الحلقة الثامنة والأربعون

مُعاذ بن جبل

ابن عمرو بن أوس، أبو عبدالرحمن السلمي الأنصاري الخزرَجي، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وممن جَمَع القرآن على عهْد رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

لما أسلم معاذ صار يكسر أصنام بني سلمة هو وثعلبة بن عنمة وعبدالله بن أنيس، وشهد معاذ بدرًا وهو ابن عشرين عامًا تقريبًا، كما شهد أحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وقد بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن يُعلِّمهم الدين، ويُفقههم في الأحكام، ويأخذ الزكاة مِنْ أغنيائهم فيدفعها إلى فُقرائهم، وكان آخر ما أوصاه به - صلى الله عليه وسلم - حين بعَثه إلى اليمن، وبعد أن وضع رجله في الغرز: ((أن أحسن خلقك مع الناس))، وكان سأله قبل ذلك: ((بِمَ تقضي إن عرض لك قضاء؟))، قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: ((فإن لم يكن في كتاب الله؟))، قال معاذ: أقضي بما قضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإن لَم يكنْ فيما قضى به الرسولُ؟))، قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: ((الحمدُ لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما يُرضي رسولَ الله)).

وكان معاذ سخيًّا، لا تُمسك يدُه المالَ، وكان من أحسن الناس وجْهًا، وأحسنهم خُلقًا، وأسمحهم كفًّا، فادَّان دَينًا كثيرًا، فلازمه غرماؤُه حتى تغيب عنهم أيامًا في بيته، حتى استأذى غرماؤه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ يدْعوه، فجاء ومعه غرماؤه فقالوا: يا رسول الله، خذ لنا حقنا منه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله مَن تصدَّق عليه))، فتصدَّق عليه ناس وأبى آخرون، فقالوا: يا رسول الله، خذْ لنا حقنا منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصبر لهم يا معاذ))، فخلصه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ماله، فدفعه إلى غرمائه، فاقتسموه بينهم، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، فقالوا: يا رسول الله، بعْه لنا، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خلوا عنه، فليس لكم إليه سبيل))، فانصرف معاذ إلى بني سلمة، فقال له قائل: يا أبا عبدالرحمن، لو سألتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصبحتَ اليوم معدمًا، قال: ما كنت لأسأله، فمكث أيامًا، ثم دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه إلى اليمن، وقال: ((لعل الله يجبرك، ويؤدِّي عنك دَيْنك))، فخرج معاذ إلى اليمن، فلم يزل فيها حتى توفِّي رسول - صلى الله عليه وسلم - ووافى السَّنة التي حج فيها عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قد استعمله أبو بكر على الحج، فالْتقيا يوم التروية بمنًى فاعتنقا، وعزى كلُّ واحدٍ منهما صاحبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أخلدا إلى الأرض يتحدثان، فرأى عمرُ عند معاذ غلمانًا، فقال: ما هؤلاء يا أبا عبدالرحمن؟ قال: أصبتهم في وجهي هذا، قال عمر: من أيِّ وجْه؟ قال: أُهدوا إليَّ وأكرمت بهم، فقال عمر: اذكرهم لأبي بكر، فقال معاذ: ما ذكري هذا لأبي بكر؟ ونام معاذ فرأى في النوم كأنه على شفير النار وعمرُ آخذٌ بحجزته من ورائه يمنعه أن يقع في النار، ففزع معاذ وقال: هذا ما أمرني به عمر، فقدم معاذ فذكرهم لأبي بكر، فسوغه أبو بكر ذلك وقضى بقية غرمائه، وقال: إني سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لعل الله يجبرك)).

ولما أصيب أبو عبيدة بن الجراح في طاعون عمواس[1] استخلف معاذ بن جبل، فخطب معاذ الناس، وقال في خطبته: "أيها الناس، أربع خِلال مَن استطاع ألا يدركه شيءٌ منهن فلا يدركه، قالوا: وما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويصبح الرجل على دِين ويمسي على دين آخر، ويقول الرجل: والله ما أدري على ما أنا، لا يعيش على بصيرةٍ، ولا يموت على بصيرة، ويعطى الرجلُ مِنْ مال الله على أن يتكلم بكلام الزُّور".

ومرض ابنا معاذ بالطاعون، فقال أبوهما: كيف تجدانكما؟ قالا: يا أبانا، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قال: وأنا ستجداني - إن شاء الله - من الصابرين، وقد ماتا في ذلك الطاعون، ثم ماتتْ زوجتاه بالطاعون، ولحق بهما معاذ كذلك.

وقد كان معاذ عالمًا جليلاً، وفقيهًا فاضلاً، قال أبو إدريس الخوْلاني: دخلتُ مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا، وإذا ناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقالوا: هذا معاذ بن جبل، فلما كان من الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، فوجدته يُصلي، فانتظرته حتى قضى صلاتَه، ثم جئتُه من قِبل وجهه فسلَّمت عليه، وقلت له: والله إني لأحبك لله، قال: فقال: آلله؟ فقال: آلله، فأخذ معاذ بحبوة ردائه وجبذه إليه، وقال: أبشِرْ، فإنِّي سمعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله - تبارك وتعالى -: وجبتْ رحمتي للمحتابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ)).

ولقد كان لمعاذ مِن رفعة الشأن وجليل المقام، ما جعل عمرَ بن الخطاب يقول: لو أدركتُ معاذ بن جبل فاستخلفتُه، فسألني ربي عنه، لقلتُ: يا رب، إني سمعت نبيَّك يقول: ((إن العلماء إذا اجتمعوا يوم القيامة كان معاذ بن جبل بين أيديهم قذفة حجر)).

وروى أبو داود والنسائي عن معاذ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعنَّ أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك)).

وقال ابن مسعود: كنا نشبِّهه بإبراهيم الخليل، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اقرؤوا القرآن من أربعة))، وذكر منهم معاذ بن جبل، وفضائله كثيرة.

إمام الفقهاء، وكنز العلماء، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، من أفضل شباب الأنصار حلمًا وحياء وسخاء، وكان جميلاً وسيمًا.