التنبيه على كذب أثر منسوب لعمر في فضل العالم على العابد (PDF)

التنبيه على كذب أثر منسوب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

في بيان فضل العالم على العابد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً وبعد:

فقد سأل بعض الأحبة الكرام عن صحة أثر منسوب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لموت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بحلال الله وحرامه».

وقد بحثت عن هذا الأثر المنسوب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فتبين لي أنه مكذوب عليه ولا تصح نسبته له، وهذا الأثر رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في كتاب (بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث) للحافظ نور الدين الهيثمي.

قال الحارث بن أبي أسامة في مسنده: (842- حَدَّثَنَا دَاوُدُ، حَدَّثَنَا سَلامٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَمَوْتُ أَلْفِ عَابِدٍ قَائِمٍ اللَّيْلَ صَائِمٍ النَّهَارَ؛ أَهْوَنُ مِنْ مَوْتِ عَاقِلٍ عَقَلَ عَنِ اللهِ أَمْرَهُ، فَعَلِمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ، فَانْتَفَعَ بِعِلْمِهِ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَزِيدُ عَلَى الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ كَثِيرَ زِيَادَةٍ، وَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)[1].

فهذا الأثر موضوع، رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود بن المحبر، وهذا الراوي قد طعن فيه أهل العلم وبينوا كذب هذا الأثر وعدم صحته، وإليك جملة من أقوالهم:

قال الحافظ البوصيري في كتابه (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المساند العشرة) بعد أن ذكره وذكر جملة أحاديث أخرى: (قلت: كل حديث في هذا الباب ضعيف.)[2]اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في كتابه (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره: (هذه الأحاديث من كتاب العقل لداود بن المحبر وكلها موضوعة ذكرهاالحارث في مسنده عنه)[3]اهـ

وقال أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني في كتابه (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة): (داود بن المحبر، قال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات)[4]اهـ وقال أيضاً: (أحاديث في العقل أخرجها داود بن المحبر في كتاب العقل، ومن طريقه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وكلها موضوعة كما قاله الحافظ ابن حجر في المطالب العالية.)[5]اهـ ثم أورد هذا الأثر برقم (101)[6].

وقد جاء في كتاب (العلل ومعرفة الرجال) للإمام أحمد، قال عبد الله بن الإمام أحمد: (766- سألت أبي عن داود بن المحبر فضحك وقال شبه لا شيء، كان يدري ذاك أيش الحديث؟)[7]اهـ

وقال الإمام البخاري في كتابه التاريخ الكبير: (3703- داود بن المحبر: منكر الحديث، قال أحمد: شبه لا شيء، لا يدري ما الحديث)[8]اهـ

وقد بين أهل العلم أن قول الإمام البخاري في الراوي (منكر الحديث) معناه أنه لا تحل الرواية عنه.

وقال الإمام النسائي في (كتاب الضعفاء والمتروكين): (192- داود بن المحبر، ضعيف)[9]اهـ.

وقال الإمام أبو جعفر العقيلي في كتابه (الضعفاء): (460- داود بن محبر بن قحذم البكراوي. حدثنا عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن داود بن المحبر، فضحك وقال: شبه لا شيء، كان يدري ذاك أيش الحديث. حدثنا آدم بن موسى قال: سمعت البخاري قال: داود بن محبر منكر الحديث. حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا عباس بن محمد قال: سمعت يحيى يقول: داود بن المحبر ليس بكذاب، ولكنه كان رجلاً قد سمع الحديث بالبصرة ثم صار إلى عبادان فصار مع الصوفية، فعمل الخوص والأسل، فنسي الحديث وجفاه، ثم قدم بغداد، فجاءه أصحاب الحديث، فجعل يخطئ في الحديث؛ لأنه لم يجالس أصحاب الحديث، ولكنه كان في نفسه ليس يكذب، قال يحيى: وقد كتبت عن أبيه المحبر بن قحذم)[10]اهـ

وقال الحافظ ابن حبان في كتابه (كتاب المجروحين): (323- داود بن المحير بن قحذم أبو سليمان من أهل بغداد صاحب كتاب العقل، مات سنة ست ومائتين لثمان مضين من جمادى الأولى، وكان يضع الحديث على الثقات، ويروي عن المجاهيل المقلوبات، كان أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: هو كذاب)[11]اهـ

وقال الإمام ابن عدي في كتابه (الكامل في ضعفاء الرجال) بعد أن أورد كلام أهل العلم فيه وبعض الأحاديث المنتقدة عليه: (وعند داود كتاب قد صنفه في فضائل العقل، وفيه أحاديث مسندة، وكل تلك الأخبار أو عامتها غير محفوظات، وداود له أحاديث صالحة خارج كتاب العقل، ويشبه أن تكون صورته ما ذكره يحيى بن معين أنه كان يخطئ ويصحِّف الكثير، وفي الأصل أنه صدوق كما ذكره.)[12]اهـ

وقال الإمام الدارقطني في (كتاب الضعفاء والمتروكين): (209- داود بن المحبر. يضع، بصري، كان ببغداد، متروك.)[13]اهـ

وقال الإمام الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد): (قلت: حال داود ظاهرة في كونه غير ثقة، ولو لم يكن له غير وضعه كتاب العقل بأسره لكان دليلاً كافياً على ما ذكرته، وقد حدثني محمد بن علي الصوري، قال: سمعت عبد الغني بن سعيد الحافظ يقول: قال لنا أبو الحسن علي بن عمر (كتاب العقل) وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر أو كما قال الدارقطني.)[14]اهـ.

وقد تبين مما سبق أن هذا الأثر مكذوب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن من جهة المعنى؛ فإن معناه صحيح، فإن العالم تتعدى منفعته لغيره، بخلاف العابد فإن منفعته تقتصر على نفسه، فإن العالم يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى وتصحيح العقيدة ونبذ الشرك وأهله، والالتزام بشرع الله تعالى ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم منهج السلف الصالح عقيدة وشريعة، بخلاف العابد فإنه ربما تعبد بجهل، وإن تكلم ودعا الناس فربما دعاهم بجهل! لذلك كان العالم الفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد، فلو قيل هذا الكلام كحكمة (موت ألف عابد أهون من موت عالم ) دون نسبته لأحد لكان صحيح المعنى.

ومما يجدر التنبيه عليه أن هذا الأثر قد ذكره الإمام ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) معلقاً دون بيان درجة الأثر ولا عزوه لأحد، وكذلك صنع الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (مفتاح دار السعادة).

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله): (وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لموت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بحلال الله وحرامه»)[15]اهـ.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (مفتاح دار السعادة): (قال عمر رضي الله عنه: «موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه». ووجه قول عمر أن هذا العالم يهدم على إبليس كل ما يبنيه، بعلمه وإرشاده، وأما العابد فنفعه مقصور على نفسه.)[16]اهـ.

فكأنهما تساهلا في إيراده لصحة معناه والله أعلم، ونظائر هذا معروف عند أهل العلم، والأولى تركه والاكتفاء بما هو ثابت، فإن كان ولابد؛ فمع بيان درجته، أو بصيغة تمريض تشعر بضعف الرواية، كأن يقول: ويروى كذا، أو ويحكى ويذكر.

هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

كتبه

د. أبو عبد الله

وائل بن علي بن أحمد آل عبد الجليل الأثري

الثلاثاء: 2/ رجب / 1444هـ

24/ يناير / 2023م

alsalafy1433@hotmail.com