• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

المسلمون بين قيصر اليوم وقيصر الأمس

خميس النقيب

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 12/10/2010 ميلادي - 4/11/1431 هجري

الزيارات: 12487

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مقولةٌ اتَّخَذَها المُفسِدون طريقًا لإفْسادهم، وصنَعَها الماديُّون سبيلاً لأغراضهم، واتَّخَذها المُتَأسلِمون غِطاءً لسَرِقاتهم وثَرائهم، وللأسف الشديد انطَلَتْ على المسلمين الغافلين؛ لضعْف إيمانهم، وقلَّة فقهِهم، وجمود عُقولهم، وظلمة قلوبهم، يظنُّون أنَّ الإسلام مسجدٌ فقط، صلاةٌ فقط، حجٌّ فقط، صومٌ فقط، هذه أركانه، فأين جدرانه وسقفه؟! أين شرفاته وفرشه؟! هذه المقولة: "دَعْ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"!

 

يظنُّون أنَّ الدنيا ليسَتْ للمسلم، السعي في الأرض ليس للشيخ، الانتِشار في الأرض ليس للمؤمن، الجهاد الذي هو ذُروَة سَنام الأمر ليس من شأْن الموحِّد، عليه فقط أنْ يجلس في المسجد ويقرَأ القرآن أو يحفَظه، مع تَقدِيرنا العظيم للقرآن، واحتِرامِنا الشديد لأهْلِه، أمَّا كلمة حق عند قيصر جائر فلا، أمَّا نُصرَة مظلوم عند أميرٍ ظالم فلا، أمَّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا، أمَّا الاختلاط بالناس والصبر على أذاهم فلا، أمَّا مُقارَعة الباطل في عقر دارِه، في ميادينه ودوائره فلا!

 

هل هذا دين؟! هل هذا جهاد؟! أين الطريق إلى الجنَّة؟! ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

 

قتل النفس هنا ليس خسارة، إنما هو ثمنٌ لجنة عرضها السموات والأرض، أين الشهادة؟! ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].

 

أين ثمن الجنة؟! ((... ألاَ إنَّ سِلعَة الله غالية، ألاَ إنَّ سِلعَة الله الجنَّة))؛ تخريج السيوطي: (ت ك) عن أبي هريرة، تحقيق الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 6222 في "صحيح الجامع".

 

أين أسد الله حمزة؟ أين أوَّل شهيدةٍ في الإسلام سميَّة؟ أين جعفر الطيَّار، أين صاحب الظلال؟ عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المؤمن الذي يُخالِط الناسَ ويَصبِر على أذاهم، أعظَمُ أجرًا من المؤمن الذي لا يُخالِط الناسَ ولا يَصبِر على أذاهم))؛ قال الشيخ الألباني: صحيحٌ.

 

عن أبي أُمامَة قال: عرَض لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله، أيُّ الجهاد أفضل؟ فسكَتَ عنه، فلمَّا رمى الجمرة الثانية سأَلَه، فسكت عنه، فلمَّا رمَى جمرة العقبة وضَع رجلَه في الغرز ليَركَب فقال: ((أين السائل؟))، قال: أنا يا رسول الله، قال: ((كلمة حقٍّ عند ذي سلطانٍ جائر))؛ صحَّحه الألباني.

 

وعن أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الجهاد كلمةُ عدلٍ عند سلطانٍ جائر - أو: أمير جائر))؛ قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.

 

الذين يُؤثِرون السلامة، ولا يُخالِطون الناس ولا يَصبِرون على أذاهم، هل الحسابات في معركة الفرقان الأولى كانت ماديَّة عند القائد الأعلى وصَحابَتِه الأَجِلاَّء؟! كلاَّ، بونٌ شاسِعٌ بين العَدَد والعَدَد، بين العُدَّة والعُدَّة، وفرقٌ واسعٌ بين الهدَف والهدَف، بين الغايَة والغايَة، لكن مَن الذي انتَصَر؟!

 

في معركة الفرقان الأخيرة في غَزَّة العِزَّة، هل كانت الحِسابات ماديَّة عند أصحاب الأرض وأهل الحق؟! كلاَّ، بونٌ شاسعٌ بين العَدَد والعَدَد، بين العُدَّة والعُدَّة، وفرقٌ واسع بين الهدَف والهدَف، بين الغايَة والغايَة، لكن - أيضًا - مَن انتَصَر؟! ومَن انتَشَر؟!

 

في الخندق، في الهجرة، في كلِّ صَولات وجَولات المسلمين العاملين قديمًا وحديثًا، في كلِّ مُواجَهات الباطل، مع كلِّ صُوَر الباطل - كان النصر حليفهم؛ لأنهم لم يحسبوها ماديًّا، فقط يوم حنين ركَنُوا إلى عددهم وترَكُوا جنْب ربهم، وتخلَّوا عن رُكْن ربهم، قالوا: "لا نُهزَم اليوم من قلَّة"، فردَّ الله - تعالى - عليهم: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25].

 

فالعبادات ليست دَروَشَةً أو رهبانيَّة أو كهنوتيَّة.

 

ما لقيصر لله وما لله لله:

الله - عزَّ وجلَّ - خلَق الخلْق بقدرته؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

 

وصَنَع الكون بحكمته؛ ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29].

 

ودبَّر الأمر بقوَّته؛ ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].

 

وسيَّر الدنيا بعظمته؛ ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40]، ثم بعد ذلك تجد مَن يغيِّر شرعَ الله، مَن يُعانِد منهجَ الله، مَن يُعارِض أوامرَ الله، مَن يصدُّ عن سبيل الله... إنها مأساة، مأساة اليوم وكل يومٍ يُغيَّر فيه من شرع الله، ويُتحايَل فيه على شريعة السماء.

 

قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]، فقال الشيوعيُّون والماديُّون: ليس له الخلق أو الأمر، وقال المشرِكون والعَلمانيون: له الخلق ولنا الأمر "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"!

 

أمَّا المؤمنون، فقالوا: نعم، له الخلق وله الأمر، قالوا وفهموا أنَّ ما لقيصر لله وما لله لله؛ ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

 

اتِّباع لا ابتِداع:

محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحبُّ قبلةَ أجدادِه السابِقين من الأنبِياء والمرسَلين، وأراد الله - عزَّ وجلَّ - أنْ يُحَوِّل وجوههم صَوْبَ القدس بعد الهجرة، لكنَّ النبيَّ المرسَل، والرسول المؤدَّب، لم يشأ أنْ يقتَرِح حتى مجرَّد اقتِراح، أو أنْ يدعو حتى مجرَّد دعاء لتحويل القبلة، وإنما كان يُقلِّب وجهَه في السماء في أدبٍ جمٍّ، وسموٍّ فريد، وتَواضُع رفيع، مع ربِّه وخالقه ورازقه، هل يُغيِّر شرع الله؟ كلاَّ، هل يَتحايَل على أمر الله؟ كلاَّ، هل يبتَدِع في دين الله؟ كلاَّ ثم كلاَّ، حاشَ لله أنْ يفعَلَ ذلك رسولُ الله، فما بال الذين يُغيِّرون شرعَ الله في كلِّ صَباحٍ؛ قَوانِين وضعيَّة، وقَرارات أرضيَّة، عادات اجتماعيَّة، وسلوكيَّات فرديَّة وجماعيَّة، أعراض تُنتَهَك، وحقوق تُغتَصَب، وحريَّات تُمتَهن، بل دِماء تُسكَب، وأرواح تُزهَق باسم قَوانِين وقَرارات وعادات وسلوكيَّات ما أنزَلَ الله بها من سلطان!

 

إنَّ ترْك الجهاد - بكلِّ أنواعه - ذلَّة وهَلاك وابتِداع، أمَّا رفْع رايته، والولوج في ميدانه، والوقوف على أوامره، فهو عزَّة وحياة واتِّباع، ((إذا ضَنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتَبايَعوا بالعِينَة، وتَبِعُوا أذنابَ البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله - أدخَلَ الله - تعالى - عليهم ذلاًّ، لا يرفَعُه عنهم حتى يُراجِعوا دينهم))؛ تحقيق الألباني: (صحيح)، انظر حديث رقم: 675 في "صحيح الجامع".

 

القرآن يربط الدنيا بالدِّين ويربطهما بالآخرة:

ما أُرسِلت الرُّسل وما أُنزِلت الكتب إلاَّ لإصلاح الدنيا بالدِّين؛ قسطًا وعدلاً، رأفةً ورحمةً، نفعًا ونصرًا؛ ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [الأنعام: 92].

 

الصلاة تربط الدنيا بالدين:

المسجد بُنِي لربْط الدنيا بالآخِرة، والصَّلاة فُرِضت لتَطوِيع الدنيا للآخِرة، والعِبادة جُعِلت لجعْل الدنيا مَزرَعةً للآخِرة، كيف؟! ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36 - 37].

 

الدنيا في أيديهم (تجارات وبيوع، محلاَّت ومصانع، شركات ومعارض)، لكنَّها لا تُلهِيهم عن الصَّلاة، يؤدُّون صلاتهم، ويخرجون من مساجدهم، خائفين من عِقاب ربهم، فيُصلِحون بهذه الدنيا البلاد والعِباد، فيراعونه فيما ملكهم إيَّاها.

 

الغنيُّ الحَيِيُّ:

كان عثمان بن عفَّان - رضِي الله عنه - غنيًّا عفيفًا حَيِيًّا، تستَحيي منه الملائكة، جهَّز جيش العُسرَة، واشتَرَى بئر رومة للمسلِمين، ومع ذلك كان يَبِيت لله قانتًا، قائمًا وساجدًا، يحذَر الآخِرة ويَرجُو رحمةَ ربِّه، قيل: نزلت فيه الآية: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].

 

حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن واقع الرملي، حدثنا ضمرة بن رَبِيعة، عن عبدالله بن شوذب، عن عبدالله بن القاسم، عن كثير مولى عبدالرحمن بن سمرة قال: جاء عثمانُ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بألف دينار، قال الحسن بن واقع وكان في موضعٍ آخَر من كتابي في كمِّه حين جهَّز جيشَ العُسرَة فينثرها في حِجرِه، قال عبدالرحمن: فرأيتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقلبُها في حجره ويقول: ((ما ضرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم)) مرَّتين؛ قال الشيخ الألباني: حسن، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((اللهمَّ ارضَ عن عثمان، فإنِّي عنه راضٍ))؛ "فقه السيرة".

 

أمَّا إذا كانت الدنيا في بُطُون المُفسِدين، هل يستَطِيع أحدٌ أنْ ينتَزِعها؟! والحال أبلَغُ من المقال، يقول صاحب "الظلال": "يذكر فيها اسم الله ﴿ ويذكر فيها اسمه ﴾، وتتَّسِق معها القلوب الوَضِيئة الطاهرة، المسبِّحة الواجِفَة، المصلِّية الواهبة، قلوب الرجال الذين ﴿ لا تُلهِيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكْر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ﴾، والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثَّراء، ولكنَّهم مع شغلهم بهما لا يَغفُلون عن أداء حقِّ الله في الصلاة، وأداء حقِّ العباد في الزكاة ﴿ يخافون يومًا تتقلَّب فيه القلوب ﴾.

 

ويقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، الانتشار بعد الصلاة، لماذا؟ لإعمار الأرض، لتَعبِيد الأرض لله، لتطويع الكون لله، لإغاثة الملهوف، ومُساعَدة المنكوب، ونُصرَة المظلوم، لإعادة الحقوق، وحفْظ الحدود؛ "هو التوازُن الذي يتَّسِم به المنهج الإسلامي، التَّوازُن بين مُقتَضَيات الحياة في الأرض؛ من عمل وكدٍّ، ونشاط وكسبٍ، وبين عزلة الرُّوح فترةً عن هذا الجو، وانقِطاع القلب وتجرُّده للذكر، وهي ضرورةٌ لحياة القلب..."؛ "الظلال".

 

عِراك بن مالك - رضِي الله عنه - إذا صلَّى الجمعة، انصَرَف فوقَف على باب المسجد فقال: اللهمَّ إنِّي أجبتُ دعوتَك، وصلَّيت فَرِيضتَك، وانتَشرتُ كما أمرتَني، فارزُقني من فضلك وأنت خيرُ الرازِقين؛ رواه ابنُ أبي حاتم.

 

الحج يربط الدنيا بالآخرة:

والحج يجمَع بين الدنيا والآخرة، كيف؟ الذي يُرِيد الدنيا فحسب لا خَلاق (نصيب) له في الآخرة؛ ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 200]، والذي يريدهما معًا - يجعَلُ دُنياه مَزرَعةً لآخِرته - يحوزُهما معًا؛ ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 201 - 202]، جاء ذلك في معرض الحديث عن الحج في كتاب الله - عزَّ وجلَّ.

 

فالحجُّ قوَّةٌ سياسيَّة بالتَّشاوُر والتحالُف، وقوَّة اقتصاديَّة بالبيع والشِّراء، وقوَّة اجتماعيَّة بالاتِّحاد والإخاء، وقوَّة روحيَّة بالذِّكر والدعاء.

 

الثَّرِيُّ العَفِيف، مليونير الصحابة:

إنَّه الصحابي الكريم عبدالرحمن بن عوف - رضِي الله عنه - وُلِد قبل عام الفيل بعشْر سنوات، وأسلَمَ قبل أنْ يدخُل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكان أحدَ الثمانية الذين سبَقُوا إلى الإسلام، وأحدَ الخمسة الذين أسلَمُوا على يد أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وأحدَ الستَّة الذين اختارَهم عمر ليخلفوه في إمارَة المؤمنين، وأحدَ العشرة المبشَّرين بالجنَّة، كان أغنَى أغنِياء الصحابة.

 

أُغمِي عليه ذاتَ يومٍ ثم أفاق، فقال لِمَن حولَه: أَغُشِي عليَّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنَّه أتاني ملَكَان أو رجُلان فيهما فَظاظةٌ وغلظةٌ، فانطَلَقا بي، ثم أتاني رجُلان أو ملَكَان هما أرقُّ منهما، وأرحَمُ فقالا: أين تُرِيدان به؟ قالا: نُحاكِمه إلى العزيز الأمين، فقال: خلِّيا عنه، فإنَّه ممَّن كُتِبت له السعادة وهو في بطن أمِّه؛ (الحاكم).

 

هاجَر إلى الحبشة مرَّتين، وآخَى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعدٌ: أخي، أنا أكثَرُ أهلِ المدينة مالاً، فانظُر شطْر (نصف) مالي فخُذْه، ولي امرأتان، فانظُر أيَّتهما أعجَبُ إليك حتى أُطلِّقها لك، فقال عبدالرحمن بن عوف: بارَك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السُّوق، فدلُّوه على السُّوق، فاشتَرَى وباع، فرَبِح كثيرًا.

 

وكان - رضِي الله عنه - فارسًا شجاعًا، ومجاهدًا قويًّا، شهد بدرًا وأُحُدًا والغزوات كلَّها مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقاتَل يوم أُحُدٍ حتى جُرِح واحدًا وعشرين جرحًا، وأُصِيبت رجلُه فكان يعرج عليها.

 

بعَثَه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى دَومَة الجَندَل، وعمَّمَه بيده الشريفة وسدلها بين كتفَيْه، وقال له: ((إذا فتَح الله عليكَ، فتزوَّج ابنةَ شَرِيفِهم))، فقَدِم عبدالرحمن دَومَة الجَندَل فدعاهم إلى الإسلام، فرفَضُوا ثلاثًا، ثم أسلَمَ الأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الكلبي وكان شريفهم، فتزوَّج عبدالرحمن ابنتَه تُماضِر بنت الأصبغ، فولَدَتْ له أبا سلمة بن عبدالرحمن؛ (ابن هشام).

 

وكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو له، ويقول: ((اللهمَّ اسقِ عبدالرحمن بن عوفٍ من سلسبيل الجنَّة))؛ (أحمد).

 

وكان - رضِي الله عنه - تاجرًا ناجحًا، كثيرَ المال، وكان عامَّة مالِه من التجارة، وعُرِف بكثْرة الإنْفاق في سبيل الله، أعتَقَ في يومٍ واحد ثلاثين عبدًا، وتَصدَّق بنصْف ماله على عهْد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.


وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لِمَن بقي من أهل بدرٍ لكلِّ رجْلٍ أربعمائة دينار، وكانوا مائةً، فأخَذُوها، وأوصى بألف فرسٍ في سبيل الله.


وقال له - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا ابن عوف، إنَّك من الأغنياء، ولن تدخُل الجنَّة إلاَّ زحفًا، فأقرِضِ الله يُطلِق لك قدمَيْك))، فقال عبدالرحمن: فما أُقرِض يا رسول الله؟ فأرسل إليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أتاني جبريل، فقال لي: مُرْه فليضف الضيف، وليُعطِ في النائبة والمصيبة، وليُطعِم المسكين))؛ (الحاكم)، فكان عبدالرحمن يفعَل ذلك.


وبرغْم ما كان فيه ابنُ عوف - رضِي الله عنه - من الثَّراء والنعم، فقد كان شديدَ الإيمان، مُحِبًّا للخير، غيرَ مُقبِلٍ على الدنيا، إنما يُطَوِّعها للدين.


وذات يومٍ أُتِي بطعامٍ ليُفطِر وكان صائمًا، فقال: قُتِل مصعب بن عمير وهو خيرٌ منِّي، فكُفِّن في بردة، إنْ غُطِّي رأسُه بدَتْ (ظهَرت) رِجلاه، وإنْ غُطِّي رِجلاه بدَا رأسُه، ثم قال: وقُتِل حمزة، وهو خيرٌ منِّي، ثم بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط، وأُعطِينا منها ما أُعطِينا، وقد خشينا أنْ تكون حسناتنا عُجِّلت لنا، ثم جعَل يَبكِي حتى ترك الطعام.


وذات يوم أحضَرَ عبدالرحمن لبعْض إخوانه طعامًا من خبز ولحم، ولَمَّا وُضِعت القصعة بكى عبدالرحمن، فقالوا له: ما يُبكِيك يا أبا محمد؟ فقال: مات رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يَشبَع هو وأهلُ بيتِه من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خيرٌ لنا.


ولَمَّا تولَّى عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - الخلافةَ (سنة 13 هـ)، بعَث عبدالرحمن بن عوف على الحج، فحَجَّ بالناس، ولَمَّا طُعِنَ عمر - رضِي الله عنه - اختار ستَّةً من الصحابة ليَختارُوا من بينِهم الخليفة، وكان عبدالرحمن بن عوفٍ أحدَ هؤلاء الستَّة، وكان ذا رأيٍ صائب، ومشورةٍ عاقلة راشِدة، فلمَّا اجتَمَع الستَّة قال لهم: اجعَلُوا أمرَكم إلى ثلاثة نفرٍ، فتَنازَل كلٌّ من الزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقَّاص، فبَقِي أمرُ الخلافة بين عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفَّان، وعلي بن أبي طالب، فقال عبدالرحمن: أيُّكم يتبرَّأ من الأمر ويجعَل الأمر إليَّ، ولكم الله عليَّ ألاَّ آلُو (أقصِّر) عن أفضلكم وأخيركم للمسلمين؟ فقالوا: نعم، ثم اختار عبدالرحمن عثمانَ بن عفان للخلافة، وبايَعَه فبايَعَه عليٌّ وسائر المسلمين.


ترَك أربعة زوجات، وورث لكلِّ واحدة أربعة آلاف ألف (أربعة مليون)، نساؤه ورثن 16 مليونًا، فكم تكون ثروته، إذا كان هذا هو الثُّمُن، قُدِّرت ثروته بـ8 ضرب 16= 128 مليونًا من الأموال والضَّيعات والإبل وغيره، لكنَّه كان زاهِدًا وَرِعًا تقيًّا، كان يربط الدنيا بالدين!


وتُوفِّي عبدالرحمن - رضِي الله عنه - سنة (31هـ)، وقيل: (32هـ) في خلافة عثمان بن عفَّان، ودُفِن بالبقيع.


هكذا المسلم يُصلِح الدنيا بالدين، ويُعبِّد الطريقَ لله ربِّ العالمين، ويَفقَه أنَّ ما لقيصر لله وما لله لله، فالخلق لله والملك لله، والحكم لله والأمر لله.

 

الإصلاح والإعمار في الإسلام حتى الرَّمَق الأخير:

عن أنسٍ - رضِي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنْ قامت الساعة وفي يد أحدِكم فسيلةٌ، فإنِ استَطاع ألاَّ تقوم حتى يغرِسَها، فليَغرِسها))؛ رواه الإمام أحمد 183/3 184 191، والبخاري في "الأدب المفرد" 479، (وهذا سندٌ صحيحٌ على شرط مسلم، الفسيلة: هي النخلة الصغيرة، وهي الوَدِيَّة).

 

ثم روى عن الحارث بن لقيط قال: كان الرجل منَّا تُنتِج فرسه فينحرها، فيقول: أنا أعيشُ حتَّى أركَبَ هذه، فجاءنا كتاب عمر: أنْ أصلحوا ما رزَقَكم الله، فإنَّ في الأمر تنفسًا؛ وسنده صحيح.

 

وروى ابن جريرٍ عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أنْ تغرس أرضَك؟ فقال له أبي: أنا شيخٌ كبيرٌ أموت غدًا، فقال له عمر: أَعزِم عليك لتغرسنها، فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي؛ كذا في "الجامع الكبير" للسيوطي 2/337/3.

 

لذلك عَدَّ بعض الصحابة الرجل يعمَل في إصلاح أرضه عامِلاً من عمَّال الله - عزَّ وجلَّ.

 

وقال عبدالله بن عمرو لابن أخٍ له خرَج من الوهط: أيعمَل عمالك؟ فقال: لا أدري، قال: أما لو كنت ثقفيًّا لعلمت ما يعمل عمالك، ثم التَفَتَ إلينا فقال: إنَّ الرجل إذا عمل مع عمَّاله في دارِه (وقال الراوي مرَّة: في ماله)، كان عاملاً من عمَّال الله - عزَّ وجلَّ؛ حسن (الوهط: البستان، وهي أرضٌ عظيمةٌ كانت لعمرو بن العاص بالطائف على ثلاثة أميال من (وج)، يبدو أنَّه خلفها لأولاده).

 

وقد روى ابن عساكر في "تاريخه" 2/264/13 بسندٍ صحيحٍ عن عمرو بن دينار، قال: دخَل عمرو بن العاص في حائطٍ له بالطائف يُقال له: (الوهط) فيه ألف ألف خشبة، اشترى كل خشبة بدرهم؛ يعني: يقيم بها الأعناب.

 

هل الدين في المساجد فقط؟! هل يُقيَّد في العِبادات فحسب؟!

هل بعد ذلك يُعزَل الدين عن الحياة السياسيَّة والاقتصاديَّة والتربويَّة؟ هل تسوغ مَقُولة: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"؟ فالدولة لقيصر، والحكم لقيصر، والسياسة والاقتصاد لقيصر، والصلاة والدعاء والدَّروَشَة لله، هل هذا معقولٌ؟! كلُّ مظهرٍ ديني في اللباس والاحتِفالات والمعاملات مُخالِفٌ للقيصر يُهدِّده، فالحجاب يُهدِّد النِّظام العلماني في فرنسا، ويُهدِّد النِّظام العلماني في تركيا وإنجلترا وبعض الدول العربية، هذه دولةٌ تحبس الدين في العلاقات الشخصيَّة بين العبد وربِّه فقط.

 

الإسلام ليس كهنوتيًّا وراثيًّا، ولرجال الدين والمفتين والفقهاء الكلمةُ الفاصلة في الأمور، وكلُّ الأمور تَخضَع لفتوى وحُكمِ رجال الدين والفُقَهاء، هذه تَتنافَى مع مبادئ الشُّورى والمساواة بين العباد، كيف؟

 

الدين في الإسلام لله، والوطن في الإسلام لله، والخلق كلُّه لله، والأمر كله لله، فكلُّ مَن يُنادِي بغير ذلك مخالفٌ للإسلام، كلُّ مَن يتبع غير ذلك مُناهضٌ للقرآن، وكلُّ مَن يعمَل غيرَ ذلك رافضٌ للسنَّة النبويَّة الصحيحة؛ ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 107].

 

الملكُ لله، والحكمُ لله، والأمرُ لله؛ ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17].

 

وكل شيء في الوجود لله، حتى الممات؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].

 

حتى دين الملك؛ ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76].

 

أمَّا مقولة: دَعْ ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فمرفوضةٌ تمامًا في الإسلام؛ لأنها تلغي الشورى، وتُدمِّر الحريَّة، وتَرفُض الحوار، وتمنَع حريَّة الفكر، وتُعطِّل البحث والدراسة.

 

الإسلام جاءَ ليُحرِّرنا من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، جاء ليُحرِّرنا من ظُلم الأديان للإنسان إلى عَدالَة الإسلام وتحريره للإنسان، جاء ليأخذنا من ضِيقِ الدنيا إلى سَعَةِ الدنيا والآخِرة، فيجب ألاَّ تُخلَط المفاهيم، وألاَّ يُلغَى الإسلام أو يُحصَر في دَهالِيز ضيِّقة؛ فالإسلام جاءَ رحمةً للعالمين، وتحريرًا للدنيا، وإسعادًا للبشر، هذه مهمَّة الإسلام، وهذا واجبُ مسلِمِي اليوم أمامَ قيصر اليوم، كما كان واجِب مُسلِمي الأمس أمام قيصر الأمس، قال ربعي بن عامر للقيصر رستم عندما سأَلَه: ما جاء بكم؟ قال ربعي - رضِي الله عنه -: "الله ابتَعثَنا والله جاء بنا؛ لنُخرِج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعَتِها، ومن جور الأديان إلى عدْل الإسلام".

 

والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخَذَ بمشورة الحُباب بن المنذِر وغيَّر مكانَ الجيش، وقال له: ((أشرتَ بالرأي))، وفي بيعة العقبة طلَب المصطفَى - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الأوس والخزرج اختيار نُقَباء لهم، قال المباركفوري في "الرحيق المختوم": "فتَمَّ انتخابُهم في الحال، وكانوا تسعةً من الخزرج، وثلاثة من الأوس"، وفي المدينة المنورة بنى المصطفَى - صلَّى الله عليه وسلَّم - السُّوق، وبني المسجد، ووضَع وثيقة المدينة المنظِّمة للعلاقات بين المواطِنين فيها.

 

ليس في الإسلام كهنوت، أو صكُّ غُفران، أو صكُّ حِرمان، أو إهداء قَرارِيط في الجنَّة؛ إنما الإسلام استِجلاب رحمةِ الله بالعمل والهجرة والجهاد؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218].

 

ليس في الإسلام عبادة الفرد للفرد، حتى ولو كان رجلَ دين، كيف؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعَدِيِّ بن حاتم: ((الله - تعالى - يقول: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]))، قال عَدِيٌّ: ما عبَدُوهم، فبيَّن المُصطَفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنهم شرعوا لهم بغير ما أنزَل الله واتَّبَعوهم، وهذه عبادتهم إيَّاهم.

 

والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَقول: ((أنتم أعلَمُ بأمور دنياكم))، ولم يُحدِّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو القرآن الكريم نمطًا مُعيَّنًا ومُحدَّدًا لنظام الحكم، وهذا ما تعلَّمَه الصحابة - رضوان الله عليهم - من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وطبَّقوه؛ لذلك تَمَّ اختيار خُلَفاء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأساليب وآليَّات مختلفة.

 

في العقيدة الإسلاميَّة يجب أنْ يتحقَّق الأمن الغذائي، والأمن الدوائي، والأمن الكسائي، والأمن الداخلي والخارجي؛ ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3 - 4].

 

فالعقيدة في الإسلام تَلغِي المقولة: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، والإطعام من الجوع، والأمن من الخوف يُؤكِّدان أهميَّة المدنيَّة، ويستَبعِدان الكهنوتيَّة.

 

اللهمَّ شرِّفنا بالعمل لدينك، ووفِّقنا للجِهاد في سبيلك، امنَحنا التَّقوى واهدِنا السبيل، وارزُقنا معيَّتك وأورثنا جنتك، اللهمَّ ارزُقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعَل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبلَغ عِلمِنا، وصَلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أطع ربك، اخدم دينك، كن إيجابيًا
  • أحب أن أسمعه من غيري
  • المسلمون بين التحديات القائمة والتضحيات اللازمة

مختارات من الشبكة

  • المسلمون بين قيصر اليوم وقيصر الأمس(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • المسلمون الغربيون من مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات المثاقفة بين شرق وغرب(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • المسلمون كالجسد الواحد(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح حديث: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح حديث عبدالله بن عمرو: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده(مقالة - آفاق الشريعة)
  • علاقة المسلمين وغير المسلمين في نسيج المجتمع المسلم(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • إسبانيا: المسلمون الإسبان يمثلون 40% من تعداد المسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • حديث: المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده...(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • المسلمون بين التأثير والتأثر في المجتمع الأمريكي(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 


تعليقات الزوار
1- تربت يداك
محمد فياض - اليونان 18-10-2010 03:41 PM

أخى الكريم
بارك الله فيك وتربت يداك أثلجت صدرى بمقالتك
ادعو الله العلي العظيم أن يجعلها فى ميزان حسناتك
وأن يكثر من امثالك وأن يخلص بلاد المسلمين من قياصرة اليوم الذين أفسدوا على الناس عقيدتهم وخربوا دينهم ودنياهم.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب