الأرستقراطية. كل واحد منهم يمارسها في حدود رفعة ترابية ضيقة. في حين أعطى الفلاسفة والمنظرون، أمثال فرانسوا ماري أروية (François Marie Arouet) المعروف بفولتير ( Voltaire) (1698-1778) للمصطلح دلالات أوسع. فاستعملوه بمعنى نسق من التطور (un processus d’évolution). أو بمعنى نمط من أنماط الحياة ( un mode de vie) كانت تتبناه مجتمعات غرب أوربا خلال العصر الوسيط. ويمكن أن يتبناه أي مجتمع في أي مجال جغرافي. فالفيودالية من وجهة نظرهم ليست مجرد ظاهرة خاصة شهدتها مجتمعات أوريا في العصر الوسيط، بل هي نسق من أنساق التطور أو نظام حياة حدث في العصر القديم. كما حدث في العصر الوسيط. وله امتدادات في العصر الحديث.

 

و على غرار الفلاسفة والمنظرين أعطى المفكرون الاقتصاديون، وأبرزهم الانجليزي أدم سميث Adam Smith) (1723-1790)، لمصطلح فيودالية دلالات أوسع كذلك. فقد رأوا بأن الفيف الذي اشتق منه هو أولا وأخيرا عقار ( un bien-fonds) اكتسى أهمية بالغة بالنظر إلى سيادة النشاط الزراعي في العصر الوسيط. وقد شكل تبعا لذلك مصدر ثروة بالنسبة للسيد والتابع. ومن ثم، لا يمكن الحديث عنه وعن الالتزامات والروابط المتصلة به بمعزل عن الحياة الاقتصادية. فانكبوا على دراسة بنية ذلك العقار ومكونات تلك الثروة ومجالات صرفها وما إلى ذلك من قضايا ذات صلة بالأوضاع الاقتصادية التي شهدتها أقاليم غرب أوربا زمن سيادة الفيودالية.

 

و قد شكلت طروحات الفلاسفة والمنظرين والمفكرين الاقتصاديين نقطة انطلاق بالنسبة لماركس وانجلز وأتباعهما الذين ذهبوا بعيدا. فجعلوا من الفيودالية نمط إنتاج، أي نظاما سوسيو - اقتصاديا نشأ بعد نهاية النظام العبودي. وانتهى عندما بدأت تترسخ قواعد النظام الرأسمالي. أي أن النظام الفيودالي نشأ في أوربا عندما تراجع دور العبيد كقوى منتجة ولم تعد العلاقات الاجتماعية قائمة على العبودية. وبدأ في الانحلال عندما هيمنت المبادلات التجارية على الحياة الاقتصادية؛ وبدأت العلاقات الاجتماعية تأخذ منحى منسجما مع تطور قوى الإنتاج. ومعنى ذلك أن فترة سيادة نمط الإنتاج الفيودالي حدث خلالها تطابق بين قوى الإنتاج التي بلغت مستوى معينا من التطور والعلاقات الاجتماعية التي حققت بدورها مستوى معينا من التطور.

 

و تبعا لانتشار الفكر الماركسي، فقد تبنى هذا الطرح العديد من المفكرين والباحثين في أقطار أوربا وأمريكا وآسيا وإفريقيا. وأصبحوا يفضلون استعمال أحد المفهومين المركبين: " نمط الإنتاج الفيودالي" (mode de production féodal) أو " النظام الفيودالي " (système féodal) بدل مفهوم الفيودالية. لأن لهما دلالة شاملة تنطبق على جميع بنيات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ويمكن استعمالهما عند البحث في بنيات مجتمعات أخرى غير المجتمعات الأوربية. فيمكن حينئذ الحديث عن نمط إنتاج فيودالي في اليابان[2] أو في الصين أو في أحد أقطار إفريقيا[3].

 

وانطلاقا مما تقدم، يتضح بأن المضامين والدلالات التي أعطاها مفكرو أوربا لمصطلح فيودالية وللمصطلحات المرادفة له مضامين ودلالات مختلفة. وقد تحول الاختلاف إلى تباين حينما لجأ ثلة من المفكرين إلى استعمال مصطلحات مركبة هي نمط الإنتاج الفيودالي (le mode de production féodal) أو النظام الفيودالي (le système féodal). بحيث لم يعد ممكنا إحداث تقارب بين وجهات النظر. لأن المصطلحات ارتقت إلى مستوى المفاهيم، نظرا لصبغتها الإجرائية والوظيفية ونظرا لما يعكسه استعمالها من مواقف ورؤى ومناهج في البحث. ولازال هذا التباين حتى اليوم أحد سمات الإنتاج اﻹسطريوغرافي المتصل بالموضوع.

 

وإجمالا يمكن التمييز في عموم الباحثين والمفكرين بين فئتين:

فئة تتبنى وتستعمل مفهوم الفيودالية (أو أحد المفاهيم المرادفة له حسب لغة المفكر أو الباحث). وتلخص مضمونه في كونه الفيف والالتزامات المرتبطة به والعلاقات القائمة بين الذي يقدمه والذي يستفيد منه. وفئة تتبنى وتستعمل مفهوم نمط الإنتاج الفيودالي أو النظام الفيودالي بمعنى نسق من التطور شهده مجتمع غرب أوربا خلال مرحلة معينة من تاريخه تطابقت فيها قوى إنتاج، وصلت مستوى معينا من التطور، مع علاقات اجتماعية منسجمة معها.

 

ورغم المناظرات والملتقيات التي سعت بعض الجهات التي نظمتها إلى تقريب وجهات نظر الفئتين[4]، فإن التباين أصبح قدرا محتوما. بل إن هذا التباين أخذ في فرنسا طابع الجدل الحاد الذي أفضى منذ مطلع القرن العشرين إلى ظهور وشيوع استعمال مفهوم جديد في أوساط المفكرين والباحثين المشبعين بفكر ماركس وانجلز وهو مفهوم " الفيوداليسم " (Féodalisme) المرادف لمفهومي نمط الإنتاج الفيودالي والنظام الفيودالي. وقد تبنت هذا المفهوم الأوساط العلمية. ودخل قاموس اللغة الفرنسية الذي يتميز بكونه القاموس الأوربي الوحيد الذي يتضمن مفهومين هما : " Féodalité " و"Féodalisme ".

 

والحقيقة أن هذه الإضافة لم تعمل على إثراء رصيد لغة الباحثين الفرنسيين بقدر ما جعلت الهوة الفاصلة بين الذين يستعملون هذا المفهوم أو ذاك أكثر عمقا. ويخطأ البعض حين يعتبرون هذه الازدواجية مجرد اختلاف في اللغة أو المفاهيم المستعملة. بل على العكس من ذلك تماما تعكس، في اعتقادنا، اختلافا في الرؤى والمناهج المتبعة كما سيتبين ذلك من خلال العناصر التي سيتم تناولها في هذا البحث.

 

3- مصادر دراسة الفيودالية والنظام الفيودالي:

تفاديا لأي فهم خاطئ قد يوحي به هذا العنوان، نوضح بأن دراسة الفيودالية والنظام الفيودالي لا تتم انطلاقا من مصادر جد خاصة، بل على العكس من ذلك تستوجب الإحاطة بمختلف جوانبهما العودة إلى قاعدة معلومات ومعطيات متنوعة لاستقاء المادة التاريخية. تتمثل هذه القاعدة في المصادرالأركيولوجية والمصادر الخطية.

 

أولا: المصادر الأركيولوجية:

يفرض هذا النوع من المصادر حضوره لاعتبار أساسي هو أن الفيودالية هي في كنهها ظاهرة حربية. إذ أن الوقائع العسكرية تصدرت أحداث الحقبة التي سادت فيها. وبما أن عملية خوض الحروب أصبحت تشغل بال أفراد الأرستقراطية منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية، ثم حدثت تحولات بعد مطلع القرن الحادي عشر جعلت الحروب تصبح من اهتماماتهم الرئيسية، فقد اقتضى الأمر بعد هذا التاريخ إقامة تحصينات؛ أبرزها القصور ( les châteaux) والقلاع (les donjons) والقصور المشيدة على تلال طبيعية أو اصطناعية (les mottes castrales).

 

وقد أصبحت هذه المنشآت من أبرز معالم المشهد ألمآثري (paysage le monumental) في أرياف أوربا. وغدت مراكز للقيادة وممارسة السلطة من قبل أفراد الأرستقراطية. ومن ثم، فان البحث في ظاهرة الفيودالية وما يتصل بها من مؤسسات اقتضى منذ عقود مضت القيام بعمليات مسح جوي وتنقيب ميداني لتحديد مواقع تلك المنشآت والكشف عن بقايا ما اندرس منها. وقد أفضت مختلف العمليات التي بوشرت في مختلف أنحاء أوربا، وفي فرنسا بوجه خاص، باعتبارها " مهد الفيودالية " كما يقال، إلى نتائج بالغة القيمة عززت رصيد قاعدة المعلومات والمعطيات التي كانت حتى بدايات القرن الماضي تستقى من النصوص في المقام الأول؛ الأمر الذي مكن من إعادة رسم خارطة الانتشار الجغرافي للفيودالية، ومن إعادة تحديد المجال الترابي الذي كانت تمارس فيه سلطة أفراد الأرستقراطية خلال فترة سيادة الفيودالية.

 

وقد تمت صياغة أهم نتائج عمليات الاستشعار الجوي (la détection aérienne) والتنقيب الميداني في تقارير وعروض ودراسات أهمها على الإطلاق عروض وتقارير الملتقيات الدورية التي دأب على تنظيمها منذ سنة 1962 مركز الأبحاث الأركيولوجية القروسطوية le Centre de Recherches Archéologiques médiévales)) التابع لجامعة (Caen). وقد تم نشر سلسلة منها تتألف (حتى حدود شهر يونيو 2009) من 23 مؤلفا تحت عنوان:

Château Gaillard


و تأتي بعد هذه السلسلة أبحاث ودراسات لا تقل أهمية نورد عناوينها كما يلي:

1- AFFOLTER Eric ; PEGEOT Pierre ; VOISIN Jean-Claude, L’habitat médiéval fortifié dans le nord de la Franche-Comté: Vestiges de fortifications de terre et de maisons fortes, Montbéliard, Afram, 1986.


2- CHATEAU André, Châteaux forts et féodalité en Ile-de France du XIe au XIIIe siècle, Paris, Editions Créer, 1983.


3- COLLECTIF, Des châteaux et des sources. Archéologie et histoire dans la Normandie médiévale, Rouen, publications des Universités de Rouen et du Havre, 2008.


4- DEBORD André, Aristocratie et pouvoir, le rôle du château dans la France médiévale, Paris, Editions A. et J. Picard, 2000.


5- DURAND Philippe, Le château fort, Paris, Editions Jean-Paul Gisserot ,1999.


6- FIXOT Michel, Les fortifications de terre et les origines féodales dans le Cinglais, Caen, Centre de Recherches Archéologiques médiévales, 1968.


7- GONDOIN Stéphane-Wiliam, Les châteaux-forts, Paris, Chemine- ments, 2005.


8- JALMIN Daniel, Archéologie aérienne en Ile-de France, Paris, Editions Technipp,1970.


9- LEFRANC Guy,Vestiges de mottes féodales en Flandre intérieure, Atlas archéologique No 1, Lille,Editions l’APAR ,1976.

 

ثانيا: المصادر الخطية:

تمثل المادة التاريخية التي تتضمنها المصادر الخطية الجانب الأكبر من قاعدة المعلومات والمعطيات الضرورية لدراسة الفيودالية وما يتصل بها من مؤسسات، فضلا عن السياق التاريخي الذي نشأت وتطورت فيه. ويتألف هذا النوع من المصادر من مصنفات متنوعة ومتفاوتة القيمة. يمكن أن نذكر من بينها كتب الإخباريات (les Chroniques) وكتب الحوليات (les Annales) والكتب التي تروي سير القديسين والقديسات وتتحدث عن كراماتهم (les récitshagiographiques) ونصوص الظهائر والمراسيم والقرارات الصادرة عن الملوك (les Diplômes et les Edits royaux) والمتن الذي تكونه نصوص القوانين الجرمانية" الباربارية " (les Lois Barbares) ووثائق العقود ( les Formulaires).

 

وعموما يمكن استعراض نماذج من أهم هذه المصنفات كما يلي:

أولا: كتب الإخباريات والحوليات:

أ) الإخباريات:

1- Abbon de Fleury (mort en 1040), Siège de Paris par les Normands, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire de France depuis la formation de la monarchie française jusqu’au 13e siècle, Paris, éd. J. L. J. Brière, vol. I, 1824.

 

2- Flodoard de Reims (mort en 966), Chronique, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires…

 

3- Hugues de Fleury (mort après 1122), Chronique, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires…


4- Raoul Glaber (mort en 1047), Chronique, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires…

 

5- Richer de Reims (mort en 998), Histoires, texte édité , traduit et annoté par Jean Guadet, Paris, éd. Jules Renouard, 1845, 2 vol.

 

ب) الحوليات

1- Anonyme, Annales de Saint- Bertin et de Metz, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire de France depuis la formation de la monarchie jusqu’au 13e siècle, Paris, éd. J. L. J. Brière, vol. I, 1824.


2- Annales de Saint- Bertin et de Saint-Vaast suivies de fragments d’une chronique inédite, éd. Abbé César Auguste Dehaisnes, Paris, éd. Jules

Renouard, 1871.


3- Eginhard (mort en 840), Annales des rois Pépin, Charlemagne et Louis-le Débonnaire, éd. Et trad. François Guizot in Collection des mémoires…, vol. III, 1824.


ثانيا: سير القديسين والقديسات:

1- Bernard d’Angers (mort vers 1050) et continuateurs, Les miracles de Sainte-Foy de Conques (morte en 303), éd. , Auguste Bouillet, Paris, A. Picard, 1897.


2- Moine anonyme, Vie de Saint-Didier évéque de Cahors (630-655), éd. René Poupardin, Paris, A. Picard, 1900.


3- Saint Odon abbé de Cluny (mort en 942), Vie de Géraud d’Aurillac (mort en 909),


ثالثا: الظهائر والمراسيم الملكية:

1- Eugène de Rozière, Recueil général des formules usitées dans l’Empire des Francs du Ve au Xe siècle, Paris, éd. Auguste Durand, 1859-1871, 3 vol.


2- Recueil des actes de Louis II le Bègue, Louis III et Carloman II rois des Francs (877-884), éd. Félix Grat, Jacques de Font-Reaulx, Georges Tessier et Robert-Henri Bautier, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.


3- Recueil des actes de Robert I et Raoul rois de F rance (922-936), éd. Jean Dufour, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.


4- Recueil des actes de Lothaire et de Louis V rois de France (954-987), éd. Louis Halphen et Ferdinand Lot, Paris, Imprimerie Nationale, 1908.


5- Recueil des actes de Philippe Ier roi de France (1059-1108), éd. Maurice Prou, Paris, Klincksieck, 1908.


القسم الأول: الفيودالية بمعنى الفيف وروابط الفصالة


يجمع جل الباحثين الغربيين، عامة والفرنسيين بوجه خاص، بأن نشأة الفيودالية تعود إلى مطلع القرن الحادي عشر. ويربطون تلك النشأة بالتحولات السياسية التي بدأت تشهدها أقاليم غرب أوربا ابتداء من سنة 1000. وهي تحولات تمثلت في استفحال تدهور السلطات المركزية ونهاية الدور الذي كانت تقوم به المؤسسات العمومية في تدبير شأن القمطيات. مما أدى إلى حدوث فراغ سياسي وانعدام الأمن والاستقرار. فوجد أفراد الأرستقراطية أنفسهم مضطرين إلى إيجاد صيغ جديدة للتآزر فيما بينهم. فظهرت من جراء ذلك الفيودالية – أي الروابط المتمحورة حول الفيف – كصيغة من صيغ التآزر المنشود. وقد شارك في تفعيلها جميع أفراد الأرستقراطية. بحيث أن كبار الملاكين العقاريين كانوا يقدمون قطع أرض لمتوسطي الملاكين، وهؤلاء كانوا يقدمون بدورهم قطع ارض للفرسان. وكانت هذه العملية تباشر وفق طقوس خاصة وفي مراسيم احتفالية تتم فيها تسمية مانح قطعة الأرض سنيورا والمستفيد منها فصلا. يؤدي يمين الولاء للمانح ويتعهد بأداء خدمات والتزامات ذات صبغة عسكرية في المقام الأول. كانت تقتضيها الظرفية التي " نشأت " فيها الفيودالية. وإذ اتخذت تلك الروابط منحى عموديا، فقد اتخذت أيضا شكل علاقات أفقية. لأن الفصل كان بإمكانه أن يكون تابعا لأكثر من سنيور. وتفاديا لأي انزلاقات أو مشاكل قد تترتب عن تعدد علاقات الفصل الواحد، فقد تم إيجاد ضوابط ملزمة، هي جزء من الروابط التي كانت تنظم الروابط بين كل سنيور والفصل التابع له كما سنرى لاحقا. ولهذا الاعتبار ولغيره اتخذت الفيودالية طابع نظام متكامل (un régime).

 

و من هذا المنطلق يحق للمرء أن يتساءل كيف وصلت الفيودالية إلى هذا المستوى الأعلى من التطور والاكتمال خلال هذه الفترة التاريخية، أي فترة ما بعد سنة 1000؟ ألم تسبقها أشكال وصيغ من الروابط هيأت لها إمكانية التطور؟ خاصة إذا علمنا بأن الفرد الأوربي، سواء كان ينتمي لعامة المجتمع أو لخاصته، لم يكن يعيش منعزلا عن الأفراد الآخرين المنتمين لفئته أو لطبقته أو لطائفته. كما لم يكن منعزلا عن الأفراد المنتمين لغير فئته. ولا يختلف اثنان في القول بأن أفراد الأرستقراطية، الذين يهمنا أمرهم في هذا المقام، كانت تربط بينهم منذ عهود قديمة روابط اقتضتها المصالح المشتركة.

 

و نحن إذ نطرح هذه التساؤلات ونقدم هذه المعطيات، فللتذكير بأن عددا من المؤرخين، وخاصة منهم الفرنسيون، الذين سيأتي ذكر أسماء بعضهم لاحقا، ينكرون أن تكون الفيودالية - أي الروابط الفيودو - فصلية - امتدادا للروابط التي كانت قائمة بين أفراد الأرستقراطية قبل سنة 1000، أو شكلا متطورا لتلك الروابط. ودعواهم في ذلك هو أن الفيف بوصفه حجر الزاوية في تلك الروابط لم يظهر ولم يصبح محور الفيودالية إلا ابتداءا من مطلع القرن الحادي عشر. كما أن كلمة فيودوم نفسها التي اشتق منها مصطلح فيودالية لم يبدأ تداولها في النصوص إلا بعد سنة 1000.

 

وخلافا لهذا الاعتقاد، سنحاول في هذا القسم تأكيد فكرة مفادها أن الفيودالية تضرب بجذور عميقة في تاريخ غرب أوربا تعود على الأقل إلى القرن الثالث للميلاد. وقد تطورت لتصل إلى مرحلة النضج ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر. ونميز في مسيرة الفيودالية الطويلة التي امتدت من القرن الثالث حتى نهاية العصر الوسيط[5] بين ثلاثة مراحل كبرى: أولاها مرحلة علاقات الرفاقة (le Compagnonnage) التي كان يقيمها أفراد الأرستقراطية الجرمانية مع مجموعة شباب. كانوا يتخذونهم رفقاء وحراسا لهم في نفس الوقت. وتمثل هذه العلاقات في اعتقادنا أصول الفيودالية. وثانيها مرحلة علاقات الفصالة (le vasselage) التي أصبح يقيمها أفراد الأرستقراطية في الممالك التي تأسست بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية. وكانت هذه العلاقات قائمة بينهم وبين مجموعة أتباع (محاربين في المقام الأول). قامت في بادئ الأمر على عطاء غير الأرض يسمى بنفسيوم (beneficium)؛ ثم أصبحت الأرض أساس هذه العلاقات منذ منتصف القرن التاسع. وقد استغرقت الفترة الزمنية الممتدة من القرن السادس حتى نهاية القرن العاشر. أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة نضج الفيودالية. وخلالها أصبحت علاقات الفصالة التي سادت خلال المرحلة السابقة قائمة على الفيف. ولذلك نسمي العلاقات التي سادت خلال المرحلة الثالثة باسم الروابط الفيودو- فصلية تميزا لها عن علاقات الفصالة.

 

الفصل الأول

أصول الفيودالية: علاقات الرفاقة عند الجرمان

لا يمكن البحث في جوانب تاريخ أوربا خلال العصر الوسيط دون استحضار الجرمان، باعتبارهم إحدى أبرز القوى التي أثرت بشكل فعال في مجربات أحداث هذه الحقبة التاريخية. وأثروا تبعا لذلك في نظم وحضارة الحقبة المذكورة. ويكفي أن نذكر مجددا بأنهم هم الذين أجهزوا على الإمبراطورية الرومانية سنة 476. فساهموا بذلك في إعادة تشكيل خارطة أوربا السياسية. وتجاوز فعلهم حدود البنيات السياسية ليشمل البنيات الاقتصادية والاجتماعية وعناصر السكان. ولا زالت مظاهر تأثيرهم في تاريخ وحضارة غرب أوربا سارية المفعول إلى يومنا هذا. بل تجاوز تأثيرهم حدود القارة الأوربية ليشمل مناطق من إفريقيا بعد أن نجحت مجموعة قبلية من الجرمان، متمثلة في الو ندال، من إقامة مملكة ببعض أقاليم شمال إفريقيا.

 

و قد بات من المعروف اليوم بأن الشعوب الجرمانية تنحدر من أصول هندو- أوربية. كانت تقيم في المناطق المحيطة ببحر البلطيق؛ وبالتحديد في الأقاليم التي تتشكل منها اليوم كل من السويد والدانمارك والنرويج والأقاليم المجاورة لها. وامتد مجال تواجدها في اتجاه بحر الشمال ومصبي كل من نهر الألب ونهر الويزر. ثم شرعت بعد سنة 900 قبل ميلاد المسيح في القيام بحركة نزوح نحو الجنوب حتى أصبحت مستقرة حوالي القرن الثالث للميلاد في الأقاليم الواقعة شمال جبال الألب ونهر الدانوب وشرق نهر الراين.

 

يعد مصنفا سايوس يوليوس قيصر( Caius Julius Caesar) (100 ق. م. – 44 ق. م.) وبوبليوس كورنيليوس تاسيتوس (Publius Cornelius Tacitus) (55 ق. م. – 120 م.) أهم المصادر الخطية التي يعتمدها الباحثون في استقاء معلومات عن نمط حياة وتنظيمات الشعوب الجرمانية. فقد كان الأول قائدا عسكريا مارس السلطة واستكمل مشوار حياته المهنية كمدون للأحداث. خاض سلسلة حروب بين سنتي 58 ق. م. و51 ق. م. لإخضاع غاليا [6](Gallia) أو غالة (la Gaule). فوجد نفسه وجها لوجه أمام الجرمان الذين كانوا يشنون غارات على غاليا بين الفينة والأخرى. فخاض ضدهم عدة وقائع. اضطر في إحداها إلى عبور نهر الراين لاستئصال شأفتهم في مواطنهم. وقد دون مذكراته عن تلك الحروب في مؤلف[7] نشره سنة 51 ق. م. يتضمن مادة طيبة عن السلتيين (les Celtes) أو الغاليين، سكان غاليا. كما يتضمن معلومات قيمة – وإن كانت ضئيلة – عن تنظيمات الجرمان العسكرية. بينما كان الثاني مؤرخا محترفا تجول في بعض مواطن القبائل الجرمانية. ودون هو الآخر مشاهداته في مؤلف نشره سنة 98 م. [8] يحفل بمعلومات غزيرة حولها تعد تكملة لما ورد في مذكرات يوليوس قيصر.

 

يتضح من المؤلفين بأن الشعوب الجرمانية كانت تتألف من عدة قبائل. يمكن التميز فيها بين ثلاث مجموعات كبرى تبعا لمجال استقرارها وهي: الجرمان الغربيون، ويتألفون من قبائل الألمان والسويق والماركومان والفرنجة. والجرمان الشرقيون، ويتألفون من قبائل الو ندال والقوط والبورغنديين واللا نڭوبارديين. وأخيرا الجرمان الشماليون، ويتألفون من جرمان جبال الألب وجرمان أقاليم بحر الشمال وجرمان العالم الاسكندنافي.

 

كانت كل قبيلة، من مجموع القبائل، تتكون بدورها من مجموعة عشائر تمثل فيها العائلة(بالمعنى الواسع للكلمة) الخلية الأساسية. وقد كانت تعيش على الزراعة وتربية المواشي والقنص والصيد والحرب التي كانت من أبرز اهتمامات أفرادها من الذكور[9]. فقد كان محاربو إحدى القبائل يشنون غارات على بعض المراكز الواقعة على الحدود مع الإمبراطورية الرومانية. وأحيانا كان مجموعة محاربين من إحدى القبائل يشنون غارات على قبيلة أخرى. فتقع بين أيديهم غنائم، وعدد من الأسرى يبيعونهم كعبيد في الأسواق الرومانية الواقعة بمحاذاة نهري الراين والدانوب. ويحصلون على نقود يصرفونها في شراء سلع ترفيهية ومواد استهلاكية من تلك الأسواق.

 

و كان من الطبيعي أن تتزايد حاجياتهم باستمرار. فترتبت عن ذلك زيادة في غارات القبائل على بعضها البعض وارتفاع في حدة الضغط الذي كانت تمارسه بعض تلك القبائل على أطراف الإمبراطورية الرومانية. فدفع هذا الضغط الأباطرة وكبار الموظفين الرومان إلى اللجوء إلى سياسة تقديم الهدايا العينية والنقدية لرؤساء تلك القبائل وأعيانها وكبار محاربيها[10] بهدف استقطابهم وصرفهم عن شن غارات على الأقاليم الحدودية. وبذلك أخذت تتراكم في حوزة هؤلاء الرؤساء والأعيان وكبار المحاربين ثروات عينية ونقدية. أضافوها إلى ما كانوا يحصلون عليه من هدايا وأعطيات من لدن اسر القبائل التي كانوا ينتمون إليها بحكم مكانتهم السياسية والاجتماعية أو العسكرية. بوصف بعضهم رؤساء قبائل، والبعض الآخر أعضاء في مجالس القدماء (أو الشيوخ) ( les conseils des anciens) أو محاربون كبار. فأصبحوا متميزين عن باقي أفراد القبائل التي ينتمون إليها. وشكلوا طبقة أرستقراطية وراثية. كما كونوا مجلسا دائما (un conseil permanent) أصبح يمارس السلطة في القبيلة. واستطاع بعض أعضاء هذا المجلس الارتقاء إلى مصاف الملوك. نعرف من بينهم اليوم أسماء أولائك الذين قادوا الجرمان إلى اقتحام أقاليم غرب أوربا وشمال إفريقيا أمثال شلدريك الأول (Childéric) ملك الفرنجة وألريك (Alaric) ملك القوط الغربيين وجنسريك ( Genséric) ملك الو ندال.

 

و كان من تبعات تنامي ثروة أفراد الطبقة الأرستقراطية وتميزهم عن سائر الأفراد، أن لجأ عدد منهم الر استقطاب مجموعات من الشباب أصبحوا يشكلون حاشياتهم. فكانوا يحضرون اجتماعاتهم ومجالسهم. واتخذوهم في نفس الوقت حرسا خاصا لهم. يسهرون على حمايتهم وحماية ممتلكاتهم ومرافقتهم في تنقلاتهم. وقد كان كل ارستقراطي يحرص على انتقاء الشباب المكونين لحاشيته وحرسه. فيشترط أن تكون سمعة الواحد منهم طيبة. وأن يكون على دراية بفنون الحرب والقتال.

 

و قد تحدث تاسيتوس عن هذه المجموعات من الشباب باسم "الرفقاء" ( les compagnons) قائلا في نص تقتضي الضرورة إثباته رغم طوله:"(...) إن إحدى سمات النبالة هي أن يحضى بعض الأفراد برضى بعض الرؤساء. وهي رغبة بعض الأفراد من الشباب أيضا. إذ يسعون إلى الانضمام إلى بعض الأقوياء. وقد كان يتم التعبيرعن هذه الرغبة منذ قديم. وإن الفرد لا يخجل حين يجد نفسه من بين الرفقاء (...) بل إن الرفقاء يتنافسون ليكون الواحد منهم أكثر قربا من الرئيس. كما يتنافس الرؤساء ليكون للواحد منهم أكبر عدد من الرفقاء. انه المجد، إنها القوة أن يكون الواحد محاطا دائما بمجموعة كبيرة من أفراد شباب يمثلون الصفوة. فهم زينة أوقات السلم وحرس أوقات الحرب(...)إن الحرص عليهم شديد، ومن أجله تقدم لهم الأعطيات. وغالبا ما يكفي اسمهم لتحديد نتيجة الحروب... "[11]. ويقول في موضع آخر "(...) إن الرؤساء يحاربون من أجل النصر، أما الرفقاء فيحاربون من أجل رئيسهم". [12] وينتصرون له ظالما أو مظلوما.

 

و مما لا شك فيه، أن النصوص التي يتضمنها مصنف تاسيتوس تأكد المنحى الحربي "العسكري" الذي أخذته علاقات الرفاقة بين الشباب المحاربين والملوك وأعيان ورؤساء القبائل. وينسجم هذا التطور، فيما يبدو، مع طبائع القبائل الجرمانية المعروفة بميلها إلى الحرب والقتال منذ أزمنة غابرة كما يوضح ذلك يوليوس قيصر في مذكراته[13]. واستمرت كذلك زمن تاسيتوس؛ الذي يذكر بأن الواحد من أفراد تلك القبائل لم يكن يباشر أمرا خاصا أو عاما إلا وهو يحمل سلاحه[14]. ومهما يكن من أمر، فإن تاسيتوس الذي خص مسألة الرفاقة بحديث مسهب في مصنفه لا يفصح عما إذا كانت تقدم للرفقاء الشباب قطع أرض أم لا؟ والأكيد أن كل أرستقراطي كان يسهر على إيواء أفراد المجموعة التابعة له.

 

ويقوم بتلبية حاجياتهم من ملبس ومأكل ومشرب. ويقدم لكل واحد منهم فرسا وقطع السلاح التي تتطلبها مهامه كمحارب. بالإضافة إلى بعض الهدايا والتحف أو أعداد من العبيد الذين يتم الحصول عليهم بعد كل غارة محلية على إحدى القبائل أوغارة على أحد المواقع الرومانية. ومن هذا المنطلق نعتقد أنهم لم يكونوا يستلمون قطعا أرضية. لأنهم لم يكونوا في حاجة إلى مصدر عيش[15]، و لأن مهامهم كانت تقتضي بأن يظلوا بالقرب من سيدهم.

 

ويبدو أن هذه الروابط التي تعود إلى ما قبل القرن الثالث استمرت في الوجود والتطور خلال القرنين الرابع والخامس رغم أنه من الصعب تتبع مسارها خلال هذه الفترة نظرا للغموض والاضطراب الذي ميزها. فقد تردت الأوضاع في الإمبراطورية الرومانية بسبب الفوضى السياسية والعسكرية والمصاعب الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية. وزادت من تفاقم تلك الأوضاع عمليات الغزو الجماعي الذي قامت به القبائل الجرمانية. ومن المعطيات الدالة على استمرارها وتطورها هو أن بعض الكلمات التي تؤلف اليوم ما يسمى بقاموس الفصالة، مثل كلمة ڤاسو  (vasso) وكلمة ڤاسوس (vassus)، كانت مستعملة في اللغة اللاتينية المتداولة من قبل العامة قبل القرن السادس. وستدخل ضمن لغة المتن الذي تتألف منه القوانين " الباربارية " (les lois barbares) التي أصبحت تنظم المعاملات في الممالك الجرمانية بعد القرن السادس، و خاصة المجموعة المعروفة بالقانون السالي ([16]la loi Salique) والمجموعة المعروفة بالقانون الضفي ([17]la loi Ripuaire). ففي هذه القوانين أصبحت كل من كلمة ڤاسو وكلمة ڤاسوس تطلق على العبيد وكذلك على مجموع الأفراد المرتبطين عن طريق الولاء بأفراد آخرين[18]، أي أتباع. ويتضح من خلال القوانين المذكورة بأن هؤلاء الأتباع كانوا أفرادا متواضعين من الناحية الاجتماعية، ولكنهم كانوا، خلافا للعبيد، أحرارا من حيث الوضع القانوني. بدليل أن القانونان السالي والضفي يوضحان بأنهم كانوا يحضرون الاجتماعات العمومية (les plaids). ومن المعلوم أن حضور الاجتماعات خلال فترة سيادة الممالك الجرمانية الناشئة في أقاليم غرب أوربا، كان مقتصرا على الأفراد الأحرار، كيفما كان موقعهم في علاقة التبعية.

 

تسمح المعطيات التي أوردناها بتأكيد وجود روابط تبعية قبل القرن الثالث للميلاد. نشأت في أطراف أقاليم غرب أوربا. ثم انتقلت في مرحلة لاحقة، أي بعد سنة 476، إلى قلبها. فهل معنى ذلك أن الفيودالية ذات أصول جرمانية؟ هذا ما نميل إليه رغم أن قلة من الباحثين هم وحدهم الذين أثاروا هذه المسألة. ومن بينهم الفرنسي فرنسوا ﯕيزو (Francois Guizot) الذي يؤكد في كتاب صدر له سنة 1830 بأنه ليس من المعقول أن تصل الفيودالية إلى مرحلة الاكتمال دون أن تكون لها مقدمات[19]. وإذ تفادى جعل تلك المقدمات ذات أصول جرمانية أو رومانية، فقد دعا إلى رصدها من خلال البحث في ثلاثة عناصر:

أولاها: طبيعة الملكية الترابية.

وثانيها: انصهار السيادة مع ملكية الأرض.

وثالثها: منظومة المؤسسات التشريعية والقانونية والعسكرية[20].

 

أما الأنجليزي سير فرنسيس بالغريب (Francis Palgrave) فقد كان أكثر وضوحا حين ذهب إلى التأكيد بأن بعض عناصر الفيودالية ذات أصول جرمانية. حملها الجرمان معهم من أدغال جرمانيا.

 

ومن بين تلك العناصر الولاء (l’hommage) الذي يتم التعبير عنه عمليا بانحناء شخص أمام شخص آخر ووقوفه على الركبتين وقولا بترديده لعبارة " أريد أن أصبح رجلك "[21]. أما قطب المدرسة التاريخية الفرنسية المعاصرة مارك بلوك فقد نعت مسألة الأصول بكونها " معضلة " يصعب الحسم فيها.

 

واكتفى في موضوعها ببضعة أسطر. أبان فيها عن ميله إلى اعتبار أصول الفيودالية جرمانية- رومانية في نفس الوقت. امتزجت مع مرور الزمن. [22] وعلى غراره ذهب روبير بوتريش (Robert Boutruche) إلى القول بثنائية الأصول حيت أكد بأن " الفصالة "[23] نشأت من جراء قيام أفراد الأرستقراطية في مختلف الممالك الجرمانية الناشئة بإحياء علاقات الرفاقة (الجرمانيةوعلاقات الإذعان والتضرع (la recommandation) التي كانت منتشرة في ربوع الإمبراطورية الرومانية خلال المرحلة المتأخرة من عمرها[24].

 

وتعقيبا على ما ذهب إليه بوتريش، نوضح بأن علاقات الإذعان والتضرع قامت بين بعض الأفراد الأثرياء من الأرستقراطية الرومانية وكبار الموظفين. وأخذت طابع الزبونية وتبادل المصالح. بينما كان أفراد آخرين من متوسطي الحال أو من الفقراء يضعون أنفسهم رهن إشارة أولائك الأثرياء وكبار الموظفين لخدمتهم والانخراط في زمرتهم نظير الحصول منهم على ما يسد رمقهم. ولكنها لم تأخذ في كل الأحوال ذلك المنحى الحربي الذي أخذته علاقات الرفاقة. لأن الإمبراطورية الرومانية، حتى تاريخ سقوطها، ظلت " دولة مؤسسات " كانت فيها أمور حفظ الأمن الداخلي وخوض الحروب موكولة لمؤسسات وأجهزة رسمية، أبرزها الجيش النظامي. وبالتالي، فان أفراد الأرستقراطية الرومانية لم يكونوا في حاجة إلى تكوين " مليشيات عسكرية " مسخرة لحمايتهم. ولكن لا بأس من التنبيه في هذا المقام بأن العادة جرت في جميع ولايات الإمبراطورية بأن يحيط كل واحد من أفراد الأرستقراطية نفسه بحاشية من الأتباع والأصدقاء و"الزبائن" ومن ضمنهم بعض أفراد الحرس الخاص. ولا شك أن هذا الإجراء الأخير أخذ في الاستشراء بموازاة تفاقم الأوضاع الأمنية خلال المراحل المتأخرة من عمر الإمبراطورية.

 

ومهما يكن من أمر، فان روابط التبعية لم تكن قائمة على الفيف خلال هذه المرحلة الأولى من مسيرة الفيودالية حسب الإفادات التي تقدمها النصوص المتوفرة. كما أن تلك الروابط كانت تتم في نطاق محدود نسبيا، على اعتبارأن المعنيين بها كانوا نفرا من علية القوم ومجموعة شباب يسعون لتحسين أوضاعهم الاجتماعية. ويطمحون لتحقيق المجد من خلال استغلال شجاعتهم ومقدراتهم القتالية.

 

ولكن يجب التذكير في هذا المقام بمقولة " أول الغيث قطرة ". فهذه الروابط كانت في بداياتها. وبما أن حالة عدم استقرار الأوضاع الأمنية استمرت بعد سنة 476 على امتداد عدة قرون، فقد استدعى الأمر من أفراد الأرستقراطية البحث المتواصل عن سند حرصا على ذواتهم وعلى ممتلكاتهم. وكان من تبعات ذلك أن اتسع نطاق تلك الروابط كما سنرى لاحقا. ولا بأس من التذكير بأن علاقات التضرع والإذعان استمرت هي الأخرى في خط موازي مع علاقات الرفاقة. فالأوضاع السياسية المتردية والظرفية الاقتصادية الصعبة ظلت تدعو الأغنياء إلى البحث عن سند والفقراء إلى البحث عمن يحميهم ويلبي حاجياتهم[25].

 

الفصل الثاني

من علاقات الرفاقة إلى علاقات الفصالة

تميزت الممالك الجرمانية بكونها لم تكن دول مؤسسات قوية ومتطورة كما كان الأمر خلال سيادة الإمبراطورية الرومانية. لأن السلطة فيها ظلت منذ عهد الملوك الأوائل، وعلى امتداد حوالي ثلاثة قرون[26] تختزل في شخص الملك الذي كان قائد حرب في المقام الأول. يعتبر، طبقا لتقليد جرى العمل به منذ عهود قديمة، الكيان الذي يخضع لسلطته بمثابة غنيمة تمت حيازتها بعد النصر. يتصرف فيها كيفما شاء، ثم يقسمها على أبنائه قبيل وفاته. ولذلك فان " الرجالات " الذين كانوا يساعدون الملك في إدارة وتدبير " الغنيمة " كانوا بمثابة خدام أكثر من كونهم موظفي دولة. لم يتعد فعلهم وتأثيرهم حدود دائرة ضيقة. ومن ثم، ظلت الأقاليم البعيدة عن القصر، الذي يمثل المركز، بمنأى عن تأثير الملك وخدامه. وهذا ما يؤكده روبيرفوصيي ( Robert Fossier) حين يذكر بأن عدم فعالية المؤسسات والأجهزة في مملكة الفرنجة بغالة، كما في مملكة القوط الغربيين باسبانيا أو في مملكة اللومبارديين بايطاليا دفع بعض كبار الملاكين العقاريين، بمن فيهم كبار رجال الدين، إلى الاستعانة بعدد من فرق العبيد الذين كانوا في ملكيتهم وبمجموعات من الشباب. إذ كانوا يسهرون على إيوائهم وإعالتهم وتزويدهم بالسلاح نظير القيام بحراسة ممتلكاتهم[27]. وقد كانت مهام هؤلاء المسلحين تتجاوز حدود الحراسة إلى المشاركة في أي اشتباك قد يقع بين المالك العقاري الأرستقراطي وأحد جيرانه. وكذلك اﻹنخراط، تحت إمرة سيدهم، في الحروب الدفاعية أو الهجومية التي تخوضها المملكة. ويكتسي هذا المعطى أهمية كبرى نظرا لما سيترتب عنه مستقبلا من نتائج فيما يخص علاقة " الدولة " بظاهرة الفيودالية، لذلك سنتوقف عنده قليلا.

 

فقد كانت الحروب من الثوابت التي رافقت تاريخ الممالك الجرمانية منذ مراحل تأسيسها. حتى إن إحدى الباحثات ذهبت إلى القول بأن فترات السلم خلال مرحلة سيادة الممالك الجرمانية كانت بمثابة الفاصل بين مشهدين في عرض مسرحي. ومع ذلك، فان ذلك الفاصل لم يكن مرغوبا فيه[28].

 

ويبدو أن هذا القول ينطبق أيضا على الفترات التاريخية التي تلت مرحلة سيادة الممالك الجرمانية حسب خلاصة انتهت إليها باحثة أخرى[29].ودون استعراض كرونولوجية الحروب التي خاضتها هاته المملكة أو تلك، يمكن التمييز فيها بين ثلاثة أشكال: حروب توسعية، وحروب دفاعية، وحروب ناتجة عن نزاع بين أفراد إحدى الأسر المالكة أو بين الأسرة الحاكمة في مملكة من الممالك وبعض العناصر المتمردة على السلطة. باﻹضافة إلى شكل آخر أشرنا إليه سابقا، وإن لم يكن يعني القائمين على الأمرمباشرة، تمثل في الحروب الخاصة (les guerres privées) بين بعض الأسر الأرستقراطية داخل المملكة الواحدة. وفي جميع الأحوال كانت وقائع تلك الحروب كثيرة. وكانت تتطلب التوفر على موارد بشرية هائلة ومتجددة باستمرار؛ وهو الأمر الذي لم يكن من السهولة بمكان لاعتبارات ديموغرافية[30] واقتصادية[31]. ومن ثمة، تتضح صحة ما ذهب إليه مارك بلوك منذ ثلاثينيات القرن الماضي حين أكد بأن التحدي الأكبرالذي كان على القائمين على الأمر رفعه لم يكن متصلا بمسألة تدبير شأن ممالكهم أوقات السلم، بقدر ما كان يتمثل في كيفية الحصول على العناصر البشرية اللازمة لخوض الحروب[32]. لذلك كانوا يستنفرون عند كل وقعة كل الذكور الأحرار القادرين على حمل السلاح. كما كانوا يستعينون بخدمات أفراد الأرستقراطية الذين كانوا يعززون " جيوش الملوك " بما كان تحت إمرتهم من عناصر مسلحة. وسيزداد الأمر حدة في الممالك التي أصبحت محاذية لمراكز الوجود الإسلامي في أوربا بعد أن نجح المسلمون في فتح الأندلس سنة 711 وشرعوا في عبور جبال البرانس. وأهم الممالك التي نعنيها في هذا المقام مملكة غاليا (أو غالة) التي كان يحكمها شارل[33] محافظ قصر أوسترازيا إبان فترة أوج الفتوحات الإسلامية في أوربا بعد سنة 711. فقد شرع في استنفار جميع من له قدرة على حمل السلاح. بل فكر جديا في استحداث فرق من المحاربين تمتطي صهوات الخيول بعد أن كان معظم محاربي المملكة من المشاة[34]؛ في حين كان المسلمون يعتمدون غي حروبهم على الفرسان إلى جانب المشاة. وفي هذا الصدد، يفيدنا أحد إخباريي القرن الثامن[35]، بأن شارل نجح بعد سنة 716 في تكوين فرق من الفرسان انضمت إلى صفوف خاصة محاربيه( حرسه الخاص) الذين كانوا مرتبطين بقائدهم شارل بعلاقات تبعية وولاء. وكان المحاربون العاملون تحت إمرة أفراد الأرستقراطية يعززون هذا الجيش؛ بالإضافة إلى كل من له قدرة على حمل السلاح. وقد حقق انتصارات كاسحة في جميع الوقائع التي خاضها ضد السكسونيين( les Saxons) والألمن (les Alamans) والفريزيين (les Frisons). وتمكن من إيقاف المد الإسلامي في وقعة بواتيي (Poitiers) (بلاط الشهداء) سنة 732. ثم اتجه نحو الجنوب حيث استرد أقاليم أكيتانيا وبورغونديا وبروﭬانسيا. واستكمل بذلك وحدة غالة.

 

وأهم ما في الأمر، هو أن القائمين على الأمر في غالة بدوا، منذ عهد شارل مارتل، أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بمدى ثقل الأرستقراطية على المستويين العسكري والسياسي، فارتأوا الاستمرار في تسخيرها لتحقيق مشاريعهم. ولذلك أخذوا يغضون الطرف عن إجراءات أفراد الأرستقراطية الذين ظلوا يدينون بالولاء للقائمين على الأمر ولممثليهم في مختلف القومطيات؛ ولكنهم لم ينفكوا في نفس الوقت يعملون على توسيع نطاق شبكة علاقات التبعية التي سبق أن أرسى قواعدها آباؤهم وأجدادهم منذ أمد بعيد. وكان من نتائج سياسة غض الطرف أن أصبحت لإجراءات أفراد الأرستقراطية شيئا فشيئا تداعيات في دائرة كل قرية تقع بها ممتلكات هذا الأرستقراطي أو ذاك. تجلت تلك التداعيات في كون عموم الفلاحين المقيمين في تلك القرى أصبحوا يخضعون أكثر للقوة التي يلمسون وقعها وليس لتلك التي يشعرون بصداها. وهذا أمر طبيعي إذا علمنا بأن القوة اقترنت في جميع المجتمعات ومنذ فجر التاريخ بالثروة. فالذي يملك الثروة يملك القوة. فيتقرب له من هم أنداده أو الأقل منه ثروة ويذعن له المستضعفون[36].

 

ومن ثم، فان تلك الإجراءات ذات الطابع الحربي، و ما استتبعها من علائق، أخذت تتبلور وتترسخ أكثر فأكثر في ربوع قرى غرب أوربا على حساب علاقات التضرع والإذعان (la recommandation) التي ضاق نطاق استعمالها دون أن تختفي بصورة نهائية، طالما أن نسبة كبيرة من أفراد مجتمع غرب أوربا كانت تعيش في حالة إملاق. ولذلك، فان عددا منهم ظلوا يضعون أنفسهم رهن إشارة متوسطي الحال والأغنياء لخدمتهم، أو فقط لاستجدائهم والحصول منهم على ما يسد رمق أفراد أسرهم.

 

ويؤكد روبير بوتريش غلبة العلاقات ذات البعد الحربي (العسكري)، مستدركا في ذات الوقت موقفه السابق بخصوص ثنائية أصل الفيودالية في قوله:" المحصلة النهائية هي أن الفصالة، في معناها الحقيقي، نشأت في أوساط المحاربين وفق مقتضيات ستتضح وستتبلور أكثر مستقبلا. وستفضي في ذات الوقت إلى إرساء التزامات أكثر تخصصا ستلقي بضلالها على علاقات التضرع والإذعان"[37].

 

ويبدو أن موعد أجرأة مقتضيات الفصالة لم يتأخر كثيرا. فالملوك الجرمان الأوائل في غالة وفي الممالك الأخرى كانوا يغضون الطرف عن مختلف أشكال علاقات التبعية. ولكن ملوك ما بعد العقد الثالث من القرن الثامن أصبحوا منخرطين في تفعيلها. ويعني هذا الانخراط في أعين بعض الباحثين[38] نجاح الأرستقراطية في الهيمنة على " المؤسسة الملكية " في تلك الممالك.

 

و تمثل سنة 757 لحظة حاسمة في هذا الاتجاه. وقعت أحداث تلك اللحظة في غالة أكبر الممالك الجرمانية و"مهد الفيودالية ". وأورد اينهارد أو ايجنهارد ([39]Eginhard) تفاصيلها في " حولياته " ضمن أحداث سنة 757 كما يلي:" كان الملك ببين ([40]Pépin) يرأس جمعا ببلدة كومين (Commynes ou Compiègne) في أحد أيام تلك السنة[ فقدم تسلون (Tassilon) دوق (Duc) ﺑﭬاريا. ومثل بين يدي الملك وقدم له الولاء عن طريق لف اليدين. ثم وضع يده على الكتاب المقدس وأقسم اليمين بأن يصبح تابعا للملك وابنيه السيد شارل والسيد كارلومان. وهذا ما يتوجب أن يقوم به بتفان وإخلاص كل فصل لسادته. وقام أعيان ﺑﭬاريا الذين قدموا مع تسلون بدورهم بتأدية فروض الطاعة والولاء "[41].

 

يكتسي النص من دون شك أهمية قصوى لكونه يتضمن معطيات ذات قيمة بالغة في تاريخ الفيودالية. ولذلك يستوجب إبداء الملاحظتين الآتيتين:

أولا: يسجل النص نقلة نوعية في طبيعة علاقات التبعية، وخاصة فيما يتعلق بأطرافها. فقد كانت علاقات الرفاقة تربط منذ ما قبل القرن الثالث بين مجموعة محاربين وأحد أعيان أو رؤساء القبائل الجرمانية أو أحد كبار محاربيها. واستمرت حتى سنة 476 تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية كما رأينا من قبل. ثم أصبحت تربط بين أحد أفراد الشريحة العليا في الأرستقراطية العقارية ومجموعة محاربين حتى سنة 757. وسيستمر هذا النوع من الروابط وفق مقتضيات جديدة. ولكن سنة 757 تسجل بداية دخول أطراف جديدة سامية في شبكة علاقات التبعية. ونعني بهذه الأطراف الملوك وكبار رجالات الممالك من أقماط ودوقات وغيرهم. كان لكل واحد منهم أتباع. ولكن بعد هذا التاريخ أصبح بعضهم تابعا للبعض الآخر. وكلهم أتباع للملك أو لمحافظي القصور الذين أصبحوا ملوكا دون أن تتم تسميتهم كذلك.

 

ثانيا: يقدم النص صورة عامة عن المراسيم التي أخذت تتم فيها علاقات الفصالة، والتي ستتم فيها الروابط الفيودو- فصلية بعد ذلك. كما يتحدث عن أهم المقومات التي سيرتكز عليها هذا النوع من الروابط خلال المرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية. وتتمثل هذه المقومات في الولاء الذي يقدمه الفصل، وعملية وضع يديه ملفوفتين بين يدي السنيور(la dation)، وعملية أداء القسم باستعمال أشياء أو بقايا مقدسة (les Reliques).

 

وانطلاقا من هاتين الملاحظتين تبدو التطورات التي يتحدث عنها النص مفاجئة ومثيرة للدهشة. إذ لا يعقل أن تأخذ علاقات الفصالة هذا الطابع الرسمي؛ وتتم مباشرتها في هذه الأجواء بدءا من سنة 757 دون مقدمات.

 

وتوضيحا للأمر نذكر بمعطى أوردناه في مقدمة هذا المبحث وهو أن " رجالات الدولة " في الممالك الجرمانية كانوا بمثابة خدام للملوك. عدد منهم كانوا خداما " مدنيين " يؤلفون حاشية الملك وخاصة أقربائه. وعدد آخر كانوا خداما " عسكريين ". يتشكلون من الحرس ويمثلون صفوة حملة السيف. يقيم هؤلاء الحراس بجانب الملك. يسهرون على حمايته أوقات السلم ويخوضون إلى جانبه الوقائع أيام الحرب. يتمتعون بحظوة خاصة لدى الملك. تتضح إذا علمنا بأن أحد بنود القانون السالي المنظم للعلاقات والمعاملات في مملكة غالة الميروﭬنجية كان يقضي بأن يدفع قاتل أحد هؤلاء الحراس ذعيرة يفوق مبلغها ثلاث مرات مبلغ الذعيرة التي يدفعها الجاني إذا تعلق الأمر بمقتل " مواطن "؛حتى وإن كان هذا " المواطن " إفرنجيا (un franc) أو أحد البرابرة ([42]un barbare).

 

والجدير بالذكر أن هؤلاء الحراس، الذين كانوا صفوة حملة السيف كما ذكرنا آنفا، كانوا يمثلون أيضا نخبة خدام الملك. كانت تربطهم به علاقات تبعية تقوم على الولاء ( la fidélité) والقسم الذي يؤديه الواحد منهم بعد أن يضع يديه ملفوفتين بين يدي الملك. ويجمع عدد من الباحثين[43] بأن هذه العلاقات، بمختلف مقوماتها والطقوس التي كانت ترافقها، ورثها ملوك القرنين السادس والسابع عن الأجداد والأسلاف[44]. ونفس علاقات التبعية هاته أصبحت تربط بين الملوك وخدامهم " المدنيين " كمحافظي القصور والأقماط والدوقات وكبار رجال الدين وكبار الملاكين العقاريين بعد تأسيس الممالك الجرمانية. كانت تقوم هي الأخرى على الولاء والقسم، ووضع الخادم (أي التابع) يديه ملفوفتين بين يدي الملك. والجديد في الطقوس المصاحبة لهذه العلاقات هو أن القسم أصبح يعتمد في أدائه على الكتاب المقدس الذي يضع التابع يده عليه. وقد أدرج كعنصر جديد بعد أن تبنت الممالك الجرمانية المسيحية كديانة رسمية[45]. وسيتواصل العمل بهذه الطقوس خلال القرون الموالية. وسينضاف عنصر جديد إلى العناصر المكونة لها بعد مطلع القرن الحادي عشر وهو عملية تقديم السنيور حفنة تراب أو غصن شجرة صغير مورق للفصل دليلا على تقديم الفيف.

 

و نذكر بأن غياب هذا العنصر بالنسبة للباحثين الذين ينكرون وجود فيودالية قبل مطلع القرن الحادي عشر، يعني غياب الفيف كعنصرمادي في علاقات التبعية وغيابه كمصطلح في نصوص ما قبل سنة 1000. ونحن إذ نقر بدورنا بما يذهبون إليه، نؤكد في المقابل بأن الأرض كانت حاضرة في علاقات الفصالة ولو على نطاق ضيق نسبيا. كيف ذلك؟.


لقد كانت علاقات الرفاقة تقوم على عطاء كان يقدمه السيد للرفيق كما ذكرنا فيما مضى. تمثل في المأوى والمأكل والمشرب والسلاح والحصان. وظل نفس العطاء يمثل محور علاقات الفصالة خلال القرنين السادس والسابع والنصف الأول من القرن الثامن. ثم حدث أن دخل القائمون على الأمر وممثلو السلطة " المركزية " كطرف في علاقات الفصالة، فضلا عن أطرافها القدامى ككبار رجال الدين وكبار الملاكين العقاريين. فأصبح بعضهم " سنايرة " (des seigneurs) وبعضهم أفصالا. حينها لم يعد من المعقول أن يظل العطاء على حاله. بمعنى أنه كان يجب أن يرقى إلى مستوى هذه الأطراف السامية. فكيف أصبحت طبيعته؟.


كان حريا بالإخباري الذي نقل إلينا خبر اجتماع ببين القصير سنة 757 ومقدم دوق ﺒﭬاريا إلى بلدة كومين وتقديمه لفروض التبعية والولاء للملك أن يخبرنا عن نوعية العطاء الذي قدمه الملك السنيور لفصله الدوق، ولكنه لم يفعل. ويبدو أن ثمة ما يبرر عدم بث الإخباري في الأمر، لأن تسلون كان في غنى عن ذلك العطاء الذي يقدم لمتوسطي وبسطاء الأفصال. كما لم يكن ينتظرأن تمنح له قطعة أرض وهو الدوق الذي يتصرف في أرض شاسعة المساحة؛ وهي دوقية ﺑﭬاريا التي كان يحكمها. وربما كان العطاء هو الدوقية نفسها التي أقر ببين تسلون على حكمها.

 

وعلى كل، فان كتب الإخباريات والحوليات تفيدنا بأن العطاء الذي كان معروفا منذ قرون ظل معمولا به في أوساط الفئات المتوسطة والدنيا المعنية بعلاقات الفصالة. ولكن الأمر اختلف بالنسبة لخاصة المجتمع. فقد شرع شارل مارتل قبيل سنة 732 في تقديم قطع أرض تقع ضمن ممتلكات الأسرة الحاكمة لنفر من أتباعه من كبار أفراد الأرستقراطية عرفانا بما أسدوه من عون ومساندة. كما وزع قطعا أخرى على كبار أتباعه من حملة السيف. وبما أن الوقائع كانت كثيرة، وأعداد المحاربين كانت في تزايد مستمر، لم يكن ممكنا أن يستمر في تقديم قطع أرض من ممتلكاته أو من ممتلكات المملكة، لذلك لجأ إلى مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت في حوزة الكنائس. وكان من الطبيعي أن يثير هذا الإجراء حفيظة تلك المؤسسات. وفي ذلك خسارة لشارل مارتل الذي كان في حاجة إلى سندها؛ خاصة وأنه كان لازال محفظ قصر يحكم " نيابة " عن ملك يحضى بالشرعية. واستدراكا للموقف دعي إلى إيجاد مخرج للمشكلة. فعقدت ثلاث مجامع دينية بين سنتي 742 و744. انتهت إلى الإقرار بأن الأراضي التي صودرت من الكنائس ووزعت على أفصال (محاربين أو غير محاربين) تظل في ملكية تلك المؤسسات. ولا حق للأفصال فيها إلا حق الاستغلال الذي ينتقل إلى ورثة الفصل بعد وفاة هذا الأخير. وقد يتوقف مفعول حق الاستغلال إذا ارتأى الملك ذلك. ويلتزم الأفصال المستغلون لما في أيديهم من أراضي بتقديم ضريبة محددة. نص عليها عقد كان يبرمه كل فصل مع الكنيسة مالكة الأرض. بينما كان يبرم ذات الفصل عقدا آخر مع الملك باعتباره السنيور المانح لحق الاستغلال. ومنذ هذا التاريخ وحتى مطلع القرن الحادي عشر بدأت ترتسم في الأفق معالم علاقات الفصالة المتمحورة حول قطعة أرض كعطاء يعرف في النصوص باسم " بنفسيوم " ([46]beneficium). وتترك نفس النصوص الانطباع بأن مجال استعمال هذا النوع من العطاء أخذ يتسع على حساب العطاء الذي كان معمولا به منذ ما قبل القرن الثالث للميلاد (أي المأوى والمأكل وما شاكل ذلك). كما أن أعداد المعنيين بالعطاء " القديم " ظلت في تراجع رغم عدم وجود معطيات رقمية تثبت ذلك.

 

ويمثل عهد شارلمان (687 – 814) فترة حاسمة في اتساع نطاق استعمال قطع الأرض كعطاء في علاقات الفصالة. وقد استمر هذا الاتساع حتى نهاية حكم الأسرة الكارولنجية حسب الخلاصة التي انتهى إليها فردناند لوط (Ferdinand Lot) منذ عدة عقود[47]. وقد كان محقا في ذلك. على اعتبار أن شارلمان خاض حروبا كثيرة في اسبانيا وايطاليا وجرمانيا أفضت إلى الحصول على مساحات شاسعة من الأرض. وزع قطعا كثيرة منها على عدد من أفراد الأرستقراطية الذين ارتبطوا به بعلاقات تبعية وولاء. ولكنه حرص على ألا يكون لهم عليها سوى حق الانتفاع، لكي يحرص كل مستفيد على التشبث بالولاء ويضع في حسبانه بأن قطعة الأرض قد تنتزع منه إذا لم يف بالتزاماته العسكرية المتمثلة في استنفار ما تحت إمرته من محاربين عند الضرورة. وعلى كل، فقد أصبحت الأرض حجر الزاوية في علاقة الملوك الكارولنجيين بأفراد الأرستقراطية. وهذا ما يفهم من كلام الباحثان جون- بيير بولي(Jean- Pierre Poly) واريك بورنزيل (Eric Bournazel) اللذان تناولا المسألة منذ بضع سنوات وأكدا بأن البنفسيوم غدا عنصرا أساسيا في علاقات الفصالة منذ منتصف القرن التاسع[48]. ونعتقد من جانبنا بأن هذا التطور ينسجم مع مسارعلاقات الفصالة التي اتخذت منذعهد شارلمان طابعا رسميا. وأصبحت إحدى الأدوات المعتمدة في الحكم والتسيير.

 

ويبدو هذا التطور في علاقة الدولة بالفصالة غريبا إذا علمنا بأن شارلمان قام بعدة إصلاحات[49] في مجال الإدارة والقضاء ونظام الحكم بهدف إرساء دعائم " دولة مركزية " ذات مؤسسات يخضع لسلطانها جميع سكان المملكة - الإمبراطورية. وكان من المفترض أن تفضي تلك الإصلاحات إلى تقليص مساحة شبكة علاقات التبعية والحد من سطوة أفراد الأرستقراطية؛ خاصة وأن شارلمان قرر الإشراف شخصيا على تعيين الأقماط والدوقات وكبار رجال الدين على رأس مختلف القمطيات. وحرص على أن يكونوا هم المسؤولين المباشرين على إقرار الأمن وعلى جباية الضرائب وهم المشرفين على أمور القضاء. وزاد بأن دعم هذا الإجراء بإقرار مبدإ الرقابة المستمرة بواسطة المبعوثين الملكيين (les missi dominici)؛ الذين كانوا يتجولون عبر مختلف القمطيات ويرفعون له تقارير عن سير الأقماط والمؤسسات الدينية وعن سلوك أفراد الأرستقراطية. غيران هذه الإجراءات لم تحدث القطيعة المنتظرة مع علاقات الفصالة، لأن شارلمان كان يراعي في اختيارالأقماط والدوقات وكبار رجال الدين أن يكونوا من أشد المخلصين للأسرة المالكة. تربطهم بشخص الملك علاقات تبعية وولاء، أي علاقات فصالة. على أن يغدوا في المقاطعات التي يشرفون على إدارتها " سنايرة " (des seigneurs) يرتبط بهم بعلاقات فصالة مختلف رجال الدين وكبار الملاكين العقاريين. بينما تترك لعموم فلاحي المقاطعات و"المواطنين " الأحرار حرية اختيارالسنايرة الذين يرغبون في الارتباط بهم بعلاقات فصالة.

 

وبناء عليه يتضح بأن الإصلاحات التي قام بها شارلمان في مجال نظام الحكم وإدارة القمطيات لم تكن تهدف استئصال علاقات الفصالة بقدر ما كانت تروم " ترويضها " أو بعبارة أصح تقنينها[50].

 

لأن عملية استئصالها كانت صعبة، حتى لا نقول مستحيلة، لاعتبارات يمكن إيجاز أهمها فيما يلي:

أولا: رسوخ علاقات الفصالة في المجتمع عامة، وفي أوساط الطبقة الأرستقراطية التي تبنتها كتقليد منذ قرون. ولم يكن بإمكان شارلمان المضي قدما في إصلاحاته الإدارية بإلغاء هذا التقليد. ومن ثم التنكر لأفراد الأرستقراطية الدين أسدوا خدمات جلة لآبائه وأجداده أوصلتهم إلى دفة الحكم على حساب ملوك الأسرة الميروفنجية.

 

ثانيا: افتقار الدولة إلى أطر كافية ومحترفة لتدبير شؤونها في وقت أصبحت فيه مترامية الأطراف بعد الحروب التوسعية. وبالتالي، فان الضرورة كانت تقتضي الاستمرار في الاعتماد على أفراد الأرستقراطية في تدبير مختلف القمطيات من خلال علاقات الفصالة التي أرسوا دعائمها والتي مكنتهم من القيادة والتسيير.

 

ثالثا: محدودية الموارد المالية الضرورية لتغطية النفقات التي تتطلبها مهام الحكم والتدبير ودفع مرتبات " موظفي " الدولة من رجال الدين والعلمانيين رغم الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي قام بها شارلمان. وبالتالي، كان لابد من استعمال الأرض كوحدة نقدية لتغطية النفقات الإدارية والعسكرية. وبما أن الحروب التي خاضها شارلمان وفرت مساحات شاسعة من الأرض، فقد أغنت عن المضي قدما في البحث عن مصادر السيولة النقدية. كما أن تلك الوفرة شجعت على المنح المطلق أحيانا وعلى المنح المشروط بحق الاستغلال في أحايين كثيرة. وكان من تبعات ذلك أن استغل عدد من أفراد الأرستقراطية وفاة شارلمان فسيطروا على قطع الأرض التي منح لهم حق استغلالها. كما أن خلفاؤه حادوا عن السياسة التي انتهجها في هذا المضمار والتي كان يتبعها فيما مضى محافظو القصر. وذلك حين قرروا بأن تصبح ملكية الفصل على قطعة الأرض التي منحت له كعطاء (beneficium)، ملكية تامة مطلقة نظير استمراره على الولاء سواء كان سيده، أي " سنيوره " أحد الخواص أو سيده الملك شخصيا.

 

وانطلاقا مما تقدم، نخلص إلى القول بأن علاقات الفصالة التي نشأت في الممالك الجرمانية زمن ضعف السلطات المركزية، كان من المفترض أن تتراجع في مرحلة بدأت تترسخ فيها نسبيا أسس الدولة المركزية. غير أن هذا التطور لم يحصل. بل على العكس من ذلك تماما اكتست تلك العلاقات مشروعية وارتقت إلى مصاف القوانين المنظمة للعلاقات والمعاملات. وهذا ما حدث بالذات في غالة التي غدت في عهد شارلمان إمبراطورية مترامية الأطراف. شمل نفوذها معظم أقاليم غرب أوربا. وستشكل الاضطرابات الداخلية التي شهدها هذا الكيان بعد وفاته بالإضافة إلى عوامل خارجية المناخ الأمثل لكي تنطلق تلك العلاقات نحو آفاق أرحب سنتوقف عند تجلياتها في الفصل الموالي.

 

الفصل الثالث

الروابط الفيودو- فصلية

هيا انهيار الامبراطورية الكارولنجية وماتلاه من اضطرابات داخلية وغارات خارجية[51] المناخ الملائم لاتساع مجال انتشار علاقات الفصالة في غالة وفي مجموع أقاليم غرب أوربا. والحقيقة أن تلك العلاقات لم تتوقف أبدا عن الانتشار منذ عهد محافظي القصور كما أوضحنا ذلك فيما مضى. وكان من الممكن أن يأخذ انتشارها منحى تصاعديا منذ عهد شارل مارتل، غير أن شارلمان نجح في التخفيف من إيقاع مسيرتها حين عمل على تقنينها. وبذلك وفق أيضا في كبح جماح أفراد الطبقة الأرستقراطية ووضعهم تحت السيطرة ولو إلى حين. وبعد وفاته افتقدت غالة، والغرب الأوربي عموما، حاكما في مثل حنكته وقوة شخصيته. فخلى الجو لأفراد الأرستقراطية الذين عادوا مجددا لتفعيل علاقات الفصالة التي أصبحت منذ هذا الوقت متحورة حول الفيف أكثر من أي وقت مضى. كما اجتهدوا في بسط سلطانهم على عموم الفلاحين. وشرعوا في إرساء الآليات والوسائل الكفيلة بتحقيق مكاسب معنوية ومادية من وراء ذلك السلطان. وقد استفادوا لتحقيق مبتغاهم من الاضطرابات والفوضى السياسية. ومع ذلك فيجب التنبيه في هذا المقام، بأن أفراد الأرستقراطية من كبار الملاكين العقاريين وكبار رجال الدين لم يستغلوا تلك الأوضاع للإسراع بإعلان تمردهم أو للتحلل من سلطة القائمين على الأمر في الممالك التي قامت في غالة، وفي أقاليم غرب أوربا الأخرى، بعد انهيار الإمبراطورية الكارولنجية. فقد استمروا، حتى العقد الأخير من القرن العاشر، يدينون بالولاء للملوك مباشرة أو للأقماط الذين يمثلونهم في القمطيات. وتجلى ذلك في كونهم ظلوا يؤدون فروض الطاعة للملوك مباشرة، ويحضرون أشغال " الاجتماع الملكي " (le plaid royal). وهو واحد من بين اجتماعين سنويين كان يرأسهما الملك. كما ظلوا يؤدون يمين الولاء للأقماط. بعضهم يقومون بذلك بوصفهم أفصالا لهؤلاء الأقماط وبعضهم الآخر يقومون بذلك بوصفهم " مواطنين " خاضعين لسلطة الأقماط. وبما أنهم من علية القوم، فقد كان يتوجب عليهم القيام عمليا بأداء الولاء، وحضور الاجتماعات الدورية التي يدعو إليها القمط (les plaids comtaux). وعند تعيين قمط جديد على رأس القمطية، كان كبار الملاكين العقاريين وكبار رجال الدين يقومون بتقديم ولائهم للقمط الذي تم تعيينه. وإذا تعذر على أحدهم القيام بذلك لأسباب قاهرة كان ينيب عنه من يقوم بالعملية. وكأنهم بذلك يقدمون فروض الطاعة والولاء للملك شخصيا. وهذا التقليد ظل يجري به العمل منذ عهد شارلمان[52]. ولكن بعد مطلع القرن الحادي عشر بدأت تظهر معالم الاتجاه نحو مرحلة جديدة في مسار تطور الفيودالية.

 

نشترك مع عموم الباحثين في القول بأن هذه المرحلة تميزت بكون الفيف أصبح خلالها يمثل حجر الزاوية في العلاقات بين أفراد الأرستقراطية. ولكننا نختلف معهم حين نذهب إلى اعتبارها مرحلة ثالثة اكتمل خلالها نضج الفيودالية كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذا القسم. في حين، يذهب الباحثون إلى اعتبار هذه المرحلة مرحلة أولى ووحيدة نشأت خلالها الروابط الفيودو – فصلية، وخلالها أيضا تبلورت تلك الروابط. وينكرون اعتبار علاقات الفصالة مقدمة لهذه الروابط.

 

ومهما يكن من أمر، فقد قام الباحثون منذ عقود برصد مسيرة هذه الروابط وباستعراض السياق الذي " نشأت " وتطورت فيه. بعضهم اختار الغرب الأوربى ككل مجالا جغرافيا لتناولها، وبعضهم اختار أحد أقطاره الحالية كإطار جغرافي للقيام بذلك، بينما ارتأى البعض الآخر تناولها في حيز جغرافي أضيق. وبما أننا نتفق معهم، على الأقل في كون فترة ما بعد ستة 1000 تمثل مرحلة تبلور الروابط الفيودو – فصلية، فقد ارتأينا في هذا الفصل اعتماد بعض المنغرافيات الإقليمية للقيام باستعراض أبرز مظاهر هذا التبلور كما حدثت في قمطيتين تنتميان لغالة الموسومة بكونها "الموطن الأصلي" للفيودالية هما قمطية ماكوني ([53] le Mâconnais) وقمطية بروﭬانسيا ([54] la Provence)؛ وفي إقليمين بعيدين عن غالة هما إقليم اللاسيوم ([55]le Latium) أحد أقاليم ايطاليا، وإقليم قطلونيا (la Catalogne)[56] الواقع في شبه جزيرة ايبيريا.

 

شكلت قمطية ماكوني مجالا جغرافيا لأطروحة أصدرها جورج دوبي (Georges Duby) سنة 1953. وقد أنجز هذه الأطروحة بين نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين؛ خلال مرحلة خاصة من مسيرة البحث التاريخي في فرنسا. تميزت بكون الرؤية الضيقة التي تختزل الفيودالية في الفصالة والفيف والمؤسسات المتصلة بهما كانت هي السائدة في أوساط الباحثين في التاريخ الأوربي الوسيط[57] وكذلك في أوساط المهتمين بالقانون وتاريخ المؤسسات[58]. بينما كانت الرؤية الواسعة التي تبناها مارك بلوك ([59]Marc Bloch)، والتي ترى الفيودالية إحدى التجليات التي اتخذتها البنيات الاجتماعية في تطورها خلال العصر الوسيط، لا زالت تبحث لها عن موطئ قدم. ولذلك، جاءت أطروحة دوبي مثقلة بإرث الماضي ومستشرفة في ذات الوقت النقلة التي ستحدث بعد تزايد تلامذة بلوك. وهذا ما يتضح من عنوانها وكذلك من مضمونها. فقد تضمن عنوانها كلمة " مجتمع " على شاكلة عنوان كتاب مارك بلوك. أما مضمونها فتضمن فصولا مطولة خصصها الباحث للفصالة والفيف. وأخرى خصصها لرصد التحولات التي شهدها مجتمع الماكوني خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر. سعى فيها جاهدا إلى إقناع القارئ بأن الفصالة والفيف كانا مجرد واجهتين لمؤسسات نشأت وتطورت في سياق تلك التحولات الاجتماعية. ورغم الجهد المبذول، لم يستطع جورج دوبي التحرر من نظرة المؤرخين القدامى للفيودالية[60] حين يرون بأنها تمثل الحصيلة المنطقية لانفراط وحدة الإمبراطورية الكارولنجية. إذ يذهب على غرارهم إلى الاعتقاد بأن تدهور مؤسسة القمطية في إقليم الماكوني أفضى إلى تشكل شبكة من الروابط الفيودو – فصلية انخرط فيها أفراد الأرستقراطية في هذا الإقليم.

 

أولا: تدهور مؤسسة القمطية:

يفيدنا جورج دوبي بأن إقليم الماكوني كان منتظما في إطار قمطية نشأت منذ العهد الكارولنجي في سياق عملية إعادة تنظيم " الإدارة الترابية ". وقد حصل فتور في علاقة هذه القمطية بالمؤسسة الملكية منذ شهر غشت من العام 843، تاريخ توقيع معاهدة ﭬردان(Verdun) التي تم بموجبها تقسيم الإمبراطورية الكارولنجية بين الإخوة الثلاث أبناء الملك لويس التقي (Louis le Pieux). وتحول هذا الفتور إلى نوع من القطيعة منذ سنة 951. فقد زار الملك لويس الرابع قمطية ماكوني خلال هذه السنة. وبعد هذا التاريخ لم تطأها أقدام ملك حتى حوالي سنة 1166[61]. ورغم هذه التطورات، فان مؤسسة القمطية والمؤسسات العمومية المتصلة بها ظلت منذ سنة 951 وحتى حدود سنة 980 أو 982 تمارس دورها في إقرار الأمن وجباية الضرائب والإشراف على أمور القضاء والسهر على ممارسة الشعائر الدينية في ربوع قمطية الماكوني. ولذلك فان عموم الفلاحين وغيرهم من الأفراد الأحرار ظلوا يثقون في تلك المؤسسات. ولم يعودوا يبحثون عن الأمان والاطمئنان في علاقات القرابة أو في صيغ أخرى مماثلة لها. أما أفراد الأرستقراطية اللائكية، فقد استمروا من جانبهم في احترام مؤسسات القمطية. ولم يكونوا يترددون في مد يد العون للقمط وللمؤسسات الدينية في الحالات العادية، كما في الظروف الاستثنائية. غير أن مستجدات شهدتها القمطية أخذت تأثر سلبا في علاقة أفراد الأرستقراطية اللائكية والدينية بالقمط.

 

فابتداء من سنة 982 تولى إدارة القمطية أوت كيوم (Otte Guillaume) الذي أمضى السنوات الأولى من فترة ولايته في سلسلة حروب توسعية ضد جيرانه. استنزفت موارد القمطية واضطر لإنهائها دون تحقيق طائل ليتفرغ لإقرار السلم الاجتماعي[62] في ربوع القمطية على اثر موجة العنف التي أخذت تجتاحها.

 

لم يخف أفراد الأرستقراطية تذمرهم من سياسة أوت ﯖيوم، ولكن المصالح المشتركة اقتضت أن يلتفوا حوله لمواجهة هذه المستجدات الداخلية. ويفيدنا جورج دوبي بأن عملية التصدي لأعمال العنف التي أخذت تقوم بها مجموعات من الفرسان والتي واكبتها حركات احتجاج في أوساط الفلاحين شكلت في حقيقة الأمر سلاحا ذو حدين: فقد أبانت عن تظافر جهود القمط وأفراد الأرستقراطية ورجال الدين في تدبير الشأن العام. كما أبانت عن حرص جميع الأطراف على سلامة المؤسسات واستمرارية دورها. ولكنها دلت في نفس الوقت على أن مؤسسة القمطية لم تكن قادرة لوحدها على مواجهة أعمال العنف أو التصدي لحركات الاحتجاج. وبما أن تلك الأعمال والحركات اتخذت في بادئ الأمر مسحة دينية، فقد تزعمت المؤسسات الدينية عملية مجابهتها. فأمدها ذلك بشحنة معنوية وجعل كبار رجال الدين ينفردون باتخاذ بعض القرارات دون العودة إلى القمط؛ من قبيل عقد الاجتماعات دون سابق إعلان للبث في آليات التصدي لتلك الحركات. فكان هذا الإجراء لوحده يمثل مؤشرا على تزايد تنامي سلطة كبار رجال الدين وتراجع هيبة القمط أوت ﯕيوم الذي أخذ يتخلى عنه كبار أفراد الأرستقراطية اللائكية بدورهم. وهذا ما تأكد لاحقا بعد سنة 1000 حيث أخذ عدد الحاضرين لاجتماعات القمط يتراجع بشكل مستمر. وإذا صدقنا جورج دوبي، فان اجتماعا دعا لانعقاده أوت ﯕيوم سنة 1005 لم يحضره سوى أفصال القمط ونفر من كبار رجال الدين وأعيان الأرستقراطية اللائكية. أما اجتماع سنة 1010 فلم يحضره سوى أفصال القمط وأسقف القمطية مرفوقا بأحد مساعديه[63]. وبعد هذا التاريخ أخذت تلك الاجتماعات تكتسي طابعا عائليا. حيث لم يعد يحضرها سوى أقرب المقربين من القمط وأفراد عائلته وأشخاص آخرين تربطهم به صلات قرابة.

 

ومعنى ذلك أن أفراد الأرستقراطية، من كبار الملاكين العقاريين اللائكيين وكبار رجال الدين تحللوا من سلطة القمط وقطعوا صلاتهم بمؤسسات القمطية. وأضحوا سادة أنفسهم وسادة سكان القمطية الذين أصبحوا خاضعين لنفوذهم في إطارما نصطلح على تسميته " بالسنيورية الإلزامية "[64] (la seigneurie banale). كما شيدوا القصور التي اتخذوها مراكز لممارسة السيادة. وشكلوا، لتفعيل تلك السيادة أجهزة ومؤسسات تابعة لهم. تقوم بإقرار الأمن وجباية الضرائب وتشرف على أمورالقضاء. وبموازاة ذلك ارتبطوا فيما بينهم بعلاقات فصالة متمحورة حول الفيف.

 

ثانيا: تشكل الروابط الفيودو – فصلية:

يعود جورج دوبي في معرض حديثه عن الروابط الفيودو – فصلية ليقنع القارئ ضمنيا بأن انخراط أفراد الأرستقراطية الماكونية في هذه الروابط يمثل النتيجة المنطقية التي آل إليها تدهور مؤسسة القمطية. ويفيدنا في هذا الصدد بأن النصوص التي اعتمدها توضح بأن الصلة بين الفيف والولاء[65] (l’hommage) أصبحت وثيقة في الماكوني ابتداء من سنة 1030. حيث غدت كل عملية تقديم فيف تستوجب من المستفيد منه تقديم الولاء وأداء القسم. وتبعا لذلك خصص صفحات مطولة لرصد مسيرة الفيف وللحديث عن الولاء وعن الطقوس التي كانت تتم فيها عملية تقديم الفيف وعملية أداء الولاء. وأهم الملاحظات التي يمكن استخلاصها من تلك الصفحات هي كما بلي:

 

أولا: لم تكن العلاقات بين جميع أفراد الأرستقراطية في إقليم الماكوني قائمة على الفيف. فقد مثل حجر الزاوية في العلاقات القائمة بين أفراد الشريحة السفلى وأفراد الشريحة المتوسطة في الطبقة الأرستقراطية، وكذلك بين أفراد هذه الشريحة وأفراد الشريحة العليا، أما بين أفراد الشريحة العليا فقامت روابط " فيودو – فصلية " غير مستندة على الفيف. وقليلا ما كان أحد أفراد هذه الشريحة يقدم فيفا لفرد آخر. لأن أفراد هذه الشريحة كانوا ينحدرون كلهم من أسر نبيلة وعريقة مالكة لأراضي مترامية الأطراف، ولأن الأمر يتعلق هنا بشخصين متساويين في المقام والقوة. ومن ثم، لم يكن من اللائق أن يسلم أحدهم فيفا للآخر، لأن عملية تسليم الفيف تحيل إلى نوع من الدونية. كما تجعل المستفيد من الفيف في وضعية تبعية وخضوع للشخص مانح الفيف.

 

ثانيا: اتخذت عملية تقديم الولاء (l’hommage) في قمطية ماكوني شكلا عموديا وآخر أفقيا. فقد كان بإمكان الشخص الواحد المنتمي للشريحة السفلى أو للشريحة المتوسطة في الأرستقراطية أن يتسلم فيفين من مانحين. فيغدو بذلك فصلا " لسنيورين ". وغالبا ما كانت تتكرر مثل هذه الحالات في أوساط حملة السيف الذين كان الطلب عليهم قويا، لذلك كان " السنايرة " يتنافسون في استقطابهم بمنح الأفياف والتخفيف من أعباء الخدمات والالتزامات. بينما لم يكونوا هم أيضا يترددون في الاستجابة لتلك الإغراءات. فكان الواحد منهم يضع مهاراته القتالية رهن إشارة أكثر من سنيور لزيادة رصيده من الأفياف. غير أن تعدد مثل هذه الروابط كان يطرح أحيانا بعض المشاكل، حين يقع سوء تفاهم بين سنيورين. فيجد الفارس المرتبط بهما بعلاقة فصالة نفسه في وضعية حرجة.

 

ومهما يكن من أمر فالمحصلة النهائية التي يخرج بها قارئ أطروحة جورج دوبي هي أن قمطية الماكوني وقعت في شراك الفيودالية بعد تدهور مؤسسة القمطية ونهاية دورها في رعاية شؤون أفراد المجتمع. فغدت بذلك إحدى المجالات الجغرافية الممثلة لهذه الظاهرة في ربوع غالة. ومن ثمة، فان قصة العلاقة بين قمطية الماكوني والفيودالية تلخص إلى حد بعيد قصة غالة مع هذه الظاهرة تبعا للانطباع الذي تتركه الأطروحة. ففي الماكوني كما في مجموع تراب غالة بدأت تلك القصة عندما تدهورت المؤسسات السياسية، وحدث فراغ سياسي أفضى إلى تجزئة متقدمة للسلطة التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى ذلك سبيلا. فانتفت المؤسسات. وانتفت معها أية صلة تربط الفرد بالدولة. فماذا يمكن أن يقال عن صلة قمطية بروﭬانسيا بالفيودالية؟

 

شكل إقليم بروﭬانسيا مجالا جغرافيا لأطروحة أنجزها جون بيير بولي (Jean-Pierre Poly) الباحث الذي يزاوج بين المقاربة التاريخية والمقاربة القانونية في تناول قضايا العصر الوسيط في أوربا.

 

وتندرج هذه الأطروحة والأطروحتان اللتان سيأتي الحديث عنهما بعد حين[66] ضمن مشروع علمي طموح انبرى للقيام به ثلة من الباحثين منذ سبعينيات القرن الماضي. سعى لدحض فكرة كانت رائجة في أوساط الباحثين في تاريخ العصر الأوربي الوسيط خلال خمسينيات وستينيات القرن المذكور. مفادها أن موطن الفيودالية هو الأقاليم الممتدة بين نهري اللوار والراين التي شكلت قلب الإمبراطورية الكارولنجية. أما أقاليم جنوب غالة، ومعها أقاليم جنوب أوربا، فلم تشهد ظاهرة الفيودالية. وإذ قدر لبعض تلك الأقاليم أن تشهد بعض تجليات الظاهرة، فقد كانت تجليات دخيلة على نظمها وبنياتها.

 

وقد عبر جون بيير بولي عن مقاصد أطروحته منذ الصفحات الأولى من خلال السؤال المحوري الآتي: هل ينطبق المخطط الخاص بالفيودالية، الذي صاغه مؤرخو مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية انطلاقا من نصوص تنتمي للأقاليم المعروفة بمهد الفيودالية، على إقليم بروﭬانسيا خاصة، وأقاليم جنوب غالة عامة؟[67]

 

وقد اقتضى الجواب عن هذا السؤال من قبل الباحث اعتماد ما ينيف عن ألفي نص من النصوص المعروفة " بالمواثيق " (les chartes). بالإضافة إلى ترسانة أخرى من المصنفات؛ ككتب التاريخ العام والحوليات وسجلات الأديرة والنصوص الهاجيوغرافية التي تعرض لسير وكرامات القديسين والقديسات وغيرها من النصوص.

 

خلص جون بيير بولي بعد استقرائها إلى خلاصة مفادها أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت هي الأخرى في ظاهرة الفيودالية " من أبوابها الواسعة ". وأن مقومات الظاهرة في هذا المجال الجغرافي لم تقل نضجا وتكاملا عن مثيلاتها في وسط أو شمال غالة.

 

ويفيدنا على غرار جورج دوبي بان الفيودالية اتبعت في نشأتها وتطورها بقمطية بروﭬانسيا مسارين متوازيين: واحد ذو طابع سياسي تمثل في نهاية دور المؤسسات العمومية. والثاني ذو صبغة عقارية تمثل في تشكل شبكة من العلاقات تمحورت حول الفيف. ولكن لحظة انطلاق المسار الأول كانت أسبق من لحظة انطلاق المسار الثاني. حيث انطلق المسار السياسي بين سنتي 1000 و1040. ولم ينطلق المسار العقاري إلا بعد مطلع القرن الثاني عشر.

 

وبناء عليه، ففي إقليم بروﭬانسيا كما في إقليم الماكوني شكلت مؤسسة القمطية أم المؤسسات. كانت تباشر بواسطة أجهزتها الاقتصادية والقانونية والقضائية تدبير الشأن العام. وإليها كانت تحتكم سائر فئات المجتمع من خاصة وعامة.

 

وإذا كانت حركة هدنة الله قد شكلت منعطفا حاسما في مسار تلك المؤسسات بقمطية الماكوني، كما رأينا من قبل، فان تطورات ذات بعد اقتصادي – ديموغرافي حدثت خلال الفترة الممتدة بين سنتي 950 و1040 هي التي أفضت هذه المرة إلى التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها بروﭬانسيا بعد سنة 1040.

 

وقد تمثلت هذه التطورات في كون أن أفراد الأرستقراطية، من كبار ومتوسطي الملاكين العقاريين، أصبحوا يلاقون صعوبات في إيجاد الأيدي العاملة الكافية لاستثمار استغلالياتهم المترامية الأطراف. بفعل التراجع الديموغرافي وتقلص أعداد العبيد الذين كانوا يسخرون منذ قرون في مختلف الأنشطة الزراعية. ومن ثم، لم يجدوا أمامهم من حل سوى القيام ببسط سلطانهم المعنوي والمادي على عموم الفلاحين الأحرار. فشرعوا في إرساء الآليات لتحقيق هذا المبتغى.

 

ومن المفيد التذكير مجددا في هذا المقام، بأن القمط كان هو المسؤول الوحيد منذ عهد شارلمان، وقبله أيضا، الذي تتجسد في شخصه السلطة في ربوع القمطية. فهو الذي يمتلك ما تسميه بحق الإلزام[68] (le droit de ban) الذي يسري مفعوله في حدود دائرة ترابية معينة هي القمطية. وبمقتضى هذا الحق، الذي تقوم بأجرأته عدة أجهزة، يقوم القمط بالقيادة (le commandement) ويسهر على إقرار الأمن، ويدعو كبار أفراد الارستقراطية لحضور الاجتماعات السنوية التي تعقد للبث في القضايا التي تهم القمطية، ويشرف على جباية الضرائب، وعلى شؤون القضاء، كما يشرف على استخلاص الذعائر والغرامات.

 

فحدث في قمطية بروﭬانسيا أن شرع عدد من أفراد الأرستقراطية اللائكية في التطاول على بعض هذه الحقوق. فأخذوا يسهرون على إقرار الأمن في ربوع القرية التي تقع بها ممتلكاتهم العقارية. ونجحوا في التأثير على أشغال المؤسسات القضائية. وأنشأوا مؤسسات اقتصادية كالأفران والمعاصر والطاحونات. واحتكروا استغلالها.

 

وبالنظر إلى ثروة أفراد الأرستقراطية وما كانوا يملكونه من نفوذ قوي، فقد أصبحت لمعظمهم اليد الطولى داخل القرى. بل إن عددا منهم نصبوا أنفسهم " اقماطا " في تلك القرى. التي تحولت كل واحدة منها إلى " سنيورية إلزامية ". أي إلى دائرة ترابية يمارس الأرستقراطي في حدودها حق الإلزام بكل تجلياته.

 

وقد كان التطور حاسما في هذا الاتجاه، في نظر جون بيير بولي، حين أصبح أفراد الأرستقراطية في بروﭬانسيا يشيدون القصور والحصون دون طلب إذن من مؤسسة القمطية. فأخذت هذه المنشآت تنتشر هنا وهناك بإيقاع سريع. إذ قبيل حدود سنة 1040 أضحت إحدى المعالم البارزة في المشهد العمراني بقمطية بروﭬانسيا. الأمر الذي دفع الباحث إلى التساؤل عن أسباب هذه الظاهرة.

 

انتهى جون بيير بولي في معرض جوابه عن هذا السؤال إلى التأكيد بأنه لم يكن ثمة مبرر أمني داخلي أو خطر عسكري خارجي يدعو إلى إقامة هذه التحصينات، خاصة وأن المسلمين الذين كانوا يهددون القمطية تراجعوا عن حدودها منذ سنة 972[69]. فما من تفسير لهذه الظاهرة، في اعتقاده، سوى أن أفراد الأرستقراطية كانوا يسعون بخطى حثيثة لعسكرة القرى لسببين: أولا لحماية أنفسهم وحماية ممتلكاتهم بدل التعويل على الأجهزة العمومية لتحقيق الحماية. وثانيا لإيجاد قاعدة مادية لتفعيل سلطانهم على سكان القرى.

 

وانطلاقا مما تقدم، يذهب جون بيير بولي إلى الاعتقاد على غرار جورج دوبي بان القصر ( le château) أو الحصن أصبح من وجهة نظر معنوية رمزا للسلطة. ومن وجهة نظر مادية مركزا لمؤسسة هي السنيورية الإلزامية. انطلاقا من هذا المركز أضحى الأرستقراطي، أي السنيور، يمارس حق الإلزام على سكان القرية.

 

و إذ قدر لأفراد الأرستقراطية في بروﭬانسيا النجاح في الاستحواذ على حق الإلزام، وسحب البساط من تحت أقدام القمط، فقد أفرغوا بذلك مؤسسة القمطية من أي محتوى، ونجحوا في نفس الوقت في إيجاد مخرج لأزمة اليد العاملة التي كانت وراء كل هذه الترتيبات. وإذا كانت هذه التحولات قد حدثت دون أن ترافقها أحداث دامية كبرى كما حدث في قمطيات أخرى، فقد أدت مع ذلك، إلى حدوث " قطيعة " بين عهدين في يروﭬانسيا[70] كما يؤكد ذلك جون – بيير بولي:عهد ما قبل الفيودالية، وعهد الفيودالية. ورغم ذلك فان الباحث يشد انتباهنا إلى مسألة أساسية وهي أنه حتى نهاية القرن الحادي عشر كانت الظاهرة " تستعد لحط الرحال " بالديار البروﭬانسية. وكان عليها أن تبدأ المسار الثاني من رحلتها لكي تستكمل مسيرتها وتصبح نظاما متكاملا.

 

بدا جون بيير بولي معالجته لهذا المسار بالتذكير بان الفئات الاجتماعية في قمطية بروﭬانسيا ارتبطت فيما بينها بمختلف أشكال وصيغ علاقات التبعية منذ القدم كما هو الشأن في مختلف قمطيات غالة. فالفقراء ارتبطوا بالأغنياء، والضعفاء ارتبطوا بالأقوياء بعلاقات تضرع وإذعان. بينما ارتبط نفر من كبار أفراد الأرستقراطية الدينية واللائكية مع القمط بعلاقات ولاء (la fidélité).

 

وقد كانت علاقات الولاء بين هذه الأطراف التي تهمنا فيما نحن يصدده، تستند في بعض الحالات إلى عقار. هو عبارة عن " بنفسيوم " استفاد منه عدد من " علية القوم " الذين أبانوا عن إخلاص وتفان في خدمة القمط والقمطية. تمثل ذلك البنفسيوم في الأغلب الأعم في مجموعة حصون. كان المستفيدون منها يقومون بحراسة المناطق التي تقع بها نظير استمرارهم على ولائهم للقمط. وحسب الإفادات التي يقدمها لنا جون بيير بولي، فان النصوص القليلة التي تتحدث عن هذا الشكل من العلاقات لا تتضمن مصطلحات تندرج ضمن ما يسمى بقاموس الفصالة. كما أنها لا تتضمن معلومات عن الطقوس والحركات (les gestes) المتصلة بعلاقات الفصالة من قبيل الانحناء وعملية أداء اليمين. باستثناء نص واحد يعود لسنة 990 يفيد بأن ريكولف (Riculf) أسقف كنيسة فريجوس (Fréjus) وقف على ركبتيه (s’est agenouillé) يوما ما بين يدي القمط كما يفعل الفصل أمام سيده السنيور[71]. ولاشك أن هذا الحدث يكتسي دلالة بالغة الأهمية؛ الأمر الذي دفع جون بيير بولي إلى التساؤل عما إذا كان هذا الانحناء تعبيرا عن علاقة فصالة أم أن ما قام به الأسقف كان مجرد تعبير عن الإخلاص والولاء في أرقى صوره؟ جوابا عن هذا السؤال يذكر بولي بأنه من الصعب الحسم في المسألة انطلاقا من شهادة منفردة. ولكنه لم يتردد مع ذلك في الجزم بأن الطقوس والشعائر المرافقة لعلاقات الفصالة لم تظهر في قمطية بروﭬانسيا إلا بعد مطلع القرن الثاني عشر. ويذكرنا في هذا المقام بأن عددا من أفراد الأرستقراطية الذين شيدوا القصور والحصون، كما ذكرنا فيما مضى، شكلوا مليشيات عسكرية كانت تعمل تحت إمرتهم؛ وكان من المفروض أن يكون أفرادها أ فصالا لهم، ورغم ذلك فقد كانت العلاقات القائمة بينهم وبين أفراد الأرستقراطية قائمة على الولاء، ولم تكن علاقات فصالة. ويدعم جون بيير بولي وجهة نظره هاته بالقول بأن المصادر الخطية التي اعتمدها في انجاز أطروحته لا تتضمن سوى 19 نصا تعود للفترة الممتدة بين سنتي 1040 و1100 تتحدث عن الولاء (la fidélité). ولا تشير من قريب أو من بعيد إلى الفصالة (la vassalité). وبعد سنة 1100 وحتى حدود سنة 1166 انضاف إليها 16 نصا. تعززت بظهور عدد من العقود الفيودالية (des conventions féodales) بلغ عددها 22 عقدا. وأهم ما في الأمر هو أن معظم هذه النصوص بالإضافة إلى العقود المشار إليها أصبحت تتحدث بكل وضوح عن الفصالة وما يتصل بها من طقوس.

 

والمحصلة النهائية هي أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت بدورها في سلك القمطيات التي سادت فيها الفيودالية. وقد وجدت في جون بيير بولي الباحث الذي أثبت ذلك بالحجة والدليل. فماذا يمكن أن يقال عن اللاسيوم أحد أقاليم شبه جزيرة ايطاليا.

 

ظل الباحثون حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي يروجون لوجهة نظر مفادها أن الأراضي التي كانت خاضعة لسلطة البابوية في شبه جزيرة ايطاليا ظلت بمنأى عن ظاهرة الفصالة حتى حدود سنة 999 حين اعتلى عرش البابوية رجل الدين الفرنسي جربير الأورياكي (Gerbert d’Aurillac) المعروف باسم البابا سلفستر الثاني (Sylvestre II).

 

يذكر روبير بوتريش، أحد الباحثين المتأخرين المروجين لهذا الطرح[72]، بأن البابا المذكور أبان خلال الأربع سنوات التي قضاها على رأس البابوية عن حيوية ونشاط لرد الاعتبار لمؤسسة البابوية، ولنشر تعاليم المسيحية في بعض أقاليم أوربا الشرقية المعروفة اليوم ببولندا وهنغاريا. ولم يخف رغبته في وضع الحجاج القاصدين بيت المقدس تحت حماية البابوية. بل دعا إلى حمل السلاح لتحرير الأماكن المقدسة. فشرع في استقطاب حملة السيف من المتحمسين لهذا المشروع. وشجع أفراد الأرستقراطية على تكوين مليشيات والانخراط في روابط الفصالة.

 

و إذ ارتبط هذا المشروع بشخصية البابا سلفستر الثاني، فقد شهد نوعا من التعثر بعد وفاة هذا الأخير سنة 1003. ولذلك ظلت الفيودالية محتشمة في هذه الربوع. ولم يقدر لها الاكتمال لتصل إلى مستوى أعلى من التبلور حسب مزاعم بوتريش والباحثين السابقين.

 

تمثل أطروحة بيير توبير( Pierre Toubert) الصادرة سنة 1973 قطيعة مع هذا الطرح. فقد خلص بعد قراءة جديدة لترسانة من النصوص تهم الفترة الممتدة بين القرنين التاسع والثاني عشر بأن الأمر عكس ما روج له الباحثون تماما.

 

وحقيقة هذا الأمر هو أن فيودالية إقليم اللاسيوم (le Latium) الذي اختاره مجالا جغرافيا لبحثه، فيودالية " محلية الصنع ". كانت وراء إرساء قواعدها مؤسسات دينية، أبرزها دير فارفا([73] Farfa) ودير سوبياكو ([74]Subiaco). فقد دأبت هاتان المؤسستان منذ مطلع القرن الحادي عشر على تقديم قطع أرض لأفراد ينتفعون بها مدى الحياة (des tenures livellaires) سعيا منها لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المريدين.

 

ويفيدنا بيير توبير بأن دير فارفا كان مؤهلا أكثر من دير سوبياكو في التسريع بوتيرة إرساء دعائم الفيودالية. فقد كان يملك موارد مادية وبشرية هائلة. تمثلت في تحف نادرة وقطع أرض شاسعة المساحة وأعداد كبيرة من المريدين. كانوا في معظمهم يتألفون من فلاحين يقيمون في قرى محيطة بالدير، ويحظون بحمايته فيما يعرف " بالمحميات " (les sauvetés). لذلك ارتأى رجال الدين القائمون بأمر دير فارفا إنهاء العمل بالصيغة السالف ذكرها. وشرعوا منذ سنة 1062 في منح قطع أرض كأفياف للمريدين، الذين يتقنون استعمال السلاح، مقابل خدمات عسكرية. وسرعان ما تلت هذه العملية عمليات مماثلة خلال السنوات الموالية. ثم تضاعفت خلال العشرية الممتدة بين سنتي 1080 و1090. وغدت هي الصيغة الأكثر تداولا بين دير فارفا والراغبين في الانضمام للمليشيات التي أنشاها. ومنذ هذا التاريخ بدأت ظاهرة العسكرة تأخذ منحى تصاعديا في الأراضي الواقعة في منطقة صابين (Sabine) الخاضعة لنفوذ دير فارفا. ثم أصبحت الظاهرة واضحة أكثر بعد سنة 1100 حسب الإفادات التي تقدمها النصوص التي اعتمدها بيير توبير[75].

 

وقد سمحت نفس النصوص لبيير توبير بالقول بأنه ابنداءا من حوالي سنة 1120 أخذ نفس المشهد يتشكل في المنطقة المحاذية لنهر التيبر (le pays Tibertin) الخاضعة لنفوذ دير سوبياكو. فقد أبان نفر من أفراد الأرستقراطية اللائكية عن رغبة جامحة في الاستحواذ على أراضي تدخل ضمن ممتلكات هذا الدير، فاقتضت ضرورة صد الأطماع من رجال الدين المشرفين عليه الالتحاق بركب زملائهم رجال دين دير فارفا. فاجتهدوا بدورهم في استقطاب" المريدين " (Fides equites) من بين الذين يتقنون فنون الحرب والقتال وامتطاء صهوات الخيول. فمنح الدير لكل منخرط في العملية فيفا. وشكل مجموع المنخرطين مليشيات عسكرية. ارتبط أفرادها بسادتهم من رجال الدين بروابط فيودو – فصلية. وتعهدوا بالخدمة العسكرية.

 

انطلاقا مما تقدم يتضح بأن مؤسسات دينية " صغرى " نسبيا هي التي تزعمت حركة إرساء الفيودالية في شبه جزيرة ايطاليا، أو على الأقل في إقليم اللاسيوم وفي الأراضي المحاذية لنهر التيبر. وهذا ما يستفاد من كلام بيير توبير حين يذكر بأن عملية إرساء الفيودالية في ايطاليا اندرجت ضمن اهتمامات " المؤسسات العمومية " وليس ضمن اهتمامات الأفراد كما حدث في أقاليم غالة[76]. وقد تأكد هذا البعد " المؤسساتي العمومي " أكثر حين انضمت البابوية إلى العملية. فما هي الإجراءات التي قامت بها أم المؤسسات الدينية في هذا الشأن؟


يذكرنا ما يورده بيير توبير من معطيات وهو بصدد الجواب عن هذا السؤال بما حدث في غالة قبيل أن يتولى شارلمان حكمها. فقد كانت روابط الفصالة قد استشرت في أوساط الطبقة الأرستقراطية من مجتمعها. وبما أنه كان من الصعب استئصال الظاهرة، فقد فكرفي احتوائها، كما ذكرنا فيما مضى، من خلال إضفاء الطابع المؤسساتي عليها. وذلك بأن جعلها إحدى وسائل الحكم وممارسة السلطة. وهذا بالذات ما حاولت البابوية القيام به في ايطاليا.

 

فقد شرع الباباوات منذ مطلع القرن الثاني عشر في نسج خيوط شبكة من الروابط الفيودو – فصلية. وشجعوا كبار رجال الدين وكبار الملاكين العقاريين اللائكيين على الانخراط فيها؛ مستحضرين في هذا الشأن ما سبق أن قام به البابا سلفستر الثاني. ولتحقيق النجاح في مسعاهم اتبعوا مسلكين أساسيين: تمثل المسلك الأول في عملية شراء مجموعة قصور وحصون كانت في حوزة بعض أفراد الأرستقراطية. منحت لهم فيما مضى قصد الانتفاع، أو بسطوا عليها نفوذهم في ظروف غير عادية. فاشترتها منهم البابوية وعادت لتمنحها لهم كأفياف نظير الإقرار بتبعيتهم لها كأفصال. وتمثل المسلك الثاني في عملية " شراء للولاءات ". فقد كان عدد من كبار الملاكين العقاريين يدينون بالولاء (la fidélité) للبابوية منذ القدم. فارتأى الباباوات تقديم مبالغ مالية لهؤلاء على أن يتحولوا من مجرد أشخاص يدينون بالولاء للمؤسسة إلى أفصال تابعين لها.

 

ويفيدنا بيير توبير بأن البابوية حققت نجاحا منقطع النظير في هذا الاتجاه. إذ بعد مضي سنوات قليلة شرع كثير من كبار الملاكين العقاريين وعدد من الأقماط في تقديم فروض الطاعة للبابوية بالانحناء وتقديم الولاء (l’hommage) وتأدية القسم كسا يفعل سائر الأفصال[77]. وبذلك، فان الفيودالية التي سبق لها أن بلغت مستوى من النضج في إقليمي اللاسيو م وصابينا اكتمل نضجها أكثرعلى يد البابوية. واتسع انتشارها هذه المرة في مجال جغرافي أوسع.

 

والجدير بالذكر أن ما أقدمت عليه البابوية كان ينسجم من جهة مع ما كان يعتمل في ايطاليا وفي غرب أوربا عامة من أحدات وتحولات انطلقت منذ مطلع القرن الحادي عشر. فكان على هذه المؤسسة الدينية أن تركب تيار مرحلة جديدة من تاريخ غرب أوربا اختلط فيها الديني بالدنيوي. وأصبحت فيها المؤسسات الدينية تجنح نحو طلب الدنيا كما كان يفعل أفراد الأرستقراطية اللائكية[78]. كما كان يستجيب من جهة أخرى مع رغبة البابوية في أن تكون تحت إمرتها مليشيات تمدها بالقوة وتسمح لها بقيادة المسيحيين في المشروع الحربي الشهير بالحروب الصليبية.

 

تترك الفقرات السابقة الانطباع لدى القارئ وكأن نشأة وتطور الفيودالية، في إقليمي اللاسيوم وصابينا، حدثا في سياق مختلف عن السياق الذي حدثا فيه في إقليمي الماكوني وبروﭬانسيا. ففي هذين الإقليمين حدث أن تدهورت المؤسسات العمومية. فاتجهت عملية تدبير الشأن العام نحو"الخوصصة "؛ وذلك حين قام أفراد الأرستقراطية (فرادى) بالسطو على حق الإلزام وشرعوا في تشييد القصور. ثم أصبحوا يمارسون ذلك الحق في إطار سسنيوريات إلزامية أنشأوها. وارتبطوا فيما بينهم في شبكة من العلاقات تمحورت حول الفيف.

 

في ايطاليا لم يحدث التدهور المشار إليه. فقد كانت المؤسسات الدينية تشكل دائما ما يمكن تسميته ببنيات استقبال. حيث كانت تحتضن أفراد المجتمع وتسهر على تأطيرهم. كما أن منظومة القوانين التي كانت تنظم المعاملات بين الأفراد ظلت قوية. ومن ثم لم يتهافت أفراد الأرستقراطية اللائكية في إقليم اللاسيوم على تطبيق قوانين جديدة. ولم يسارعوا إلى التسلط على شؤون القضاء. ورغم أنهم شرعوا منذ منتصف القرن العاشر في تشييد القصور وإقامة مناطق النفوذ، فإنهم لم يلجئوا إلى نسج روابط فيودو - فصلية كما فعل زملائهم في عدد من أقاليم غالة[79]. وهذا ما يفسر في نظر الباحث عدم مواكبة الروابط الفيودو – فصلية (أي الفيودالية في معناها الضيق) في إقليم اللاسيوم لظاهرة تشييد القصور وإقامة مناطق النفوذ كما حدث في أقاليم غالة. لكن هذا لا يعني بأن أفراد الأرستقراطية (اللائكية بوجه خاص) ظلوا في إقليم اللاسيوم بمنأى عن الفيودالية أو بمنأى عما كانت تقوم به المؤسسات الدينية. فكيف يوضح بيير توبير هذا الأمر؟

 

يفيدنا بيير توبير بأن حضور أفراد الأرستقراطية في قلب الأحداث يتجلى من خلال الحديث عن " حركة إعادة الهيكلة " التي شهدها إقليم اللاسيوم بين سنتي 920 و1030، والتي شملت مختلف المجالات كأشكال السكن الريفي وأساليب الزراعة والبنيات الاجتماعية وطرق تدبير الشأن المحلي. وقد كانت وراء تلك " الحركة " تحولات كبرى، أبرزها النمو الديموغرافي[80] الذي حدث في مجال جغرافي يتميز بصعوبة تضاريسه وقلة أراضيه الصالحة للزراعة. الأمر الذي كان يستدعي التدخل لإعادة تنظيم ذلك المجال بشكل يجعله قادرا على استيعاب التزايد المذكور دون إعاقة النمو الاقتصادي (أي التوسع الزراعي) الذي بدأ يرتسم في الأفق منذ نهاية القرن العاشر. ولتحقيق هذا المسعى قام أفراد الأرستقراطية بتجميع سكان إقليم اللاسيوم في قرى محصنة بأسوار أقاموها لهم في المرتفعات وفي المناطق الوعرة التي لم تكن مستغلة من قبل. فأفضى ذلك إلى ظهور تجمعات سكنية جديدة. أطلق عليها الباحث اسم " الأنكستلمنطو" ([81]l’incastellamento). والواقع أن الأمر يتعلق بظاهرة تجاوزت كثيرا حدود التجمعات السكنية. اكتست دلالات متعددة وترتبت عنها نتائج بالغة الأهمية يمكن إجمالها فيما يلي:

 

أولا: أشرف على إقامة تلك التجمعات أفراد الأرستقراطية الدينية واللائكية. أحيانا كانوا يقومون بذلك مجتمعين، وفي أحايين أخرى متفرقين. فانتهى على اثر ذلك عهد تميز فيه العمران الريفي بتفرق المساكن. وحل عهد أصبحت فيه المساكن متجمعة. وغدا " الكاستروم " (le Castrum) هو النواة الأساسية في التنظيم الترابي. وبالمثل انتهى عهد كانت فيه أرياف ايطاليا مجالا جغرافيا مفتوحا، يمكن أن تتحرك ساكنته في جميع الاتجاهات. وحل عهد أصبح فيه الفلاحون قرويون (des villageois ou des castellanus). يقيمون تحت رحمة أفراد الأرستقراطية في تجمعات مغلقة يمكن نعتها بلغة عصرنا " بالكيطوهات " (des ghettos).

 

ثانيا: ترتب عن إقامة القرى المحصنة نهاية العمل بنظام الدومين الكبير (le grand domaine) الذي كان سائدا خلال الحقبة الكارولنجية. والذي بمقتضاه كانت الأراضي الصالحة للزراعة موزعة إلى استغلاليات كبيرة، شاسعة المساحة. فأصبح الآن كل دومين مقسما إلى وحدات صغرى يتوسطها قصر المالك العقاري. وتكتسي إعادة الهيكلة هاته دلالة بالغة في نظر بيير توبير لأنها تعني نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الوسيط في إقليم اللاسيوم.

 

ثالثا: يختلف بيير توبير مع بعض الباحثين حين يربطون بين ظاهرة " الأنكستلمنطو " وغارات المسلمين على بعض المواقع الايطالية. ويوضح في هدا المقام بأن أقدام المسلمين وطأت إقليم اللاسيوم بين سنتي 870 و910. وقد استطاع المسلمون الوصول إلى كنيسة القديس بطرس. ثم ابتعدوا عن الإقليم نهائيا بعد هزيمتهم في وقعة 915. في حين أن عملية تشييد القرى المحصنة لم تنطلق إلا بعد سنة 920[82].

 

وبناء على ما تقدم يخلص بيير توبير إلى القول بأن المنشآت الجديدة أقيمت في بادئ الأمر لإعادة تنظيم السكان. وبعد ذلك غدت أطرا تعتمل فيها حياة سكان الأرياف. بل إن جميع الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أصبحت الآن تعتمل في هذه الفضاءات الجديدة. وكأنه بذلك يقر ضمنا بأنها لا تختلف عن السنيوريات الإلزامية التي أرسى دعائمها أفراد الأرستقراطية في قمطيتي الماكوني وبروﭬانسيا كما رأينا فيما مضى. ويؤكد بيير بوناصي فعلا، في معرض تعليقه على أطروحة بيير توبير، بأن تجمع السكن الريفي في إقليم اللاسيوم أو تفرقه في إقليم قطلونيا لا يعدوان كونهما مجرد تجليات اتخذها السكن هنا وهناك. أما في واقع الأمر، فقد كان السكان تحت سيطرة الطبقة الأرستقراطية التي استطاع أفرادها امتلاك حق اتخاذ القرار، أي امتلاك حق الإلزام[83]. وإذا كان مالكو حق الإلزام في قمطيات غالة فد حصنوا أنفسهم بتشييد القصور المنيعة، وشكلوا المليشيات للاستناد عليها في أجرأة ذلك الحق، فيبدو أن الهاجس الأمني أو العسكري لم يكن غائبا تماما عن أذهان أفراد أرستقراطية اللاسيوم. لأنهم بقدر حرصهم على حل المشاكل الديموغرافية عن طريق إعادة تنظيم المجال، فقد كانوا أيضا حريصين من خلال إقامة القرى المحصنة وتشييد القصور على حماية أنفسهم وحماية ممتلكاتهم العقارية. وجعلها في مأمن من أي خطر قد يتهددها من قبل الفلاحين، الذين أخذت أعدادهم تتكاثر بشكل ملفت، أو من قبل أية قوى أجنبية.

 

نخلص في ضوء ما تقدم إلى القول بأن بيير توبير أبان بما لا يقبل الجدل بأن إقليم اللاسيوم، وبمعيته مجموع أقاليم ايطاليا، شهد ظاهرة الفيودالية. وأن الأمر يتعلق بظاهرة أصيلة نشأت وترعرعت في نفس الإقليم. وبالمثل ففد أبان بأنه انتهى زمن كان يتم فيه النظر إلى فيودالية غرب أوربا انطلاقا فقط من النموذج الماكوني أو من نماذج الأقاليم الواقعة في الشمال بين نهري الراين واللوار. ونؤكد من جانبنا بأن أطروحة بيير توبيرالتي حظيت باهتمام خاص في الأوساط العلمية[84] غدت منذ صدورها نموذجا يقتدى من قبل المهتمين بالبحث في المؤسسات السياسية والقانونية وفي البنيات الاجتماعية والزراعية في أقاليم جنوب أوربا. وفد تلتها بعد سنتين فقط أطروحة بيير بوناصي حول إقليم قطلونيا التي أحدثت القطيعة بصفة نهائية مع الطروحات التي ظلت رائجة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي، سواء فيما يتعلق بنشأة وتطور الفيودالية، أو فيما يتعلق بطبيعة هذه الظاهرة في أقاليم جنوب غالة وأقاليم أوربا المتوسطية. فماذا يمكن أن يقال عن الفيودالية في إقليم قطلونيا؟


اعتمد بيير بوناصي لانجاز بحثه على ما ينيف عن 15000 نص تعود للفترة الممتدة بين منتصف القرن العاشر ونهاية القرن الموالي. توزعت بين سجلات أديرة ومواثيق وعقود ونصوص هاجيوغرافية وغيرها. خلص بعد استقرائها إلى فكرة أساسية وهي أن إقليم قطلونيا شهد خلال الفترة المذكورة تحولات اقتصادية كبرى واكبتها عملية إعادة تشكل للبنيات الاجتماعية. ومن ثم، فخلافا لجورج دوبي وبيير توبير الذان يربطان نشأة الفيودالية بالتحولات السياسية، يذهب بيير بوناصي إلى التأكيد بأن نشأة وتطور ظاهرة الفيودالية في إقليم قطلوتيا لا يمكن فهمها وتتبع مسارها إلا باستحضار النمو الاقتصادي الذي أفضت إليه تلك التحولات الاقتصادية.

 

أولا: نهاية الركود الاقتصادي في إقليم قطلونيا وبداية النمو:

يفيدنا بيير بوناصي بأن النصوص التي اعتمدها تسمح بالقول بأن إقليم قطلونيا كان منتظما خلال الفترة موضوع البحث في هيأة قمطيات؛ أكبرها قمطية برشلونة. وعلى غرار قمطية الماكوني، فقد ظلت مؤسسة القمطية قوية في قطلونيا حتى حدود سنة 950. حيث كان القمط مهاب الجانب. يدين له بالولاء جميع السكان من خاصة وعامة. وربما كان التماسك والتآلف في قطلونيا أقوى مما كان عليه في سائر القمطيات نظرا لقربها من مراكز وجود المسلمين في الأندلس. أما اقتصاديا، ففد كانت قطلونيا إقليما فقيرا حتى حدود السنة المذكورة. يقيم سكانها المؤلفين في معظمهم من فلاحين في المناطق الوعرة. يعيشون في إملاق وتغلب على حياتهم الرتابة.

 

ويفيدنا بيير بوناصي بأن أقماط قطلونيا تحللوا من تبعيتهم لملوك غالة منذ عهد بوريل الثاني (Borrell II) الذي تولى مهام القمطية بين سنتي 948 و992. فحرموا من أي سند يحميهم، ولذلك ظلوا حريصين على كسب ود خلفاء قرطبة بحفظ المواثيق وتبادل الهدايا والصلات. ولم يجرؤوا يوما على مناوشة مسلمي الأندلس رغم أنهم تعرضوا لبعض الحملات العسكرية مثل تلك التي قادها المنصور بن أبي عامر سنة 985 م. / 374 ه. وتلك التي قام بها ابنه عبد الملك سنة 1003 م. / 393 ه. ورغم انقلاب موازين القوى لصالح مسيحيي شبه جزيرة ايبيريا بعد سقوط الخلافة واتجاه الأندلس نحو التجزئة، فقد استمر أقماط قطلونيا في نهج سياسة الود والمهادنة اتجاه القائمين على الأمر في الممالك الطائفية خلافا للسياسة التي انتهجها القشتاليون. وأهم ما تجرؤوا على القيام به هو حماية بعض الممالك الطائفية الصغرى مثل مملكتي سرقسطة وطرطوشة والمشاركة في بعض الحملات التي قام بها مسيحيو شبه جزيرة ايبيريا ضد مسلمي الأندلس والسماح لعدد من المحاربين القطلانيين بوضع مهاراتهم القتالية رهن إشارة بعض القوى الإسلامية مقابل أجر.

 

ويبدو أن سياسة الأقماط وخدمات المحاربين عادت بالنفع على القمطية وعلى سكانها. فقد أخذت تتسرب إليها كميات مهمة من القطع الذهبية الأندلسية. ساهمت منذ حوالي سنة 980 في إنعاش اقتصادها. حيث أعطت ديناميكية للنشاط الزراعي الذي كان معتمد سكانها. وأسهمت في إذكاء المبادلات التجارية، وإن ظلت منتجات الأرض موضوع تلك المبادلات. مما أفضى إلى نهضة اقتصادية. بدأت معالمها تتضح أكثر ابتداء من سنة 1020[85].

 

وينبهنا بيير بوناصي في هذا المقام يأته من الخطأ القول بأن العوامل الخارجية وحدها هي التي أدت إلى حدوث الانتعاش الاقتصادي. والصواب هو أن استقرار الأوضاع الأمنية على حدود قطلونيا هيأ الظروف الملائمة لجهود مضنية كان يقوم بها الفلاحون منذ منتصف القرن العاشر. تمثلت في عمليات توسيع للمساحات الصالحة للزراعة عن طريق استصلاح الأراضي الهامشية وتجفيف بعض المستنقعات وتحسين أساليب الأداء في العمل الزراعي. وأتى ذهب الأندلس ليقدم قيمة مضافة لتلك الجهود.

 

والحصيلة هي أن عوامل خارجية وأخرى داخلية تظافرت لتنتقل قمطية قطلونيا من مرحلة الركود إلى مرحلة النمو[86]؛ ومن مرحلة الانغلاق إلى مرحلة الانفتاح. وقد تجسدت صور هذا الانتقال في ارتفاع كمية عائدات الأرض، وانتعاش الأسواق، وازدياد حدة السيولة النقدية، وانتعاش حركة البناء والتشييد وتحسن ظروف عيش السكان، وارتفاع وتيرة الترحال في اتجاه المراكز المسيحية والإسلامية.

 

ثانيا: النمو الاقتصادي وتشكل الروابط الفيودو – فصلية:

كان من تبعات النمو الاقتصادي أن ازدادت قيمة وأهمية الأرض. وأصبحت موضوع رهان حاد وصراع مكشوف بين عموم الفلاحين وكبار الملاكين من أفراد الأرستقراطية الذين تزايد جشعهم. فلجأ هؤلاء إلى تشييد الحصون والقصور المنيعة وتشكيل المليشيات العسكرية على غرار ما قام به أقرانهم في مختلف قمطيات غالة. وشرعوا في شن الغارات على بعض المؤسسات الدينية وعلى الفلاحين للاستحواذ على ما في حوزتهم من أراضي.

 

وآل الصراع بطبيعة الحال لأفراد الأرستقراطية الذين نجحوا في بسط سلطانهم على معظم فلاحي قطلونيا من خلال إرساء السنيورية الإلزامية. التي تمثل في نظر الباحث مؤسسة أقيمت للاستفادة من الثمار التي أسفرت عنها جهود الفلاحين[87].

 

ويبدو أن المكاسب المادية والمعنوية التي حققها أفراد الأرستقراطية لم تثنيهم عن طلب المزيد. فأينعت رؤوس الكبار منهم. وأخذوا يرنون بأبصارهم نحو مؤسسة القمطية. ودخلوا فعلا في صراع مكشوف مع القمط رايموند برنجر الأول (Raimond Béranger Ier). نجحوا على إثره في بسط سلطانهم على القرى الواقعة في منطقة قطلونيا العليا. وأسسوا بها ما يشبه الكيانات السياسية المستقلة (des dominations territoriales autonomes). بينما فشلوا في تحقيق نجاح مماثل في الحاضرة برشلونة وفي القرى التابعة لأعمالها. ومرد هذا الفشل في نظر بيير بوناصي يكمن في قوة سلطة القمط في هذه المناطق وفي انضمام سكان الحاضرة وفلاحي القرى إلى صفوفه تجنبا للسقوط في قبضة أفراد الأرستقراطية.

 

والأهم من ذلك هو أن الانتصار الذي حققه القمط في هذه المواجهة شكل منعطفا حاسما في مسيرة المؤسسات السياسية والبنيات الاجتماعية في قطلونيا. فقد خبر رايمند برنجر قوة خصومه، فارتأى أن يتحول من قمط يشرف على تدبير الشأن العام ويرعى شؤون جميع أفراد المجتمع من خاصة وعامة إلى قائد للارستقراطية. فكان هذا التحول يعني بالنسبة لبيير بوناصي دخول قطلونيا في " عصر الفيودالية "[88]. حيث غدت الروابط الفيودو – فصلية هي أساس العلاقات بين الأقماط الذين تعاقبوا على إدارة قطلونيا وكبار أفراد الأرستقراطية. وقد تميزت هذه الروابط بكونها كانت تتم أمام الملأ في طقوس ومراسيم خاصة. ثم أصبحت منذ سنة 1040 تتم عبر مواثيق أو عقود ([89]les convenientiae).  فكان كل واحد من كبار الأرستقراطية يبرم عقدا مع القمط؛ بوصف الأول فصلا والثاني سنيورا. وبموجب هذه العقود كان يتم تحديد واجبات وحقوق كل طرف من طرفي العقد. وقد تزايد عدد هذه العقود خلال السنوات الموالية. وواكبتها في تفس الوقت روابط فيودو – فصلية من دون عقود بين المنتمين للشريحة السفلى والمنتمين للشريحة الوسطى في الطبقة الأرستقراطية وكذلك بين هؤلاء والمنتمين للشريحة العليا في نفس الطبقة.

 

والمحصلة النهائية هي أن شبكة الروابط الفيودو – فصلية بلغت في ظرف لا يتجاوز العقدين بعد سنة 1040 مستوى رفيعا من النضج والتبلور لم يسبق له مثيل في مختلف أقاليم غرب أوربا، . بما في ذلك الأقاليم الواقعة بين نهري اللوار والراين التي ظلت تنعت حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي بكونها مهد الفيودالية.

 

يسمح العرض الوجيز لمضامين المنغرافيات الإقليمية التي اخترناها كنماذج لرصد مظاهر تطور الفيودالية خلال المرحلة الثالثة من مسيرتها بالقول بأن الفيودالية بلغت فعلا مستوى متطورا من النضج بعد سنة 1000.

 

يمكن إجمال تجلياته والأبعاد المترتبة عنه في العناصر الآتية:

أولا: تجلى ذلك النضج في تجزئة مطلقة للسلطة؛ التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى ذلك سبيلا من أفراد الأرستقراطية في دوائر ترابية ضيقة لا تتجاوز حدود القرية. فتراجع دور قصور الملوك ومقرات الأقماط. وغدت القصور القديمة التي كان يملكها أفراد الأرستقراطية، والقصور التي استحدثها نفر منهم، مراكز لاتخاذ القرارات وإصدار الأوامر وممارسة حق الإلزام الذي تم تسليطه على عموم الفرحين. واستتبع كل ذلك اتساع نطاق شبكة روابط الفصالة التي بلغت خلال هذه المرحلة الثالثة مستوى من الكمال. فأخذت تبرم بمناسبة إقامتها في بعض الأقاليم عقود ومواثيق. كما حدث مثلا في إقليمي قطلونيا واللانكدوك حيث حلت تلك المواثيق محل الوفاء القائم على القسم في الروابط الفيودو- فصلية. وفي نفس الوقت أصبحت هذه الروابط متمحورة حول الفيف الذي لم يعد متمثلا في قطعة أرض فقط، بل أصبح كذلك عبارة عن قصور أو حصون كان يمنحها الأقماط أو كبار الملاكين العقاريين لقادة المليشيات العسكرية[90].

 

ثانيا: يبدو أن هذه التحولات كانت بالغة الأهمية حسب الانطباع الذي تتركه قراءة مؤلفات المعاصرين لها[91]. ترتبت عنها نتائج عميقة وشاملة على جميع الأصعدة والمستويات. ولذلك ذهب جورج دوبي، المعروف بكونه أبرز الباحثين الفرنسيين في التاريخ الأوربي الوسيط، إلى نعتها " بالثورة الفيودالية "[92]. فيما ارتأى باحثون آخرون نعتها " بالانتقال الفيودالي "[93] (la mutation féodale).

 

ثالثا: انخرطت فيما نسميه بالمرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية مختلف أقاليم غرب أوربا، ولو أن انطلاقة هذه المرحلة تمت هنا وهناك في فترات متفاوتة نسبيا بين كيان سياسي وآخر؛ وأيضا بين كيانات متجاورة داخل المجال الجغرافي الواحد. ففي غالة نجح أفراد الأرستقراطية في الانفراد بالسلطة في جميع الأقاليم منذ العقد الثاني من القرن الحادي عشر كما يتضح من منغرافيتي جورج دوبي وجون بيير بولي. أما في انجلترا فلم يحدث ذلك إلا على نطاق ضيق منذ عهد وليم الفاتح (Guillaume le Conquérant). فقد تنامت قوة بعض البارونات. وأقاموا شبكة من علاقات التبعية. وأصبحت تحت إمرتهم مليشيات عسكرية. ولكنهم ظلوا يحترمون المؤسسة الملكية من خلال تقديم الضرائب وتلبية نداء الملوك حين يدعونهم لإبداء المشورة أو لخوض الحروب[94].

 

ويبدو أن هذا المسار الخاص الذي سلكته الفيودالية في أنجلترا هو الذي حدا ببعض الباحثين إلى إنكار وجود فيودالية بها. بل إن نفرا منهم نادوا بضرورة شطب مفهوم الفيودالية من قاموس اللغة[95].

 

وخلافا لأنجلترا، ففي شبه جزيرة أيبيريا استطاعت أرستقراطية إقليم قطلونيا أن تفرض وجودها كقوة فاعلة ابتداء من سنة 1060 بعد أربعين سنة من الصراع مع سلطة الإقليم ممثلة في شخص القمط.

 

وقريبا جدا من قطلونيا، في مملكة قشتالة وليون، لم يستطع أفراد الأرستقراطية الانفراد بالسلطة إلا بعد سنة 1109 تاريخ وفاة ألفونسو السادس الذي كان يحكم المملكة خلال عهده بيد من حديد[96].

 

وعموما، فقد حدثت التحولات في مختلف كيانات غرب أوربا بعد فترة مخاض صعبة امتدت بين سنتي 1020 و1060 أو 1080. احتدمت خلالها النزاعات السياسية – العسكرية والاضطرابات الاجتماعية. فماذا يمكن أن يقال عن ملامح فترة المخاض وما هي مظاهر التحولات التي انبثقت عنها؟


يستفاد من الأبحاث المنغرافية التي استعرضنا مضامينها ومن غيرها[97]، بأن الفترة المشار إليها شهدت فعلا حالة احتقان وتوتر عمت مختلف أقاليم غالة كإقليم ماكوني وإقليم بواتو (Poitou) وإقليم بيكارديا (la Picardie)؛ وهي أقاليم تقع وسط وشمال غالة وقريبة من مركز السلطة. وحدث الاحتقان أيضا في إقليمي بروﭬانسيا واللانكدوك (le Languedoc) الواقعان في الجنوب والبعيدين نسبيا عن مركز السلطة. وحدثت نفس الحالة في إقليم اللاسيوم الايطالي البعيد عن التأثير المباشر للأحداث الجارية في غالة. وكذلك في أقاليم شبه جزيرة أيبيريا التي كان من المفترض أن تظل فيها جميع فئات المجتمع متماسكة، وأيديها في أيدي القائمين على الأمر بها، نظرا لوقوعها بمحاذاة مراكز وجود المسلمين الذين كانوا يهددونها باستمرار.

 

وعموما، فان العنف أصبح منذ مطلع القرن الحادي عشرسلوك أفراد المجتمع عامته وخاصته. وكأنهم استشعروا جميعا بأن حدثا ما يلوح في الأفق كان يجب الاستعداد له. ما هو ذلك الحدث الذي كان يلوح في الأفق؟ انه باختصار النهضة الاقتصادية التي بدأت مقدماتها منذ مطلع القرن التاسع[98]، والتي ستتجلى في صورة أوضح بعد سنة 1020. وستستمر حتى حوالي سنة 1320. فقد أحس الفلاحون الذين بذلوا جهودا مضنية في استصلاح الأراضي وتوسيع المساحات الصالحة للزراعة، بأن عوائق توضع أمامهم لمنعهم من الاستفادة من ثمار تلك النهضة. أما أفراد الأرستقراطية فأرادوا استباق الأحداث للاستفادة منها. ولذلك شرعوا في وضع " المسالك " و"القنوات " التي ارتأوا أن تعبرها النهضة الآتية.

 

وهكذا بدأت في أوساط الفلاحين إرهاصات الحركات الاحتجاجية التي ستندلع بعنف، متخذة تارة شكل حركات دينية كالحركات الهرطقية ([99]les hérésies) وتارة شكل انتفاضات اجتماعية عارمة. [100] اندلع بعضها بين سنتي 1000 و1320، أي خلال العصر الوسيط الأوسط. بينما اندلعت سلسلة انتفاضات أخرى منذ سنة 1315 أو 1320 واستمرت طيلة العصر الوسيط الأسفل؛ متزامنة مع الكوارث الطبيعية والديمغرافية والحروب التي شهدتها أقاليم غرب أوربا خلال هذه الفترة.

 

أما أفراد الأرستقراطية، الذين بهمنا أمرهم في هذا المقام، فقد بدأوا يتلكئون في تقديم الولاء للأقماط كما رأينا في ما مضى. وأخذت العلاقات بينهم وبين الأقماط تميل نحو التشنج. ينطبق هذا الأمر أيضا على نفر من أفراد الأرستقراطية الذين ينتمون لأسر عريقة، والذين كانوا يشاركون في ممارسة السلطة في القرى بتفويض من الأقماط أو بتفويض مباشر من الملوك. فقد أصيبوا هم الآخرين بالعدوى. وبموازاة هذه التطورات أخذ الفساد ينخر جسم مؤسسة القمطية. وتفشت الضغائن والدسائس بين الأقماط ومساعديهم كما حدث في إقليم قطلونيا وفي قمطية اللانكدوك مثلا حسب الإفادات التي يقدمها لنا كل من بيير بوناصي[101] وهلين ديباكس ([102]Hélène Débax) في الموضوع. وسرعان ما كانت هذه المشاكل تتحول إلى صراع مكشوف.

 

ومن البديهي في مثل هاته الحالة أن ينضم أرستقراطيون لهذا الطرف وآخرون لذاك الطرف. ثم يحدث الاقتتال.

 

والراجح أن هذه الظاهرة لم تقتصر على إقليمي قطلونيا واللانكدوك، بل حدث ما يشبهها في أقاليم وقمطيات أخرى كما يتضح من المنغرافيات الإقليمية التي سبق أن أحلنا عليها. حيث خصص مؤلفوها صفحات مطولة للحديث عن الوقائع والحروب التي دارت رحاها بين أفراد الأرستقراطية. إما بسبب اختلاف المواقف من مؤسسات القمطية ومن شخص القمط، أو لأسباب ودواعي مختلفة. وإن أهم ما يمكن استخلاصه من وراء هذا الحديث هو أن وقائع الحروب لم تعد تجري فقط على مستويات جهوية أو إقليمية كما كان يحدث في الماضي، بل أصبحت كذلك عبارة عن وقائع شبه يومية تحتدم على المستوى المحلي. أي في حدود القمطية، وأحيانا في حدود القرية الواحدة على مشارف القصر أو الحصن.

 

وانطلاقا من هذا الاعتبار ذهبت دومنيك بارثلمي (Dominique Barthélemy) إلى القول بأن الحروب وعمليات القرصنة وعمليات السلب والنهب (les rapines) وجميع أشكال العنف الأخرى غدت بعد مطلع القرن الحادي عشر إحدى ظواهر المجتمع الأوربي[103]. بينما ذهبت هلين ديباكس إلى التأكيد بأن العنف غدا أحد مكونات الفيودالية[104].

 

وكان من الطبيعي في مثل هاته الأجواء أن يتصدر حملة السيف واجهة الأحداث. فعليهم أخذ يعول أفراد الأرستقراطية في خوض الوقائع الدائرة بين بعضهم؛ أو الدائرة بينهم وبين الأقماط. وعليهم كذلك أخذ يعول أفراد الأرستقراطية لإخماد انتفاضات الفلاحين. ومن ثم، تكاثرت المليشيات العسكرية التي كانت عبارة عن فرق تتشكل من فرسان (les milites) ومن محاربين مرابطين في الحصون (les milites castri). وقد قدر بيير بوناصي بأن الفرقة الواحدة من تلك المليشيات كانت تتألف أحيانا من مائة محارب[105]. وفي نفس السياق خلص فليب دوران ([106]Philippe Durand) إلى القول، بعد تحريات ميدانية، بان عدد المحاربين المرابطين في القصور المنتشرة هنا وهناك في غرب أوربا كان مختلفا، ولكنه كان يصل عموما إلى المائة محارب. ولكن هذا العدد كان يرتفع تبعا للظروف والمستجدات العسكرية[107]. ومن هنا نستطيع أن نتصور بان مجمل عدد المحاربين كان يقدر بالآلاف. بعضهم كان يحارب تحت إمرة الأقماط، وبعضهم الآخر تحت إمرة المؤسسات الدينية، وبعضهم تحت إمرة كبار الملاكين العقاريين. وكانت تربط بين كل واحد منهم وبين سيده القمط أو المؤسسة الدينية أو الأرستقراطي روابط فيودو – فصلية. كانت تقضي بأن يقوم بخدمة سيده السنيور[108] مقابل قطعة أرض (الفيف).

 

ومن المفيد الإشارة إلى أن خصوصيات المرحلة اقتضت في بعض القمطيات لجوء أفراد الأرستقراطية إلى الوسائل السلمية لفض النزاعات القائمة بينهم والتحالف لمجابهة التحديات المشتركة، وأهمها انتفاضات الفلاحين. لذلك نشأت في تلك القمطيات، إلى جانب الروابط الفيودو-  فصلية التي تربط بين كل سنيور وأفصاله، روابط فيودو – فصلية بين بعض " السنايرة"، وخاصة بين متوسطي وكبار الملاكين العقاريين أو بين هؤلاء والبابوية كما حدث مثلا في قمطية بروﭭانسيا أو في إقليم اللاسيوم. ويبدو أن هذه الروابط تجاوزت مستوى " المجموعات " ونحت نحو " المركزية " في إقليم قطلونيا. فقد استطاع قمط برشلونة ريموند برنجر الأول أن يحسم سنة 1070 الصراع الدائر بينه وبين الأرستقراطية المحلية لصالحه. فلجأ إلى" ترويض" الروابط الفيودو – فصلية القائمة بين أفراد الأرستقراطية والمليشيات التابعة لهم بان سخر تلك الروابط لحسابه من خلال إقامة شبكة علاقات تبعية. وضع نفسه على رأسها، فغدا بذلك " سنيور السنايرة". وتفاديا لأية ردة من جانب أحد عناصر الشبكة اقترح إبرام عقود أو مواثيق (convenenientiae) بينه وبين أفراد الأرستقراطية. [109] منح بمقتضاها لهؤلاء " أفيافا " تمثلت في قطع أرض وحصون نظير الالتزام بولائهم للقمط واحترام مؤسسات القمطية. وكأنه بهذا الإجراء ألهم الملوك والأمراء الذين حكموا الكيانات المسيحية في شبه جزيرة أيبيريا بعد القرن الثاني عشر. إذ أرسوا هم الآخرين حكمهم على العناصر الثلاث: الفصالة والفيف والمواثيق التي غدت هي العناصر الأساسية المعتمدة في الحكم وتدبير الشأن العام.

 

ويبدو أن هذا الإجراء كان ناجعا ومنسجما تماما مع ما كان يعتمل في الواقع. بدليل أن بعض القائمين على الأمر في فرنسا " مهد الفيودالية " تبنوه هم الآخرين خلال القرن الثالث عشر وحتى أواخر القرن الموالي. فبعد هذا التاريخ بدأ الوهن يدب في أوساط الأرستقراطية من جراء المصاعب الاقتصادية – المالية التي تفاقمت منذ سنة 1317 [110]. وتداعيات حرب المائة سنة التي اندلعت منذ سنة 1337؛ بالإضافة إلى طاعون 1348-1349. فهيأت هذه العوامل الظرفية المواتية لتشرع " الدولة " مجددا في استعادة هيبتها على أسس قومية هذه المرة. فكان ذلك يعني بداية تلاشي الفيودالية رغم أن بعض تجلياتها القانونية والمؤسساتية ظلت مستمرة في فرنسا " مهد الفيودالية " حتى سنة 1789. ولذلك ذهب جمهرة من الباحثين إلى نعت الثورة الفرنسية بكونها " ثورة ضد الفيودالية " ([111]une révolution anti-féodale).

 

يتبع بحول الله.


[1] ارتأينا ترجمة الكلمة الفرنسية fief بكلمة فيف (بعلامة سكون فوق الياء ) لأنها أكثر دقة . في حين أن الكلمات مثل " اقطاعة " التي تجعلها بعض المعاجم العربية مقابلة لكلمة fief غير دقيقة و ذات دلالات خاصة تنطبق على المجال الإسلامي.

[2]- يمكن العودة بهذا الخصوص إلى دراسة أصبحت اليوم كلاسيكية للباحث كوهاشيرو تكاهاشي(Kohachiro Takahachi ) تحت عنوان:

La place de la Révolution de Meiji dans l’histoire agraire du Japon , in Du féodalisme au capitalisme Problèmes de la transition, traduction française, Paris Maspero,1977,Tome II.

و للاطلاع على أحدث ما كتب حول الفيودالية في اليابان و الصين و آسيا عموما نحيل القارئ على القسم الثاني من كتاب أنجزه مجموعة مؤلفين  تحت إشراف جون- بيار بولي(Jean-Pierre Poly) واريك بورنازيل(Eric Bournazel) بعنوان: Les féodalités, Paris, P.U.F. ,1998

[3]- انظر في هذا الشأن مداخلات الندوة التي نظمها مركز الدراسات و الأبحاث الماركسية بباريس يوم 27 أبريل 1968. و قد صدرت سنة 1974 ضمن منشورات سوي ( Seuil ) تحت عنوان  féodalisme Sur le

[4] من بين هذه الملتقيات على سبيل المثال الندوة الدولية التي نظمها المركز الوطني للبحث العلمي (le Centre National de la Recherche Scientifique) برحاب المدرسة الفرنسية بروما (l’Ecole Française de Rome) أيام 10-13 أكتوبر سنة 1978. و صدرت أعمالها بباريس سنة 1980 ضمن منشورات المركز المذكور تحت عنوان:                                                           Structures féodales et féodalisme dans l’Occident méditerranéen Xe-XIIIe Siècles

[5] نعتبر تجاوزا بأن منتهى الفيودالية في معناها الضيق تطابق مع نهاية العصر الوسيط. و الحقيقة أن بعض مظاهرها القانونية و الاجتماعية استمرت في بعض أقاليم غرب أوربا إلى وقت متأخر. ففي فرنسا مثلا استمرت حتى سنة 1789. لذلك يعتبر بعض الباحثين الثورة الفرنسية ثورة ضد الفيودالية ( une révolution anti-féodale ).

[6] كانت غاليا تتكون قبيل سنة 58 ق.م من مجموع الأقاليم التي تتشكل منها فرنسا اليوم بالإضافة إلى الأقاليم التي تعرف حاليا ببلجيكا و أجزاء من شمال ايطاليا و بعض أقاليم ألمانيا. وكل هذه الأقاليم كانت خارج دائرة السيطرة الرومانية باستثناء أقاليم الجنوب التي كانت خاضعة للرومان منذ سنة 121 ق. م.

[7] - يعرف هذا المؤلف في ألأوساط الفرنسية باسمين:

Commentaires sur la Guerre de la Gaule  ou La Guerre des Gaulesوقد اعتمدنا في هذا البحث على نسخة منه نقلها إلى الفرنسية و أعدها للنشر  Charles Louandre. وصدرت بباريس سنة 1868 عن منشورات .Charpentier (تضم هذه النسخة النصان اللاتيني و الفرنسي).

[8] -  يتعلق الأمر بكتاب Germaniae الذي اعتمدنا على نسخة منه حققها و نشرها Jacques Perret تحت عنوان  La Germanie؛ و صدرت سنة 1967 عن منشورات Les Belles Lettres بباريس. و تتضمن هذه النسخة النص اللاتيني و ترجمته الفرنسية.

[9] Jules César,Guerre des Gaules,Op. Cit. Livre IV,pp. 143-144.

[10] - Tacite , La Germanie , Ibid. , p. 73.

[11]- Ibid. , p. 78.

[12]-  Ibid. , p. 79.

[13] - أنظر الكتاب الرابع من مؤلف يوليوس  قيصر  La Guerre des Gaules

[14] - Tacite , La Germanie, Op.Cit., p.78.

[15]- هذا ما يفهم من حديث مارك بلوك( Marc Bloch ) حين يذكر في معرض حديثه عن الروابط خلال هذه الأزمنة بأنه كانت تفوح منها رائحة "خبز الدار"(le pain de ménage) أنظر في هذا الصدد كتابه:

La Société Féodale, Paris, Albin Michel, 1968, pp.233-249 et p.259.

[16]- يمثل القانون السالي مجموعة الأعراف التي كانت تحتكم إليها مجموعة من قبائل الفرنجة. و فد تم تدوينها بين سنتي 507 و 511 على عهد كلوڤيس (Clovis ) أول ملوك الفرنجة في غاليا أو(غالة). فأخذت شكل مدونة قوانين مؤلفة من 65 بندا على شكل فقرات متفاوتة الطول. ثم خضعت لعمليات تكملة و تنقيح عدة مرات بين سنتي 511 و 533 و بين سنتي 567 و 593 ثم بين سنتي 763 و 764 . و تم تصحيحها أخيرا سنة 798. و صدرت بعد تحقيق نصها في عدة طبعات من بينها طبعة 1828 التي تضم مجموعة القوانين السالية و مجموعة القوانين الضفية باللغتين اللاتينية و الفرنسية في كتاب واحد تحت عنوان:

Lois des Francs (contenant la loi Salique et la loi Ripuaire), texte traduit et annoté par Jean François-

Aimé Peyré , Paris, Imprimerie de Firmin Didot, 1828.

[17] - نسبة إلى مجموعة قبائل من الفرنجة كانت مستقرة قبيل عمليات الغزو بمناطق محاذية لنهر الراين. فسموا بالفرنجة الضفيين ( les Francs Ripuaires)

[18]- أنظر الفقرة 35 ، البند6 من القانون السالي ضمن الكتاب المشار إليه في الهامش السابق.

[19]- Francois Guizot , Histoire de la civilisation en France depuis la chute de l’Empire romain,(3 éme édition), Paris, Victor Masson, 1851, Tome III, p.227.

[20] - Ibid. pp.230-231.

[21]- Francis Palgrave, History of the Anglo – Saxons, London, William Tegg , 1869, p. 211.

[22]- Marc Bloch , La Société féodale , Op.Cit. ,pp. 213-214. -

[23] - أي العلاقات التي سادت خلال ما سميناه بالمرحلة الثانية من مسيرة الفيودالية.

[24]- Robert Boutruche , Seigneurie et Féodalité, Paris, Aubier, 1975, Tome I ,p.166.

[25] - اكتفينا في هذا المقام بذكر الأوضاع السياسية و الاقتصادية دون ذكر اعتبارات أخرى أسهمت بدورها في تفعيل تلك العلاقات ومن بينها المواقف الذهنية السائدة. فالأغنياء، وهم أيضا الأقوياء، بقدر ما كانوا يبحثون من وراء علاقات الإذعان و التضرع عن السند،فقد كانوا ينشدون أيضا القيادة و تحقيق الشهرة.

[26]-  أي منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية سنة 476 و حتى بداية حكم شارلمان سنة 768، الذي سيسعى إلى القيام بسلسلة إصلاحات إدارية و قضائية و اقتصادية للرقي بمستوى المؤسسات.

[27] - Robert Fossier, Histoire sociale de l’Occident médiéval, Paris, Armand Colin, 1970, p.98.

[28] - Colette Beaune, Le miroir du pouvoir, les manuscrits des  rois  de France au Moyen Age, Paris, Bibliothèque de l’image, 1997, p.95.

[29] - Hélène Débax, La féodalité languedocienne XIe-XIIe siècles. Serments, hommages et fiefs dans le Languedoc des Trencavel, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 2003, p.234.

[30] -  كانت أعداد سكان أقاليم غرب أوربا قليلة منذ سنة 476 حتى مطلع القرن التاسع؛ حيث بدأت تلك الأقاليم تشهد بداية نمو ديموغرافي   سيتضح أكثر بعد حوالي سنة 1000. و تعزى تلك القلة لأسباب بشرية و طبيعية، من بينها الحروب و الانتفاضات الاجتماعية و الأوبئة والمجاعات.

[31] - تتمثل هذه الاعتبارات في تدهور مختلف الأنشطة و ندرة السيولة النقدية لدفع مرتبات الجند. فضلا عن كون تكاليف إعداد الفارس الواحد كانت باهضة. فالفرس لوحده كان سعره خلال القرن السابع يبلغ ثلاث مرات ضعف سعر الثور.

[32]- Marc Bloc, La société féodale, Op.Cit., pp.217-218.

[33] - هو شارل ابن  ببين هرسطال( Héristal ).ولد حوالي سنة 688  وتوفي سنة 741. كان دوقا لمقاطعة أوسترازيا. ثم أصبح محافظا لقصرها بين سنتي 737 و741. و بما أن الملوك المنتمين للأسرة الميروﭬنجية الذين تعاقبوا على حكم غالة منذ سنة 638  كانوا  ضعاف الشخصية أو صغار السن، فان محافظي القصور هم الذين كانوا بمثابة ملوك فعليين. و قد برز من بينهم محافظو قصر أوسترازيا: ببين هرسطال ثم ابنه شارل الذي لقب بشارل مارتل ( Charles Martel) ( أي شارل المطرقة) بعد وقعة بواتيي أو بلاط الشهداء.

[34] - يجب أن ننبه في هذا المقام بأن الممالك الجرمانية لم تكن تتوفر على جيوش نظامية كما كان الأمر خلال سيادة الإمبراطورية الرومانية، لذلك كان الملوك يستنفرون عند كل حرب الذكور الأحرار القادرين على حمل السلاح. كانوا ينظمون على شكل فرق من المشاة. أما الفرسان المشاركون في تلك الحروب فكانوا يتألفون أساسا من الفرسان العاملين تحت إمرة أفراد الأرستقراطية والفرسان التابعين للملوك. و يمثلون حرسهم الخاص ( les antrustions ). و سيتزايد عدد الفرسان المحاربين تحت إمرة الملوك بعد إصلاحات شارل العسكرية.

[35]-  يتعلق الأمر بمؤرخ مغمور يدعى فريدﯕير(Frédégaire). ينتمي لمنطقة بورغونديا و عاش معظم حياته في مقاطعة أوسترازيا. وضع مصنفا سنة 660 يتناول الأحداث منذ بدء الخليقة حتى حوالي 642. و من ضمنها الأحداث التي شهدتها ممالك كل من الفرنجة و اللومبارديين و القوط الشرقيين و الغربيين. ثم تعاقب على استكمال نص الكتاب ثلاثة إخباريين مددوا الفترة التي يتناولها حتى حدود سنة 768. تم تحقيق و ترجمة هذا المصنف المؤلف من عدة نسخ إلى مختلف اللغات الأوربية. و قد اعتمدنا في هذا البحث على ترجمة فرنسية أنجزها فرانسوا ﯕيزوت (François Guizot) وصدرت بباريس سنة 1823 ضمن منشورات J.-L.-J. Brière في كتاب يتضمن مؤلف غريغوار أسقف مدينة تور (تاريخ الفرنجة) و مؤلف فريدﯕير (إخبارية) (Chronique) تحت عنوان :

Collection des Mémoires relatifs à l’histoire de France

[36]- و من هنا نفهم لماذا تنعت النصوص الأرستقراطي بالقوي (Potentat) و المسيطر(Dominus). و من هنا الفعل الفرنسي سيطر  (dominer) .

[37]-  Robert Boutruche, Seigneurie et féodalité, Op.Cit. Tome I, p.170.

[38] - أنظر على سبيل المثال ما يذكره ميشال كابلان (Michel Kaplan) حول الموضوع في كتابه:

Histoire médiévale, Tome I, Le Moyen Age IVe-Xe siècles, Paris, Boréal, 1994, p.168.

[39]-  يعتبر من أشهر إخباريي غالة. ولد حوالي سبة 770 أو 775 و توفي سنة 840. ينحدر من أسرة نبيلة.تلقى تعليمه الأولي بمنستير فولدا (Fulda) شرق غالة. و أبان عن فطنة ونباهة منذ نعومة أظافره، فتم إرساله سنة 791 إلى المدرسة الملكية الملحقة بقصر شارلمان لاستكمال تعليمه. و ظل بالقصر،حيث قربه شارلمان منه و أصبح من خاصته. و عينه كاتبا خاصا له و"وزيرا".

نظم مجموعة قصائد و وضع عدة مؤلفات أشهرها عمل "بيوغرافي"حول شخص شارلمان يعرف ب"حياة شارلمان"(Vita Karoli) و كتاب الحوليات(Annales) الذي يشك بعض الباحثين في نسبته لايجنهارد.

[40]- هو ببين ابن شارل مارتل. يعرف ببيبن القصير نظرا لقصر قامته. ولد حوالي سنة 715 و توفي سنة 768. شغل منصب محافظ قصري كل من نوستريا و أوسترازيا بمملكة غالة بين سنتي 741 و 751. ثم أقصى آخر الملوك الميروﭬنجيين و أصبح ملكا لمملكة غالة منذ سنة 751 حتى تاريخ وفاته.

[41]- Éginhard, Annales,Texte traduit et édité par François Guizot dans Collection des Mémoires relatifs à l’histoire de France, Paris, J.-L.-J., Librairie, 1824, pp. 6-7.

[42]-  ينص القانون السالي في البند الأول من الفقرة (أو المادة) 43 على أنه إذا قتل أحدهم إفرنجيا أو أحد البرابرة يلزم بدفع غرامة قدرها 8000 دنير (deniers) أو 200 " فلس"(sous) من ذهب. بينما بنص البند الرابع من نفس الفقرة (أو المادة) على أنه إذا قتل أحدهم  حارسا من حراس الملك (membre de la Truste) يلزم بدفع غرامة قدرها 24000 دنير أو600 "فلس" من ذهب. أنظر الصفحة 149 من القانون السالي ، طبعة 1828 التي سبقت الإحالة عليها.

[43]-  من بينهم على سبيل المثال جون- بيير بولي (Jean-Pierre Poly) و اريك بورنازيل (Eric Bournazel) مؤلفا كتاب:

La mutation féodale, Paris, P.U.F. (Collection Nouvelle Clio) 1980.

[44] أنظر ص.109 من نفس الكتاب.

[45]-  نشير في هذا الصدد إلى أن كلوﭬيس(Clovis) أول ملوك مملكة غالة الميروﭬنجية (وهي أكبر الممالك الجرمانية) اعتنق المسيحية يوم 25 دجنبر 498. بعد مرور 16 سنة على اعتلائه عرش هذه المملكة.أنظر تفاصيل الحدث عند ﯕرﯿﯕوار أسقف كنيسة  تور(Tours) في كتاب:

Histoire des Francs, traduction et édition Robert Latouche, Paris, Les Belles Lettres,1995, Livre II, chap.  31, pp.120-121.

[46] - يجدر التنبيه إلى أن كلمة بنفسيوم لا تطلق فقط على قطعة أرض، و إنما على أي شيء يقدمه شخص لشخص آخر للانتفاع به. و قد

يكون ذلك الشيء كمية من الحبوب أو مبلغا من المال.

[47] - Ferdinand Lot, « Le serment de fidélité à l’époque franque », in Recueil des travaux de Ferdinand Lot, Paris – Genève, Droz, 1968, TomeII ,p. 343.

[48]- أنظر الصفحة 117 من كتابهما: La mutation féodale الذي سبقت الإحالة عليه.

[49]- نشرت دراسات وأبحاث كثيرة حول شخصية شارلمان و حول إصلاحاته. يمكن العودة على سبيل المثال إلى الدراسة المستفيضة التي أنجزها لوي هالفن (Louis Halphen) منذ عقود تحت عنوان:

Charlemagne et l’empire carolingien,Paris, Albin Michel,1947, réédition,1968.

[50]- نقصد بتقنينها sa canalisation . أي جعلها تأخذ مسلكا واحدا يبتدأ عند أدنى فرد في المجتمع متمتع بحق الحرية و ينتهي عند شخص الملك باعتباره " سنيور السنايرة "(le suzerain).

[51]-نعني هنا غارات اﻟﭬكينج أو النورمان و غارات القبائل الهنغارية و غارات المسلمين انطلاقا من الأندلس.

[52] - تحدث بتفصيل عن هذا التقليد هنكمار(Hincmar)أسقف كنيسة مدينة ريمس(Reims) في كتابه:

De Ordine Palatii , texte latin et sa traduction française établit par la Bibliothèque de l’ Ecole des

Hautes  Etudes, Paris, Editions f.Vieweg , 1885.

و من المعلوم أن هنكمار الذي عاش بين سنتي 806 و 882 قضى فترة من حياته في خدمة لويس التقي(Louis le Pieux) وشارل  الأصلع (Charles le Chauve) خلفاء شارلمان.

[53]- Georges Duby , La société au XIe et XIIe siècles dans la région mâconnaise, Paris, A. Colin, 1953.

[54] - Jean-Pierre Poly, La Provence et la société féodale, 879-1166, contribution à l’étude  des structures féodales dans le Midi, Paris, Bordas, 1976.

[55]- Pierre Toubert , Les structures du Latium médiéval :Le Latium méridional et la Sabine du IXe siècle à la fin du XIIe siècle, Paris, les Editions de Boccard, 1973, 2 vol.

[56]- Pierre Bonnassie, La Catalogne du milieu du Xe à la fin du XIe siècle :Croissance et mutations d’une société, Toulouse, Association des publications de l’Université de Toulouse-Le Mirail ,1975-1976, 2 vol..

[57]- نذكر من بين هؤلاء الباحثين فوستيل دي كولانج ( Fustel de Coulanges ) المتوفى سنة 1889. و أوﯖيستان فلبش (Augustin Fliche) المتوفى سنة 1951. و فرديناند لوط (Ferdinand Lot) المتوفى سنة 1952.أنجز هؤلاء المؤرخين أبحاثا كثيرة ذات قيمة علمية بالغة. شكلت حجر الزاوية في لائحة المراجع التي اعتمدها مؤرخو ما بعد الحرب الكونية الثانية. ومن بين أبحاثهم نذكر على سبيل المثال:

Fustel de Coulanges,Histoire des anciennes institutions françaises, Paris, Hachette, 1901-1914. 6 Tomes.

Augustin Fliche, La chrétienté médiévale (395-1254), Paris, Editions de Boccard, 1929.

Ferdinand Lot, La France des origines à la guerre de Cent ans, Paris, Gallimard, 1941.

 

[58]- نذكر من بين هؤلاء المهتمين جاك فلاش (Jacques Flach ) المتوفى سنة 1919.رجل قانون له عدة مؤلفات من بينها:

Etudes critiques sur l’histoire du droit romain au Moyen Age, Paris, Librairie Larose et Forcel, 1890.

و فرانسوا اوليفيي – مارتان (François Olivier- Martin) المتوفى سنة 1952. هو أيضا رجل قانون له عدة مؤلفات من بينها:

Histoire du droit français des origines à la Révolution, Paris, Montchrétien, 1948.

[59] - يعد من أبرز المؤرخين الباحثين في اقتصاد و مجتمع فرنسا في العصر الوسيط. دعا إلى ضرورة تغيير مناهج البحث. و أسس لهذا الغرض رفقة زميله لوسيان فيفر (Lucien Febvre) المجلة الشهيرة "حوليات التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي" (Annales d’Histoire Economique et Sociale) التي لازالت تصدر إلى اليوم باسم "الحوليات، التاريخ، العلوم الاجتماعية" (Annales Histoire Sciences Sociales. كما أنجز عدة أبحاث قبل أن يلقى حتفه رميا بالرصاص على يد القوات النازية يوم 16 يونيو 1944. و من أهم ما صدر له:

Les caractères originaux de l’histoire rurale française (1931). Et La société féodale (1939).

[60]- ننبه القارئ بأن ما نذكره في هذا الشأن ينطبق على أطروحة دوبي التي صدرت سنة 1953. أما بعد ذلك فقد تطورت نظرته كثيرا كما يتضح من خلال مؤلفاته اللاحقة مثل كتاب Guerriers et paysans (1969)   و كتاب  Les trois ordres ou l’imaginaires du féodalisme (1978).

[61]- Georges Duby, La société au XIe et XIIe siècles…, Op. Cit. p.91 et p.540.

[62]- نقصد هنا ما يعرف بحركة سلام الله(la Paix de Dieu ) التي ظهرت سنة 989 بإقليم أكيتانيا،جنوب غالة، ثم انتشرت في

مختلف أقاليم غالة. و هي حركة ذات مسحة دينية اجتماعية. نشأت في أوساط رجال الدين و تبنتها المؤسسات الدينية. كانت تهدف إلى اقرارالسلم الاجتماعي بين المسيحيين على اثر حركات العنف التي بدأت تندلع هنا وهناك في سياق التحولات الكبرى التي بدأت تشهدها أقاليم غرب أوربا.

وقد كان هدفها الأسمى في حقيقة الأمر هو حماية المؤسسات الدينية، و الحرص على حرمتها. لذلك عقدت الكنائس  سلسلة اجتماعات للنظر في آليات تطبيق الحركة.أقرت على إثرها جعل المؤسسات الدينية أماكن حرما يجرم من اقتحمها أو اعتدى على الأفراد العزل المحتمين بها. كما أقرت كذلك جعل أيام الأحد و الاثنين والثلاثاء و الأربعاء أياما حرما لا يتم فيها القتال.و نفس الأمر ينطبق على الأيام التي تتصادف مع تخليد الأعياد الدينية. لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع  يمكن العودة إلى كتاب:

Dominique Barthélemy, L’an mil et la paix de Dieu: la France chrétienne et féodale (980-1060),  Paris, Fayard, 1999.

[63] - Georges Duby, La société au XIe et XIIe siècles…,Op.Cit.,p. 168.

[64]- سنعرف بهذه المؤسسة و سنتحدث عن بنيتها بتفصيل في موضع لاحق.

[65]- ننبه القارئ بأننا نستعمل كلمة ولاء كمرادف لكلمة hommage . كما أننا سنستعملها لاحقا كمرادف لكلمة fidélité. في حين أن هناك فرقا بين الكلمتين الفرنسيتين. لذلك فإننا عند كل استعمال لكلمة ولاء نسجل بين قوسين ما يقابلها في اللغة الفرنسية حسب سياق النص.

[66] - يتعلق الأمر بأطروحتي بيير توبير و بيير بوناصي اللتين أرجأنا الحديث عنهما بعد الحديث عن أطروحة جون بيير بولي لأنها

تهم أحد أقاليم غالة.

[67] - Jean-Pierre Poly, La Provence …, Op.Cit., p.IV.

[68] - يسمى هذا الحق باللغة اللاتينية Bannus. وبما أنه حق ملزم ( un droit contraignant) ، فقد ارتأينا ترجمة اسمه بالفرنسية

Le ban أو le droit de ban بعبارة حق الإلزام.

[69] - Jean-Pierre Poly , La Provence…,Op.Cit., p. 127.

[70]-  Ibid. p. 129.

[71]- Ibid., p. 160.

[72]- أنظر كتابه الذي سبقت الإحالة عليه ، الجزء الأول ، ص ص.224-225.

[73]- ينتسب هذا الدير للقديسة ماريا ( Sainte – Marie ). يقع في منطقة صابين أو صابينا على بعد حوالي 50 كلم. من روما. تعود نشأته إلى القرن السادس للميلاد. اتبع خلال رحلته الطريقة البندكتية. أنظر في هذا الشأن:

John Howe, Church and social change in eleventh century Italy, University of Pennsylvania Press, 1997.

[74] - أنشأ هذا الدير القديس بنوا ( Saint Benoît ) حوالي سنة 500 ميلادية. و قد اتبع الطريقة البندكتية كدير فارفا.

[75]- Pierre Toubert, Les structures du Latium…, Tome II, p. 1105.

[76]- Ibid., Tome II,p. 1183.

[77]- Ibid., Tome II, p. 1135 et suivantes..

[78]- Jules Gay, Les Papes du XIe siècle et la chrétienté, Paris, Gabalda, 1926,p.126. voir aussi Jean Flori,

Croisade et chevalerie, XIe – XIIe siècles, Paris – Bruxelles, De Boeck Université, 1998, pp. 15-16.

[79] - Pierre Toubert, Les structures du Latium…, Tome II, p. 1097.

[80] - Ibid., Tome I, p. 313.

[81] - أطلق بيير توبير كلمة  " الأنكستلمنطو " على التجمعات السكنية في قرى محصنة معلقة في المرتفعات.و يستعمل الفرنسيون كلمة Enchâtellement كمرادف لها. و على غرار بيير توبير ، استعمل روبير فوصيي ( Robert Fossier ) كلمة encellulement

للحديث عن التجمعات السكنية في إقليم بيكارديا ( la Picardie ).

[82] - Ibid. Tome I,p. 311.

[83]- Pierre Bonnassie, Le Latium au cœur du Moyen Age, in Anuario de estudios medievales, No 09,

1974-1979, pp.723-731.

[84] - دليلنا في ذلك التعاليق و التقارير الكثيرة التي خصها بها الباحثون في الدوريات و المجلات المتخصصة.

[85]- Pierre Bonnassie, La Catalogne du milieu du Xe à la fin du XIe siècle: croissance et mutations d’une société, Toulouse, Association des publications de l’Université de Toulouse-Le Mirail,1975-1976, Tome I, p. 433 et p. 479.

[86]- Ibid. , Tome I, p. 480.

[87]- Ibid. ,Tome II, p. 537. Voir aussi du même auteur Les cinquante mots clefs de l’histoire médiévale, Toulouse, Privat, 1981, p. 27 et p.86.

[88]- Pierre Bonnassie, La Catalogne…, Op. Cit., Tome II, p. 680.

[89]- Pierre Bonnassie, « Les conventions féodales dans la Catalogne du XIe siècle », in Les structures sociales de l’Aquitaine , du Languedoc et de l’Espagne au premier âge féodal , Paris,éd. Du C.N.R.S., 1969, pp.187-208.

[90] - أنظر في هذا الشأن بيير بوناصي:

Du Rhône à la Galice :Genèse et modalités du réglme féodale,in Structures féodales et féodalisme…,     Op.Cit.p. 39 et suivantes.

[91] -  من بينهم راوول ﯖلابير (Raoul Glaber) أحد أبرز إخباريي العصر الوسيط. ولد سنة 985  و توفي بعد سنة1047. نقل إلينا معطيات عن تلك التحولات في " تواريخه " التي نشرها  فرانسوا ﯕيزو (Francoit Guizot )  باللغة الفرنسية سنة 1824 تحت عنوان: Chronique de Raoul Glaber . ثم أعاد موريس برو (Maurice Prou) نشر نصها اللاتيني  سنة 1886 تحت عنوان:  Les Cinq livres de ses histoires. وصدرت بباريس عن منشورات A. Picard

[92] - استعمل  جورج دوبي العبارة لأول مرة و جعلها عنوان مبحث في كتاب:

du féodalisme,Paris,Gallimard, 1978, pp.182-205. Les trois ordre ou l’imaginaire

[93]-  يتعلق الأمر  بجون بيير – بولي  و اريك  بورنازيل اللذان جعلا عبارة  " la mutation féodale"  عنوانا لكتاب أصدراه سنة

1980 و قد سبق أن أحلنا عليه. و الجدير بالإشارة أن مسألة الثورة الفيودالية أو الانتقال الفيودالي ، التي لا يسمح لنا المقام بالتوقف عندها،أثارت نقاشا حادا في أوساط الباحثين خلال السنوات القليلة الماضية. يمكن الاطلاع عليه من خلال العودة إلى المقالات التي نشرتها المجلة الأنجليزية Past and Present في العدد 142 الصادر سنة 1994، و العدد 152 الصادر سنة 1996، و العدد 155 الصادر سنة 1997.كما يمكن العودة إلى كتاب دومنيك بارثلمي (Dominique Barthélémy):

La mutation de l’an mil a-t-elle eu lieu ? Servage et chevalerie dans la France des Xe et Xie siécle,  Paris, Fayard, 1997.

كما يمكن العودة إلى بحث لكريستيان  لورنسون روزاز (Christian Lauranson Rozaz) تحت عنوان:    « Le débat sur la mutation féodale :état de la question ».  وهو نص من 14 صفحة في صيغة pdf منشور على الموقع: www.droit.u-clermont1.fr

[94] - لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع نحيل القارئ إلى دراستين إحداهما قديمة باللغة الفرنسية و الأخرى باللغة الأنجليزية

صدرت منذ بضع سنوات. وهما:

Charlees Menche de Loise, France et Angleterre, étude sociale et politique, Paris, éd. E. Dentu, 1859. et Wilfred Lewis Warrem, The governance of norman and angevin England 1086-1272, California,    Stanford University Press, 1987.

[95]- تعد الباحثة اليزابيث راش براون (Elisabeth Rash Brown) أبرز من عبر عن هذا الموقف في عدد من أبحاثها و أهمها في هذا المقام مقال:

« The tyranny of construct, feudalism and historians of medieval Europe », The American Historical   Review, Vol. 79, No 04, 1974, pp. 1063-1088.

[96]- Marie-Claude Gerbet, La noblesse dans le royaume de Castille, Paris, les publications de la Sorbonne, 1979.

[97]-  يمكن أن نذكر في هذا المقام المنغرافيات الآتية:

Marcel Garaud, Les châtelains de Poitou et l’avénement du régime féodal. XIe-XIIe siècles, Poitiers, éd., Société des Antiquaires de l’Ouest, 1967 ;Robert Fossier, La terre et les hommes en Picardie jusqu’à la fin du XIIIe siècle, Paris, B. Nauwelaerts, 1968, 2 Vol. ; Dominique Barthélemy, Les deux âges de la seigneurie banale. Coucy (XIe-XIIIe siècles), Paris, les publications de la Sorbonne, 1984 ;  Hélène Débax, La féodalité languedocienne XIe-XIIe siècles. Serments, hommage et fiefs dans le Languedoc Trencavel, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 2003.

[98]- عن مقدمات النهضة الاقتصادية أنظر كتاب جورج دوبي:

Guerries et paysants.VIIe-XIIe siècles. Premier essor de l’économie européenne, Paris,Gallimard,1973.

[99]- أنظر عن هذه الحركات كتاب:

Régis Blanchet, Les hérésies médiévales face à l’inquisition, Paris, éd., du Prieuré, 1995, 2 Vol. et

و كتاب:

André Vauchez et Robert Fossier, Histoire du Moyen Age, Tome II (Xe-XIe siècles), Paris, A. Colin,  2005.

[100]- تناول عدد كبير من الباحثين الانتفاضات الاجتماعية التي شهدها الغرب الأوربي خلال العصر الوسيط الأوسط و العصر الوسيط الأسفل. يمكن العودة إلى المؤلفات الآتية على سبيل المثال لا الحصر:

Rodney Howard Hilton, Bond men made free, medieval peasant movements and the English rising of 1381, London, éd., Maurice Temple Smith, Ltd.,1973. ; Laurent Feller, Paysans et seigneurs au Moyen Age, VIIIe-Xve siècles, Paris, A. Colin, 2007. ; Flaran, Les luttes anti-seigneuriales dans l’Europe médiévales et moderne (Actes de journées d’études tenues à l’abaye de Flaran),Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 2009.

[101]- Pierre Bonnassie , La Catalogne…, Op.Cit. Tome II, p.539 et suivantes. Voir aussi les pages 575-580.

[102]- Hélène débax, La féodalité languedocienne…, Op.Cit., pp. 233-268.

[103]- Dominique Barthélemy, Les deux age de la seigneurie banale…, Op.Cit., pp. 539-541.

[104]- Hélène Débax, La féodalité…, Op.Cit., p. 233

[105]- Pierre Bonnassie, « du Rône à la Galice genése et modalité du régime féodale », in Structures féodales et féodalisme…, Op.Cit. p. 32. Voir aussi du même auteur, Les milites en pays d’ Oc au XIe siècle, dans son recueil d’articles intitulé: Les sociétés de l’an mil un monde entre deux ages, Bruxelles, De Bœck Université, 2001, p.453 et suivantes.

[106]- Philippe Durand, Le château fort, Paris, éd., J.P. Gisserot, 1999.

[107]- Ibid., p. 8.

[108]- كانت الخدمة العسكرية (ما يسمى بالفرنسية le servisse d’ost )  تمثل أهم خدمة على الإطلاق.

[109]- Pierre Bonnassie, « Les conventions féodales… », contribution déjà citée.

[110]- أنظر ما ذكرناه في مقدمة هذا البحث. و لمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كتاب ﯖي بوا (Guy Bois ):

Crise du féodalisme, Paris, Presses de la Fondation Nationale des Sciences Politiques, 1976.

و كتاب رودني هلتون (Rodney Howard Hilton ):

Class conflict and the crisis of feudalism. Essays in medieval social history, London, The Hambledon Press, 1985.

[111] - يمكن العودة بخصوص هذا الموضوع إلى الكتابين الآتيين:

L’abolition de la féodalité dans le monde occidental, (actes du colloque international tenu à Toulouse entre le 12 et le 16 novembre 1968), éd., du C.N.R.S.,Paris, 1972, 2 Vol. et John Markoff, The aboli-tion of feudalism. Peasants, Lords and Legislations in the French Revolution, Pensylvania, The Pensylvania  University Press, 1996.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
3- تساؤل
elaouni mohammed - maroc 07-02-2016 03:42 PM

شكرا أستاذ يوسف على بحثك المقالي القيم
أنا طالب سنة ثانية بجامعة محمد الأول وجدة شعبة تاريخ سنة ثانية
بعد اطلاعي على البحث الرائع عدة مرات، وقد تكلمت عن القمطيات كثيرا في مقالك رغم أن لا وجود لها في مقررنا الدراسي، وبحثت عن معنى الأقماط كثيرا ولم أجد ذلك، وحتى كمفهوم كذلك.. أتمنى ردا عن سؤالي لنستفيد أكثر وشكرا.

2- Thx
soulaimane amrani - maroc 03-06-2013 03:02 PM

أريد عنوان هذا الكتاب و تاريخ الطبعة

1- alfyoudali
manal - maroc 14-05-2013 11:44 PM

merci pour tous ça am verry happy

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب