• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    تفسير: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تخريج حديث: إذا استنجى بالماء ثم فرغ، استحب له ...
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    اختر لنفسك
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (خطبة) - باللغة ...
    حسام بن عبدالعزيز الجبرين
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

خواتيم سورة البقرة

خواتيم سورة البقرة
د. خالد النجار

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/4/2022 ميلادي - 12/9/1443 هجري

الزيارات: 81364

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

خواتيم سورة البقرة

 

قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 284 - 286].

 

اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟

فالقول الأول:

أنها منسوخة، واستدلوا بما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قَالَ: نعم، [وفي رواية ابن عباس قال: قَدْ فَعَلْتُ]، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قَالَ: نعم ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قَالَ: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، قَالَ: نعم.

 

ومما استدلوا به أيضًا على النسخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله غفر لهذه الأمة ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).

 

القول الثاني:

أنها ليست منسوخة، وقد نصَره شيخُ الإسلام ابن تيمية، وعزاه لابن عمر رضي الله عنهما، والحسن وأبي سليمان الدمشقي، والقاضي أبي يعلى.

 

وقالوا: إن ما في الآية خبر، والأخبار لا تُنسَخ.

 

وقالوا أيضًا إن مما في النفس مما قد يحاسَب عليه الإنسان كالرياء وظن السوء بالله تعالى، وبغض ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمحاسبة أعم من المعاقبة.

 

وقالوا: من سَمَّى ذلك نسخًا من السلف، فإنما جرى على تسمية سبَقت ضبط المصطلحات الأصولية، فأطلق النسخ على معنى البيان، وذلك كثير في عبارات المتقدمين.

 

وقد وجَّه ابن تيمية وغيره بعض الأحاديث والآثار التي ذكر فيها أن الآية منسوخة بأن لفظ النسخ مجمل، فالسلف كانوا يطلقونه فيما يظن دلالة الآية عليه من عموم إطلاقه أو غير ذلك، وكذلك نسخ ما قد يقع من النفوس من فَهم معنى محتمل، وإن كانت الآية لم تنزل عليه كهذه الآية.

 

قال في البحر المحيط: ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر، أشفق الصحابة، فبيَّن الله ما أراد بها وخصَّصها، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والخواطر ليس دفعها في الوسع، وكان في هذا فرَجُهم وكشفُ كَربهم، والآية خبر، والنسخ لا يدخل الأخبار.

 

وبكل حال فإن الآية لا تتعارض مع الحديث؛ لأن الأصل أن الإنسان لا يُعاقب على ما تحدثت به نفسه دون كلام أو عمل ما دام همًّا مجردًا، لكن إذا تجاوز مرحلة «هم الخطرات»، بحيث اقترن مع هذا الهم ما يستطيعه الإنسان من قول وعمل - حتى ولو لم يصل إلى ارتكاب المعصية - أو كان الحائل بينه وبين فعل المعصية هو عجزه عنها أو نحو ذلك، فهذا مما يحاسب عليه الإنسان، وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصًا على قتله صاحبه).

 

فهذا الإنسان مع أنه لم يقتل، ولكن لَما هَمَّ بالقتل «هم إصرار»، وفعل ما يستطع في سبيله، ولكن حال بينه وبين قتل أخيه المسلم عجزُه عن ذلك - كان آثمًا مستحقًّا للعقوبة، وقد قال الإمام أحمد: الهم همان، هم خطرات، وهم إصرار؛ ا.هـ.

 

فـ «هم الخطرات» هو الذي يعرض ثم يذهب، ويدافعه صاحبه، فلا يأثم في ذلك، بل ربما كان مأجورًا؛ لأنه مجاهد لنفسه، وترك السيئة ابتغاء وجه الله تعالى، وهَمُّ الإصرار هو الذي يكون معه ما يستطيع الإنسان فعلَه من الأقوال والأعمال، حتى ولو عجز عن فعل المعصية، فهذا آثم مستحق للعقوبة.

 

ومن الأول هم يوسف عليه السلام، ومن الثاني هم امرأة العزيز التي هَمَّت وسعت في المعصية، ولم ترتكبها عجزًا عنها لا خوفًا من الله تعالى.

 

والخلاصة أن الهم الذي يعرض للإنسان أنواع:

الأول: أن يكون ما يطرأ على النفس وساوس لا قرار لها، ولا ركون إليها؛ فهذه لا تضر، بل هي دليل على كمال الإيمان؛ لأن الشيطان إذا رأى من قلب الإنسان إيمانًا ويقينًا حاول أن يفسد ذلك عليه، ولهذا لما شكا الصحابة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يجدونه في أنفسهم من هذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وقد وجدتموه؟) قالوا: نعم؛ قال: (ذاك صريح الإيمان)؛ وفي حديث آخر: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).

 

الثاني: أن يهمَّ بالشيء المحرَّم، أو يعزم عليه، ثم يتركه؛ وهذا أنواع:

1- النوع الأول: أن يتركه لله فيثاب على ذلك؛ كما جاءت به السنة فيمن همَّ بسيئة فلم يعملها أنها تكتب حسنةً كاملة؛ قال الله تعالى: (تركها من جرَّائي)؛ أي من أجلي.

 

2- النوع الثاني: أن يهمَّ بها، ثم يتركها عزوفًا عنها، فهذا لا له ولا عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

 

3- النوع الثالث: أن يتمناها ويحرِص عليها، ولكن لا يعمل الأسباب التي يحصِّلها بها، فهذا يعاقب على نيَّته دون العقاب الكامل؛ كما جاء في الحديث في فقير تمنى أن يكون له مثل مال غني كان ينفقه في غير مرضاة الله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فهو بنيته، فهما في الوزر سواء).

 

4- النوع الرابع: أن يعزم على فعل المعصية، ويعمل الأسباب التي توصل إليها، ولكن يَعجِز عنها، فعليه إثم فاعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصًا على قتل صاحبه).

 

ومن فوائد الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يصرِّح بالمعاقبة، ولا يلزم من المحاسبة المؤاخذة؛ لقوله تعالى: ﴿ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾، ويؤيده ما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه، ويقول: «عملت كذا في يوم كذا» حتى يقر، فإذا رأى أنه قد هلك يقول الله عز وجل: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».

 

﴿ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ لله ملك وتدبير ما في السماوات وما في الأرض، وخص السماوات والأرض؛ لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات، ولأنه ليس معلومًا لنا سوهما، وقدم السماوات لعظمها، وجاء بلفظ: «ما» لغير العاقل تغليبًا لما لا يعقل على من يعقل؛ لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان، لا يعقل، وأجناس ذلك كثيرة، وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة: إنس وجن وملائكة.

 

والمعنى: إنكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه، وعلى هذا الوجه تكون جملة ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾ عطف على سابقتها، ونظيرها في المعنى قوله تعالى: ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ [الملك: 13-14].

 

﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾ فيها عموم علم الله وسعته؛ فلا محاسبة إلا من بعد علم ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ﴾ «المغفرة» ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ لأن مادة «غفر» مأخوذة من المغفر، وهو ما يلبسه المقاتل على رأسه ليتقي بها السهام، وهو جامع بين ستر الرأس والوقاية ﴿ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].

 

ولما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء، عقب ذلك بذكر القدرة، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة.

 

أيضًا صفة «الملك» تدل على القدرة الباهرة، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين، وغاية الوعيد للعاصين.

 

وهنا سؤال: لماذا ختم الآية بالقدرة من بعد قوله تعالى: ﴿ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾، ولم يختمها بالرحمة، ولا بالعقوبة؟

 

فالجواب: أنه لو ختمت الآية بما يقتضي الرحمة وفيها التعذيب، لم يكن هناك تناسب، ولو ختمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك تناسب، والقدرة تناسب الأمرين: تناسب المغفرة، وتناسب التعذيب؛ لأن المغفرة، والتعذيب كلٌّ لا يكون إلا بقدرة الله عز وجل.

 

ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب، قوله: ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة:235]، فالمحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد.

 

وخلاصة القول أن ما يخطر في النفس إن كان مجرد خاطر وتردُّد من غير عزم، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعال بدنية أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأن مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارًا لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث: (من هم بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة)، وإن رجع لمانع قهره على الرجوع، ففي المؤاخذة به قولان.

 

﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾

 

قال ابن عطية: سبب نزولها أنه لما نزل: ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾ أشفقوا منها، ثم تقرر الأمر على أن ﴿ َقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، فمدحهم الله وأثنى عليهم، وقدَّم ذلك بين يدي رِفقه بهم، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأوُّلهم، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء؛ إذ ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله، أعاذنا الله تعالى من نقمه.

 

قال في البحر المحيط: وظهر بسبب النزول مناسبة هذه الآية لما قبلها، ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول وإلى من قبله، كان مختتمها أيضًا موافقًا لمفتتحها.

 

وقد تتبعت أوائل السور المطولة، فوجدتها يناسبها أواخرها، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء، وذلك من أبدع الفصاحة؛ حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم، يكون أحدهم آخذًا في شيء، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر، ثم إلى آخر، هكذا طويلًا، ثم يعود إلى ما كان آخذًا فيه أولًا.

 

ومن أمعن النظر في ذلك سهل عليه مناسبة ما يظهر ببادئ النظم أنه لا مناسبة له، فبيَّن تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

﴿ آمَنَ الرَّسُولُ ﴾ الألف واللام للعهد، وهو علم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول، قال تعالى: ﴿ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾ [التوبة:13].

 

والذي أنزل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّنه الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113] - فهو القرآن والسنة.

 

﴿ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ يراد بها الربوبية أخص الخاصة؛ لأن ربوبية الله عز وجل عامة وخاصة، وأخص الخاصة، فالعامة الشاملة لكل الخلق، مثل: ﴿ رب العالمين ﴾ [الفاتحة:1]، والخاصة للمؤمنين، وخاصة الخاصة للرسل - عليهم الصلاة والسلام - فالذين يقولون: ﴿ ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ﴾ [آل عمران: 16]، هذه ربوبية خاصة لكل المؤمنين؛ ومثل: ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ﴾ هذه أخص الخاصة، ومثلها: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ [النساء:65].

 

يقابل ذلك «العبودية»: عبودية عامة وخاصة وأخص الخاصة العامة؛ مثل قوله تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، والخاصة مثل قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، وخاصة الخاصة مثل قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23]، ولا شك أن الربوبية الخاصة تقتضي تربية خاصة لا يماثلها تربية أحد من العالمين.

 

﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ﴾، والكتب المنزلة على الأنبياء الذي يظهر من نصوص الكتاب والسنة أنها بعدد الأنبياء؛ كما قال تعالى: ﴿ ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الحديد: 25]، وقال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ [البقرة: 213]، ولكن مع ذلك فنحن لا نعرف على التعيين إلا عددًا قليلًا منها: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى - إن كانت غير التوراة؛ وإن كانت هي التوراة فالأمر ظاهر؛ نعرف هذه الكتب، ونؤمن بها على أعيانها؛ والباقي نؤمن بها على سبيل الإجمال.

 

﴿ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ هنا التفات من الغيبة إلى التكلم، ومقتضى السياق لو كان على نهج واحد، لقال: «لا يفرقون بين أحد من رسله»، ولكنه تعالى قال: ﴿ لا نفرق ﴾، وفائدة الالتفات هي التنبيه؛ لأن الكلام إذا كان على نسق واحد، فإن الإنسان ينسجم معه، وربما يغيب فكره، وأما إذا جاء الالتفات فكأنه يقرع الذهن يقول: انتبه!

 

﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ سمعنا قولك وأطعنا أمرك، ولا يراد مجرد السماع، بل القبول والإجابة، وقدم: ﴿ سمعنا ﴾؛ لأن التكليف طريقه السمع، والطاعة بعده، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلًا هذا دهره.

 

﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ من التقصير في حقك، أو لأن عبادتنا وإن كانت في نهاية الكمال، فهي بالنسبة إلى جلالك تقصير، ومن فوائد الآية تواضع المؤمنين؛ حيث قالوا: ﴿ سمعنا وأطعنا ﴾، ثم سألوا المغفرة خشية التقصير.

 

﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ يحتمل أن يكون حقيقة، فيكون اعترافًا بالبعث والمعاد، وجعل منتهيًا إلى الله؛ لأنه منتهٍ إلى يوم أو عالم، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة.

 

ويحتمل أنه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان، كأنهم كانوا قبل الإسلام آبقين، ثم صاروا إلى الله تعالى، وهذا كقوله جل وعلا: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات:50]، وجعل المصير إلى الله تمثيلًا للمصير إلى أمره ونهيه؛ كقوله: ﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾ [النور:39].

 

﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ طاقتها واستطاعتها ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ من خير ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ من شر، فالإنسان لا يحمل وزر غيره، وهو بيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس، وهو أنه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشر كان ضره عليها.

 

وظاهره أنه استئناف خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلا ما هو في وسع المكلف، ومقتضى إدراكه وبنيته، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله: ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾، وظهر تأويل من يقول: إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق، وهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة:185]، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج:78]، ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن:16]، وهذا إخبار عن عدله ورحمته؛ لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة.

 

ومن فوائد الآية إثبات القاعدة المشهورة عند أهل العلم، وهي: «لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة»، لكن إن كان الواجب المعجوز عنه له بدل وجب الانتقال إلى بدله، فإن لم يكن له بدل سقط، وإن عجز عن بدله سقط.

 

ومعنى الضرورة أنه لا يمكن الاستغناء عن هذا المحرم، وأن ضرورته تندفع به، فإن لم تندفع فلا فائدة؛ مثال ذلك: رجل ظن أنه في ضرورة إلى التداوي بمحرم، فأراد أن يتناوله: فإنه لا يحل له ذلك لوجوه:

الأول: أن الله حرمه، ولا يمكن أن يكون ما حرمه شافيًا لعباده، ولا نافعًا لهم.

 

الثاني: أنه ليس به ضرورة إلى هذا الدواء المحرم؛ لأنه قد يكون الشفاء في غيره، أو يشفى بلا دواء.

 

الثالث: أننا لا نعلم أن يحصل الشفاء في تناوله، فكم من دواء حلال تداوى به المريض ولم ينتفع به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحبة السوداء: (إنها شفاء من كل داء إلا السام يعني الموت)، فهذه مع كونها شفاءً لا تمنع الموت، ولذلك لو اضطر إلى شرب خمر لدفع لقمة غص بها جاز له ذلك؛ لأن الضرورة محققة، واندفاعها بهذا الشرب محقق.

 

أيضًا لا يلزم من رفع المؤاخذة سقوط الطلب، فمن ترك الواجب نسيانًا أو جهلًا، وجب عليه قضاؤه، ولم يسقط الطلب به، ولهذا قال النبي - صلوات الله وسلامه عليه - في الحديث الذي رواه أَنَس رضي الله عنه: (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا)؛ [مسند أبي يعلي وإسناده صحيح]، ولما صلى الرجل الذي لا يطمئن في صلاته قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ)، ولم يعذره بالجهل مع أنه لا يحسن غير هذا، إذًا فعدم المؤاخذة بالنسيان والجهل لا يسقط الطلب، وهذا في المأمورات ظاهر، أما المنهيات فإن من فعلها جاهلًا أو ناسيًا، فلا إثم عليه ولا كفارة؛ مثال ذلك: لو أكل وهو صائم ناسيًا فلا إثم عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه)؛ وكذلك لو أكل وهو صائم جاهلًا، فإن صومه صحيح، سواء كان جاهلًا بالحكم أو بالوقت؛ لأن أسماء بنت أبي بكر قالت: «أفطرنا على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ غيم، ثم طلعت الشمس»، ولم يؤمروا بالقضاء، ولكن لو فعل المحرم عالِمًا بتحريمه جاهلًا بما يترتب عليه، لم يسقط عنه الإثم، ولا ما يترتب على فعله؛ مثل أن يجامع الصائم في نهار رمضان وهو يجب عليه الصوم عالِمًا بالتحريم، لكن لا يعلم أن عليه الكفارة، فإنه آثم، وتجب عليه الكفارة، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، هلكت قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم»، فألزمه النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة؛ لأنه كان عالِمًا بالحكم بدليل قوله: «هلكت».

 

فإن قال قائل: قد ذكرتم أن المأمور لا يسقط بالجهل والنسيان، فما الفائدة من عذره الجهل؟

 

فالجواب: أن الفائدة عدم المؤاخذة؛ لأنه لو فعل المأمور على وجه محرم يعلم به لكان آثِمًا؛ لأنه كالمستهزئ بالله عز وجل وآياته؛ حيث يعلم أن هذا محرم، فيتقرب به إلى الله.

 

﴿ رَبَّنَا ﴾ منادى حذفت منه «يا» النداء اختصارًا، وتيمنًا بالبداءة باسم الله عز وجل، وهذه الجملة مقول لقول محذوف، أي: قولوا في دعائكم: ﴿ ربنا لا تؤاخذنا... ﴾، مثل ما لقنوا التحميد في سورة الفاتحة ﴿ لاَ تُؤَاخِذْنَا ﴾ المؤاخذة مشتقة من الأخذ بمعنى العقوبة، بقوله: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ [هود:102] ﴿ إِن نَّسِينَا ﴾ هو ذهول القلب عن معلوم ﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ هي المخالفة بلا قصد للمخالفة، فيشمل ذلك الجهل، فإن الجاهل إذا ارتكب ما نُهي عنه، فإنه قد ارتكب المخالفة بغير قصد للمخالفة.

 

﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا ﴾ أتى بالواو ليفيد أن هذه الجملة معطوفة على التي قبلها، وكرَّر النداء تبركًا بهذا الاسم الكريم، وإظهارا للتذلل، وتعطفًا على الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا من أسباب إجابة الدعاء.

 

والحمل مجاز بأمر شديد يثقل على النفس من التكاليف أو العقوبات، وهو مناسب باستعارة الإصر ﴿ إِصْرًا ﴾ الإصر ما يؤصر به؛ أي يربط، وتعقد به الأشياء، ثم استعمل مجازًا في العهد والميثاق المؤكد فيما يصعب الوفاء به، ومنه قوله في آل عمران: ﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ﴾ [آل عمران:81]، وأطلق أيضًا على ما يثقل عمله، والامتثال فيه، قال تعالى في صفة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ﴾ [لأعراف:157]، وعن ابن عباس: ﴿ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ﴾ عهدًا لا نفي به، ونعذب بتركه ونقضه".

 

﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ اليهود والنصارى، مثال ذلك: قيل لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل: لن تقبل توبتكم حتى تقتلوا أنفسكم؛ أي: يقتُل بعضكم بعضًا، قيل: إنهم أُمروا أن يكونوا في ظلمة، وأن يأخذ كل واحد منهم سكينًا أو خنجرًا، وأن يطعن من أمامه سواء كان ابنه، أو أباه، أو عمه، أو أخاه، أو غيرهم، وهذا لا شك تكليف عظيم، وعبء ثقيل، أما نحن فقيل لنا حتى في الشرك: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 68 - 70].

 

﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، فالله تعالى بعد أن قرر لهم أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لقَّنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع، والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك؛ لئلا ينسخ من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [النساء:160].

 

والدعاء هو العبادة؛ إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال، فلذلك ختمت هذه السورة بالدعاء والتضرع، وافتتحت كل جملة منها بقولهم: ﴿ ربنا ﴾ إيذانًا منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم، ومصلح أحوالهم، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار.

 

﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾ لم يأت لفظ: ﴿ ربنا ﴾ في الجمل الطلبية أخيرًا؛ لأنها نتائج ما تقدَّم من الجمل التي دعوا فيها: بربنا، وجاءت مقابلة كل جملة من الثلاث السوابق جملة:

فقابل ﴿ لا تؤاخذنا ﴾ بقوله ﴿ واعف عنا ﴾، وقابل: ﴿ ولا تحمل علينا إصرًا ﴾ بقوله: ﴿ واغفر لنا ﴾، وقابل قوله ﴿ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ بقوله: ﴿ وارحمنا ﴾؛ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ «العفو»، ومن آثار عدم حمل الإصر بالتكاليف الشاقة «المغفرة»، ومن آثار عدم العقوبة الدنيوية والأخروية «الرحمة».

 

وقيل: طلب العفو عن التفريط في الطاعات، والاستغفار عن فعل المحرمات، والرحمة فيما يستقبله الإنسان من زمنه أن الله يرحمه، ويوفقه لما فيه مصلحته.

 

﴿ أَنْتَ مَوْلانَا ﴾ فصله؛ لأنه كالعلة للدعوات الماضية: أي دعوناك ورجونا منك ذلك؛ لأنك مولانا، ومن شأن المولى الرفق بالمملوك، وليكون هذا أيضًا كالمقدمة للدعوة الآتية ﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، وفيه من التوسل ما لا يخفى.

 

وولاية الله نوعان: خاصة، وعامة؛ فالولاية الخاصة ولاية الله للمؤمنين، كقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257]، وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]، والولاية العامة ولايته لكل أحد؛ فالله سبحانه وتعالى ولي لكل أحد بمعنى أنه يتولى جميع أمور الخلق؛ مثاله قوله تعالى: ﴿ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30].

 

﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى؛ لأن شأن المولى أن ينصر مولاه.

 

وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر؛ لأنهم جعلوه مرتبًا على وصف محقق، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين، قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة:257]، وفي حديث يوم أحد لما قال أبو سفيان: "لنا العزى ولا عزى لكم"، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أجيبوه الله مولانا ولا مولى لكم).

 

ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنها جامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنهم إذا نصروا على العدو، فقد طاب عيشهم وظهر دينُهم، وسلموا من الفتنة، ودخل الناس فيه أفواجًا.

 

وهذه الآيات (خواتيم سورة البقرة) وردت فيها نصوص تدل على الفضل العظيم؛ منها:

• أنها من كنز تحت العرش؛ روى أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ وَلَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي)، وروى ابن حبان عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَأُوتِيتُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ بَعْدِي).

 

• أن من قرأهما في ليلة كفتاه، في "الصحيح" عن أبي مسعود الأنصاري البدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، وهما من قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾ إلى آخر السورة.

 

قيل: معناه كفتاة عن قيام الليل، فيكون معنى (من قرأ) من صلى بهما، وقيل: معناه كفتاه بركةً وتعوذًا من الشياطين، والمضار، ولعل كلا الاحتمالين مراد.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير خواتيم سورة البقرة
  • إشراقات سورة البقرة (1)
  • قراءة الآيتين من خواتيم سورة البقرة سبب لطرد الشيطان

مختارات من الشبكة

  • الدرس الأول: فضل خواتيم سورة البقرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تدبر آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خواتيم سورة البقرة: فضائل وفوائد (خطبة)(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)
  • تفسير خواتيم سورة البقرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مناسبة سورة الأنفال لسورتي البقرة وآل عمران(مقالة - آفاق الشريعة)
  • لطائف وإشارات حول السور والآي والمتشابهات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: سورة البقرة الآيات (1-5)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تدبر خواتيم سورة آل عمران (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • سورة الكهف والدجال (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كتاب (لقط الدرر من خواتيم طوال السور) نبذة وتعريف(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب