• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    نعمة الماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تدبر خواتيم سورة البقرة
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    تحريم الإهلال لغير الله تبارك وتعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    مشاهد عجيبة حصلت لي!
    أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (2)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الدرس السابع عشر: آثار الذنوب على الفرد والمجتمع
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    خطبة: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    سورة الكافرون.. مشاهد.. إيجاز وإعجاز (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    من آداب المجالس (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    خطر الميثاق
    السيد مراد سلامة
  •  
    أعظم فتنة: الدجال (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / الحديث وعلومه
علامة باركود

إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (2)

الشيخ محمد حامد الفقي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/2/2015 ميلادي - 14/4/1436 هجري

الزيارات: 20379

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أحاديث الأحكام

إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (2)


قال المانعون من التحديد بالقلتين:

أما قولكم: إنه قد صحَّ سنده فلا يفيد الحكم بصحته؛ لأن صحة السند شرط أو جزء سبب للعلم بالصحة لا موجب تام، فلا يلزم من مجرد صحة السند صحة الحديث ما لم ينتفَ عنه الشذوذ والعلة؛ ولم ينتفيا عن هذا الحديث.

 

أما الشذوذ فإن هذا حديث فاصل بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، وهو في المياه كالأوسق في الزكاة، والنصب في الزكاة، فكيف لا يكون مشهورًا شائعًا بين الصحابة، ينقله خلف عن سلف، لشدة حاجة الأمة إليه أعظم من حاجتهم إلى نصب الزكاة؟ فإن أكثر الناس لا تجب عليهم زكاة، والوضوء بالماء الطاهر فرض على كل مسلم، فيكون الواجب نقل هذا الحديث كنقل نجاسة البول، ووجوب غسله، ونقل عدد الركعات ونظائر ذلك، ومن المعلوم أن هذا لم يروه غير ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير عبيدالله وعبدالله فأين نافع وسالم وأيوب وسعيد بن جبير، وأين أهل المدينة وعلماؤهم عن هذه السنة التي مخرجها من عندهم، وهم إليها أحوج الخلق لعزة الماء عندهم؟ ومن البعيد جدًّا أن تكون هذه السنة عند ابن عمر وتخفى على علماء أصحابه وأهل بلدته، ولا يذهب إليها أحد منهم، ولا يروونها ويديرونها بينهم، ومَن أنصف لم يَخَفْ عليهم امتناع هذا، فلو كانت هذه السُّنة العظيمة المقدار عند ابن عمر لكان أصحابه وأهل المدينة أقولَ الناس بها، وأرواهم لها.

 

فأيُّ شذوذ أبلغ من هذا؟ وحيث لم يقل بهذا التحديد أحد من أصحاب ابن عمر، علم أنه لم يكن فيه عنده سنة من النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وجه شذوذه.

 

وأما علته فمن ثلاثة أوجه:

أحدها: وَقْفُ مجاهد له على ابن عمر، واختلف فيه عليه، واختلف فيه على عبيد الله أيضًا، رفعًا ووقفًا، ورجَّح شيخا الإسلام أبو الحجاج المزي وأبو العباس ابن تيمية وقفَه، ورجَّح البيهقي في سننه وقفه من طريق مجاهد، وجعله هو الصواب؛ قال شيخنا أبو العباس: وهذا كله يدل على أن ابن عمر لم يكن يحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سئل عن ذلك فأجاب بحضرة ابنه فنقل ابنه ذلك.

 

قلت: ويدل على وقفه - أيضًا - أن مجاهدًا - وهو العلم المشهور الثبت - إنما رواه عنه موقوفًا واختلف فيه على عبيد الله وقفًا ورفعًا.

 

العلة الثانية: اضطراب سنده كما تقدم.

 

العلة الثالثة: اضطراب متنه؛ فإنه في بعض ألفاظه: ((إذا كان الماء قلتين))، وفي بعضها: ((إذا بلغ الماء قدر قلتين أو ثلاث))، والذين زادوا هذه اللفظة ليسوا بدون من سكت عنها، كما تقدم.

 

قالوا: وأما تصحيح من صحَّحه من الحفاظ، فمعارض بتضعيف من ضعفه، وممن ضعفه حافظ المغرب أبو عمر بن عبدالبر وغيره؛ ولهذا أعرض عنه أصحاب الصحيح جملة.

 

قالوا: وأما تقدير القلتين بقِلال "هجر" فلم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء أصلاً، وأما ما ذكره الشافعي فمنقطع، وليس قوله: "بقلال هجر" فيه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أضافه الراوي إليه، وقد صرح في الحديث: أن التفسير بها من كلام يحيى ابن عقيل، فكيف يكون بيان هذا الحكم العظيم والحد الفاصل بين الحلال والحرام الذي تحتاج إليه جميع الأمة لا يوجد إلا بلفظ شاذ بإسناد منقطع؟ وذلك اللفظ ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

قالوا: وأما ذكرها في حديث المعراج؛ فمن العجب أن يُحال هذا الحد الفاصل على تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم نبق السدرة بها، وما الرابط بين الحكمين؟ وأي ملازمة بينهما؟ ولكونها معلومة عندهم معروفة لهم مثل لهم بها، وهذا من عجيب حمل المطلق على المقيد، والتقييد بها في حديث المعراج لبيان الواقع فكيف يحمل إطلاق حديث القلتين عليه؛ وكونها معلومة لهم لا يوجب أن ينصرف الإطلاق إليها حيث أطلقت العلة، فإنهم كانوا يعرفونها ويعرفون غيرها.

 

والظاهر: أن الإطلاق في حديث القلتين إنما ينصرف إلى قِلال البلد التي هي أعرف عندهم، وهم لها أعظم ملابسة من غيرها، فالإطلاق إنما ينصرف إليها كما ينصرف إطلاق النقد إلى نقد البلد دون غيره، هذا هو الظاهر، وإنما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم بقلال هجر؛ لأنه هو الواقع في نفس الأمر كما مثل بعض أشجار الجنة بشجرة بالشام تُدعَى "الجوزة" دون النخل وغيرها من أشجارهم؛ لأنه هو الواقع، لا لكون الجوز أعرف الأشجار عندهم، وهكذا التمثيل بقِلال هَجَر؛ لأنه هو الواقع، لا لكونها أعرف القلال عندهم، وهذا بحمد الله واضح.

 

وأما قولكم: إنها متساوية المقدار، فهذا إنما قاله الخطابي؛ بناء على أن ذكرهما تحديد، والتحديد إنما يقع بالمقادير المتساوية، وهذا دور باطل، وهو لم ينقله عن أهل اللغة - وهو الثقة في نقله - ولا أخبر به عن عيان، ثم إن الواقع بخلافه؛ فإن القلال فيها الكبار والصغار في العرف العام أو الغالب؛ ولا تعمل بقالب واحد؛ ولهذا قال أكثر السلف: القلة الجرَّة، وقال عاصم بن المنذر أحد رواة الحديث: القلال الخوابي العظا،. وأما تقديرها بقِرب الحجاز فلا ننازعكم فيه، ولكن الواقع: أنه قدر قلة من القلال بقربتين من القرب فرآها تسعهما، فهل يلزم من هذا أن كل قلة من قلال هجر تأخذ قربتين من قرب الحجاز، وأن قرب الحجاز كلها على قدر واحد، ليس فيها صغار وكبار؟ ومن جعلها متساوية فإنما مستنده أن قال: التحديد لا يقع بالمجهول، فيا سبحان الله إنما يتم هذا لو كان التحديد مستندًا إلى صاحب الشرع، فأَمَا والتقدير بقِلال هجر وقرب الحجاز تحديد يحيى بن عقيل وابن جريج، فكان ماذا؟!

 

وأما تقرير كون المفهوم حجة، فلا تنفعكم مساعدتنا عليه؛ إذ المساعدة على مقدمة من مقدمات الدليل لا تستلزم المساعدة على الدليل.

 

وأما تقديمكم له على العموم فممنوع، وهي مسألة نزاع بين الأصوليين والفقهاء، وفيها قولان معروفان ومنشأ النزاع تعارض خصوص المفهوم وعموم النطق، فالخصوص يقتضي التقديم، والنطق يقتضي الترجيح، فإن رجحتم المفهوم بخصوصه رجح منازعوكم العموم بمنطوقه.

 

ثم الترجيح معهم ههنا للعموم من وجوه:

أحدها: أن حديثه أصح.

 

الثاني: أنه موافق للقياس الصحيح.

 

الثالث: أنه موافق لعمل أهل المدينة قديمًا وحديثًا؛ فإنه لا يعرف عن أحد منهم أنه حد الماء بقلتين؛ وعملهم بترك التحديد في المياه عمل نقلي خلفًا عن سلف؛ فجرى مجرى نقلهم الصاع والمد والأجناس؛ وترك أخذ الزكاة من الخضروات، وهذا هو الصحيح المحتج به من إجماعهم دون ما طريقه الاجتهاد والاستدلال، فإنهم وغيرهم فيه سواء، وربما يرجح غيرهم عليهم، وترجحوا هم على غيرهم، فتأمل هذا الموضع.

 

فإن قيل: ما ذكرتم من الترجيح فمعنا من الترجيح ما يقابله، وهو أن المفهوم هنا قد تأيَّد بحديث "النهي عن البول في الماء الراكد"، "والأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب"، "والأمر بغسل اليد من نوم الليل"، فإن هذه الأحاديث تدل على أن الماء يتأثر بهذه الأشياء - وإن لم يتغير - ولا سبيل إلى تأثر كل ماء بها، بل لا بد من تقديره؛ فتقديره بالقلتين أولى من تقديره بغيرهما؛ لأن التقدير بالحركة، والأذرع المعينة، وما يمكن نزحه وما لا يمكن - تقديرات باطلة لا أصل لها؛ وهي غير منضبطة في نفسها؛ فرب حركة تحرك غديرًا عظيمًا من الماء، وأخرى تحرك مقدارًا يسيرًا منه، بحسب المحرك والمتحرك، وكذا التقدير بالأذرع تحكم محض لا بسنة ولا قياس، وكذا التقدير بالنزح الممكن مع عدم انضباط؛ فإن عشرة آلاف - مثلاً - يمكنهم نزح ما لا ينزحه غيرهم، فلا ضابط له، وإذا بطَلَتْ هذه التقديرات - ولا بد من تقدير - فالتقدير بالقلتين أولى لثبوته، إما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

 

قيل: هذا السؤال مبني على مقامات:

أحدها: أن النهي في هذه الأحاديث مستلزم لنجاسة الماء المنهي عنه.

والثاني: أن هذا التنجيس لا يعم كل ماء، بل يختص ببعض المياه دون بعض.

والثالث: أنه إذا تعين التقدير كان تقديره بالقلتين هو المتعين.

 

فأما المقام الأول فنقول: ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول، والولوغ، وغمس اليد فيه.

 

أما النهي عن البول فيه فليس فيه دلالة على أن الماء كله ينجس بمجرد ملاقاة البول لبعضه، بل قد يكون ذلك لأن البول سبب لتنجيسه، فإن الأبوال متى كثرت في المياه الدائمة أفسدتها، ولو كانت قلالاً عظيمة؛ فلا يجوز أن يخص نهيه بما دون القلتين، فيجوز للناس أن يبولوا في القلتين فصاعدًا، وحاش الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون نهيه خرج على ما دون القلتين؛ ويكون قد جوز للناس البول في كل ماء بلغ القلتين، أو زاد عليهما، وهل هذا إلا الإلغاز في الخطاب أن يقول: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري))، ومراده من هذا اللفظ العام أربعمائة رطل بالعراقي أو خمسمائة؛ مع ما يتضمنه التجويز من الفساد العام، وإفساد موارد الناس ومياههم عليهم.

 

وكذلك حمله على ما لا يمكن نزحه، أو ما لا يتحرك أحد طرفيه بحركة طرفه الآخر، وكل هذا خلاف مدلول الحديث وخلاف ما عليه الناس وأهل العلم قاطبة، فإنهم ينهون عن البول في هذه المياه وإن كان مجرد البول لا ينجسها سدًّا للذريعة، فإنه إذا مكن الناس من البول في هذه المياه - وإن كانت كبيرة عظيمة -لم تلبث أن تتغير وتفسد على الناس؛ كما رأينا من تغير الأنهار الجارية بكثرة الأبوال، وهذا كما نهى عن إفساد ظلالهم عليهم بالتخلي فيها، وإفساد طرقاتهم بذلك، فالتعليل بهذا أقرب إلى ظاهر لفظه صلى الله عليه وسلم ومقصوده؛ وحكمته بنهيه، ومراعاته مصالح العباد، وحمايتهم مما يفسد عليهم ما يحتاجون إليه: من مواردهم، وطرقاتهم، وظلالهم، كما نهى عن إفساد ما يحتاج إليه الجن من طعامهم وعلف دوابهم، فهذه علة معقولة تشهد لها العقول والفِطَر، ويدل عليها تصرف الشرع في موارده ومصادره، ويقبلها كل عقل سليم ويشهد لها بالصحة.

 

وأما تعليل ذلك بمائة وثمانية أرطال بالدمشقي، أو بما يتحرك أو لا يتحرك، أو بعشرين ذراعًا مكسرة، أو بما لا يمكن نزحه - فأقوال كل منها بكل معارض، وكل بكل مناقض، لا يشم منها رائحة الحكمة، ولا يشام منها بوارق المصلحة، ولا تعطل بها المفسدة المخرفة؛ فإن الرجل إذا علم أن النهي إنما تناول هذا المقدار من الماء لم يبقَ عنده وازع ولا زاجر عن البول فيما هو أكثر منه؛ وهذا يرجع على مقصود صاحب الشرع بالإبطال، وكل شرط أو علة أو ضابط يرجع على مقصود الشارع بالإبطال كان هو الباطل المحال.

 

ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في النهي وصفًا يدل على أنه هو المعتبر في النهي وهو "كون الماء دائمًا لا يجري" ولم يقتصر على قوله: ((الدائم)) حتى نبَّه على العلة بقوله: ((لا يجري))، فتقف النجاسة فيه فلا يذهب بها، ومعلوم أن هذه العلة موجودة في القلتين وفيما زاد عليهما، والعجب من مناقضة المحدِّدين بالقلتين لهذا المعنى؛ حيث اعتبروا القلتين حتى في الجاري وقالوا: إن كانت الجرية قلتين فصاعدًا لم يتأثَّر بالنجاسة، وإن كانت دون القلتين تأثَّرت، وألغوا كون الماء جاريًا أو واقفًا، وهو الوصف الذي اعتبره الشارع، واعتبروا في الجاري والواقف القلتين، والشارع لم يعتبره بل اعتبر الوقوف والجريان.

 

فإن قيل: فإذا لم يخصصوا الحديث ولم يقيدوه بماء دون ماء، لَزِمَكم المحال، وهو أن ينهى عن البول في البحر؛ لأنه دائم لا يجري.

 

قيل: ذكره صلى الله عليه وسلم "الماء الدائم الذي لا يجري"، تنبيه على أن حكمة النهي إنما هي ما يخشى من إفساد مياه الناس عليهم، وأن النهي إنما تعلق بالمياه الدائمة التي من شأنها أن تفسدها الأبوال، فأما الأنهار العظام والبحار فلم يدل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عليها بوجه، بل لما دلَّ كلامه بمفهومه على جواز البول في الأنهار العظام كالنيل والفرات، فجواز البول في البحار أولى وأحرى، ولو قدر أن هذا تخصيص لعموم كلامه فلا يستريب عاقل أنه أولى من تخصيصه بالقلتين، أو ما لا يمكن نزحه، أو ما لا تبلغ الحركة طرفية؛ لأن المفسدة المنهي عن البول لأجلها لا تزول في هذه المياه، بخلاف ماء البحر فإنه لا مفسدة في البول فيه، وصار هذا بمنزلة نهيه عن التخلي في الظل، وبوله صلى الله عليه وسلم في ظل الشجرتين واستتاره بجذم الحائط، فإنه نهى عن التخلي في الظل النافع، وتخلى مستترًا بالشجرتين والحائط، حيث لم ينتفع أحد بظلهما، فلم يفسد ذلك الظل على أحد، وبهذا الطريق: يعلم أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البول في الماء الدائم مع أنه قد يحتاج إليه؛ فلأن ينهى عن البول في إناء ثم يصبه فيه بطريق الأولى، ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم، ودَعِ الظاهرية البحتة، فإنها تقسي القلوب وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحكم والمصالح والعدل والرحمة، وهذه الطريق - التي جاءتك عفوًا تنظر إليها نظر متكئ على أريكته - قد تقطعت في مفاوزها أعناق المطي لا يسلكها في العالم إلا الفرد بعد الفرد، ولا يعرف مقدارها إلا من أقرحت قلبه الأقوال المختلفة والاحتمالات المتعددة والتقديرات المستبعدة، فإن علت همته جعل مذهبه عرضة للأحاديث النبوية وخدمه بها وجعله أصلاً محكمًا يرد إليه متشابهها؛ فما وافقه منها قبله وما خالفه تكلف له وجوهًا بالرد غير الجميل، فما أتعبه مَن شقى، وأقل فائدته.

 

ومما يفسد قول المحددين بقلتين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل البائل فيه بعد البول هكذا لفظ الصحيحين: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه))، وأنتم تُجوِّزون أن يغتسل في ماء دائم قدر القلتين بعد ما بال فيه، وهذا خلاف صريح للحديث، فإن منعتم الغسل فيه نقضتم أصلكم وإن جوزتموه خالفتم الحديث، فإن جوزتم البول والغسل خالفتم الحديث من الوجهين جميعًا.

 

ولا يقال فهذا بعينه وارد عليكم؛ لأنه إذا بال في الماء اليسير ولم يتغير جوزتم له الغسل فيه؛ لأنا لم نعلل النهي بالتنجيس، وإنما عللناه بإفضائه إلى التنجيس كما تقدم، فلا يرد علينا هذا.

 

وأما إذا كان الماء كثيرا فبال في ناحية، ثم اغتسل في ناحية أخرى لم يصل إليها البول - لم يدخل في الحديث؛ لأنه لم يغتسل في الماء الذي بال فيه، وإلا لزم إذا بال في ناحية من البحر لا يغتسل فيه أبدًا، وهو فاسد، وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغسل فيه بعد البول؛ لما يفضي إليه من إصابة البول له، ونظير هذا نهيه أن يبول الرجل في مستحمه، وذلك لما يفضي إليه من تطاير رشاش الماء الذي يصيب البول، فيقع في الوسواس، كما في الحديث: ((فإن عامة الوسواس منه)) حتى لو كان المكان مبلطًا لا يستقر فيه البول؛ بل يذهب مع الماء، لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء.

 

ونظير هذا: منع البائل أن يستجمر أو يستنجي موضع بوله، لما يفضي إليه من التلوث بالبول، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه الإخبار عن نجاسة الماء الدائم بالبول، فلا يجوز تعليل كلامه بعلة عامة تتناول ما لم ينه عنه، والذي يدل على ذلك: أنه قيل له في بئر بُضاعة: ((أنتوضأ منها، وهي بئر يلقى فيها الحِيَضُ ولحوم الكلاب وعذر النساء؟ فقال: ((الماء طهور لا ينجسه شيء))، فهذا نص صحيح صريح على أن الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة مع كونه واقًفا؛ فإن بئر بُضاعة كانت واقفة، ولم يكن على عهده بالمدينة ماء جار أصلاً؛ فلا يجوز تحريم ما أباحه، وفعله قياسًا على ما نهى عنه، ويعارض أحدهما بالآخر، بل يستعمل هذا وهذا، هذا في موضعه وهذا في موضعه، لا تضرب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض، فوضوؤه من بئر بُضاعة - وحالها ما ذكره له - دليل على أن الماء لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير، ونهيه عن الغسل في الماء الدائم بعد البول فيه لما ذكرنا من إفضائه إلى تلوثه بالبول، كما ذكرنا عنه التعليل بنظيره، فاستعملنا السنن على وجوهها، وهذا أولى من حمل حديث بئر بُضاعة على أنه كان أكثر من قلتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلل بذلك ولا أشار إليه، ولا دل كلامه عليه بوجه، وإنما علله بطهورية الماء، وهذه علة مُطَّردة في كل ماء قلَّ أو أكثر، ولا يرد المتغير؛ لأن ظهور النجاسة فيه يدل على تنجسه بها، فلا يدخل في الحديث على أنه محل وفاق فلا يناقض به.

 

وأيضا: فلو أراد صلى الله عليه وسلم النهي عن استعمال الماء الدائم اليسير إذا وقعت فيه أي نجاسة كانت لأتى بلفظ يدل عليه، ونهيه عن الغسل فيه بعد البول لا يدل على مقدار ولا تنجيس، فلا يحمل ما لا يحتمله.

 

ثم إن كلاًّ من قدر الماء المتنجس بقدر خالف ظاهر الحديث، فأصحاب الحركة خالفوه بأن قدروه بما لا يتحرك طرفاه، وأصحاب النزح خصوه بما لا يمكن نزحه، وأصحاب القلتين خصوه بمقدار القلتين.

 

وأسعد الناس بالحديث: من حمله على ظاهره، ولم يخصه ولم يقيده؛ بل إن كان تواتر الأبوال فيه يفضي إلى إفساده منع من جوازها، وإلا منع من اغتساله في موضع بوله كالبحر، ولم يمنع من بوله في مكان واغتساله في غيره.

 

وكلُّ من استدل بظاهر هذا الحديث على نجاسة الماء الدائم لوقوع النجاسة فيه، فقد ترك من ظاهر الحديث ما هو أَبينُ دلالة مما قال به، وقال بشيء لا يدل عليه لفظ الحديث؛ لأنه إن عمم النهي في كل ماء بطل استدلاله بالحديث، وإن خصه بقدر خالف ظاهره وقال ما لا دليل عليه، ولزمه أن يجوز البول فيما عدا ذلك القدر؛ وهذا لا يقوله أحد؛ فظهر بطلان الاستدلال بهذا الحديث على التنجيس بمجرد الملاقاة على كل تقدير.

 

وأما من قدره بالحركة فيدل على بطلانه قوله: إن الحركة مختلفة اختلافًا لا ينضبط، والبول قد يكون قليلاً وكثيرًا؛ ووصول النجاسة إلى الماء أمر حسي وليس تقديره بحركة الطهارة الصغرى أو الكبرى أولى من سائر أنواع الحركات، فيا لله العجب حركة الطهارة ميزان ومعيار على وصول النجاسة وسريانها مع شدة اختلافها، ونحن نعلم بالضرورة أن حركة المغتسل تصل إلى موضع لا تصل إليه القطرة من البول، ونعلم أن البولة الكبيرة تصل إلى مكان لا تصل إليه الحركة الضعيفة، وما كان هكذا لم يجز أن يجعل حدًّا فاصلاً بين الحلال والحرام!

 

والذين قدروه بالنزح أيضا قولهم باطل: فإن العسكر العظيم يمكنهم نزح ما لا يمكن الجماعة القليلة نزحه.

 

وأما حديث: "ولوغ الكلب" فقالوا: لا يمكنكم أن تحتجوا به علينا؛ فإنه ما منكم إلا مَن خالفه أو قيده أو خصصه فخالف ظاهره، فإن احتج به علينا من لا يوجب التسبيع ولا التراب كان احتجاجه باطلا؛ فإن الحديث إن كان حجة له في التنجيس بالملاقاة فهو حجة عليه في العدد والتراب، فإما أن يكون حجة له فيما وافق مذهبه، ولا يكون حجة عليه فيما خالفه فكلا.

 

ثم هم يخصونه بالماء الذي لا تبلغ الحركة طرفيه، وأين في الحديث ما يدل على هذا التخصيص؟

ثم يظهر تناقضهم من وجه آخر، وهو أنه إذا كان الماء رقيقًا جدًّا وهو منبسط انبساطًا لا تبلغه الحركة - أن يكون طاهرًا ولا يؤثر الولوغ فيه؛ وإذا كان عميقًا جدًّا وهو متضايق بحيث تبلغ الحركة طرفيه، أن يكون نجسًا ولو كان أضعاف أضعاف الأول، وهذا تناقض بين لا محيد عنه.

 

قالوا: وإن احتج به من يقول بالقلتين فإنه يخصصه بما دون القلتين، ويحمل الأمر بغسله وإراقته على هذا المقدار؛ ومعلوم أنه ليس في اللفظ ما يشعر بهذا بوجه ولا يدل عليه بواحدة من الدلالات الثلاث، وإذا كان لا بد لهم من تقييد الحديث وتخصيصه ومخالفة ظاهره، كان أسعد الناس به من حمله على الولوغ المعتاد في الآنية المعتادة التي يمكن إراقتها، وهو ولوغ متتابع في آنية صغار، يتحلل من فم الكلب في كل مرة ريق ولعاب نجس يخالط الماء ولا يخالف لونه لونه فيظهر فيه التغير؛ فتكون أعيان النجاسة قائمة بالماء وإن لم تُرَ، فأمر بإراقته وغسل الإناء؛ فهذا المعنى أقرب إلى الحديث وألصق به، وليس في حمله عليه ما يخالف ظاهره؛ بل الظاهر أنه إنما أراد الآنية المعتادة التي تتخذ للاستعمال فيلغ فيها الكلاب؛ فإن كان حمله على هذا موافقة للظاهر فهو المقصود، وإن كان مخالفة للظاهر فلا ريب أنه أقل مخالفة من حمله على الأقوال المتقدمة فيكون أولى على التقديرين.

 

قالوا: وأما حديث النهي عن غمس اليد في الإناء عند القيام من نومه، فالاستدلال به أضعف من هذا كله، فإنه ليس في الحديث ما يدل على نجاسة الماء وجمهور الأمة على طهارته؛ والقول بنجاسته من أشذ الشاذ، وكذا القول بصيرورته مستعملاً ضعيف أيضا - وإن كان إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي وأتباعه واختيار أبي بكر وأصحاب أحمد - فإنه ليس في الحديث دليل على فساد الماء، وقد بينا أن النهي عن البول فيه لا يدل على فساده بمجرد البول، فكيف بغمس اليد فيه من النوم، وقد اختلف في النهي عنه، فقيل: تعبدي؛ ويرد هذا القول أنه معلل في الحديث بقوله: ((فإنه لا يدري أين باتت يده)).

 

وقيل: معلل باحتمال النجاسة، كبثرة في يديه، أو مباشرة اليد لمحل الاستجمار، وهو ضعيف أيضا؛ لأن النهي عام للمستنجي والمستجمر، والصحيح وصاحب البثرات، فيلزمكم أن تخصوا النهي بالمستجمر وصاحب البثور، وهذا لم يقله أحد.

 

وقيل - وهو الصحيح -: إنه معلل بخشية مبيت الشيطان على يده أو مبيتها عليه، وهذه العلة نظير تعليل صاحب الشرع الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم فإنه قال: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه))؛ متفق عليه، وقال هنا: ((فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده))، فعلل بعدم الدراية لمحل المبيت، وهذا السبب ثابت في مبيت الشيطان على الخيشوم، فإن اليد إذا باتت ملابسة للشيطان، لم يدرِ صاحبها أين باتت، وفي مبيت الشيطان على الخيشوم وملابسته لليد سرٌّ يعرفه من عرف أحكام الأرواح واقتران الشياطين بالمحال التي تلابسها؛ فإن الشيطان خبيث يناسبه الخبائث؛ فإذا نام العبد لم يرَ في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه، فيستوطنه في المبيت، وأما ملابسته ليده فلأنها أعم الجوارح كسبًا وتصرفًا ومباشرة لما يأمر به الشيطان من المعصية، فصاحبها كثير التصرف والعمل بها؛ ولهذا سميت جارحة؛ لأنه يجرح بها أي يكسب، وهذه العلة لا يعرفها أكثر الفقهاء؛ وهي كما ترى وضوحًا وبيانًا، وحسبك شهادة النص لها بالاعتبار.

 

والمقصود: أنه لا دليل لكم في الحديث بوجه ما - والله أعلم -، وقد تبين بهذا جواب المقامين: الثاني والثالث، فلنرجع إلى الجواب عن تمام الوجوه الخمسة عشر فنقول:

وأما تقديمكم للمفهوم من حديث القلتين على القياس الجلي: فمما يخالفكم فيه كثير من الفقهاء والأصوليين، ويقولون: القياس الجلي مقدم عليه؛ وإذا كانوا يقدمون القياس على العموم الذي هو حجة الاتفاق، فلأن يقدم على المفهوم المختلف في الاحتجاج به أولى، ثم لو سلمنا تقديم المفهوم على القياس في صورة ما، فتقديم القياس ههنا متعين لقوته ولتأيده بالعمومات، ولسلامته من التناقض اللازم لمن قدم المفهوم كما سنذكره، ولموافقته لأدلة الشرع الدالة على عدم التحديد بالقلتين، فالمصير إليه أولى لو كان وحده، فكيف بما معه من الأدلة؟ وهل يعارض مفهوم واحد لهذه الأدلة من الكتاب والسنة والقياس الجلي، واستصحاب الحال وعمل أكثر الأمة - مع اضطراب أصل منطوقه، وعدم براءته من العلة والشذوذ؟!

 

قالوا: وأما دعواكم أن المفهوم عام في جميع الصور المسكوت عنها، فدعوى لا دليل عليها، فإن الاحتجاج بالمفهوم يرجع إلى حرفين: التخصيص والتعليل - كما تقدم - ومعلوم أنه إذا ظهر للتخصيص فائدة بدون العموم بقيت دعوى العموم باطلة؛ لأنها دعوى مجردة ولا لفظ معنا يدل عليها.

 

وإذا علم ذلك فلا يلزم من انتفاء حكم المنطوق انتفاؤه عن كل فرد من أفراد المسكوت؛ لجواز أن يكون فيه تفصيل، فينتفي عن بعضها ويثبت لبعضها، ويجوز أن يكون ثابتًا لجميعها بشرط ليس في المنطوق، فتكون فائدة التخصيص به لدلالة على ثبوت الحكم له مطلقًا، وثبوته للمفهوم بشرط، فيكون المنفى عنه الثبوت المطلق لا مطلق الثبوت فمن أين جاء العموم للمفهوم، وهو من عوارض الألفاظ؟ وعلى هذا عامة المفهومات. فقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [البقرة: 230]، لا يدل المفهوم على أن بمجرد نكاحها الزوج الثاني تحل له، وكذا قوله: ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ [النور: 33]، لا يدل على عدم الكتابة عند عدم هذا الشرط مطلقًا، وكذا قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ﴾ [النور: 33]، ونظائره أكثر من أن تحصى، وكذلك إن سلكت طريقة التعليل لم يلزم العموم أيضاً، فإنه يلزم من انتفاء معلولها، ولا يلزم انتفاء الحكم مطلقاً، لجواز ثبوته بوصف آخر. وإذا ثبت هذا فمنطوق حديث القلتين لا ننازعكم فيه، ومفهومه لا عموم له، فبطل الاحتجاج به منطوقًا ومفهومًا.

 

وأما قولكم: إن العدد خرج مخرج التحديد والتقييد - كنصب الزكوات - فهذا باطل من وجوه:

أحدها: أنه لو كان هذا مقدارًا فاصلاً بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم بيانه بيانًا عامًّا متتابعًا تعرفه الأمة، كما بين نصب الزكوات، وعدد الجلد في الحدود، ومقدار ما يستحقه الوارث، فإن هذا أمر يعم الابتلاء به كل الأمة، فكيف لا يبينه، حتى يتفق سؤال سائل له عن قضية جزئية فيجيبه بهذا، ويكون ذلك حدًّا عامًّا للأمة كلها، لا يسع أحدًا جهلُه، ولا تتناقله الأمة، ولا يكون شائعًا بينهم، بل يحالون فيه على مفهوم ضعيف شأنه ما ذكرناه؛ قد خالفته العمومات والأدلة الكثيرة، ولا يعرفه أهل بلدته، ولا أحد منهم يذهب إليه؟

 

الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾ [التوبة: 115] وقال: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 119]، فلو كان الماء الذي لم يتغير بالنجاسة: منه ما هو حلال ومنه ما هو حرام لم يكن في هذا الحديث ببيان للأمة ما يتقون، ولا كان قد فصل لهم ما حرم عليهم؛ فإن المنطوق من حديث القلتين لا دليل فيه؛ والمسكوت عنه كثير من أهل العلم يقولون: لا يدل على شيء، فلم يحصل لهم بيان ولا فصل الحلال من الحرام، والآخرون يقولون: لا بد من مخالفة المسكوت للمنطوق، ومعلوم أن مطلق المخالفة لا يستلزم المخالفة المطلقة الثابتة لكل فرد من أفراد المسكوت عنه، فكيف يكون هذا حدًّا فاصلاً؟ فتبين أنه ليس في المنطوق ولا في المسكوت فصل ولا حد.

 

الثالث: أن القائلين بالمفهوم، إنما قالوا به إذا لم يكن هناك سبب اقتضى التخصيص بالمنطوق، فلو ظهر سبب يقتضي التخصيص به لم يكن المفهوم معتبرًا كقوله: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ﴾ [الإسراء: 31]، فذكر هذا القيد لحاجة المخاطبين إليه؛ إذ هو الحامل لهم على قتلهم؛ لا لاختصاص الحكم به، ونظيره: ﴿ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130]، ونظائره كثيرة، وعلى هذا فيحتمل أن يكون ذكر القلتين وقع في الجواب لحاجة السائل إلى ذلك، ولا يمكن الجزم بدفع هذا الاحتمال، نعم، لو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ ابتداءً من غير سؤال لاندفع هذا الاحتمال.

 

الرابع: أن حاجة الأمة - حضرها وبدوها - على اختلاف أصنافها إلى معرفة الفرق بين الطاهر والنجس ضرورية، فيكف يحالون في ذلك على ما لا سبيل لأكثرهم إلى معرفته؟ فإن الناس لا يكتالون الماء ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين: لا طولهما؛ ولا عرضهما، ولا عمقهما، فإذا وقعت في الماء نجاسة فما يدريه أنه قلتان؟ وهل تكليف ذلك إلا من باب علم الغيب، وتكليف ما لا يطاق.

 

فإن قيل: يستظهر، حتى يغلب على ظنه أنه قلتان، قيل: ليس هذا شأن الحدود الشرعية، فإنها مضبوطة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، كعدد الجلدات، ونصب الزكاوات، وعدد الركعات، وسائر الحدود الشرعية.

 

الخامس: أن خواص العلماء إلى اليوم لم يستقرَّ لهم قدم على قول واحد في القلتين، فمن قائل: ألف رطل بالعراقي، ومن قائل: ستمائة رطل، ومن قائل: خمسمائة؛ ومن قائل: أربعمائة، وأعجب من هذا جعل هذا المقدار تحديدًا، فإذا كان العلماء قد أشكل عليهم قدر القلتين، واضطربت أقوالهم في ذلك، فما الظن بسائر الأمة؟ ومعلوم أن الحدود الشرعية لا يكون هذا شأنها.

 

السادس: أن المحددين يلزمهم لوازم باطلة شنيعة جدًّا، منها: أن يكون ماء واحد إذا ولغ فيه الكلب تنجَّس، وإذا بال فيه لم ينجسه.

 

ومنها: أن الشعرة من الميتة إذا كانت نجسة فوقعت في قلتين إلا رطلاً مثلاً أن ينجس الماء، ولو وقع رطل بول في قلتين لم ينجسه، ومعلوم أن تأثر الماء بهذه النجاسة أضعاف تأثيره بالشعرة، فمحال أن يجيء شرع بتنجيس الأول وطهارة الثاني، وكذلك ميتة كاملة تقع في قلتين لا تنجسها؛ وشعرة منها تقع في قلتين إلا نصف رطل أو رطلاً فتنجسها؟ إلى غير ذلك من اللوازم التي يدل بطلانها على بطلان ملزوماتها.

 

وأما جعلكم الشيء نصفًا ففي غاية الضعف؛ فإنه شك من ابن جريج، فيا سبحان الله، يكون شكه حدًّا لازمًا للأمة؛ فاصلاً بين الحلال والحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته الدين؛ وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها؟ فيمتنع أن يقدر لأمته حدًّا لا سبيل لهم إلى معرفته إلا شك حادث بعد عصر الصحابة، يجعل نصفًا احتياطًا، وهذا بيِّن لمن أنصف.

 

والشك الجاري الواقع من الأمة في طهورهم وصلاتهم قد بين لهم حكمه ليندفع عنهم باليقين، فكيف يجعل شكهم حدًّا فاصلاً فارقًا بين الحلال والحرام؟!

 

ثم جعلكم هذا احتياطاً باطل؛ لأن الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك المكلف منها عملاً لآخر احتياطًا. .

 

وأما الأحكام الشرعية والإخبار عن الله ورسوله فطريق الاحتياط فيها أن لا يخبر عنه إلا بما أخبر به، ولا يثبت إلا ما أثبته، ثم إن الاحتياط في ترك هذا الاحتياط، فإن الرجل تحضره الصلاة، وعنده قلة قد وقعت فيها شعرة ميتة، فتركه الوضوء منه مناف للاحتياط، فهلا أخذتم بهذا الأصل هنا وقلتم: ما ثبت تنجيسه بالدليل الشرعي نجسناه، وما شككنا فيه رددناه إلى أصل الطهارة؟ لأن هذا لما كان طاهرًا قطعًا وقد شككنا: هل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنجيسه أم لا؟ فالأصل الطهارة، وأيضًا: فأنتم لا تبيحون لمن شك في نجاسة الماء أن يعدل إلى التيمم، بل توجبون عليه الوضوء، فكيف تحرمون عليه الوضوء هنا بالشك؟ وأيضا: فإنكم إذا نجستموه بالشك نجستم ما يصيبه من الثياب والأبدان والآنية، وحرمتم شربه والطبخ به، وأرقتم الأطعمة المتخذة منه؛ وفي هذا تحريم لأنواع عظيمة من الحلال بمجرد الشك، وهذا مناف لأصول الشريعة والله أعلم. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله وهو كما ترى لا نظير له نفاسة وتحقيقًا.

 

المجلة

السنة

العدد

التاريخ

الهدي النبوي

الجزء الخامس من السنة الثالثة

التاسع والعشرون

شعبان سنة 1358 هـ





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (1)
  • شرح حديث: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث
  • شرح دعاء: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث

مختارات من الشبكة

  • أحجية الماء (قصيدة عمودية)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تخريج حديث: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح جامع الترمذي في (السنن) - ما جاء أن الماء من الماء(مادة مرئية - موقع موقع الأستاذ الدكتور سعد بن عبدالله الحميد)
  • فقه أحكام المياه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح حديث: الماء من الماء(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه(مقالة - موقع الشيخ دبيان محمد الدبيان)
  • حديث: إذا كثرت ذنوبك فاسق الماء على الماء تتناثر ذنوبك(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بلوغ الماء قلتين(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • أسرار الماء الجوفي في آيات القرآن(مقالة - موقع د. حسني حمدان الدسوقي حمامة)
  • في حكم بيع فضل الماء(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 13/11/1446هـ - الساعة: 23:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب