الجامع في بواعث إعجاب الكفار بالإسلام (1)

الجامع في بواعث إعجاب الكفار بالإسلام (1)

كثيرًا ما نفرح - بحكم انتمائنا وحبنا للإسلام - بشهادات الكفار المفعمة بالإعجاب بالإسلام ونبيِّه صلى الله عليه وسلم وتاريخه وحضارته.. نفرح فرحًا يُنسينا جوانبَ مختلفة حَوَتْها تلك الشهادات.

فبين طيَّات تلك الشهادات رسائلُ مختلفة؛ رسائل إعجازية قهرت أصحابَها فلم يتمالكوا أنفسَهم - وهم أولُ من يخالفونه وربما يحاربونه - وأظهروا إعجابَهم بدين الإسلام.. روى الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لِمَ؟ قال: ليُعطوكه؛ فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزِه ولا بقصيدِه مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يُشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوةً، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم فاتحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر، قال: هذا سحر يُؤثر، يأثِره عن غيره، فنزلت: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ [المدثر: 11]، صححه الحاكم وقال: على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.

فتلك الشهادة من كافرٍ ناصبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ودعوتَه العداءَ، تُظهر مدى الإعجاز الباعث عليها، ومدى غلبة الإسلام وقهره لأصحابها، فلم يستطيعوا هربًا من الإعجاب به، بل والشهادة له.

ورسائل دعوية:

كما أن تلك الشهادات تبعث رسائل دعوية مختلفة.. رسائل لأهل الإيمان تزيد من إيمانهم وتقوّي من يقينهم، ورسائل لأهل الملل الكافرة تبعثهم على مراجعة أنفسهم وقبول الحقّ من ربهم، ورسائل للشاردين عن الله تعالى ودينه من أهل ملة الإسلام ليقفوا على فضل ربهم عليهم ورحمته بهم أن خلقهم مسلمين.

ولقد استعمل صلى الله عليه وسلم شهادةَ حديثي العهد بالكفر للدعوة إلى الإسلام كما في حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري أن عبد الله بن سلام لما أسلم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتوني عنـدك، فجاءت اليهود، ودخل عبدُ الله البيتَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟) قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟) قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه!

فلقد رجا النبي صلى الله عليه وسلم إسلامَ اليهود بشهادة عبد الله بن سلام للإسلام، لكن اليهود قوم بهت؛ زاغوا عن الحقّ، فأزاغ الله قلوبهم عنه.

ورسائل رحمة:

كما أن تلك الشهادات تحمل في طياتها رحمةً من الله تعالى للخلق، فلا يقيم عليهم الحجج العقلية ويدعهم، بل يقيّض منهم من يشهد شهادة الحقّ للإسلام، فلا يبقى لجاهل أو لمرتابٍ عذر، وتلك من معالم رحمة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

تلك بعض ما تحمله تلك الشهاداتُ من رسائلَ بين طيّاتها، ومن الناس من تكلّف في اعتبار تلك الشهادات وما تحمله من دلائل، ومنهم من غلا في ردّها.

فالذين تقصّوا تلك الشهادات وأبرزوها في الواقع، حملهم على ذلك كثرةُ الطعون الغربية والداخلية في الإسلام وتاريخه وحضارته، فرأوا محاجّة الخصم بعقلية مماثلة لعقليته في التصور والمنهج والعمل، لكنهم في سبيل غايتهم المشروعة أضاعوا فروضًا منهجية أخرى، فلم يتحرّوا صحةَ المنقول، ولم يضبطوا مدلولات تلك الشهادات.

وبالجملة فإن غالبية المهتمين في مجال الفكر ومحاورة أصحاب المناهج والفرق والأديان الأخرى يغلِب عليهم نوعُ غفلةٍ عن التأصيل الشرعي الضابط لتلك المسائل، فتكثر المخالفاتُ وتصنع مناهج قائمة على أصول واهية.

والذين لم يعبؤوا بتلك الشهادات واتخذوا منها موقفًا سلبيًّا إنما حملهم على هذا ما رأوا من مبالغة الفريق الآخر في إبرازها دون ضبطها.. وما رأوا هم فيها من اعتزاز بها ينافي الغاية من نقلها وإظهارها، هذا بالإضافة لما تحمله تلك الشهادات كثيرًا من تقوُّلٍ على الإسلام بما ليس منه، أو بما يخالفه، فيدس السمّ في العسل.

إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر:

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله ليؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر) [أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة].. فإننا نرى أن شهادة الرجل الكافر للإسلام من تأييد الله لهذا الدين.

ضوابط واجبة:

ولا يعني استغلالُ تلك الشهادات دعويًّا أننا نقبلها دون ضوابط المنهج الصحيح، فنضعها مكانها اللائق، ومن هذه الضوابط:

• تحري صحة تلك الشهادات: ولعلّ من أبرز ما ينبغي الإشارة إليه تلاعبَ بعض السُّفهاء بعقول ومشاعر المسلمين، فيزوّرون بعض تلك الشهادات ليفرح بها المسلم ويسارع في تناقلها ثم يظهر كذبها بعد ذلك، لا سيما تلك المعنية بالإعجازات العلمية الحديثة المتوافقة مع كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

والغرض من وراء تزوير تلك الشهادات وتلفيقها الاستهزاء بأمة بأسرها، وإثبات سطحيتها، فيقع البعض من المسلمين في فخّ العدو دون أن يشعر، والواجب تعليم الناس التحري الكامل في نقل تلك الأحاديث وإطلاعهم على مخطط المستهزئين العابثين.

• ترك الغلو في رفع تلك الشهادات فوق مكانتها: فالمتعارف عليه عادةً أن شهادة الصغير في الكبير لا ترفع قيمته كثيرًا، فـ (الإسلام يعلو ولا يعلى) [أخرجه الدارقطني وغيره من حديث عائذ بن عمرو، وحسنه الألباني في صحيح الجامع]، وهو حقيقة يعدّل من يشهد له بخير، إذ الشاهد له بالخير شاهد لعقله وفطرته بالاستقامة لما وافق الإسلام.

ونحن أمة الشهادة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، فشهادتنا هي الشهادة، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) [أخرجه الشيخان من حديث أنس].

فالاستعلاء إنما يكون بما تحمل تلك الشهادات من حقّ وافَقَ ديننا، لا بأشخاص وأسماء أصحاب تلك الشهادات.

• الحذر من مغالطات بعض تلك الشهادات: إذ كثيرًا ما تحمل بعضُ تلك الشهادات مغالطاتٍ في العقيدة أو التصور أو العمل الإسلامي.

كما نجد في مدح بعضهم الإسلام بقوله: "الإسلام الوسط" وهي كلمة حقّ أريد بها باطلا، أريد بها الإسلام المنبطح! والإسلام المنعزل عن الواقع! والإسلام العلماني! أو الأمريكاني!!

فتتحول تلك الأحاديث من شهادات إلى تصورات تُبثّ في الناس ويتشربونها دون أن يشعروا بأن دينهم يحرف على أيديهم.

وللحديث تتمة...

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.