• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
  •  
    خطبة: أم سليم ضحت بزوجها من أجل دينها (1)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    خطبة: التربية على العفة
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    التلاحم والتنظيم في صفوف القتال في سبيل الله...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أسس التفكير العقدي: مقاربة بين الوحي والعقل
    الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني
  •  
    ابتلاء مبين وذبح عظيم (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    فضل من يسر على معسر أو أنظره
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    حديث: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    كونوا أنصار الله: دعوة خالدة للتمكين والنصرة
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    لا تعير من عيرك
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    من مائدة التفسير: سورة النصر
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

مجمع الأخلاق والفضائل من سورة الأعراف

مجمع الأخلاق والفضائل من سورة الأعراف
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/3/2022 ميلادي - 28/7/1443 هجري

الزيارات: 8791

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة الأعراف (الحلقة 26)

مجمع الأخلاق والفضائل من سورة الأعراف

 

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين

قال الله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ * وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 199 - 206].

 

نشأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على عين الله اصطفاءً وإعدادًا، وتربية وترشيدًا، وتوجيهًا وحماية، وعندما أخذت تباشير النبوة تترى عليه صلى الله عليه وسلم في غار حراء، قيَّض الله له ورقة بن نوفل يشرحها له، ويطمئنه إليها، ويهنئه بها، ويبين له مآله مع قومه فيها بقوله: ((هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك))، فعجب صلى الله عليه وسلم وسأله: ((أو مخرجي هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا)).

 

وعندما غطَّه الملك حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله، وقال له: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، رجع ترجف بوادره، فقيض الله له حكيمة آل البيت، زوجته خديجة، كانت خير من شد أزره، وأشعره بما في جوانحه من الخير، وما في تكوينه النفسي من القوة، وأعقل من نبهه إلى ما في همته من السمو، وما في علاقاته بالأسرة الإنسانية بجميع أصنافها وألوانها وانتماءاتها من الرفق؛ إذ سألها: ((يا خديجة ما لي؟ فقالت له: أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)).

 

وعندما نزل عليه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 5]، عكف على العبادة آناء الليل وأطراف النهار نحوًا من سنة، إلى أن خفف الله عنه بنزول قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20]، وهو ما رواه سماك الحنفي إذ قال: ((سمعت ابن عباس يقول: لما أُنزل أول ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴾ [المزمل: 1]، كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في شهر رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحوٌ من سنة.

 

وإذ اكتمل إعداده للمرحلة الأولى من دعوته، وخُوطب استنهاضًا له واستنفارًا؛ بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 1 - 7]، انطلق غير حافل بمشاق الطريق وعدوانية المشركين، فواصل الوحي الكريم رعايته بالتوجيه والترشيد، والتثبيت والمواساة والنصح إلى حوالي منتصف العشرية الأولى من الفترة المكية، فنزلت سورة الأعراف فواتحها دعاء له بالقوة على تحمل القرآن وأدائه وتربية الخلق به، ونهي عن الاستسلام للحرج أو الحزن لِما يناله من قومه؛ بقوله تعالى: ﴿ المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 1، 2]، أما خواتيمها، فقد كانت له صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه إلى يوم الدين تبصرةً بأدب السلوك وسمت السالكين، ومنهجًا للدعوة إلى الإسلام بشارة ونذارة في مجتمع جاهلي تميز بالجفاء والغلظة والقسوة والعناد؛ بقوله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 199، 200]، كما قدمت على وجازتها وعميق معانيها في نفس الوقت للبشرية دستور أخلاق، ومنهج عمل لكل أمر ذي بال، ومزيد حكمة، وسداد رأي في معاملة الناس على اختلاف عاداتهم وطباعهم، ومناشطهم ومذاهبهم، ومشاربهم وطرائق حياتهم، بما ينشر فيهم الأمن والسلامة، والوئام والتعاون على الخير والبر؛ لذلك قال عنها جعفر الصادق رضي الله عنه: "أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها"؛ كما روى البخاري في فضلها عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، قال ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل))، كما رُوي أنه لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ((ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: إن الله يأمر أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك))، فكان جواب جبريل عليه السلام مطابقًا للفظ الآية؛ لأنك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين، وهي معانٍ كلها واضحة بوضوح ألفاظ هذه الآية الكريمة، وأوامرها الثلاثة بأخذ العفو والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين.

 

أما لفظ "العفو"، فمِن "عفا يعفو عفوًا، فهو عافٍ وعفوٌّ على صيغة (فعول)، وحروفه العين والفاء والحرف المعتل - كما قال ابن فارس في معجمه - أصلان؛ أحدهما: معناه الترك، ومنه عفو الله عن خلقه؛ أي: تركهم وعدم معاقبتهم؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 99]، وقوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25]، وما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم وجوب زكاة الخيل بقوله: ((عفوت عنكم عن صدقة الخيل))؛ أي: تركت إيجابها عليكم، والأصل الثاني معناه الطلب، الذي يعود إلى أصل الترك، ومنه يقال: اعتفيت فلانًا، إذا طلبت معروفه وفضله، كما يقال: أعطيته المال عفوًا؛ أي: من غير مسألة أو طلب أو مقابل، وأخذ العفو في هذه الآية الكريمة يعني أن يتحلى المرء بالعفو فيبذله للناس في المعاملة، وأن يقبل منهم العفو فيما يأتيه منهم من غير كلفة أو تشدد أو غلوٍّ، وما يسهل عليهم من التصرفات والمعاملات، وما لا يشق عليهم في الأخذ والعطاء، واستيفاء الحقوق والمحاسبة، وألَّا يجازي السيئة بالسيئة، ولا القول الغليظ بمثله، ولا الهجر بمثله، ولا المنع بمثله، وأن يبذل لهم ما يرغب فيه الشرع، وما يرغبهم في الشرع من الرفق واللين، والحلم والتسامح، ما لم يؤدِّ ذلك إلى ضرر أو إخلال بالعقيدة السوية أو التسامح فيها، أو بالأحكام الشرعية التي لا يجوز التغاضي عنها؛ وذلك ما دأب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصح به قومه بقوله: ((رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)).

 

ولئن ورد هذا الأمر منه تعالى في هذه الآية موجزًا ومركزًا ليسهل على القلوب والعقول استيعابه وتذكره، فقد ورد مفصلًا في آيات أخرى من القرآن الكريم مثل قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 159]، وقوله سبحانه: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خير مستوعب لهذه التعاليم، وأحسن متخلق بها؛ كما شهد له بذلك الحق سبحانه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وكما قالت عنه عائشة رضي الله عنها: ((ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تُنتهك حرمة الله تعالى، فينتقم لله عز وجل بها))، وحسبنا مثلًا لصبره ومصابرته وعفوه وكريم خلقه أنه صلى الله عليه وسلم لما أسلم وحشي قاتل عمه حمزة سيد الشهداء، وقدم عليه، لم يزد على أن قال له: ((آنت وحشي؟ فقال: نعم، قال: آنت قتلت حمزة؟ قال: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟))، وما روته عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلًا يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قلت: وعليكم))، وما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: ((أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال؛ فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)).

 

وأما الأمر الثاني في هذه الآية الكريمة؛ وهو قوله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ [الأعراف: 199]، فإن العرف أو المعروف هو ما تعارف الناس على فضله أو نفعه، أو حسنه أو مناسبته لهم، فرادى أو مجتمعين، وأصبح معروفًا بينهم، ومعمولًا به في مجتمعهم، سواء كان عرفًا قوليُّا، أو عرفًا اجتماعيًّا، أو إداريًّا، أو اقتصاديًّا، أو سياسيًّا، ما لم يعارض نصًّا في الكتاب أو السنة، أو أحكامًا شرعية مستندة إليهما، ولم يضر بقيم الإسلام ومكانته، كما هو الحال - مثلًا - في المقاييس والمكاييل والأوزان الشائع استعمالها في التجارات، أو في الإقرارات التي تؤخذ على ظواهرها وما تفيده في اللغة أو العرف، أو في توارث المناصب ببعض المجتمعات القبلية على مقتضى العرف والعادة، والحال فيما يسمى "بروتوكول" في السلك الدبلوماسي عند استقبال ضيوف الدولة وتكريمهم؛ ولذلك أشاد الشارع الحكيم به، وجعل له مكانة ومكانًا في مجال الفراغ التشريعي والآداب الاجتماعية؛ فقال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط...))، بل جعله الشارع أحيانًا خيرًا من الصدقة التي يتبعها أذى؛ بقوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263].

 

وأما الأمر الثالث في هذه الآية الكريمة بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، فإن الإعراض عن الشيء لغة معناه: الصدود عنه، من فعل: "عرض" له الأمر عرضًا، إذا ذكره أو فكر فيه، و"أعرض" عنه إعراضًا إذا انصرف عنه، أو أشاح عنه بوجهه، أو رفضه، أو ازدرى به، أو أظهر عدم الاهتمام به، والجهل المقصود في هذه الآية الكريمة هو فساد الاعتقاد، وسفاهة الرأي، وإساءة الفعل، وانعدام الحكمة في القول والرأي والتصرف، وقد كان بعض الجاهلين من مشركي قريش يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاولة السخرية بدعوته، أو استدراجه إلى الجدل العقيم الذي لا يُراد به الاستفهام أو الاستيضاح أو المعرفة، بقدر ما يراد به صرفه عن الحق، وشغله عن بيانه والدعوة إليه، أو صرف السامعين عن استيعاب ما يلقيه عليهم من القرآن، وما يبينه لهم من أحكام العقيدة والدين؛ ولذلك أمره ربه في هذه الآية بالإعراض عنهم، وعدم إضاعة وقته في الرد عليهم أو الاهتمام بأمرهم، كما أمره مع الإعراض عنهم بعدم مبادأتهم بالعداوة؛ بقوله تعالى في آية أخرى: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وقوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55]، أما المنافقون في الصف الإسلامي، فقد أمره تعالى بأن يغلظ لهم النصح لعلهم يتوبون أو يكفون شرهم عن المسلمين؛ بقوله عز وجل عنهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63]، وإعراضه صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال لم يكن إعراض ضعف عن مواجهة الجاهلين بكل فئاتهم، أو عن خوف منهم، وإنما للتفرغ لما هو أهم وأجدى وأكثر نفعًا؛ وقد خاطبه ربه عز وجل بقوله: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 94، 95].

 

بهذه الأوامر الثلاثة وضع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع المسلمين معالم منهج للدعوة إلى دينه، ورسم إطارًا لتنزيل الأحكام الشرعية العملية بيسر، وهيأ لهم جوًّا من الأمن النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ كي تصفو المودة بينهم فينطلقوا لِما خُلقوا له من عبادة ربهم، ونصرة أمتهم، وإقامة أمر دينهم وإظهاره، ولم يبقَ من عائق لذلك إلا أمران؛ أولهما: ما قد يلقيه الشيطان وأولياؤه من ضروب النجوى والوسوسة في قلوب بعض المتقين؛ كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس))[1] ، والثاني ما كرهه من توبتهم وإيمانهم إخوان لهم في الشرك سابقون كفروا بما أنزل الله من الهدى وما أنار به القلوب.

 

لذلك عقب الحق سبحانه بعلاج الحالة الأولى مما قد ينتاب بعض المؤمنين من تلاعب للشيطان بقلوبهم وعقولهم وأمزجتهم؛ فقال عز وجل: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]، والخطاب في هذه الآية كما في جميع آيات التأديب والتشريع موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، يُراد به المكلفون من أمته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل عليهم السلام معصومون من نزغ شياطين الجن والإنس أجمعين؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، وقال عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحج: 52]، أما النزغ لغة، فهو النخس والغرز بالإبرة والشوكة ونحوهما، تغرز في الجسم فتستثيره، أُطلق مجازًا على النجوى التي تنزغ المرء فتحزنه وتفسد الود بينه وبين غيره؛ وقال عنها تعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 10]، كما أُطلق على ما يلقيه الشيطان في قلوب المؤمنين فرادى وأسرًا، وجماعات وطوائف من الوساوس والظنون والمخاوف مباشرة، أو بواسطة أوليائه من الجن والإنس؛ فيفسد بينهم الود، وتحل فيهم نحو بعضهم العداوة والبغضاء والحسد، فيتمزق شملهم وتذهب ريحهم، وإذا الأخوان من أب واحد وأم واحدة عدوَّان، والأسرة الواحدة أشتات متباعدون متباغضون متلاحون، وإذا أرض المسلمين الواحدة الموحدة مزق بين أنياب ذئاب البراري كما هو الحال في هذا العصر، هذه المخاطر التي تنشأ عن كيد الشيطان ونزغه - قلَّ أو كثر - جعل الله للمؤمن صارفًا عنها؛ بقوله تعالى: ﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]؛ السميع لاستعاذتك من الشيطان، واستغاثتك واستعانتك بالله عليه، والعليم بضعفك وحاجتك إليه في كل الأحوال، إلا أن الاستعاذة بالله لا تفيد إلا إذا رافق اللسان فيها استحضار معناها بالعقل والقلب، واستشعار قدرة الله على حماية عبيده، ونجدة أوليائه، وحكمة قضائه وقدره.

 

إن الاستعاذة بالله معناها: الالتجاء إليه، والاحتماء به، والاستجارة والاعتصام به، وهي من أجلِّ العبادات لمن تذكرها وأُلهمها وقت الحاجة إليها، أو واظب عليها في كل حين؛ لأن الشيطان لا يكف شره عن المرء إلا بالله تعالى، وقد علمنا الكتاب والسنة أن الاستعاذة لا تكون إلا بالله، وأن الاستعاذة بغيره لا تجوز أبدًا، وأن أفضل صيغ الاستعاذة وأصحها أن تكون بالله وأسمائه وصفاته وكلماته التامات، فيقول المستعيذ مثلًا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، أو (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم)، أو (أعوذ بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا)، أو (أعوذ بكلمات الله التامة)، أو (أعوذ برضا الله من سخطه)، وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي أسيد رضي الله عنه قصة الجوينية التي نوى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزواج بها فقالت له: ((وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فلما هم بتهدئتها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها صلى الله عليه وسلم بكل تؤدة ورفق: عذتِ بمَعاذ))، وأمر أبا أسيد بأن تكسى ثوبين وأن تلحق بأهلها.

 

أما الاستعاذة بغير الله من رقًى وطلاسم، وقبور وأضرحة، وزوايا وتكايا، وجن وإنس، كما يفعل الجهلة والنصابون والمتشيطنة - فلا تزيدهم إلا إرهاقًا وفشلًا وإحباطًا ومتاعب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6].

 

ثم عقب الحق تعالى بنموذج عملي تعليمي من الأتقياء، إذا ما نالهم الشيطان بمسٍّ ونزغ؛ فقال عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ [الأعراف: 201]، إن الذين اتقوا ربهم حق تقاته ﴿ إِذَا مَسَّهُمْ ﴾ [الأعراف: 201]، نزغهم، أو ألمَّ بهم، أو لبس عليهم، أو غشيهم ﴿ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾ [الأعراف: 201]، مس من الشيطان، والطائف لغة من "طاف" بالشيء يطوف طوفًا وطوفانًا: إذا سعى حوله مستديرًا به، فهو طائف به ومن حوله، كما يفعل الشيطان إذا هم بإغواء مؤمن عن دينه، أو تثبيت ضال على ضلاله، قرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب والكسائي "طيف" وروي عن سعيد ابن جبير "طيِّف" بتشديد الياء، وقرأها الباقون في مكة والبصرة "طائف"، والمعنى واحد، ومعناها في سياق هذه الآية الخاطرة، أو الخطرة، أو الوسوسة، أو الشبهة والتخيل والتخييل الذي يطوف بالقلوب أو العقول، أو يحل بها، فإن لبس عليهم بهذا الطائف ﴿ تَذَكَّرُوا ﴾ [الأعراف: 201]، تذكروا نعم الله وفضله ومننه عليهم وإحسانه إليهم، فاستشعروا الحياء منه، وتذكروا عقابه وغضبه على من يركنون لأضاليل الشيطان، ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، مبصرون ومميزون للصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والهدى من الضلالة، أوابون توابون إلى صراط الله المستقيم.

 

وبعد أن قدم الوحي الكريم علاج وساوس الشيطان في نفوس المتقين بالتذكر والاستعاذة، توجه إلى الذين كانوا من قبل إخوانًا لهم، وآثروا الشرك، وأصروا عليه؛ فقال تعالى: ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ ﴾ [الأعراف: 202]، الذين يأبون عليهم الهداية والتبصرة، ويبغونهم الفتنة، ﴿ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ﴾ [الأعراف: 202]، يواصلون إمدادهم بالشبهات التي تغويهم وتردهم إلى الضلال، وتركسهم في الشرك، قرأها أهل المدينة: ﴿ يُمِدُّونَهُمْ ﴾ [الأعراف: 202]، بضم الياء وكسر الميم، من الإمداد، وقرأها غيرهم: ﴿ يَمُدُّونَهُمْ ﴾ [الأعراف: 202]، بفتح الياء وضم الميم من المد، والمعنى واحد، ﴿ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 202]، ثم لا يكفون عن محاولة تضليلهم، ويواصلون التعنت والشغب بطلب الآيات من الرسول صلى الله عليه وسلم، من غير أن يوطنوا أنفسهم لفهمها، أو الإيمان بها، ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ﴾ [الأعراف: 203]، فإذا لم يأتهم بآية، قالوا له تحديًا أو سخرية: هلا اصطنعتها بنفسك وأحدثتها؛ لذلك خاطبه ربه سبحانه يصرفه عن مجادلة من ليس له بصيرة أو استعداد للتبصر؛ بقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ﴾ [الأعراف: 203]، قل لهم: ليس لي أن أصطنع الآيات، ولا قدرة لي على ذلك، وإنما أتبع ما يأتيني من الله، إن كان آية كونية، آمنت بها، وعلمني بها ربي ما غاب عني من آفاق قدرته وعلمه وحكمته، وإن كان حكمة، عملت بها وعلمت، ورشدت بها ورشدت، وقد آتاني أعظم آياته التي هي القرآن الكريم، فبلغته وبشرت به وأنذرت، وإنَّ ﴿ هَذَا ﴾ [الأعراف: 203]، القرآن الذي أوتيته وبلغته ﴿ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 203]، ولفظ بصائر: جمع بصيرة، من البصر، والباء والصاد والراء أصل في العربية يعني العلم بالشيء، فإن كان من العين، فهو حاسة النظر؛ قال تعالى: ﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [الملك: 3]، وإن كان بالعقل والقلب، فهو نفاذ الفهم والرشد، والبصيرة بذلك تمام العلم، ومنتهى الفهم والرشد في معالجة قضايا الدين والدنيا؛ ومنها قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، وقد سمى الحق تعالى القرآن الكريم بالبصائر في هذه الآية الكريمة؛ لِما فيه من الأحكام الواضحة المبصرة في العقيدة والشريعة، وما فيه من الآيات البينات في الخلق والتدبير، والحكمة واللطف، والتسيير والتيسير؛ قال الإمام علي رضي الله عنه: "اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لْأوائِكم؛ فإن فيه شفاءً من أكبر الداء؛ وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه"، كما سماه الهدى بقوله عز وجل: ﴿ وَهُدًى ﴾ [الأعراف: 203]؛ لما تضمنه من أنوار الهداية إلى سعادة الدنيا والآخرة، وسماه: ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ [الأعراف: 203]، ولكن هذه الرحمة ليست إلا لمن آمن به وعمل بتعاليمه؛ أي: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 203]؛ لذلك حريٌّ بالمؤمن أن يدرسه ويواظب على فهمه، ومفاتشة أسراره ومعانيه، والاستنارة بنوره؛ ليكون من أهله؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده))، كما أن على من في قلبه نحوه غبش أو غشاوة، أو لم يطلع عليه، أو لم يومن به أن يعيد فهمه ومراجعته، لعل نورًا منه يغشى قلبه؛ فينير بصيرته ويهديه إلى سعادة الدنيا والآخرة؛ ولذلك عقب تعالى بقوله: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ ﴾ [الأعراف: 204]، فاعلموا أنه كلام ربكم، وأقبلوا عليه بتمام السكينة والخشوع والتوجه بعقولكم وأفئدتكم ومشاعركم، ﴿ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ [الأعراف: 204]، بقصد فهمه وتدبره، واتركوا جميع ما يشغلكم عنه[2]، ﴿ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204]، والإنصات لغة هو الإصغاء، أو أعلى درجات الاستماع؛ أي: استمعوا للقرآن إذا قرئ في الصلاة، أو في غير الصلاة بتدبر، كي يزداد إيمانكم، وترشد أعمالكم، وتقوى عزائمكم، وتغشاكم رحمة الله الملازمة له ولمن يتلوه حق تلاوته، ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ [الأعراف: 205]، اذكروا ربكم أثناء الإنصات للقرآن وبعده ذكرًا يتجاوز اللسان إلى القلب، ويستشعر عظمة منزله عز وجل وجلاله، وحاجة الخلائق له؛ ﴿ تَضَرُّعًا ﴾ [الأعراف: 205]، رغبة وتخشعًا وابتهالًا، ﴿ وَخِيفَةً ﴾ [الأعراف: 205]، رهبة وإشفاقًا وحذرًا، ﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الأعراف: 205]، فوق السر ودون الجهر، ﴿ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الأعراف: 205]، في وقت الغدو وهو الضحى، ووقت الأصيل وهو ما بين العصر والمغرب، أو صباحًا ومساء، ﴿ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، من الغافلين عن ذكر الله، واللجوء إليه، والاستعانة به، ولا عما أمرتم به في هذه الآيات الكريمة من الأخذ بالعفو، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإعراض عن الجاهلين، والاستعاذة بالله من نزغات شياطين الجن والإنس، ولا من الغافلين عن ذكر الله بالغدو والآصال، أو تدبر القرآن وتلاوته والإصغاء له.

 

لقد كانت هذه التكاليف جديدة وقوية وثقيلة، على رغم وجازتها؛ إذ تضمنت أهم قواعد الشريعة أمرًا ونهيًا ومعاملة، في الفترة المكية التي كاد الوحي يقتصر فيها على البشارة والنذارة وأصول الدين، ولعل بعضهم يستصعبها، أو يتمنى التخفيف منها، أو يستضعف نفسه عن القيام بها؛ لذلك فتح الله نافذة من الغيب تشجيعًا لهم على الطاعة، وقدم لهم نموذجًا من عبادٍ له في الملأ الأعلى لا يفترون عن عبادته ولا يستكبرون؛ وقال تعقيبًا على هذه التكاليف: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206]؛ أي: لئن استصعب أحد هذه التكاليف، فإن في الملأ الأعلى عبادًا مكرمين، لا يستصعبون ما فرض الله عليهم، ولا يفترون عن تسبيحه والسجود له، فنافسوهم بالطاعة والامتثال، تنالوا خيرًا مما لديهم، خلودًا في نعيم الجنة، وإعفاء من التكاليف، إنهم ملائكة الرحمن الذين لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى؛ قال عز وجل: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75]، وقد ورد في الصحيح عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن حوله: ((أتسمعون ما أسمع؟ إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم))، وإنه التسبيح الذي عظمه الله وألهمه من في الكون جميعًا، من حُرمه حُرم الخير كله؛ قال عز وجل: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]، وإنه السجود الذي يزداد به الساجد رفعة وعزًّا ما واظب عليه وأطاله وخشع فيه بين يدي ربه، السجود الذي أُمر به الملائكة فأطاعوا، وأُمر به الشيطان فاستكبر وأبى، ولُعن وطُرد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله - وفي رواية أبي كريب: يا ويلي - أُمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيتُ، فلي النار))، وعن معدان قال: سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: حدثني حديثًا ينفعني الله به، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد يسجد لله سجدةً، إلا رفعه الله بها درجةً، وحط عنه بها سيئة)).

 

بهذا القدر الذي يسره الله لي أُنهي تفسيري لسورة عظيمة هي سادسة السبع الطوال، سورة الأعراف المباركة، وما كتبه الله لي فيها على ضعفي وجهلي، وقلة حيلتي وتطوافي في الأرض، ملاحَقًا ومهدَّدًا من قِبل طغاة الأرض وظلمتها، نادمًا على عدم المسارعة به في شرخ الشباب، وذروة القوة، وسعة العمر، فإلى الله المعذرة على التقصير والتأخير، وله مزيد الشكر على ما أمن من الروعات، وستر وغفر من الزلات، وما أعطى من الجزل، وضاعف من الخيرات، له الحمد حتى يرضى وبما يرضى، ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، اللهم اشرح بالقرآن صدورنا، واستعمل بالقرآن أبداننا، ونوِّر بالقرآن أبصارنا، وأطلق بالقرآن ألسنتنا، وأعنا عليه ما أبقيتنا، وإنه لا حول ولا قوة إلا بك.

 

في يوم الجمعة 24 جمادى الثانية 1443 من الهجرة النبوية، (28/01/2022).



[1] صحيح الإسناد/ الألباني.
[2] السمع: يكون عفويًّا مقصودًا وغير مقصود بالأذن، والاستماع يكون مقصودًا من أجل هدف للمستمع، والإنصات والإصغاء أعلى درجات الاستماع.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير الربع الأول من سورة الأعراف بأسلوب بسيط
  • تفسير الربع الأخير من سورة الأعراف بأسلوب بسيط
  • هدايات سورة الأعراف (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • المجمع المدرسي يزور مديرية خانيونس ويتابع خطته السنوية(مقالة - المسلمون في العالم)
  • فوائد مختارة من تفسير ابن كثير (5) من سورة المائدة إلى سورة الأعراف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ترجيحات الشنقيطي في أضواء البيان من أول سورة الأعراف إلى آخر سورة الكهف جمعا ودراسة(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • مناسبة سورة الأنفال لسورة الأعراف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المجمع المدرسي: مجمع اللغة العربية الفلسطيني المدرسي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الدين مجمع الأخلاق وجوهرها(مقالة - موقع موقع الدكتور خالد بن عبدالرحمن بن علي الجريسي)
  • تدبر آية الأخلاق: 70 هداية قرآنية مستنبطة من آية الأخلاق (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • بذور الأخلاق للناشئين – 30 خلقا من أجمل وأروع الأخلاق التي يربى عليها الناشئة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • حصن الأخلاق: جملة من الأخلاق الواردة في القرآن والسنة (WORD)(كتاب - آفاق الشريعة)
  • خلاصة القول في الأخلاق الإسلامية وأهميتها للحياة الإنسانية(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب