مقاصد العقيدة: مدخل تأصيلي

مقاصد العقيدة: مدخل تأصيلي

من أكثر ما يتعمَّق فيه الباحثون الشرعيون قضيةُ "مقاصد الشريعة".

وإن قضية "المقاصد" لَتَستَحِقُّ من كلِّ مسلم أن يتعلَّمها وأن يعلِّمها؛ لأن الله - تعالى - لم يشرع ما شَرَع إلا لغاياتٍ يُرِيدها، وكمالات يحبُّها.

ولكن قضية المقاصد ليستْ هي فقط مضمون الشريعة، بل إن العقيدةَ كذلك لها مقاصدُ هي أعظم المقاصد، غيرَ أن قضية "مقاصد العقيدة" لم تَجِدْ من الاهتمام ما وجدتْه "مقاصد الشريعة"، فلم يؤلِّف فيها إلا قليلٌ من الباحثين، ما هي إلا ضغطة زر على محرِّك بحث في الشبكة العنكبوتية حتى تفاجأ بهذه الحقيقية المؤسفة.

إن قلة البحث في مقاصد العقيدة يُوحِي مباشرةً بأزمةٍ كبيرة تمر بها الأمة الإسلامية.

إن الأمة التي لا يمرُّ على فكرِها أهميةُ تحليلِ الأوامر العقدية، واستخلاص معانيها، وغاياتها، وآثارها؛ لَهِي أمةٌ متحلِّلة محتلة، مَقُودة، مفقودة! لا أثر لها بين العالمين.

إنه ليس يَخفَى على أحدٍ أن مسائلَ الشريعة - مع أهميتِها المطلقة في تقويم الدين - تَنبَنِي أساسًا على مسائل العقيدة؛ ذلك أن الإيمان يَسبِق الإسلام إذا أردنا بالأول الاعتقادَ وبالثاني العمل، فكلُّ عملٍ يأتي بعد عقيدة تدعو إليه، ومن هنا كانتِ الأزمة الحقيقية التي تَمُرُّ بها الأمة ليستْ أزمة عملٍ، بقدر ما هي أزمة عقيدة.

إن المسلمين بالضرورة يصلُّون ويزكُّون ويصومون، وإلا ارتفع عنهم مسمَّى الإسلام، وكذلك ما منهم من أحدٍ إلا ويخبرك بالتوحيد والنبوة، كما ينبغي أن تكون الإجابة، ثم إذا فتَّشتَ عن الأفعال وجدتَ التقصير والتناقض.

إن الخلل في استحضار الأمة "مقاصد العقيدة" هو الأمرُ الذي يفسِّر - بصورة مباشرة - ما أصابها من شللٍ في أعضائها الحيوية، وما أصابها من نقائص في عناصرها الخُلقية.

إن الأمة في حاجة شديدة لأنْ تَستَعِيد استحضار عقائدها، بالقدر الذي يردُّها "للدين الحقيقي".

إن الدين الحقيقي هو ضالَّة الأمة، وهو السبيل الوحيد لمن يريدون النهضة.

والكلام في هذه القضية، وإن اتخذ مسلكًا وعظيًّا محضًا، إلا أنه يبلغ الغاية في أهميته؛ فإننا نرى ظواهرَ عَجِيبة بين أفراد الأمة:

• طلاب علم شرعي ترى أحدَهم بين كتبه أكثرَ مما تراه بين أهله وأبنائه، ثم تراه على خلاف العداء مع آخر يرى ما لا يراه في مسألة علمية مثلاً، أو لأنه يُوالِي شيخًا غير شيخ الآخر!

• رجلٌ لا تفوتُه صلاة جماعة، ثم ترى يدَه ورجله لا تكفُّ عن الحركة في صلاته منذ يدخلها إلى أن يخرج منها.

• مسجدٌ مكتَظ بالمصلِّين يوم الجمعة، ثم إذا قابلتَ أحدًا بعد الخطبة، فيقول لك: خطبة عصماء، ثم تكتشف أنه لم يختزن منها كلمة أو معنى.

• داعية من فوق المنبر يعظُ الناس صارخًا فيهم بالتقوى، ثم تراه مجالسًا مَن لا دينَ له، وبيدِه سيجارة مثلاً.

إن "العبادات" الإسلامية صارتْ لدى شريحة عظيمة من المسلمين عادات، هذه الحقيقة طامَّة كبرى، وعوج في الأمة عظيم، وما سبب ذلك إلا غياب "مقاصد العقيدة" عن أذهان الناس؛ فالله - تعالى - جعلَ العبادات آثارًا للعقائد، فإن لم يستحضر العمل ما وراءه من إيمان، فلا إيمان.

هذا مدخل لسلسلة من المقالات - بإذن الله تعالى - تتخصَّص في "جوهر الدين"، أستعين الله - تعالى - فيها أن تَرُدَّ الشاردَ، وأن تسقي الوارد، وأن تُوقِظ النائم، وتثبِّت اليقظان.

الفرق بين العقيدة وبين مقصدها:

العقيدة لفظةٌ دالَّة على العناصر التي يؤمن بها الإنسان، ومن أفضل ما قرأتُ في هذا المعنى قولُ الفيروزابادي: البصيرة: "عقيدة القلب"؛ [انظر القاموس، مادة: بصر].

يستفاد منه أن العقيدة ما يبصره القلب، كما أن الشهادة ما يبصره الحس، ويستفاد من ذلك أن العقيدةَ لا تُطلَق إلا على العناصر الغَيبية، أو ما دار حولَ هذه العناصر من أفكارٍ، فيَصِير الفكرُ عقيدةً كذلك لَدَى صاحبِه، وإذا كانتِ العقيدة تتعلَّق بما يراه القلبُ، فإن ذلك لا بدَّ أن يكون طريقُ العلم به وحيًّا إلهيًّا بأي نوع من أنواعه الثابتة؛ لأنه لا طريقَ لمعرفة الغَيْب إلا من الله - تعالى - فالعقيدة "معلومات" و"أخبار" يعرفها الناس من قِبَل الله - تعالى - عن طريق رسله، ولكن هذه المعلومات لها خصوصية عظيمة.

خصوصية "المعلومات" الدينية:

إذا كان هناك لجنة امتحان - مثلاً - ثم جاء المراقب لأحدِ الطلاب، فقال: أنا محمد، فإن الطالب حَدَث لديه "معلومة"، وإذا قال له: أنا أرى جيدًا، فقد حدثتْ لدى الطالب معلومة أخرى، لكنَّ فارقًا كبيرًا بين المعلومتين؛ الأولى معلومة لا تقتضي العمل، الثانية معلومة تقتضي العمل، فكون المراقب أعلمه أن اسمه محمد، شيء مجرَّد من الأمرية، أمَّا كونه يُعْلِمه أنه يرى جيدًا، فهو أمر متضمن للأمر والنهي، كأنه قال: لا تغشَّ.

وكل "المعلومات العقدية" التي يخبرنا الله - تعالى - بها عنه وعن العالَم الغَيْبِي هي من النوع الثاني الذي يقتضي العمل، ويتضمن الأمر والنهي.

أما كثيرٌ من المسلمين هذه الأيام، فيأخذون "معلومات العقيدة" من النوع الأول، أنها تعريف فقط، إذا اتضح ذلك، فإن العقيدة لا بدَّ أن يكون لها مقصد، لا بدَّ أن يكون لها أمرٌ ونهي؛ كالشرع سواء بسواء.

فإذا قال الله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224]؛ كان ذلك أمرًا بالالتزام، ونهيًا عن العِوَج في السلوك؛ فهو يَسمَع الأقوال، ويعلم الأفعال، وإذا كان يسمع ويعلم، فلا بد أن يثيب ويعاقب.

وكذلك إذا قال: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]؛ فهو أمرٌ بالتواضع والعدل، ونَهْيٌ عن الظلم والتجبر، وهكذا سائر "المعلومات" العقدية التي أعلمنا الله - تعالى - بها، كلها يقتضي ما ذكرتُ، وهذه المقتضيات هي ما نتكلَّم عنه في قضية "مقاصد العقيدة".

وفي المقال التالي - بإذن الله - نفصل هذه المقاصد.