• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / عقيدة وتوحيد
علامة باركود

المعاني الإيمانية لأسماء الله: الصبور - الحليم - الشكور

المعاني الإيمانية لأسماء الله: الصبور - الحليم - الشكور
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 20/2/2024 ميلادي - 10/8/1445 هجري

الزيارات: 3498

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المعاني الإيمانيَّةُ

[لأسماء الله: الصبور - الحليم - الشكور]


أمَّا الصَّبرُ، فقد أطلقَهُ عليه أعرَفُ الخَلْقِ به وأعظمُهم تنزيهًا له بصيغةِ المُبالغةِ، ففي الصَّحيحينِ مِن حديثِ الأعمشِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، عن أبي موسى، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللهِ عز وجل، يَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»[1].

 

وفي أسمائِهِ الحُسنى: الصَّبورُ، وهو من أمثلةِ المبالغَةِ، أبلغُ من الصابرِ والصَّبَّارِ، وصَبرُه تعالى يُفارقُ صَبرَ المخلوقِ، ولا يُماثِلُه مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ، منها أنه عن قُدرةٍ تامَّةٍ، ومنها أنه لا يَخافُ الفَوْتَ، والعبدُ إنما يَستَعجلُ لخوفِ الفوتِ، ومنها أَنَّه لا يَلحقُه بصبرِه ألمٌ ولا حُزنٌ ولا نقصٌ بوجهٍ ما، وظهورُ أثرِ هذا الاسمِ في العالَمِ مَشهودٌ بالعِيانِ كظهورِ اسمِه الحليمِ.

 

والفرق بين الصَّبرِ والحِلْمِ: أَنَّ الصَّبْرَ ثمرةُ الحِلْمِ ومُوجَبُهُ، فعلى قَدْرِ حِلْمِ العَبْدِ يكونُ صَبرُه، فالحِلمُ في صفاتِ الربِّ تعالى أوسعُ مِن الصَّبرِ، ولهذا جاء اسمُه الحليمُ في القرآنِ في غيرِ موضعٍ، ولسَعتِه يقرنُهُ سُبْحَانَهُ باسمِ العَليمِ، كقولِه: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 51]، و ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [الحج: 59].

 

وفي أثرٍ أَنَّ حمَلةَ العرشِ أربعةٌ: اثنانِ يقولانِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، لك الحمدُ على حِلْمِك بعد عِلْمِكَ، واثنانِ يقولانِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، لك الحمدُ على عفوِك بعد قُدْرتِكَ.

 

فإِنَّ المخلوقَ يَحْلُمُ عن جَهلٍ، ويعفُو عن عَجْزٍ، والرَّبُّ تعالى يَحْلُمُ مع كمالِ عِلْمِهِ، ويَعْفُو مع تمامِ قُدْرتِه، وما أُضيفَ شيءٌ إلى شيءٍ أزينُ مِن حِلْمٍ إلى عِلْمٍ، ومِن عفْوٍ إلى اقْتِدَارٍ، ولهذا كان في دُعاءِ الكَرْبِ وُصِفَ سُبْحَانَهُ بالحِلْمِ مع العظمَةِ، وكونُه حليمًا مِن لوازمِ ذاتِهِ سُبْحَانَهُ.

 

وأما صَبْرُه سُبْحَانَهُ، فمتعلِّقٌ بكُفْرِ العبادِ، وشرْكِهم، ومَسَبَّتهم له سُبْحَانَهُ، وأنواعِ مَعاصِيهم وفجورِهم، فلا يُزعِجُه ذلك كلُّه إلى تعجيلِ العقوبةِ، بل يَصبرُ على عبْدِه، ويُمْهِلُه، ويَستَصلِحُه، ويَرْفُقُ به، ويَحْلُمُ عنه، حتى إذا لم يَبْقَ فيه مَوضِعٌ للصّنَيعةِ، ولا يَصْلحُ على الإمهالِ والرِّفقِ والحِلمِ، ولا يُنِيبُ إلى ربِّه ويَدْخُل عليه لا مِن باب الإحسان والنعم، ولا مِن بابِ البلاءِ والنِّقمِ - أَخَذَهُ أخْذَ عزيزٍ مُقتدرٍ، بعد غايةِ الإعذارِ إليه، وبذْلِ النصيحةِ له، ودُعائِه إليه مِن كلِّ بابٍ، وهذا كلُّه مِن مُوجِباتِ صِفَةِ حِلْمِه، وهي صفةٌ ذاتيةٌ لا تزولُ.

 

وأما الصَّبرُ، فإذا زالَ مُتَعَلَّقُه، كان كسائرِ الأفعالِ التي تُوجدُ بوجودِ الحِكْمةِ، وتزولُ بزوالِها، فتأمَّلْهُ، فإنَّه فرْقٌ لطيفٌ ما عَثَرتِ الحُذَّاقُ بعُشْرِهِ، وقلَّ مَنْ تَنَبَّهَ له ونبَّه عليه، وأشكلَ على كثيرٍ منهم هذا الاسمُ، وقالوا: لم يأتِ في القرآنِ، فأعرضوا عن الاشتغالِ به صفحًا، ثُمَّ اشتغلوا بالكلامِ في صَبْرِ العبْدِ وأقسامِه، ولو أنهم أَعطَوا هذا الاسمَ حقَّهُ، لَعَلِموا أنَّ الرَّبَّ تعالى أحقُّ به مِن جميعِ الخَلْقِ، كما هو أحقُّ باسمِ العليمِ، والرَّحيمِ، والقديرِ، والسَّميعِ، والبصيرِ، والحيِّ، وسائرِ أسمائِه الحُسنى - مِنَ المخلوقين - وأنَّ التفاوتَ الذي بين صَبْرِه سُبْحَانَهُ وصَبْرِهم، كالتفاوتِ الذي بين حياتِهم وحياتِه، وعِلمِهِ وعِلمِهم، وسمعِه وسمعِهم، وكذا سائرِ صفاتِه.

 

ولمَّا عَلِمَ ذلك أَعْرَفُ خَلْقِه به قال: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللهِ»[2]، فعِلْمُ أربابِ البَصائرِ بصبرِه سُبْحَانَهُ كعِلْمِهم برحمتِهِ وعفوِه وسَتْرِهِ، مع أنَّه صَبْرٌ مع كمالِ عِلمٍ وقُدْرةٍ وعظَمةٍ وعِزَّةٍ، وهو صَبْرٌِ من أعظمِ مصبورٍ عليه؛ فإِنَّ مُقابلةَ أعظمِ العظماءِ، ومَلِكِ الملوكِ، بغاية القبح، وأعظم الفجور، وأفحشِ الفواحشِ، ونسبتَه إلى كلِّ ما لا يليقُ به، والقدحَ في كمالِه وأسمائِه وصفاتِه، والإلحادَ في آياتِه، وتكذيبَ رسُلِه عز وجل، ومقابلتَهُمْ بالسَّبِّ والشتمِ والأذى، وتحريقَ أوليائِه وقتلَهُم وإهانتَهُم - أمرٌ لا يَصبرُ عليه إلا الصَّبورُ، الذي لا أحدَ أصبرُ منه، ولا نِسبةَ لصبرِ جميعِ الخلْقِ مِن أوَّلِهم إلى آخرِهِم إلى صبرِه سُبْحَانَهُ.

 

وإذا أردتَ معرفةَ صَبْرِ الربِّ تعالى وحِلْمِهِ، والفرْقَ بينهما، فتأمَّلْ في قولِه تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].

 

وقولِه: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴾ [مريم: 88 - 91].

 

وقولِه: ﴿ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46]، على قراءة مَنْ فتحَ اللَّامَ.

 

فأخبَر سُبْحَانَهُ أَنَّ حِلْمَه ومغفرتَهُ يَمنعانِ زوالَ السَّماواتِ والأرضِ، فالحِلْمُ وإمساكُهما أَنْ تزولا هو الصَّبْرُ، فبِحِلْمِه صَبَر عن معالجةِ أعدائِهِ.

 

وفي الآيةِ إشعارٌ بأنَّ السماواتِ والأرضَ تهُمُّ وتستأذِنُ بالزوالِ لِعظمِ ما يأتي به العِبادُ، فيُمسكُها بحِلْمِهِ ومغفرتِه، وذلك حَبْسُ عقوبتِه عنهم، وهو حقيقةُ صَبْرِه تعالى، فالذي عنه الإمساكُ هو صفةُ الحِلْمِ، والإمساكُ هو الصَّبْرُ، وهو حَبْسُ العقوبةِ، ففرقٌ بين حبْسِ العُقوبةِ وبين ما صَدَر عنه حبْسُها، فتأمَّلْهُ.

 

وفي مسندِ الإمامِ أحمدَ مرفوعًا: «ما مِن يومٍ إلا والبحرُ يستأذِنُ ربَّه أَنْ يُغرِقَ بَني آدمَ»[3]، وهذا مقتضى الطبيعةِ؛ لأنَّ كُرةَ الماءِ تعلو كُرةَ التُّرابِ بالطبعِ، ولكنَّ اللهَ يُمسِكُه بقُدْرتِه وحِلْمِه وصَبْرِه.

 

وكذلك خُرورُ الجبالِ، وتفطيرُ السَّماواتِ، الربُّ تعالى يحبِسُها عن ذلك بصَبْرِه وحِلمِه، فإنَّ ما يأتي به الكفارُ والمشركون والفُجَّارُ في مقابلةِ العظمةِ والجلالِ والإكرامِ يقتضي ذلك، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ في مقابلةِ هذه الأسبابِ أسبابًا يُحِبُّها ويرضاها ويفرحُ بها أكْمَلَ فرحٍ تُقابِلُ تلك الأسبابَ التي هي سببُ زوالِ العالمِ وخرابِهِ، فدفعَتْ تلك الأسبابَ وقاومتْها.

 

وكان هذا مِنْ آثارِ مُدافعةِ رحمَتِهِ لِغضبِه وغَلبتِها له وسبقِها إيَّاه، فغَلَبَ أثرُ الرَّحمةِ أثَرَ الغضبِ، كما غلبتِ الرَّحمةُ الغضبَ.

 

ولهذا استعاذَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بصِفة الرِّضا مِن صِفةِ السُّخْطِ، وبفعْل المعافاةِ مِن فعلِ العقوبةِ، ثم جَمَعَ الأمْرين في الذَّاتِ، إِذْ هُما قائمانِ بها، فقال: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»[4]، فإنَّ ما يُستعاذُ به هو صادِرٌ عن مشيئتِه وخلْقِه بإذنِه وقضائِه، فهو الذي أَذِنَ في وقوعِ الأسبابِ التي يُستعاذُ منها خَلْقًا وكَونًا، فمنْه السببُ والمُسبَّبُ، وهو الذي حَرَّكَ الأنفُسَ والأبدانَ وأعطاها قُوى التأثيرِ، وهو الذي أوجَدَها وأعدَّها ومدَّها وبسَطَها على ما شاء، وهو الذي يُمسِكُها إذا شاءَ، ويَحُولُ بينها وبين قُواها وتأثيرِها.

 

فتأمَّلْ ما تحتَ قولِه: «أعوذُ بِكَ مِنْكَ» مِن محْضِ التَّوحيدِ، وقطْعِ الالتفاتِ إلى غيرِه، وتكميلِ التوكُّلِ عليه سبحانه وتعالى به وَحْدَهُ، وإفرادِه بالخوفِ والرَّجاءِ ودفْعِ الضُّرِّ وجلْبِ الخيرِ، وهو الذي يَمَسُّ بالضُّرِّ بمشيئَتِه، وهو الذي يَدْفعهُ بمشيئَتِه مِنْ مَشيئَتِهِ، وهو المُعِيذُ مِنْ فعلِه بفعلِه، وهو الذي سُبْحَانَهُ خلَقَ ما يصبرُ عليه وما يرضى به، فإذا أغضبَتْهُ معاصي الخلْقِ وكفْرُهم وشِرْكُهم وظلْمُهم، أرضاه تسبيحُ ملائِكَتِهِ وعبادِهِ المؤمنين له وحمدُهم إياه، وطاعتُهم له، فيُعيذُ رضاه مِن غضَبِهِ.

 

قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «ليس عند ربِّكم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السماواتِ والأرضِ مِن نُورِ وجهِه، وإنَّ مقدارَ يومٍ مِن أيامِكم عنده اثنتا عَشْرَةَ ساعةً، فتُعرضُ عليه أعمالُكم بالأمس أولَ النهارِ اليومَ، فيَنظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فيطَّلعُ منها على ما يكرَهُ فيغضبُه ذلك، فأوَّل ما يعلمُ بغضبِه حملةُ العرشِ يجدونَهُ يَثْقُلُ عليهم، فتسبِّحُه حمَلةُ العرشِ وسرادقاتُ العرشِ والملائكةُ المقرَّبون وسائرُ الملائكةِ، حتى يَنفخَ جبريلُ في القرنِ فلا يَبقى شيءٌ إلا يَسمَعُ، فيُسَبِّحون الرحمَن ثلاثَ ساعاتٍ حتى يَمْتلئَ الرحمنُ رحمةً، فتلك ستُّ ساعاتٍ».

 

قال: «ثُمَّ يؤتَى بالأرحامِ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فذلك قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 6]، ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾ [الشورى: 49، 50].

 

فتلك تسعُ ساعاتٍ، ثم يُؤتى بالأرزاقِ فينظرُ فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فذلك قوله: ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ [الرعد: 26]، وقوله: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]».

 

قال: هذا شأنُكم وشأنُ ربِّكم»، رواه أبو القاسم الطبراني في السُّنّةِ، وعثمان بن سعيد الدارمي، وشيخُ الإسلامِ الأنصاري، وابنُ مَنده، وابنُ خزيمةَ وغيرُهم.

 

ولمَّا ذكرَ سُبْحَانَهُ في سورةِ الأنعامِ أعداءَهُ وكفْرَهُمْ وشِرْكَهم وتكذيبَ رسلِه - ذكرَ في أثر ذلك شأنَ خليلِه إبراهيمَ، وأراهُ مِن ملكوتِ السَّماواتِ والأرضِ، وما حاجَّ به قومَهُ في إظهارِ دِينِ اللهِ وتوحيدِه... ثم ذكرَ الأنبياءَ من ذريِّتهِ، وأنَّه هداهُم وآتاهم الكِتابَ والحُكْمَ والنبوَّةَ - ثُمَّ قال: ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، فأَخبرَ أنه سُبْحَانَهُ، كما جعَل في الأرضِ مَنْ يكفرُ به، ويجحدُ توحيدَه، ويكذِّبُ رُسلَهُ، كذلك جعلَ فيها مَنْ يؤمنُ بما كفرَ به أولئك، ويُصَدِّقُ بما كذَّبوا به، ويحفظُ مِنْ حُرماتِه ما أضاعوه.

 

وبهذا تماسك العالمُ العلويُّ والسُّفليُّ، وإِلَّا فلو تَبِعَ الحقُّ أهواءَ أعدائِهِ لفسدَتِ السماواتُ والأرضُ ومَنْ فيهن ولخَرِبَ العالمُ، ولهذا جعَلَ سُبْحَانَهُ مِن أسبابِ خَرابِ العالم رفْعَ الأسبابِ المُمسكةِ له مِنَ الأرضِ، وهي كلامُه وبيتُه ودِينُه والقائمون به، لا يَبقى لتلك الأسبابِ المقتضيةِ لخرابِ العالمِ أسبابٌ تُقاومُها وتمانِعُها.

 

ولمَّا كان اسمُ (الحليمِ) أَدْخَلَ في الأوصافِ، واسمُ (الصَّبورِ) في الأفعالِ، كان الحِلْمُ أصْلَ الصَّبرِ، فوقَع الاستغناءُ بذكْرِه في القرآنِ عن اسمِ (الصَّبورِ)... والله أعلم.

 

وأما تسميتُه سُبْحَانَهُ بالشكور، فهو في حديثِ أبي هُريرةَ.

 

وفي القرآنِ تسميتُه شاكرًا، قال اللهُ تعالى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147].

 

وتسميتُه أيضًا شكورٌ، قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17].

 

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإنسان: 22]، فجَمعَ لهم سُبْحَانَهُ بين الأمْرين: أَنْ شَكَرَ سعيَهم، وأثابَهم عليه، واللهُ تعالى يَشكرُ عبدَه إذا أحسَنَ طاعتَهُ، ويَغفرُ له إذا تابَ عليه، فيجمعُ للعبدِ بَين شُكْرِه لإِحسانِه، ومغفرَتِه لإساءتِه، إِنَّه غفورٌ شكورٌ.

 

وقد تقدَّمَ ذكْرُ حقيقةِ شُكْرِ العبدِ وأسبابِه ووجوهِهِ.

 

وأما شكْرُ الرَّبِّ تعالى فله شأنٌ آخرُ كشأنِ صَبرِه، فهو أولى بصفةِ الشُّكرِ مِن كلِّ شكورٍ، بل هو الشَّكورُ على الحقيقةِ، فلا يَستقلُّه أن يشكرَهُ، ويشكرَ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها إلى أضعافٍ مضاعفةٍ.

 

ويشكرُ عبدَهُ بقولِهِ بأَنْ يُثنيَ عليه بين ملائكتِه وفي مَلَئِه الأعلى، ويُلقي له الشُّكرَ بين عبادِه، ويشكُره بفعلِه، فإذا تركَ له شيئًا أعطاه أفضلَ منه، وإذا بذَل له شيئًا ردَّهُ عليه أضعافًا مضاعفةً، وهو الذي وفَّقَهُ للتَّرْكِ والبذْلِ، وشكَرَهُ على هذا وذاك.

 

ولما عَقَرَ نبيُّهُ سليمانُ الخيلَ غضبًا له، إِذْ شغلتْهُ عن ذكْرِه، فأراد ألَّا تُشغِلَهُ مرّةً أخرى، أعاضَهُ عنها متْنَ الرِّيحِ.

 

ولما تَرَكَ الصَّحابةُ ديارَهم، وخرجوا منها في مرضاتِه، أعاضَهم عنها أن ملَّكَهم الدُّنيا وفتَحها عليهم.

 

ولما احتَمَلَ يوسفُ الصِّدِّيقُ ضيقَ السِّجْنِ، شَكَرَ له ذلك بأَنْ مكَّنَهُ في الأرضِ يتبوَّأُ منها حيثُ يَشاءُ.

 

ولما بذلَ الشُّهداءُ أبدانَهم له ومزَّقها أعداؤهُ، شَكَرَ لهم ذلك بأَنْ أعاضَهُمْ منها طَيرًا خُضْرًا أقرَّ أرواحَهُمْ فيها، تَرِدُ أنهارَ الجَنَّةِ، وتأكلُ مِنْ ثِمارِها إلى يومِ البَعْثِ، فيَرُدُّها عليهم أكْمَلَ ما تكُونُ وأجْمَلَهُ وأبْهَاهُ.

 

ولما بَذَلَ رسُلُهُ أعراضَهم فيه لأعدائِهم، فنالوا منهم وسَبُّوهُمْ، أعاضَهُم مِنْ ذلك بأَنْ صلَّى عليهم هو وملائكتُه، وجعلَ لهم أطيَبَ الثَّناءِ في سماواتِه وبَيْنَ خلقِهِ، فأَخْلَصهُمْ بخالصةٍ ذكرى الدَّارِ.

 

ومِنْ شُكْرِه سُبْحَانَهُ: أنَّه يُجازي عدوَّهُ بما يفعلُه مِنَ الخيرِ والمعروفِ في الدُّنيا، ويخفّفُ به عنه يومَ القيامةِ، فلا يُضيعُ عليه ما يفعلُه مِن الإِحسانِ، وهو مِنْ أبغضِ خلْقِهِ إليه.

 

ومِنْ شُكرِهِ: أَنَّه غَفَرَ للمرأةِ البغيِّ بسَقْيها كلبًا كان قد جَهَدَهُ العطشُ حتى أكلَ الثرى، وغفرَ لآخَرَ بتنْحِيَتِه غُصنَ شوكٍ عن طريقِ المسلمين.

 

فهو سُبْحَانَهُ يَشكرُ العَبْدَ على إحسانِه لنفسِه، والمخلوقُ إِنَّما يشكر مَنْ أحسنَ إليه، وأبلغُ مِنْ ذلك أَنَّه سُبْحَانَهُ هو الذي أعطى العبدَ ما يُحسِنُ به إلى نفسِهِ، وشَكَرَهُ على قليلهِ بالأضعافِ المضاعفةِ التي لا نِسْبَةَ لإحسانِ العبدِ إليها، فهو المحْسنُ بإعطاءِ الإحسانِ وإعطاءِ الشكرِ، فمَنْ أحقُّ باسمِ الشكورِ منه سُبْحَانَهُ؟

 

وتأملْ قولَهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147]، كيف تجدُ في ضِمْنِ هذا الخطابِ أَنَّ شُكْرَهُ تعالى يأبَى تعذيبَ عبادِهِ بغيرِ جُرْمٍ، كما يأبَى إِضاعَةَ سعْيِهم باطلًا، فالشكورُ لا يُضيعُ أَجْرَ مُحسِنٍ، ولا يُعذِّبُ غيرَ مُسيءٍ.

 

وفي هذا ردٌّ لقولِ مَنْ زعمَ أَنَّه سُبْحَانَهُ يُكَلِّفُه ما لا يُطيقُه، ثُمَّ يُعذِّبُه على ما لا يَدْخُلُ تحتَ قُدرتِهِ، تعالى اللهُ عن هذا الظنِّ الكاذبِ والحُسبانِ الباطلِ عُلوًّا كبيرًا، فشُكْرُه سُبْحَانَهُ اقتضى أَنْ لا يُعذِّبَ المؤمنَ الشَّكورَ، ولا يُضيعُ عَملَهُ.

 

وذلك مِنْ لوازِمِ هذه الصِّفَةِ، فهو مُنزَّهٌ عن خلافِ ذلك، كما يُنزَّهُ عن سائرِ العُيوبِ والنقائصِ التي تُنافي كمالَهُ وغِناهُ وحمْدَهُ.

 

ومِنْ شُكْرِه سُبْحَانَهُ: أَنَّه يُخرِجُ العبدَ مِن النَّارِ بأدنى مِثقالِ ذَرَّةٍ مِن خيرٍ، ولا يُضيعُ عليه هذا القَدْرَ.

 

ومِنْ شُكْرِه سُبْحَانَهُ: أَنَّ العبدَ مِنْ عِبادِه يقُومُ له مقامًا يُرضيه بين النَّاسِ فيشكرُه له، وينوِّهُ بذكرِه، ويُخبر به ملائكَتَهُ وعبادَهُ المؤمنينَ... كما شَكَرَ لمؤمنِ آلِ فرعَونَ ذلك المقامَ، وأثنى بِه عليه، ونوَّه بذكرِه بَيْنَ عبادِهِ... وكذلك شُكْرُه لصاحبِ يَس مقامَهُ ودَعْوتَهُ إليه، فلا يَهْلِكُ عليه بين شُكرِه ومغفرتِه إلا هالِكٌ، فإِنَّه سُبْحَانَهُ غفورٌ شَكورٌ، يغفِرُ الكثيرَ مِن الزَّلَلِ، ويشكرُ القليلَ من العَملِ.

 

ولمّا كان سُبْحَانَهُ هو الشكورَ على الحقيقةِ، كان أَحبَّ خلْقِهِ إليه مَنِ اتَّصفَ بصفةِ الشّكرِ، كما أَنَّ أبغضَ خلْقِهِ إليه مَنْ عطَّلها واتَّصفَ بضِدِّها، وهذا شَأْنُ أسمائِهِ الحُسنى، أَحبُّ خلقِهِ إليه مَنِ اتَّصفَ بمُوجبِها، وأَبغضُهم إليه مَنِ اتَّصفَ بأضْدَادِها.

 

في انقسام الصَّبرِ إلى محمودٍ ومذمومٍ:

فالمذمومُ: الصبرُ عن اللهِ وإرادتِه ومحبَّتِه وسيرِ القلبِ، فإنَّ هذا الصبرَ يتضمَّنُ تعطيلَ كمالِ العبدِ بالكُلّيةِ وتفويتَ ما خُلِقَ له.

 

وهكذا كما أنه أقبحُ الصبرِ، فهو أعظمُه وأبلغُه، فإنه لا صَبْرَ أبلغُ مِن صبرٍ مَن يصبرُ عن محبوبِه الذي لا حياةَ له بدونه ألبتَّةَ، وكما لا زُهْدَ أبلغُ مِن زُهدِ الزاهدِ فيما أعدَّ اللهُ لأوليائِه مِن كرامتِه مما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، فالزُّهدُ في هذا أعظمُ أنواع الزهدِ.

 

وكما قال رجلٌ لبعضِ الزاهدين وقد تعجَّبَ لزهدهِ: وما رأيتُ أزهدَ منك، فقال: أنتَ أزهد مني؛ أنا زهدت في الدُّنيا وهي لا بقاءَ لها ولا وفاءَ، وأنتَ زَهِدْتَ في الآخرة، فمَنْ أزهدُ منا؟

 

قال يحيى بنُ معاذٍ الرازيُّ: «صبْرُ المحبِّين أعجبُ مِن صَبرِ الزاهدين، واعجبًا، كيف يصبرون؟!».

 

وفي هذا قيل:

الصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي المَوَاطِنِ كُلِّهَا
إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّه لَا يُحْمَدُ

ووقفَ رجلٌ على الشِّبلي، فقال: أَيُّ الصَّبْرِ أشدُّ صبرًا على الصابرين؟ فقال: الصبرُ في اللهِ، قال: لا، فقال: الصبرُ للهِ، فقال: لا، قال: فالصبر مع اللهِ، قال: لا، قال: فأي شيءٍ هو؟ قال: الصبرُ عن اللهِ، فصرخَ الشبليُّ صرخةً كادت رُوحهُ تزهقُ.

 

وقيل: «الصبرُ مع اللهِ وفاءٌ، والصبرُ عن اللهِ جفاءٌ».

 

وقد أجمع النَّاسُ على أَنَّ الصبرَ عن المحبوبِ غيرُ محمودٍ، فكيف إذا كان كمالُ العبدِ وفلاحُه في محبَّتِه.

 

ولم تزَلِ الأحبابُ تعيبُ المحبِّينَ بالصبرِ عنهم كما قيل:

والصَّبرُ عنكَ فمذمومٌ عواقِبُه
والصَّبرُ في سائرِ الأشياءِ محمودُ

وقال آخرُ في الصبر عن محبوبِه:

إذا لَعِبَ الرِّجالُ بكلِّ شيءٍ
رأيتُ الحُبَّ يلعبُ بِالرِّجالِ
وكيف الصبرُ عمَّن حلَّ مني
بمنزلةِ اليمينِ مع الشّمالِ

 

وشكا آخرُ إلى محبوبِه ما يُقاسي مِنْ حُبِّه فقال: لو كنتَ صادقًا لما صبرتَ عنّي:

ولمَّا شكوتُ الحبَّ قالت: كَذَبْتَني
تُرى الصَّبُّ عن محبوبِه كيف يصبِرُ؟


وأما الصَّبرُ المحمودُ فنوعانِ: صَبرٌ للهِ، وصبرٌ باللهِ.

قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127].

وقال: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48].

 

وقد تنازعَ الناسُ أيُّ الصابرين أكْملُ؟

فقالت طائفةٌ: الصبرُ له أكْملُ، فإِنَّ ما كان لله أكْملَ مما كان باللهِ؛ فإنّ ما كان له غايةٌ، وما كان به فهو وسيلةٌ، والغايات أشرَف مِن الوسائلِ، ولذلك وجبَ الوفاءُ بالنَّذرِ إذا كان تبرُّرًا وتقرُّبًا إلى اللهِ لأنه نذْرٌ له، ولم يجبِ الوفاءُ به إذا خرجَ مخرجَ اليمينِ لأنه حَلَفَ به.

 

فما كان له سُبْحَانَهُ فهو متعلِّقٌ بألوهيَّته، وما كان به فهو متعلِّقٌ بربوبيته، وما تعلَّقَ بألوهيتِه أشرفُ مما تعلَّقَ بربوبيتِه.

 

ولذلك توحيدُ الألوهية هو المنجي مِن الشركِ دون توحيدِ الربوبيةِ بمجردِهِ، فإن عُبَّادَ الأصنامِ كانوا مُقرِّين بأَنَّ اللهَ وَحْدَهُ خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، ولكِنْ لمَّا لم يأتوا بتوحيدِ الألُوهيةِ، وهي عبادتُه وَحْدَهُ لا شريكَ له، لم ينفعْهُمْ توحيدُ ربوبيتِه.

 

وقالت طائفةٌ: الصبرُ باللهِ أكملُ، بل لا يمكنُ الصبرُ إلا بالصبرِ بِه، وكما قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ ﴾ [النحل: 127]، فأَمَرَه بالصبرِ، والمأمورُ به هو الذي يُفعل لأجلِه، ثم قال: ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]، فهذه الجملةُ جملةٌ خبريَّةٌ غيرُ الجملةِ الطلبيةِ التي تقدَّمتْها، أخبر فيها أنه لا يُمكنُه الصَّبْرُ إلا به، وذلك يتضمَّن أمْرين: الاستعانةَ باللهِ والمعيَّةَ الخاصَّةَ التي تدلُّ عليها باءُ المصاحبةِ، كقوله: فبي يسمعُ، وبي يُبصرُ، وبي يبطِشُ، وبي يمشي[5].

 

وليس المرادُ بهذه الباءِ الاستعانةَ، فإن هذا أمْرٌ مشترَكٌ بين المطيعِ والعاصي فإِنَّ ما لا يكونُ بالله لا يكونُ، بل هي باءُ المصاحبةِ والمعيَّةِ التي صرَّحَ بمضمونِها في قولِه تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، [الأنفال: 46]، وهي المعيَّةُ الحاصِلةُ لعبدِه الذي تَقَرَّبَ إليه بالنوافلِ حتى صارَ محبوبًا له، فبِهِ يسمعُ ويُبصرُ، وكذلك به يصبرُ، فلا يتحرَّكُ، ولا يسكُنُ، ولا يُدرِكُ إلا بالله واللهُ معه، مَنْ كان كذلك، أمكنَهُ الصبرُ له، وتحمُّلُ الأثقالِ لأجلِه، وكما في الأثر الإلهي: وما يتحمَّلُ المتحمِّلون مِن أجلي.

 

فدلَّ قولُه: ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127] على أَنَّه مَنْ يكنِ اللهُ معه لم يمكنه الصبرُ، وكيف يصبرُ على الحكمِ الأمْري امتثالًا وتنفيذًا وتبليغًا، وعلى الحكمِ القَدَري احتمالًا له واضطلاعًا به، مَنْ لم يكنِ اللهُ معه؟

 

فلا يطمعُ في درجةِ الصَّبرِ المحمودِ عواقِبُه مَن لم يكُنْ صبرُه باللهِ، وكما لا يطمعُ في درجةِ التقرُّبِ المحبوبِ مَنْ لم يكُنْ سمعُه وبصرُه وبطشُه ومشيُهُ باللهِ، وهذا المرادُ مِن قولِه: كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ليس المرادُ إني كنتُ نفسَ هذه الأعضاء والقوى كما يظنه أعداءُ الله أهلُ الوحدةِ، وإِنَّ ذاتَ العبدِ هي ذاتُ الربِّ، تعالى اللهُ عن قولِ إخوانِ النصارى عُلوًّا كبيرًا.

 

ولو كان كما يَظنون لم يكُنِ الفرْقُ بين هذا العبدِ وغيرِه، ولا بين حالتي تقرُّبِه إلى ربِّه بالنوافلِ وتمقُّتِه إليه بالمعاصي، وبل لم يكن هناك مُتَقَرِّبٌ ومتقرَّبٌ إليه، ولا عبدٌ ولا معبودٌ، ولا محبٌّ ولا محبوبٌ، فالحديثُ كلُّه كذِبٌ لدعواهم الباطلةِ مِن نحوِ ثلاثين وجهًا تُعرفُ بالتأمُّلِ الظاهرِ.

 

وقد فسرَ المرادَ مِن قولِه: «كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَه وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ»[6] بقوله: «بي يسمعُ، وبي يُبصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي»، فعبَّر عن هذه المصاحبةِ التي حَصَلتْ بالتقرُّبِ إليه بمحابِّهِ بألطفِ عبارةٍ وأحسنِها تدلُّ على المصاحبةِ ولزومِها، وحتى صارَ منزلةَ سمعِه وبصرِه ويدِه ورِجْلِه.

 

ومثلُ هذا سائغُ الاستعمالِ أَنْ ينزِلَ إلى منزلَة ما يُصاحِبُه ويقارِنُه حتى يقولَ المحبُّ للمحبوبِ: وأنتَ روحي وسمعي وبصري، وذلك معنيان:

أحدُهما: أَنَّه صارَ منه منزلةَ روحِه وقلْبِه وسمْعِه وبصرِه.

 

والثاني: أَنَّ محبتَهُ وذكرَه لما استولى على قلبِه وروحِه صار معه وجليسَه.

 

وكما في الحديث، يقول الله تعالى: «أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ»[7].

 

وفي الحديث: «فَإِذَا أَحْبَبْتُ عَبْدِي كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا»[8]، ولا يُعَبَّر عن هذا المعنى بأتمَّ مِن هذهِ العبارةِ ولا أحسنَ ولا ألطفَ منها، وإيضاحُ هذه العبارةِ مما يزيدُها جفاءً وخفاءً.

 

والمقصودُ إنما هو ذكرُ الصبرِ باللهِ، وأَنَّ العبدَ بحسبِ نصيبِه مِن معيَّةِ اللهِ له يكونُ صبرُه، وإذا كان اللهُ معه أمكن أن يأتيَ الصبرُ بما يأتي مِن غيرِه.

 

قال أبو علي: «فاز الصابرون بِعِزِّ الدَّارَين، لأنهم نالوا مِنَ اللهِ معيَّتَهُ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، [الأنفال: 46]».

 

وهاهنا سِرٌّ بديعٌ، وهو أَنَّ تعلُّقَ مَنْ تعلَّقَ بصفةٍ مِن صفاتِ الربِّ تعالى أدخلَتْهُ تلك الصفةُ عليه وأوصلتهُ إليه، والربُّ تعالى هو الصبورُ، بل لا أحدَ أصبرُ منه على أذًى سَمِعَهُ منه.

 

وقد قيل إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أوحَى إلى داودَ: تَخلَّقْ بأخلاقي فإِنَّ مِن أخلاقي أني أنا الصَّبورُ.

 

والربُّ تعالى يُحبُّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، ويحبُّ مقتضى صفاتِه وظهورَ آثارِها في العبدِ، فإنه جميلٌ يحبُّ الجمالَ، عفوٌّ يحبُّ أهلَ العفوِ، كريمُ يحبُّ أهلَ الكرَمِ، عليمٌ يحبُّ أهلَ العلمِ، وِتْرُ يحبُّ أهلَ الوِتْرِ، قويٌّ والمؤمنُ القويُّ أحبُّ مِن المؤمنِ الضعيفِ، صبورٌ يحبُّ الصابرين، شكورٌ يحبُّ الشاكرين، وإذا كان سُبْحَانَهُ يحبُّ المتَّصِفين بآثار صفاتِه، فهو معهم بحسبِ نصيبِهم مِن هذا الاتصافِ، فهذه المعيَّةُ الخاصَّةُ عَبَّرَ عنها بقولِه: كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيِّدًا.

 

وزاد بعضُهم قسمًا ثالثًا مِن أقسامِ الصَّبرِ، وهو الصبرُّ مع اللهِ، وجعلوه أعلى أنواع الصَّبرِ، وقالوا: هو الوفاءُ.

 

لو سُئِلَ هذا عن حقيقة الصَّبرِ مع اللهِ لما أمْكَنَهُ أَنْ يُفسِّر بغير الأنواعِ الثلاثة التي ذكرتُ: وهي الصَّبرُ على أَقضِيتِه، والصبرُ على أوامرِه، والصبرُ على نواهيه، فإنَّه رغمَ أنَّ الصبرَ مع اللهِ هو الثباتُ معه على أحكامِه، يدُورُ معها حيثُ دارت، فيكُونُ دائمًا مع اللهِ لا مع نفسِه، فهو مع اللهِ بالمحبَّةِ والموافقةِ - فهذا المعنى حَقٌّ، ولكِنَّ مدارَهُ على الصبرِ على الأنواعِ المتقدِّمةِ، وإن زَعَم أَنَّ الصبرَ مع اللهِ هو الجامعُ لأنواعِ الصبرِ - فهذا حقٌّ، ولكِنْ جعْلُه قسمًا رابعًا مِن أقسامِ الصَّبرِ غيرُ مُستقيمٍ.

 

واعلمْ أَنَّ حقيقةَ الصَّبرِ مع اللهِ، وثباتَ القلبِ بالاستقامةِ معه، وهو لا يروغُ عنه روغانَ الثعالبِ هنا وهناك، فحقيقةُ هذا هو الاستقامةُ إليه، وعكوفُ القلبِ عليه.

 

وزاد بعضُهم قسمًا آخرَ مِن أقسامِه، وسمَّاه بالصبرَ فيه، وهذا أيضًا غيرُ خارجٍ عن أقسام الصبرِ المذكورةِ، ولا يُعقلُ مِن الصبرِ فيه معنًى غيرُ الصبرِ له، وكما يُقال فعلتُ هذا في الله وله، كما قال خُبيب:

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

وقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ﴾ [الحج: 78]، وفي حديثِ جابرٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لمَّا أَحْيَا أَبَاهُ وَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ، قَالَ: «يَا رَبِّ تُرْجِعُنِي إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى أُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً ثَانِيَةً»[9]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ولقد أوذيتُ في اللهِ وما يُؤذى أحدٌ»[10].

 

وهذا يُفهم منه معنيان:

أحدهما: أَنَّ ذلك في مرْضاتِه وطاعتِه وسبيلِه، وهذا فيما يفعلُهُ الإِنسانُ باختيارِه، وكما في الحديثِ: «تعلمتُ فيك العِلْمَ»[11].

 

والثاني: أنه بسببِه وبجهتِه حصلَ على ذلك، وهذا فيما يُصيبُه بغير اختيارِه وغالبُ ما يأتي قولُهم: ذلك في اللهِ في هذا المعنى.

 

فتأمل قولَه صلى الله عليه وسلم: «ولقد أوذيتُ في اللهِ»، وقول خُبيب: وذلك في ذاتِ الإلهِ، وقولَ عبدِ الله بن حرامٍ[12]: حتى أُقتلَ فيك، وكذلك قولَه تعالى: ﴿ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾ [العنكبوت: 69]؛ فإنه يترتب عليه الأذى فيه سُبْحَانَهُ.

 

وليست (في) هنا للظرفية، ولا لمجردِ السَّببية، وإِنْ كانتْ السَّببيةُ هي أصلَها، فانظر إلى قولِه: «في نفسِ المؤمنِ مائةٌ من الإبلِ»[13]، وقوله: «دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ»[14]، كيف تجد فيه معنًى زائدًا على السَّببيةِ، وليس (في) للوعاءِ في جميعِ معانيها فقولك: فعلتُه في مرضاتِك فيه معنًى زِيدَ على قولِك: فعلتُ لمرضاتِك وأنتَ إذا قلتَ: أوذيتُ في اللهِ لا يقُومُ مقامَ هذا اللفظِ كقولِك: أوذيتُ لله، ولا: بسببِ اللهِ، وإذا فُهِمَ المعنى طُوِيَ حُكمُ العبارةِ.

 

والمقصودُ أَنَّ الصبرَ في اللهِ إنْ أُرِيدَ به هذا المعنى فهو حَقٌّ، وإِنْ أُريدَ به معنى خارجٌ عن الصَّبرِ في الله كالمجاهدِ في اللهِ، والجهادُ فيه لا يخرج عن معنى الجهادِ به وله، واللهُ الموفِقُ.

 

وأما قولُ بعضِهم: (الصبرُ للهِ غَناءٌ، والصبرُ باللهِ بقاءٌ، والصبرُ في اللهِ بلاءٌ، والصبرُ مع اللهِ وفاءٌ، والصبرُ عن اللهِ جفاءٌ) فكلامُ لا يجبُ التسليمُ لقائلِه، لأنه ذكرَ ما سَنَح له وتصوَّرَه، وإنما يجبُ التسليمُ للنقلِ المصدَّقِ عن القائلِ المعصومِ، ونحنُ نشْرحُ هذه الكلماتِ.

 

أما قولُه: (الصبرُ للهِ غَناءٌ)، فإنَّ الصبرَ بترْكِ حُظوظِ النفسِ، ومُرادِها لمرادِ اللهِ، وهذا أَشَقُّ شيءٍ على النفسِ وأصعبُه، فإنَّ قطع المفازةُ التي بين النفسِ وبين اللهِ بحيث يَسيرُ منها إلى الله شديدٌ على النفسِ، بخلافِ السفرِ إلى الآخرةِ فإنه سهْل، وكما قال الجُنيد: السيرُ في الدُّنيا إلى الآخرة سَهْلٌ، يعني على المؤمِنِ، وهجرانُ الخَلْقِ في جنْبِ الحقِّ شديدٌ، والسيرُ مِن النفسِ إلى اللهِ صعبٌ شديدٌ، والصبرُ مع اللهِ أشدُّ.

 

وأما قولُه: (الصبرُ باللهِ بقاءٌ)، فلأن العبدَ إذا كان باللهِ هان عليه كلُّ شيءٍ، ويتحمَّلُ الأثقالَ ولم يجدْ لها ثِقلًا، فإِنَّه إذا كان باللهِ لا بالخلقِ ولا نفسِهِ، كان لقلبِه وروحِه وُجودٌ آخرُ وشأنٌ آخرُ، غيرُ شأنِه إذا كان بنفسِه وبالخلْقِ، وبهذا الحالِ لا يجدُ عناءَ الصبر ولا مرارتَهُ، وتنقلِبُ مشاقُّ التكليفِ له نعيمًا وقرَّةَ العَينِ.

 

وكما قال بعضُ الزُّهادِ: عالجتُ قيامَ الليلِ سَنةً وتنعَّمتُ به عشرين سنةً، ومَنْ كان له قرَّةُ عينِه في الصلاةِ لم يجدْ لها مشقةً وكُلْفةً.

 

وأما قولُه: (الصبرُ في اللهِ بلاءٌ)، فالبلاءُ فوق العَناءِ، والصبرُ فوق الصبرِ له أخصُّ منه.

 

كما تقدَّم فإِنَّ الصبرَ فيه منزلةُ الجهادِ فيه، وهو أشقُّ مِن الجهادِ له، فكل مجاهدٍ في اللهِ وصابرٍ في اللهِ، مجاهدٍ له وصابرٍ له، ومِن غيرِ عكسٍ، فإِنَّ الرَّجُلَ قد يُجاهِدُ ويَصبِرُ لله مرّةً لِيَقعَ عليه اسمُ مَنْ فَعلَ ذلك لله، ولا يقعُ عليه اسمُ فعلِ ذلك في اللهِ، وإنما يقع على مَنِ انغمسَ في الجهادِ والصَّبرِ دخلَ الجَنَّةَ.

 

وأما قولُه: (الصبرُ مع اللهِ وفاءٌ)، فلأنَّ الصبرَ معه هو الثباتُ معه على أحكامِهِ، ولا يزيغُ القلبُ عن الإنابةِ، ولا الجوارحُ عن الطاعةِ، فتعطي المعيَّةَ حقَّها مِن التوفِيَةِ، وكما قال تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، أي وفيما أمر به بصبرِه مع اللهِ على أوامرِه.

 

أما قولُه: (الصبرُ عن اللهِ جفاءٌ) فلا جفاءَ أعظمُ مِن صبرٍ عن معبودِه وإلهِه ومولاه الذي لا مَولى له سِواه، ولا حياةَ له ولا صلاحَ ولا نعيمَ إلا بمحبَّتِه، والقربِ منه، وإيثارِ مرضاتِه على كلِّ شيءٍ، فأيُّ جفاءٍ أعظمُ مِن الصبرِ عنه؟!

 

وهذا معنى قولِ مَنْ قال: الصبرُ عَلَى ضِرْبَيْنِ: صَبْرُ العَابِدِينَ وَصَبْرُ المُحِبِّينَ، فَصَبْرُ العَابِدِينَ أحسَنُه أن يكُون محفوظًا، وصبرِ المُحبين أحسَنُه أَنْ يكونَ مرفوضًا كما قيل:

تَبَيَّنُ يومَ البينِ أَنَّ اعتزامَهُ
عَلَى الصَّبْرِ مِنْ إِحْدَى الظُّنُونِ الكَوَاذِبِ

وقال الآخر:

وَلمَّا دَعَوْتُ الصَّبْرَ بَعْدَكَ وَالبُكَا
أَجَابَ البُكَا طَوْعًا وَلَمْ يُجِبِ الصَّبْرُ

وقالوا: يدلُّ عليه قول يعقوبَ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18]، ورسولُ الله إذا وعدَ وفَّى.

 

ثم حَمَلَهُ الوجدُ على يوسفَ والشوقُ إليه أَنْ قال: ﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 84]، فلم يكُن عدَمُ صبْرِه عنه منافيًا لقوله: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾؛ فإنَّ الصبرَ الجميلَ هو الذي لا شكوى معه، ولا تُنافيه الشَّكوى إلى اللهِ سبحانه وتعالى، فإنه قد قال: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86]، والله تعالى أمَر رسولَه بالصَّبرِ الجميلِ.

 

وأما قولُه: قولُ بعضِهم: إنَّ الصبرَ الجميلَ أَنْ يكونَ صاحبُ المصيبةِ في القومِ لا يُدرَى مَنْ هو، فهذا مِن الصبرِ الجميلِ، لأَنَّ مَنْ فقدَهُ فقَدَ الصبرَ الجميلَ؛ فإنَّ ظهورَ أثرِ المصيبةِ على العبدِ ما لا يمكن دفعُه البتة؛ وباللهِ التوفيقُ.

 

وزاد بعضُهم في الصَّبرِ قسمًا آخر، وسَمَّاهُ الصبرَ على الصبرِ، وقال: وهو أَنْ يَستَغرِقَ في الصبرِ حتى يَعجزَ الصبرُ عن الصبرِ، وكما قيل:

صَابرَ الصَّبْرَ فَاسْتَغَاثَ بِهِ الصَّبْرُ
فَصَاحَ المُحِبُّ بِالصَّبْرِ صَبْرًا

وليس هذا خارجًا عن أقسامِ الصَّبرِ، وإنما هو المرابطَةُ على الصبرِ والثباتِ عليه... والله أعلم»[15].

 

في بيانِ تنازُعِ الناسِ في أيِّهما أفضل الصبر أم الشكر:

حكى أبو الفرج ابنُ الجوزي في ذلك ثلاثةَ أقوالٍ:

أحدُها: أَنَّ الصبرَ أفضلُ.

والثاني: أَنَّ الشكرَ أفضلُ.

والثالث: أنهما سواءٌ، كما قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: «لَوْ كَانَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ بَعِيرَيْنِ مَا بَالَيْتُ أَيُّهُمَا رَكِبْتُ».

 

ونحن نذكرُ ما احتجَّتْ به كلُّ فرقةٍ، وما لها وعليها في احتجاجِها، بعونِ اللهِ وتوفيقِه.

 

قال الصابرون: قد أتى اللهُ سُبْحَانَهُ على الصبرِ وأهلِه، ومدحَه، وأمرَ به، وعلَّق عليه خيرَ الدُّنيا والآخرةِ، وقد ذكره اللهُ في كتابه في نحو تسعين موضعًا، وقد تقدَّم مِن النصوصِ والأحاديثِ فيه، وفي فضلِه، ما يدلُّ على أنه أفضلُ مِن الشكرِ.

 

ويكفي في فضله قوله صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ»[16]، فذكرَ ذلك في مَعْرِضِ تفضيلِ الصبرِ ورفْعَ درجتِهُ على الشُّكرِ، فإنه أَلحقَ الشاكرَ بالصابرِ وشبَّههُ به، ورتْبةُ المشبَّهِ به أعلى مِن رتْبة المشبَّهِ، وهذا كقولِه: «مُدْمِنُ الخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ»[17]، ونظائرِ ذلك.

 

قالوا: وإذا وازَنَّا بين النصوصِ الواردةِ في الصبرِ والواردةِ في الشُّكرِ وجدنا نصوصَ الصبرِ أضعافَها، ولهذا لما كانت الصلاةُ والجهادُ أفضلَ الأعمالِ كانتِ الأحاديثُ فيهما في سائرِ الأبوابِ، فلا تجدُ الأحاديثَ النبويَّةَ في بابٍ أكثرَ منها في بابِ الصَّلاةِ والجهادِ.

 

وقالوا أيضًا: فالصبرُ يَدخُلُ في كلِّ بابٍ، بل في كلِّ مسألةٍ مِن مسائلِ الدِّينِ، ولهذا كان مِن الإيمانِ بمنزلةِ الرأسِ مِن الجسدِ.

 

وقالوا أيضًا: فالله سبحانه وتعالى علَّق على الشُّكرِ الزيادةَ، فقال: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، وعلَّقَ على الصبرِ الجزاءَ بغير حسابٍ.

 

وأيضًا فإنَّه سُبْحَانَهُ أَطْلقَ جزاءَ الصابرين، فقال: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96].

 

قالوا: وقد صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قال: يقولُ اللهُ تعالى: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[18].

 

وفي لفظ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ لَهُ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِها، قال الله تعالى: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، وما ذاك إلا لأنَّه صبرُ النفسِ ومنعُها مِن شهواتِها، كما في الحديثِ نفسِه: «يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي»؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَنْ سأله عن أفضلِ الأعمالِ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ»[19].

 

ولمَّا كان الصبرُ حبسَ النَّفسِ عن إجابةِ داعي الهوى، وكان هذا حقيقةَ الصَّومِ، فإِنَّه حبسُ النفسِ عن إجابةِ داعي شهوةِ الطعامِ والشَّرابِ والجِماعِ، فُسِّرَ الصبرُ في قولِهِ تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45] أنَّهُ الصومُ، وسُمِّي رمضانُ شهرَ الصبرِ.

 

وقال بعضُ السَّلفِ: الصومُ نصْفُ الصَّبرِ، وذلك أَنَّ الصبرَ حبسُ النَّفسِ عن إجابةِ داعي الشهوةِ والغضبِ، فإِنَّ النفسَ تَشتَهي الشيءَ لحصولِ اللَّذةِ بإدراكِهِ وتَغضبُ لنُفرتِها مِن المؤلِمِ لها، والصومُ صبرٌ عن مُقْتَضَى الشَّهوةِ فقط، وهي شهوةُ البطنِ والفرْجِ دون مقتَضَى الغضبِ، ولكِنْ من تمامِ الصومِ وكمالِه صبرُ النفسِ عن إجابة داعي الأمْرين.

 

وقد أشار إلى ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ، وهو قوله: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَجْهَلْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ أَحَدٌ سَابَّهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ»[20]، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى تعديلِ قُوى الشَّهوةِ والغَضَبِ، وأَنَّ الصائِمَ ينبغي له أَنْ يحْتَمِيَ مِن إفسادِهما لِصومِه، فهذه تُفسِدُ صومَه، وهذه تُحبِطُ أجرَه.

 

كما قال في الحديثِ الآخر: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»[21].

 

قالوا: ويكفي في فَضْلِ الصَّبرِ على الشُّكرِ قولُه تعالى: ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون: 111]، فجَعَل فوزَهم جزاءَ صبْرِهم.

 

وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، [الأنفال: 66]، لا شيءَ يَعدِلُ معيَّته لعبدِه.

 

كما قال بعضُ العارفين: «ذهبَ الصابرون بخير الدُّنيا والآخرةِ؛ لأنهم نالوا معيَّةَ اللهِ».

 

وقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]، وهذا يتضمَّنُ الحراسةَ والكلاءةَ والحفظَ للصبرِ لحُكْمِهِ.

 

وقد وعَدَ الصابرين بثلاثةِ أشياءَ، كلُّ واحدٍ خيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، وهي صلواتُه تعالى عليهم، ورحمتُه لهم، وتخصيصُهم بالهدايةِ في قولِه تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]، وهذا مُفْهِمٌ لحَصْرِ الهُدى فيهم، وأخبرَ أنَّ الصبرَ مِن عزمِ الأُمورِ في آيتين مِن كتابِه، وأمرَ رسولَهُ أنْ يتشبَّهَ بصبرِ أولي العزمِ مِن الرُّسلِ، وقد تقدَّم ذكْرُ ذلك.

 

قالوا: وقد دَلَّ الدليلُ على أَنَّ الزُّهدَ في الدُّنيا والتقلُّلَ منها مهما أمْكنَ أفضلُ مِنَ الاستكثارِ منها، والزُّهدُ فيها حالُ الصابرِ، والاستكثارُ منها حالُ الشَّاكرِ، قالوا: وقد سُئِلَ المسيحُ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه عن رجُلين مرَّا بكنزٍ فتخطَّاه أحدُهما ولم يلتفتْ إليه، وأخذه الآخرُ وأنفقه في طاعةِ اللهِ تعالى، أيهما أفضلُ؟ فقال: الذي لم يلتفتْ إليه وأعرضَ عنه أفضلُ عند اللهِ.

 

قالوا: وقد عُلِمَ أنَّ الكمالَ الإنسانيَّ في ثلاثةِ أمورٍ: علومٍ يعرفُها، وأعمالٍ يعملُ بها، وأحوالٍ تُرتَّبُ على علومِه وأعمالِه.

 

وأفضلُ العِلْمِ والعملِ والحالِ: العلمُ باللهِ وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، والعملُ بمرضَاتِهِ، وانجذابُ القلبِ إليه بالحبِّ والخوفِ والرجاءِ.

 

فهذا أشرفُ ما في الدُّنيا، وجزاؤه أشرَفُ ما في الآخرةِ، وأجلُّ المقاصِدِ معرفةُ اللهِ ومحبَّتُه والأَنَسُ بقُرْبِه، والشَّوقُ إلى لقائِه والتَّنعمُ بذكْرِهِ.

 

وتأمَّلْ توليةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بنِ العاصِ وخالدِ بنِ الوليدِ وغيرِهما مِن أمرائِه وعُمَّالِه، وتَرْكَ توليةِ أبي ذَرٍّ، بل قال له: «إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي: لَا تُؤَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»[22]، وأمرَهُ وغيرَهُ بالصيامِ، وقال: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ»[23]، وأمرَ آخرَ بألَّا يغضَبَ، وأمَر ثالثًا بألَّا يزالَ لسانُه رطبًا مِن ذكرِ اللهِ، ومتى أرادَ اللهُ بالعبدِ كمالًا وفَّقه لاستفراغِ وُسْعِه فيما هو مُستعِدٌّ له، قابِلٌ له، قد هُيِّئَ له، فإذا استَفرغَ وُسْعَهُ بزَّ على غيرِه وفاقَ الناسَ فيه، كما قيل:

مَا زَالَ يَسْبِقُ حَتَّى قَالَ حَاسِدُهُ
هَذَا طَرِيقٌ إِلَى العَلْيَاءِ مُخْتَصَرُ

وهذا كالمريضِ الذي يشكو وجَعَ البطنِ مثلًا، إذا استَعمَلَ دواءَ ذلك الداءِ انتَفَعَ به، وإذا استَعملَ دواءَ وجَعِ الرأسِ لم يُصادِفْ داءَهُ، فالشُّحُّ المُطاعُ مثلًا مِن المُهلِكاتِ ولا يُزيلُه صيامُ مائةِ عامٍ ولا قيامُ ليلِها، وكذلك داءُ اتباعِ الهَوى والإعجابُ بالنفسِ، لا يلائِمُه كثرةُ قراءةِ القرآنِ واستفراغُ الوُسْعِ في العِلمِ والذِّكْرِ والزُّهدِ، وإنما يُزيله إخراجه مِن القلبِ بضدِّهِ.

 

ولو قيل أيُّهما أفضل: الخبزُ أو الماء؟ لكان الجوابُ: أَنَّ هذا في موضعِه أفضلُ، وهذا في موضعِه أفضلُ.

 

وإذا عرفتَ هذه القاعدةَ، فالشُّكرُ ببذْلِ المالِ عملٌ صالحٌ يحصلُ به للقلبِ حال، وهو زوالُ البُخلِ والشُّحِّ بسببِ خروجِ الدُّنيا منه، فتهيَّأ لمعرفةِ اللهِ ومحبتِهِ، فهو دواءُ للدَّاءِ الذي في القلب يمنعُه مِن المقصودِ.

 

وأما الفقيرُ الزاهِدُ فقد استراحَ مِنْ هذا الدَّاءِ والدَّواءِ، وتوفَّرَتْ قُوتُه على استفراغِ الوُسْعِ في حُصولِ المقصودِ.

 

ثم أورَدوا على أنفسِهم سؤالًا، فقالوا: فإِنْ قِيلَ: فقد حَثَّ الشَّرعُ على الأعمالِ، وانفصلوا عنه، بأن قالوا: الطبيبُ إذا أثنى على الدواءِ لم يدلَّ على أنَّ الدواءَ يُرادُ لِعَينِهِ، ولا أنَّه أفضلُ مِن الشِّفاءِ الحاصلِ به.

 

ولكِنَّ الأعمالَ علاجٌ لمرَضِ القلوبِ، ومرضُ القلوبِ مما لا يُشْعَرُ به غالبًا، فوقعَ الحَثُّ على العملِ المقصودِ، وهو شفاءُ القلبِ، فالفقيرُ الآخِذُ لِصدقتِك يَستَخرجُ منك داءَ البُخلِ كالحجَّامِ يَستَخرجُ منك الدَّمَ المُهلِكَ.

 

قالوا: وإذا عرفَ هذا أَنَّ حالَ الصابرِ حالَ المُحافظِ على الصِّحةِ والقُوَّةِ، وحالَ الشاكرِ المتداوي بأنواع الأدويةِ لإزالة موادِّ السِّقَمِ.

 

قال الشاكرون: لقد تعدَّيْتُم طَورَكم، وفضَّلْتُم مقامًا غيرُه أفضلُ منه، وقدَّمْتُم الوسيلةَ على الغايةِ، والمطلوبَ لغيرِه على المطلوبِ لنفسِه، والعملَ الكاملَ على الأكْملِ، والفاضلَ على الأفضلِ، ولم تعرفوا للشُّكرِ حقَّهُ، ولا قيَّمتُموه مرتبتَه، وقد قَرَنَ تعالى ذكْرَه الذي هو المرادُ مِن خلْقِه بذكْرِه، وكلاهما هو المرادُ بالخلْقِ والأمْرِ، والصبرُ خادمٌ لهما، ووسيلةٌ إليهما، وعونٌ عليهما، قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].

 

وقرَنَ سُبْحَانَهُ الشُّكرَ بالإيمانِ، وأَخبرَ أنه لا غَرَضَ له في عذابِ خَلْقِهِ إِنْ شكروا وآمنوا به، فقال: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾ [النساء: 147]؛ أي: إنْ وفَّيتم ما خُلِقْتُم له، وهو الشُّكر والإيمانُ، فما أصنعُ بعذابِكم؟!

 

هذا وأخبرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أهلَ الشُّكرِ هم المخصوصون بمِنَّتِه عليهم مِن بين عبادِه، فقال: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].

 

وقسَّم الناسَ إلى شكورٍ وكفورٍ، فأبغضُ الأشياءِ إليه الكفرُ وأهلُه، وأحبُّ الأشياءِ إليه الشكرُ وأهلُه، قال تعالى في الإنسانِ: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3].

 

وقال نبيُّه سليمانُ: ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].

 

وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

 

وقال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7].

 

وهذا كثيرٌ في القرآنِ، يُقابلُ سُبْحَانَهُ بين الشُّكرِ والكُفرِ فهو ضِدُّهُ، قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]، والشاكرون هُمُ الذين ثَبتُوا على نعمةِ الإيمانِ، فلم يَنْقلِبوا على أعقابِهم.

 

وعلَّقَ سُبْحَانَهُ المزيدَ بالشُّكرِ، والمزيدُ منه لا نهايةَ له كما لا نهاية لِشُكرِهِ.

 

وقد وقفَ سُبْحَانَهُ كثيرًا مِن الجزاءِ على المشيئَةِ، كقولِه: ﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ﴾ [التوبة: 28].

 

وقولِه في الإجابةِ: ﴿ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ﴾ [الأنعام: 41].

 

وقوله في الرزق: ﴿ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 212].

 

وفي المغفرة: ﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 129].

 

والتوبة: ﴿ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ﴾ [التوبة: 15].

 

وأَطلقَ جزاءَ الشكْر إطلاقًا حيثُ ذكرَ، كقولِه: ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145]، ﴿ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].

 

ولما عَرفَ عدوُّ اللهِ إبليسُ قَدْرَ مقامِ الشُّكرِ، أَنَّه مِن أجلِّ المقاماتِ وأعلاها، جعَلَ غايتَه أَنْ يسعى في قطعِ الناسِ عنه، فقال: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17].

 

ووصفَ اللهُ سُبْحَانَهُ الشَّاكِرين بأنَّهم قليلٌ مِن عبادِه، فقال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].

 

وذكر الإمامُ أحمدُ، عن عُمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه؛ أَنَّه سمعَ رجُلًا يقول: اللهُمَّ اجعلني مِن القليلِ، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الله قال: ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، وقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24]، فقال عمرُ: صدَقْتَ.

 

وقد أثنى اللهُ سبحانه وتعالى على أوَّلِ رسولٍ بَعَثهُ إلى أهلِ الأرضِ بالشُّكرِ، فقال: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]، وفي تخصيصِ نوحٍ هُنا بالذِّكرِ، وخطابِ العبادِ بأنهم ذرِّيتُه، إِشارة إلى الاقتداءِ به، فإِنَّه أبوهم الثاني، فإن الله تعالى لم يجعلْ للخَلْقِ بعد الغَرقِ نسْلًا إلا مِن ذرِّيتِه، كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]، فأمرَ الذُّريةَ أنْ يَتشبَّهوا بأبيهم في الشكرِ، فإنه كان عبدًا شكورًا.

 

وقد أَخبرَ سُبْحَانَهُ، أنَّما يَعبده مَنْ شكَرَه، فمَنْ لم يشكرْهُ لم يكُنْ مِن أهلِ عبادتِه، فقال: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].

 

وأمرَ عبدَهُ موسى أَنْ يتلقَّى ما آتاه مِن النّبوَّةِ والرّسالةِ والتكليم بالشكرِ، فقال تعالى: ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].

 

وأوّلُ وصيَّةٍ وصَّى بها الإنسانَ بعد ما عقلَ عنه بالشُّكرِ له وللوالدين، فقال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].

 

وأخبر أَنَّ رِضاه في شكرِه، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7].

 

وأثنى سُبْحَانَهُ على خليلِه إبراهيمَ بشكرِ نِعَمِه، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 120، 121]، فأَخبرَ عنه سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ كان أُمَّةً؛ أي: قُدْوةً يُؤْتَمُّ به في الخيرِ، وأَنَّه قانتٌ لله، والقانِتُ هو المطيعُ المقيمُ على طاعتِه، والحنيفُ هو المقبِلُ على اللهِ، المُعرِضُ عمَّنْ سِواه، ثم ختمَ له بهذه الصفاتِ بأنه شاكرٌ لأنعُمِهِ، فجعل الشُّكْرَ غايةَ خليلِه.

 

وأخبرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشُّكْرَ هو الغايةُ مِن خَلْقِه وأمْرِه، بل هو الغايةُ التي خَلَقَ عبيدَهُ لأجلها: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، فهذه غايةُ الخلْقِ وغايةُ الأمرِ، فقال: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123].

 

ويجوزُ أَنْ يكونَ قولُه: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ تعليلًا لقضائِه لهم بالنَّصرِ، ولأمْرِه لهم بالتقوى، ولهما معًا، وهو الظاهِرُ، فالشُّكرُ غايةُ الخلْقِ والأمْرِ، وقد صرَّحَ سُبْحَانَهُ بأنه غايةُ أمْرِه وإرسالِه الرسولَ في قولِه تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 151، 152].

 

قالوا: فالشُّكْرُ مرادٌ لِنفسِه، والصبرُ مرادٌ لِغيره، والصبرُ إِنَّما حُمِدَ لإفضائِه وإيصالِه إلى الشكرِ، فهو خادِمُ الشكرِ.

 

وقد ثبتَ في الصحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قامَ حتى تفطَّرتْ قدَماه، فقيل له: أتفعلُ هذا وقد غفرَ اللهُ لك ما تقدَّمَ مِن ذنْبِك وما تأخَّر؟ قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»[24].

 

وثبت في المسندِ والترمذي؛ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لمعاذٍ: «واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»[25].

 

وقد ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ، عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ يَأْكُلُ الأَكْلةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا»[26] فكان هذا الجزاءُ العظيمُ، الذي هو أكبرُ أنواعِ الجزاءِ، كما قال تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [التوبة: 72]، في مقابلةِ شُكرِه بالحمدِ.

 

وذكَرَ ابنُ أبي الدُّنيا مِن حديثِ عبد اللهِ بن صالحٍ: حدثنا أبو زهيرٍ يحيى بنُ عطارد القرشيُّ، عن أبيه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرْزُقُ اللهُ عَبْدًا الشُّكْرَ فَيَحْرِمهُ الزِّيَادَةَ»؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقول: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].

 

وقال الحسَنُ البصريُّ: «إِنَّ اللهَ ليمتِّعُ بالنِّعمةِ ما شاءَ، فإذا لم يُشْكَرْ عليها قلبَها عذابًا ولهذا كانوا يُسمّون الشكرَ الحافِظَ؛ لأنَّه يحفظُ النِّعمَ الموجودةَ، الجالبَ؛ لأنَّه يجلِبُ النِّعمَ المفقودةَ».

 

وذكر ابنُ أبي الدُّنيا عن علي بنِ أبي طالب رضي الله عنه؛ أَنَّه قال لِرجُلٍ مِن هَمْذان: إِنَّ النِّعمةَ موصولةٌ بالشُّكرِ، والشُّكْرَ يَتعلَّقُ بالمزيدِ، وهما مقرونان في قَرَنٍ، فلن ينقطع المزيدُ مِن اللهِ حتى ينقطعَ الشكرُ مِن العبدِ.

 

وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيز: «قيِّدُوا نِعمَ اللهِ بشُكرِ اللهِ».

 

وكان يقولُ: «الشُّكرُ قيدُ النِّعمِ».

 

وقال مطرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ: «لئِنْ أُعافى فأشكرُ أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُبتلى فأصبرُ».

 

وقال الحسنُ: «فأكثِروا مِن ذِكْرِ هذه النِّعم، فإِنَّ ذكْرَها شكرٌ، وقد أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه أَنْ يُحدِّثَ بنعمةِ ربِّه، فقال: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]، واللهُ تعالى يُحِبُّ مِنْ عبدِه أَنْ يَرى عليه أثرَ نعمتِهِ، فإِنّ ذلك شكرُها بلسانِ الحالِ».

 

وقال عليُّ بنُ الجعد: سمعتُ سفيانَ الثوريَّ يقولُ: «إِنَّ داودَ؛ قال: الحمدُ للهِ حمْدًا كما ينبغي لكرمِ وجهِهِ وعِزِّ جلالِه»، فأوحى اللهُ إليه: يا داودُ أتعبتَ الملائكةَ.

 

وقال شعبةُ: حدثنا المفضَّلُ بنُ فضَالةَ، عن أبي رجاءٍ العطاردي، قال: خَرَجَ علينا عِمرانُ بنُ الحُصينِ وعليه مطْرفُ خَزٍّ لم نَرهُ عليه قبلُ ولا بعدُ، فقال: إِنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ»[27].

 

وفي صحيفة عمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ مَخْيَلَةٍ وَلَا سَرَفٍ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ»[28].

 

وذكر شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن أبيه، قال: أتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنا قَشْفُ الهيئةِ، فقال: «هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟» قال: قلتُ: نعم، قال: «مِنْ أَيِّ مَالٍ؟» قلتُ: مِن كلِّ المالِ، قد آتاني اللهُ مِن الإبلِ والخيلِ والغنمِ، قال: «فَإِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْكَ»[29].

 

وفي بعضِ المراسيل: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ».

 

وقال فُضيل بنُ عياضٍ: كان يقالُ: «مَنْ عَرَفَ نعمةَ اللهِ بقلبِه، وحمدَه بلسانِه لم يَسْتَتِمَّ ذلك حتى يرى الزيادةَ؛ لقولِ اللهِ تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]».

 

وقال: «مِنْ شُكْرِ النِّعمةِ أَنْ يُحدِّثَ بها».

وقال الشعبيُّ: «الشكرُ نصفُ الإيمانِ، واليقينُ الإيمانُ كلُّه».

وقال أبو قلابةَ: «لا تضرُّكم دُنيا شكرتُموها».

 

وقال الحسَنُ: «إذا أنعَم اللهُ على قومٍ سألَهُم الشُّكْرَ، فإذا شَكروه كان قادرًا على أَنْ يَزيدَهُمْ، وإذا كفروه كان قادِرًا على أن يَبعثَ نِعمتَهُ عليهم عَذابًا».

 

وقد ذَمَّ اللهُ سُبْحَانَهُ الكنُودَ، وهو الذي لا يشكرُ نِعمَهُ، قال الحسَنُ: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ [العاديات: 6]، يَعُدُّ المصائبَ وينسَى النِّعمَ، وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النساءَ أكثرُ أهلِ النَّارِ بهذا السببِ.

 

قال: «لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»[30]، فإذا كان هذا بترْكِ شُكرِ نعمةِ الزَّوجِ، وهي في الحقيقةِ مِنَ اللهِ، فكيف بمَنْ تَرَكَ شُكْرَ نعمةِ اللهِ.

يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ فِي فِعْلِهِ
الظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ ظَلَمْ
إِلَى مَتَى أَنْتَ وَحَتَّى مَتَى
تَشْكُو المُصِيبَاتِ وَتَنْسَى النِّعَمْ


وقال مطرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ: نظرتُ في العافيةِ والشُّكْرِ، فوجدْتُ فيهما خيرَ الدُّنيا والآخرةِ، ولئن أُعافى فأشكر أحبُّ إليَّ مِنْ أن أُبتلى فأصبر.

 

ورأى بكرُ بنُ عبدِ اللهِ المُزَني حمَّالًا عليه حمْلُه وهو يقول: الحمدُ للهِ أستغفرُ اللهَ، قال: فانتظرتُه حتى وضَعَ ما على ظهرِه، وقلتُ له: أما تُحسِنُ غيرَ هذا؟ قال: بلى أُحسِنُ خيرًا كثيرًا، أقرأُ كتابَ اللهِ، غيرَ أنَّ العبدَ بين نعمةٍ وذنبٍ، فأحمدُ اللهَ على نِعَمِهِ السابغةِ، وأستغفرُه لذنوبي، فقلتُ: الحمَّالُ أفقهُ مِن بكرٍ.

 

وذكر التِّرمِذيُّ مِن حديثِ جابر بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: خرجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أصحابِهِ، فقرأ عليهم سُورةَ الرَّحمنِ مِنْ أوَّلِها إلى آخرِها فسكتوا، فقال: «قَرَأْتُهَا عَلَى الجِنِّ لَيْلَةَ الجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ رَدًّا مِنْكُمْ؛ كُنْتُ كُلَّما أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، قَالُوا: لَا شَيْءَ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الحَمْدُ»[31].

 

وقال مسعِرٌ: «لمَّا قيل لآلِ داودَ: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ [سبأ: 13]، لم يأتِ على القومِ ساعةٌ إلا وفيهم مُصَلٍّ».

 

وقال عَونُ بنُ عبدِ اللهِ: «قال بعضُ الفقهاءِ: أنَّى رأيتُ في أمْري، لم أرَ خيرًا لا شرَّ معه إلا المعافاةَ والشُّكرَ، فرُبَّ شاكرٍ في بلائِه، ورُبَّ معافى غيرُ شاكرٍ، فإذا سألتُمُ اللهَ فاسألوهما جميعًا».

 

وقال عَونُ بنُ عبدِ اللهِ: «لَبِسَ رَجُلٌ قميصًا جديدًا، فحمِدَ اللهَ، فغفرَ له، فقال رَجُلٌ: ارجعْ حتى أشتريَ قميصًا فألبَسُه وأحمدُ اللهَ».

 

وقال شُريح: «ما أصيبَ عبدٌ بمصيبةٍ إلا كان لله فيها ثلاثُ نِعَمٍ، ألَّا تكونَ كانتْ في دينِه، وألَّا تكونَ أعظمَ مما كانت، وأنّها لا بُدَّ كائِنةٌ فقد كانت».

 

وقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ: ما قلَّبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ بصرَهُ إلى نعمةٍ أنعمَ اللهُ بها عليه إلا قال: اللهُمَّ إني أعوذُ بك أن أُبَدِّلَ نعمتَك كفرًا وأن أكفرَها بعد أَنْ عرَفتُها، وأَنْ أنساها ولا أُثنِي بها.

 

وقال روحُ بنُ القاسمِ: تَنسَّكَ رجلٌ فقال: لا آكلُ الخبيصَ؛ لا أقومُ بشكرِهِ، فقال الحسَنُ: هذا أحمقٌ، وهل يقومُ بشكرِ الماءِ البارِدِ.

 

وفي بعضِ الآثارِ الإِلهيَّة يقولُ اللهُ عز وجل: «ابْنَ آدَمَ، خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ، وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَتَتَبَغَّضُ إِلَيَّ بِالمَعَاصِي، وَلَا يَزَالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَدْ عَرَجَ إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ».

 

قال ابنُ أبي الدُّنيا: حدَّثَني أبو عليٍّ، قال: كنتُ أسمَعُ جارًا لي يقولُ في الليلِ: يا إلهي خيرُك عليَّ نازِلٌ وشرِّي إليك صاعِدٌ، كم مِنْ مَلكٍ كريمٍ قد صَعَدَ إليك مِنِّي بعملٍ قبيحٍ، وأنتَ مع غِناك عني تتحبَّبُ إليَّ بالنِّعمِ، وأنا مع فقري إليك وفَاقتي أتمقَّتُ إليك بالمعاصي، وأنت في ذلك تَجْبُرُني وتستُرني وترزُقُني.

 

وكان أبو المُغيرةِ إذا قِيلَ له: كيف أصبحتَ يا أبا مُحمَّدٍ؟ قال: أصبحنا مُغرِقين في النِّعم، عاجزين عن الشُّكرِ، يَتَحَبَّبُ إلينا ربُّنا وهو غنيٌّ عنا، ونتمقَّتُ إليه ونحنُ إليه محتاجون.

 

وكان معاويةُ بنُ قُرَّةَ إذا لَبِسَ ثوبًا جديدًا قال: بسم اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ.

 

وقال يونسُ بنُ عُبيدٍ: قال رجلٌ لأبي تميمَة: كيف أصبحتَ؟ قال: أصبحتُ بين نِعمتين، ولا أدري أيَّتُهما أفضلُ: ذنوبٍ سترَها اللهُ فلا يستطيعُ أَنْ يُعَيِّرَني بها أحدٌ، ومودَّةٍ قذفَها اللهُ في قلوبِ العبادِ لا يبلغُها عملي.

 

وروى ابنُ أبي الدُّنيا: عن سعيدٍ المَقْبُريّ، عن أبيهِ، عن عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ: أَنَّ موسى؛ قال: يَا رَبِّ، مَا الشُّكْرُ الَّذِي يَنْبَغِي لَكَ؟ قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِي».

 

وروى سهيلُ بنُ أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه، قال: دعا رَجُلٌ من الأنصارِ مِن أهلِ قباءٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فانطلقْنَا معه، فلما طَعِمَ وغسَل يديه، قال: «الحمدُ للهِ الَّذِي يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، مَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكُلُّ بَلَاءٍ حَسَنٍ أَبْلَانَا، الحَمْدُ للهِ غَيْرَ مُوَدَّعٍ رَبِّي وَلَا مُكَافَأٍ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُسْتَغْنَىً عَنْهُ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَ مِنَ الطَّعَامِ، وَسَقَى مِنَ الشَّرَابِ، وَكَسَا مِنَ العُرْيِ، وَهَدَى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبَصَّرَ مِنَ العَمَى، وَفَضَّلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ تَفْضِيلًا، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ»[32].

 

وقال الإمامُ أحمدُ: حدَّثنا هاشمُ بنُ القاسمِ، حدثنا صالحٌ، عن أبي عِمرانَ الجَونيِّ عن أبي الخُلدِ، قال: «قرأتُ في مسألةِ داودَ أنه قال: يا ربِّ كيف لي أَنْ أشكرَ وأنا لا أصِلُ إلى شكرِك إلا بنعَمِك؟ قال: فأتاه الوحيُ: يا داودُ أليسَ تعلمُ أنَّ الذي بك مِنَ النِّعم منِّي؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فإني أرضَى بذلك مِنْكَ شُكْرًا».

 

وقال عبدُ الله بنُ أحمدَ: حدثنا أبو موسى الأنصاريُّ، حدثنا أبو الوليدِ، عن سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، قال: «كان مِن دُعاءِ داودَ: سُبْحَانَ مُستخرِجِ الشُّكرَ بالعطاءِ، ومُستخرِجِ الدعاءَ بالبلاءِ».

 

وقال الإمامُ أحمدُ: حدثنا أبو معاوية، حدثني الأعمشُ، عن المِنهالِ، عن عبدِ اللهِ بن الحارثِ، قال: «أوحى اللهُ إلى داودَ: أحبَّني، وأحبَّ عبادتي وحبِّبني إلى عبادِي، قال: يا ربِّ هذا حبُّك وحبُّ عبادتِك، فكيف أحبِّبُك إلى عبادِك؟ قال: تذكرني عندهم؛ فإنَّهم لا يذكرون مني إلا الحسَنَ، فجلَّ جلالُ ربِّنا، وتبارك اسمُه، وتعالى جدُّه، وتقدسَتْ أسماؤه، وجلَّ ثناؤه، ولا إلهَ غيرُه»[33].

 

وقال أحمدُ: حدَّثنا عبد الرزَّاقِ بن عِمران، قال: سمعتُ وهبًا يقولُ: «وجدتُ في كتابِ آلِ داودَ: بعزَّتي إِنَّ مَنِ اعتَصَمَ بي، فإِنْ كادَتْهُ السماواتُ بمن فيهن والأرضون بمَنْ فيهن، فإني أجعلُ له مِن ذلك مَخْرجًا، ومَنْ لم يَعتَصِمْ بي، فإني أقطعُ يديه مِنْ أسبابِ السماءِ، وأخسِفُ به مِن تحتِ قدميه الأرضَ، فأجعَله في الهواءِ، ثم أكِلُه إلى نفسِه، كفى بي لعبدي مالًا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيتُه قبل أن يسألَني، وأجبْتُه قبل أن يَدعوَني، وإني أعلمُ بحاجَتِه التي ترفُقُ به مِنْ نفسِه».

 

وقال أحمد: حدثنا يَسارُ، حدثنا حَفْصُ، حدثنا ثابِتٌ، قال: كان داودُ؛ قد جزَّأَ ساعاتِ الليلِ والنهارِ على أهلِه، فلم يكُنْ ساعةٌ مِن ليلٍ أو نهارٍ إلا وإنسانٌ مِن آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي فيها، قال: فعمَّهم تبارك وتعالى في هذه الآية: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].

 

قال أحمدُ: وحدَّثنا جابرُ بنُ زيدٍ، عن المغيرةِ بن عُيينةَ: «قال داودُ: يا ربِّ هل باتَ أحدٌ مِن خلْقِك الليلةَ أطولَ ذِكْرًا لك منِّي؟ فأوحَى اللهُ إليه: نعم، الضُّفْدَعُ»، وأنزل اللهُ عليه: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾، قال: يا ربِّ، كيف أُطيقُ شُكرَك، وأنت الذي تُنعِمُ عليَّ، ثم ترزقُني على النِّعمَةِ الشُّكرَ، ثم تزيدُني نِعمةً بعد نِعمةٍ، فالنّعمُ منك، والشكْر منك، فكيف أطيقُ شكْرَك؟ قال: الآن عرفتَنِي يا داودُ».

 

قال أحمدُ: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، حدَّثنا الرَّبيعِ بنُ صُبيحٍ، عن الحسَنِ: «قال نبيُّ اللهِ داودُ: إلهي لو أَنَّ لكلِّ شعرةٍ منِّي لِسانينِ يُسبِّحانِك الليلَ والنَّهارَ والدَّهرَ ما وفَّيْتُ حقَّ نعمةٍ واحدةٍ».

 

وذكر ابنُ أبي الدُّنيا، عن أبي عِمرانَ الجَوني، عن أبي الخُلدِ، قال: «قال موسى: يا ربِّ كيف لي أن أشكرَك، وأصغرُ نعمةٍ وضعتَها عندي مِن نِعَمِكَ لا يُجازي بها عملي كلُّه؟ قال: فأتاه الوحيُ: يا موسى الآن شكرْتَني».

 

قال بكرُ بنُ عبدِ اللهِ: «ما قال عبدٌ قطُّ: الحمدُ للهِ إلا وَجَبَتْ عليه نعمةٌ بقولِه: الحمدُ للهِ، فجزاه تلك النعمةَ أن يقولَ: الحمدُ للهِ، فجاءت نعمةٌ أخرى فلا تَنْفَدُ نِعَمُ اللهِ».

 

وقال الحسَنُ: سَمع نبيُّ اللهِ رَجُلًا يقول: الحمدُ للهِ بالإسلامِ، فقال: «إنك لتحمَدُ اللهَ على نعمةٍ عظيمةٍ».

 

وقال خالد بن معدان: سمعتُ عبدَ الملِك بنَ مَرْوانَ يقول: «ما قال عبدٌ كلمةً أَحَبَّ إلى اللهِ وأبلغَ في الشُّكرِ عندَهُ مِن أَنْ يقولَ: الحمدُ لله الذي أنعمَ علينا وهدانا للإسلامِ».

 

وقال سليمانُ التيميُّ: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أنعمَ على عبادِه على قَدْرِهِ، وكلَّفهم الشُّكْرَ على قُدْرتِهم».

 

وكان الحسنُ إذا ابتدأَ حديثَه يقولُ: «الحمدُ لله، اللهُمَّ ربَّنا لك الحمدُ، بما خلقتَنَا ورزقتَنا وهديتَنا وفرَّجْتَ عنَّا، لك الحمدُ بالإسلامِ والقرآنِ، ولك الحمدُ بالأهلِ والمالِ والمعافاةِ، كبَتَّ عدوَّنا، وبسَطْتَ رزقَنا، وأظهرتَ أمْننا، وجمعتَ فُرْقَتَنا، وأحسَنْتَ معافاتَنا، ومِنْ كلِّ ما سأَلْناك ربَّنا أعطيتَنَا.

 

فلك الحمدُ على ذلك حمدًا كثيرًا، لك الحمدُ بكلِّ نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حَديثٍ، أو سِرٍّ أو علانيةٍ، أو خاصَّةٍ أو عامَّةٍ، أو حيٍّ أو ميتٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ، لك الحمدُ حتى ترضَى، ولك الحمدُ إذا رَضِيتَ».

 

وقال الحسَنُ: «قال موسى: يا ربِّ، كيف يَستطيعُ آدمُ أَنْ يؤدِّيَ شُكرَ ما صنعتَ إليه، خلقتَه بيدِك، ونفختَ فيه من روحِك، وأسكنتَه جنَّتك، وأمرتَ الملائكةَ فسجدوا له؟ فقال: يا موسى، عَلِمَ أنَّ ذلك منِّي فحَمِدَني عليه، فكان ذلك شكرَ ما صنعتُ إليه»[34].

 

وقال سعدُ بنُ مسعودٍ الثَّقَفِيُّ: «إنما سُمِّي نوحٌ عبدًا شكورًا لأنه لم يَلْبَسْ جديدًا ولم يأكلْ طعامًا إلا حَمِدَ اللهَ».

 

وكان عليُّ بنُ أبي طالبٍ إذا خرجَ مِن الخلاءِ مَسَحَ بطْنَه بيدِه وقال: «يا لها مِن نعمةٍ لو يَعلمُ العبادُ شكرَها».

 

وقال مَخْلَدُ بنُ الحسينِ: «كان يُقال: الشُّكْرُ تَرْكُ المعاصي».

 

وقال أبو حازمٍ: «كلُّ نعمةٍ لا تُقرِّبُ مِن اللهِ فهي بَلِيَّةٌ».

 

وقال سليمانُ: «ذِكْرُ النِّعمِ يُورثُ الحبَّ للهِ».

 

وقال حمَّادُ بنُ زيدٍ: حدَّثنا ليثُ، عن أبي بُردة، قال: قدمتُ المدينةَ، فلقيتُ عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ، فقال لي: ألا تدخلُ بيتًا دخلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ونطعمُك سَوِيقًا وتمرًا؟ ثم قال: «إنَّ الله إذا جمعَ الناسَ غدًا ذكَّرهم بما أنعمَ عليهم، فيقولُ العبدُ: ما آيةُ ذلك؟

 

فيقولُ: آيةُ ذلك أنَّك كنتَ في كُربةِ كذا قد دعوتَني فكشفتُها، وآيةُ ذلك أَنَّك كنتَ في سفرِ كذا وكذا فاستَصْحَبْتَني فصحبتُك، قال: يذكِّرُه حتى يذَّكرَ.

 

فيقولُ: آيةُ ذلك أنَّك خطبتَ فلانةَ ابنةَ فُلانٍ وخطبَها معك خُطَّابٌ فزوجتُك ورَددتُهم... يقفُ عبدُه بين يديه، فيعدِّدُ عليه نِعَمَه»، فبكى، ثم بكَى ثم قال: «إِنّي لأرجو اللهَ ألا يُقعِدَ عبدًا بين يديه فيُعَذِّبَهُ».

 

وذكر ابنُ أبي الدُّنيا، عن صدقةَ بنِ يسارٍ، قال: «بينما داودُ؛ في محرابِه، إذْ مرَّتْ به ذَرَّةٌ، فنظر إليها وفكَّرَ في خلْقِها وعجِبَ منها، وقال: ما يعبَؤُ اللهُ بهذِه؟ فأنطَقَها اللهُ فقالتْ: يا داودُ، أتُعجبُك نفسُك، فوالذي نفسي بيدِه لأنا على ما آتاني اللهُ مِن فضْلِهِ أَشْكَرُ منك على ما آتاك اللهُ مِن فضْلِهِ».

 

وقال أيوبُ: «إِنَّ مِنْ أعظمِ نعمةِ اللهِ على عبدِه أَنْ يكونَ مأمونًا على ما جاءَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم».

 

وقال سفيانُ الثوريُّ: «كان يُقالُ: ليس بفقيهٍ مَنْ لم يعُدُّ البلاءَ نعمةً، والرخاءَ مُصيبةً».

 

وقال زازانُ: «مما يجبُ لله على ذي النِّعمةِ بحقِّ نعمته ألَّا يَتَوَصَّلَ بها إلى معصيةٍ».

 

قال ابن أبي الدُّنيا: أنشدني محمودُ الورَّاقُ:

إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللهِ نِعْمَةً
عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ وُقُوعُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ
وَإِنْ طَالَتِ الأَيَّامُ وَاتَّصَلَ العُمْرُ
إِذَا مَسَّ بِالسَّرَّاءِ عَمَّ سُرُورُهَا
وَإِنْ مَسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهَا الأَجْرُ
وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا لَهُ فِيهِ مِنَّةٌ
تَضِيقُ بِهَا الأَوْهَامُ وَالبَرُّ وَالبَحْرُ

 

ومرَّ محمدُ بنُ المنكدِرِ بشابٍّ يغامِزُ امرأةً فقال: «يا فتى ما هذا جزاءُ نِعَمِ اللهِ عليك».

 

وقال حمَّاد بنُ سلمةَ عن ثابتٍ قال: قال أبو العاليةَ: «إِنّي لأرجو ألَّا يَهلِكَ عبدٌ بين اثنتين: نعمةٍ يَحمدُ اللهَ عليها، وذنبٍ يستغفرُ منه».

 

وكتبَ ابنُ السَّماكِ إلى محمدِ بنِ الحسَنِ حين وَليَ القضاءَ بالرَّقَّةِ: «أمَّا بعدُ؛ فلتكُنِ التقوى مِن بالِك على كلِّ حالٍ، وخفِ اللهَ مِنْ كلِّ نعمةٍ أنعمَ بها عليك مِنْ قلَّةِ الشُّكرِ عليها مع المعصيةِ بها، فإنَّ في النِّعمِ حُجَّةً وفيها تَبِعَةً، فأمَّا الحُجَّةُ بها فالمعصيةُ بها، وأما التَّبِعةُ فيها فقلةُ الشكرِ عليها، فعفا اللهُ عنك كلَّما ضيعتَ من شكرٍ، أو رَكِبتَ مِن ذنبٍ، أو قصَّرتَ مِن حقٍّ».

 

ومرَّ الربيعُ بنُ أبي راشدٍ برجُلٍ به زَمانَةٌ، فجلس يحمدُ اللهَ ويبكي، قِيلَ له: ما يُبكيك؟ قال: «ذكرتُ أهلَ الجَنَّةِ وأهلَ النّارِ، فشبَّهتُ أهلَ الجَنَّةِ بأهلِ العافيةِ، وأهلَ النَّارِ بأهلِ البلاءِ، فذلك الذي أبكاني».

 

وقد روى أبو هُريرةَ رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَرَى قَدْرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ»[35]، قال عبدُ الله ابنُ المبارك: أخبرني يحيى بنُ عبدِ اللهِ، قال: سمعتُ أبي قال: سمعتُ أبا هُريرةَ؛ فذكرَهُ.

 

وقال ابنُ المبارك: حدثنا يزيدُ بنُ إبراهيمَ، عن الحسنِ، قال: قال أبو الدَّرداءِ: «مَنْ لم يَعرِفْ نعمةَ اللهِ عليه إلَّا في مَطْعمِه ومَشْرَبِه فقد قلُّ عملُه وحضرَ عذابُه».

 

قال ابنُ المباركِ: أخبرَنا مالكُ بنُ أنسٍ، عن إسحقَ بنِ عبد اللهِ بن أبي طلحةَ، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: سمعتُ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه سَلَّمَ على رجُلٍ، فرَدَّ عليه السلامَ، فقال عمرُ للرَّجلِ: كيف أنتَ؟ قال الرَّجُلُ: أحمدُ إليك اللهَ، قال: هذا الذي أردْتُ منك.

 

قال ابنُ المبارك: وأخبرنا مسعودٌ، عن علقمةَ بنِ مرقدٍ، عن ابن عُمَر رضي الله عنهما، قال: لعلنا نلتقي في اليومِ مرارًا يسألُ بعضُنا عن بعضٍ، ولم يُرِدْ بذلك إلا ليحمدَ اللهَ عز وجل.

 

وقال مجاهدٌ في قولِهِ تعالى: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20]، قال: «لا إله إلا الله».

 

وقال ابنُ عُيَينة: «ما أَنعَمَ اللهُ على العبادِ نعمةً أفضلَ مِن أَنْ عرَّفَهُم لا إله إلا الله»، قال: «وإنَّ لا إله إلا الله لهم في الآخرةِ كالماءِ في الدُّنيا».

 

وقال بعضُ السَّلفِ في خُطبتِه يومَ عيدٍ: «أصبحتم زُهْرًا وأصبحَ النَّاسُ غُبرًا، أصبحَ النَّاسُ يَنسِجون وأنتم تَلبسُون، وأصبحَ النَّاسُ يُعطون وأنتم تأخذون، وأصبحَ النَّاسُ يُنتِجون وأنتم تَرْكبون، وأصبحَ النَّاسُ يَزرعون وأنتم تأكلون»، فبكى وأبكاهُمْ.

 

وقال عبدُ الله بن قُرطٍ الأزدي - وكان مِنَ الصحابةِ - على المنبرِ، وكان يومَ أضحى، ورأى على النَّاسِ ألوانَ الثيابِ: «يا لها مِن نعمةٍ ما أَشبعَها، ومِن كرامةٍ ما أَظهرَها، ما زال عن قومٍ شيءٌ أشدُّ مِن نعمةٍ لا يستطيعون ردَّها، وإنما تثبتُ النعمةُ بشُكْر المُنْعَم عليه للمُنْعِم».

 

وقال سَلمانُ الفارسيُّ رضي الله عنه: «إِنَّ رجُلًا بُسِطَ له مِن الدُّنيا، فانتزعَ ما في يديه، فجعلَ يحمدُ اللهَ ويُثني عليه، حتى لم يكُنْ له فِراشٌ إلا باريةٌ»، قال: «فجعلَ يحمدُ اللهَ ويُثني عليه، وبُسِطَ لآخرَ من الدُّنيا، فقال لصاحب الباريةِ: أرأيتَك أنت على ما تحمَدُ اللهَ؟ قال: أحمدُه على ما لو أُعطِيتُ به ما أُعطي الخلقُ لم أعطِهمْ إياه، قال: وما ذاك؟ قال: أرأيتَك بصرَك، أرأيتَك لسانَك، أرأيتَك يديك، أرأيتَك رجليك».

 

وجاء رَجُلٌ إلى يونسَ بنِ عُبيدٍ، يَشكو ضِيقَ حالِه، فقال له يونسُ: أيسرُّك ببصرِك هذه مائةُ ألفِ درهمٍ؟ قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائةُ ألفٍ؟ قال: لا، قال: فبرجليك مائةُ ألفٍ؟ قال: لا؟ قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال يونسُ: أرى عندك مئينَ الألوفِ وأنتَ تشكو الحاجةَ.

 

وكان أبو الدرداء يقول: «الصِّحَّةُ المُلْكُ».

 

وقال جعفرُ بنُ محمَّدٍ رضي الله عنه: فَقَدَ أبي بغلةً له، فقال: إِنْ رَدَّها اللهُ لأحمدَنَّه، وضَمَّ إليه ثيابَه ورفعَ رأسَه إلى السماءِ ثم قال: الحمدُ للهِ، لم يَزِدْ عليها، فقيل له في ذلك، فقال: هل تركتُ وأبقيتُ شيئًا جعلتُ الحمدَ كلَّه للهِ.

 

وروى ابن أبي الدُّنيا، مِن حديثِ سعد بن إسحاقَ بن معدِّ بن عُجرةَ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: بعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا مِن الأنصارِ، وقال: «إِنْ سَلَّمَهُمُ اللهُ وَغَنَّمَهُمْ فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شُكْرًا»، قال: فلم يَلبَثوا أن غنِموا وسلِموا، فقال بعضُ أصحابِهِ سمعناك تقولُ: «إِنْ سَلَّمَهُمُ اللهُ وَغَنَّمَهُمْ فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شُكْرًا»، قال: «قَدْ فَعَلْتُ، اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ شُكْرًا، وَلَكَ المَنُّ فَضْلًا».

 

وقال عبدُ الرَّحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ: قال محمَّدُ بنُ المنكدِر لأبي حازمٍ: يا أبا حازمٍ، ما أكثرَ مَنْ يَلقاني فيدعو لي بالخيرِ، وما صنعتُ إليهم خيرًا قطُّ؟

 

فقال أبو حازم: لا تَظُنَّ أنَّ ذلك مِن قِبَلِكَ، ولكن انظرْ إلى الذي ذلك مِنْ قِبَلِهِ فاشكرْهُ، وقرأ أبو عبد الرحمن: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96].

 

وقال عليُّ بنُ الجعدِ: حدَّثَنا عبدُ العزيزِ بنُ أبي سَلمةَ الماجِشون، حدثني مَنْ أُصدِّقُه: أنَّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه كان يقول في دعائِه: «أسألُكَ تمامَ النِّعمة في الأشياءِ كلِّها، والشكرَ لك عليها حتى ترضَى وبعد الرِّضا والخِيَرة في جميعِ ما تكونُ فيه الخِيَرةُ».

 

وقال الحسَنُ: ما أَنعَمَ اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال: الحمدُ للهِ إلا كان ما أُعطى أكثرَ مما أُخِذَ، قال ابنُ أبي الدُّنيا: وبَلغَني عن سفيانَ بنِ عُيينة؛ أنه قال: هذا خطأٌ؛ لا يكونُ فعلُ العبدِ أفضلَ من فعلِ اللهِ، ثم قال: وقال بعضُ أهلِ العِلْمِ: إنما تفسيرُ هذا: أَنَّ الرَّجُلَ إذا أَنعَمَ اللهُ عليه نعمةً وهو ممّنْ يجبُ عليه أن يحمدَهُ، عرَّفه ما صنَعَ به فيشكرُ اللهَ كما ينبغي له أَنْ يشكُرَه، فكان الحمدُ له أفضلَ.

 

قلتُ: لا يلزمُ الحسَن ما ذُكرَ عن ابن عُيينة، فإِنَّ قولَهُ: الحمدُ للهِ نعمةٌ مِن نعمِ اللهِ، والنعمةُ التي حَمِدَ اللهَ عليها أيضًا نعمةٌ مِن نِعَمِ اللهِ، وبعضُ النِّعمِ أجلُّ مِن بعضٍ، فنعمةُ الشكرِ أجلُّ مِن نعمةِ المالِ والجاهِ والولدِ والزوجةِ ونحوِها... والله أعلم.

 

وهذا لا يَستَلزمُ أن يكونَ فعْلُ العبدِ أفضلَ مِن فعْلِ اللهِ، وإِنْ دلَّ على أَنَّ فِعْلَ العبدِ للشكرِ قد يكونُ أفضلَ مِن بعضِ مفعولِ اللهِ، وفعْلُ العبدِ هو مفعولُ اللهِ، ولا ريبَ أنَّ بعضَ مفعولاتِه أفضلُ مِن بعضٍ.

 

وقال بعضُ أهلِ العِلْمِ: «لَنِعَمُ اللهِ علينا فيما زُوي عنا مِن الدُّنيا أفضلُ مِن نعمِه علينا فيما بُسِط لنا منها؛ وذلك أن اللهَ لم يَرْضَ لِنَبيِّه الدُّنيا، فإِنْ أكُنْ فيما رضي اللهُ لِنبيِّه وأحبَّ له أحبُّ إليَّ مِن أَنْ أكونَ فيما كرِهَ له وسَخِطَه».

 

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: بلَغَنِي عن بَعْضِ العلماءِ أنَّه قال: «يَنبغي للعالِمِ أَنْ يحمدَ اللهَ على ما زُوي عنه مِن شهواتِ الدنيا، كما يحمدُ على ما أعطاه، وأين يقعُ ما أعطاه الله، والحسابُ يأتي عليه، إلى ما عافاه اللهُ ولم يَبْتَلِهِ به، فيشغَلُ قلبَه ويُتعِبُ جوارِحَه، فيشكر اللهَ على سُكونِ قلبِه وجمْعِ همِّه».

 

وحدَّث عن ابنِ أبي الحواريِّ، قال: جلَس فُضيلُ بنُ عياضٍ وسفيانُ ابنُ عُيينةَ ليلةً إلى الصباح يتذكرانِ النِّعمَ، فجعل سفيانُ يقول: أنعمَ اللهُ علينا في كذا وكذا، أنعم الله علينا في كذا، فعلَ بنا كذا.

 

وحدثنا عبدُ الله بنُ داودَ، عن سفيانَ في قوله: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 182]، قال: «يُسْبِغُ عليهم النِّعَمَ، ويمنعُهم الشُّكرَ».

 

وقال غيرُ سفيانَ: «كلَّما أحدثوا ذنبًا أحدثَ لهم نِعْمةً».

 

وسُئِل ثابتٌ البُناني عن الاستدراجِ، فقال: «ذلك مَكْرُ اللهِ بالعبادِ المُضيِّعين».

 

وقال يونسُ في تفسيرِها: «إِنَّ العبدَ إذا كانت له عند اللهِ منزلةٌ فحفِظَها وبقي عليها، ثم شكرَ اللهَ بما أعطاهُ، أعطاه أشرفَ منها، وإذا هو ضيَّع الشكرَ استدرجَهُ اللهُ، وكان تضييعُه الشكرَ استدراجًا».

 

وقال أبو حازمٍ: «نعمةُ اللهِ فيما زُوي عنِّي مِنَ الدُّنيا أعظمُ مِن نعمتِه فيما أعطاني منها، إنِّي رأيتُه أعطاها أقوامًا فهَلكوا، وكلُّ نعمةٍ لا تُقرِّبُ مِنَ اللهِ فهي بليَّةٌ، وإذا رأيتَ اللهَ يتابِعُ عليكَ نعمَهُ وأنتَ تعصيهِ فاحذرْهُ».

 

وذكر كاتبُ اللَّيْثِ، عن هقل، عن الأوزاعي، أَنَّه وعَظَهُم، فقال في موعظتِه: «أيها الناسُ تَقَوَّوْا بهذه النِّعم التي أصبحتُم فيها، على الهربِ مِن نارِ اللهِ الموقدةِ التي تطَّلِعُ على الأفئدةِ، فإنَّكم في دارٍ الثَّوَى فيها قليلٌ، وأنتم فيها مُرجَون خلائِفُ مِن بعد القرونِ الذين استَقبَلوا مِن الدُّنيا أنفعَها وزهرتَها، فهم كانوا أطوَلَ منكم أعمارًا، وأمدَّ أجسامًا، وأعظمَ آثارًا، فقطعوا الجبالَ، وجابوا الصخورَ، ونقَّبوا في البلادِ مؤيَّدين ببطشٍ شديدٍ، وأجسامٍ كالعمادِ، فما لبِثَتِ الأيامُ والليالي أَنْ طوَتْ مُدَدَهُم، وعفَتْ آثارَهُم، وأَخْوَتْ منازِلهُم، وأنْسَتْ ذكْرَهم، فما تُحِسُّ منهم مِنْ أحدٍ، ولا تسمعُ لهم رِكزًا، كانوا يَلْهُون آمنين، لِبياتِ قومٍ غافلينَ، أو لصباحِ قومٍ نادمينَ، ثم إِنَّكم قد علِمتُم الذي نزَل بساحتِها بَيَاتًا مِن عقوبةِ اللهِ، فأصبحَ كثيرٌ منهم في دارِهم جاثمين، وأصبحَ الباقون يَنْظرون في آثارِهم نقمةً، وزوالَ نعمةٍ، ومساكنَ خاويةً، فيها آيةٌ للذين يخافون العذابَ الأليمَ، وعِبرةٌ لمَنْ يخشَى، وأصبحتُم مِنْ بعدِهم في أجلٍ منقوصٍ، ودنيا مقبوضةٍ، وزمانٍ قد ولَّى عفْوُه وذهبَ رخاؤُهُ، فلم يبقَ منه إلا حَمأةُ شرٍّ، وصُبابَةُ كَدَرٍ، وأهاويلُ عِبَرٍ، وعقوباتُ غِيَر، وإرسالُ فِتَنٍ، وتتابعُ زلازل، ورَذَلةُ خلَفٍ، بهم ظهَر الفسادُ في البرِّ والبحرِ، ولا تكونوا أشباهًا لِمَن خدَعَهُ الأملُ، وغرَّه طولُ الأجلِ، وتبلَّغَ بطولِ الأمانيِّ، نسألُ اللهَ أَنْ يجعلَنا وإياكم ممَّن وعى إِنذارَه وعَقل بُشراه فمَهَدَ لِنفسِه».

 

وكان يُقالُ: «الشُّكْرُ تَرْكُ المعصيةِ».

 

وقال ابنُ المباركِ: قال سفيانُ: «ليس بفقيهٍ مَنْ لم يَعُدَّ البلاءَ نعمةً والرخاءَ مُصيبةً».

 

وكان مروانُ بنُ الحكمِ إذا ذكَر الإسلامَ قال: «بنعمةِ ربي وصلتُ إليه لا بما قدَّمتْ يدي ولا بإرادتي إِنِّي كنتُ خاطئًا».

وكم مِنْ مَدْخلٍ لو مُتَّ فيه
لكنتَ به نكالًا في العشيرَهْ
وقيتَ السُّوءَ والمكروهَ فيهِ
ورُحْتَ بنعمةٍ فيه سَتِيرَهْ
وكم من نعمة للهِ تُمسِي
وتصبحُ في العَيان وفي السريرَهْ

 

ودُعي عثمانُ بنُ عفان رضي الله عنه إلى قومٍ على رِيبة، فانطلق ليأخُذَهم، فتفرَّقوا قبْل أَنْ يَبْلغَهُمْ، فأعتقَ رقبةً شكرًا لله ألَّا يُكونَ جَرَى على يديه خزيُ مسلم.

 

وقال رَجُلٌ لأبي حازمٍ: ما شُكْرُ العينين يا أبا حازم؟ قال: إِنْ رأيتَ بهما خيرًا أَعلنْتَهُ، وإِنْ رأيتَ بهما شرًّا سَترْتَه، قال: فما شكرُ الأذُنين؟ قال: إِنْ سَمِعْتَ بهما خيرًا وَعَيْتَه، وإِنْ سَمِعْتَ بهما شرًّا دفعْتَهُ، قال: فما شكْر اليدين؟ قال: لا تأخُذْ بهما ما ليس لهما، ولا تمنعْ حقًّا للهِ هو فيهما، قال: فما شُكرُ البطن؟ قال: أن يكونَ أسفلُه طعامًا، وأعلاه عِلمًا، قال: فما شكر الفَرْج؟ قال: قال الله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: 5 - 7]، قال: فما شُكْرُ الرِّجْلين؟ قال: إِنْ علِمْتَ ميتًا تغبِطُهُ استعملتَ بهما عمَلَهُ، وإِنْ مقتَّه رغبتَ عن عملِه وأنت شاكرٌ لله.

 

وأمَّا مَنْ شَكَرَ بلسانِه، ولم يَشكُرْ بجميعِ أعضائِه، فمثَلُه كمثَلِ رَجُلٍ له كِساءٌ فأخذَ بطرفِه ولم يلبَسْهُ، فما ينفعه ذلك مِن الحَرِّ والبردِ والثلجِ والمطرِ.

 

وذكَرَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ: أنَّ النجاشيَّ أرسلَ ذاتَ يومٍ إلى جعفرٍ وأصحابِه، فدخلوا عليه وهو في بيتٍ عليه خلقانُ جالسٌ على التراب، قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحالِ، فلمَّا رأى ما في وجوهِنا قال: إني أُبشّركم بما يَسُرُّكم، إنه جاءني مِن نحوِ أرضِكم عَينٌ لي فأخبرني أنَّ اللهَ قد نصر نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وأَهْلَكَ عَدُوَّه، وأُسِرَ فلانٌ وفلانٌ، وقُتِلَ فلانٌ وفلانٌ، التَقَوا بوادٍ يُقالُ له: بدرٌ كثيرُ الأراكِ، كأني أنظرُ إليه كنتُ أرعى به لسيدي رجلٍ مِن بني ضَمرةَ.

 

فقال له جعفرُ: ما بالك جالسًا على التُّرابِ، ليس تحتك بِساطٌ، وعليك هذه الأخلاقُ، قال: إنا نجدُ فيما أَنزَل اللهُ على عيسى صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ حقًّا على عبادِ اللهِ أَنْ يُحْدِثوا للهِ تواضُعًا عند كلِّ ما أَحْدَثَ اللهُ لهم مِن نعمة، فلما أحدثَ اللهُ لي نَصْرَ نبيِّه أحدثتُ للهِ هذا التواضعَ.

 

وقال حبيبُ بنُ عُبيدٍ: «ما ابتلى اللهُ عبدًا ببلاءٍ إلا كان له عليه فيه نعمةٌ ألا يكونَ أشدَّ منه».

 

وقال عبدُ الملِك بنُ إسحاقَ: «ما مِنَ الناسِ إلا مبتلًى بعافيةٍ لينظرَ كيف شُكْرُه، أو بليَّةٍ لينظرَ كيف صبرُه».

 

وقال سفيانُ الثَّوري: «لقد أَنعَمَ اللهُ على عبدٍ في حاجةٍ أكثرَ مِن تضرُّعِه إليه فيها».

 

وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا جاءَه أمرٌ يَسُرُّه خرَّ للهِ ساجدًا شكرًا له عز وجل. ذكرَهُ أحمدُ.

 

وقال عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ رضي الله عنه: خرجَ علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فتوجَّه نحو صَدَقَتِه، فدخلَ فاستقبلَ القبلةَ فخرَّ ساجدًا، فأطال السجودَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، سجدتَ سجدةً حسبتُ أَنْ يكُونَ اللهُ قد قبضَ نفسَك فيها، فقال: «إِنَّ جبريل أتاني فبشَّرني أَنَّ اللهَ عز وجل يقولُ لك: مَنْ صَلَّى عليك صليتُ عليه، ومن سَلَّم عليك سلَّمتُ عليه، فسجدتُ لله شُكرًا»[36]. ذكره أحمدُ.

 

وذكر محمدُ بنُ إسحاق في كتابِ «الفتوح» قال: لما جاء المُبشِّرُ يومَ بدرٍ بقتْلِ أبي جهلٍ استَحْلفَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أيمانٍ باللهِ الذي لا إله إلا هو لقد رأيتَه قتيلًا، فحلفَ له، فخرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ساجدًا.

 

وذكر سعيدُ بنُ منصورٍ: أنَّ أبا بكرٍ الصديقَ رضي الله عنه سجدَ حين جاءَهُ قتْلُ مسيلِمَةَ.

 

وذكر أحمدُ: أنَّ عليًّا رضي الله عنه سجدَ حين وجد ذا الثُّدَيَّةِ في الخوارج.

 

وسجد كعبُ بنُ مالكٍ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بُشّر بتوبةِ اللهِ عليه، والقِصَّةُ في الصحيحين.

 

فإِنْ قِيل: فنِعَمُ اللهِ دائمًا مُستَمرَّةٌ على العبدِ، فما الذي اقتَضَى تخصيصَ النعمةِ الحادثةِ بالشُّكرِ دونَ الدائمةِ، وقد تكونُ المستدامةُ أعظمَ.

 

قيل الجوابُ مِن وُجوهٍ:

أحدُها: أَنَّ النِّعمَة المتجدِّدةَ تُذكِّرُ بالمستدامَةِ، والإنسانُ موكَّلٌ بالأدنى.

 

الثاني: أَنَّ هذه النعمةَ المتجدِّدةَ تستدعي عُبوديةً مجدَّدةً، وكان أسهلُها على الإنسانِ وأحبُّها إلى اللهِ السجودَ شكرًا له.

 

الثالث: أَنَّ المتجدِّدةَ لها وَقْعٌ في النّفوسِ، والقلوبُ بها أَعْلَقُ، ولهذا يُعنى بها ويُعزَّى بفقدِها.

 

الرابعة: أَنَّ حُدوثَ النِّعمِ تُوجِبُ فرحَ النَّفسِ وانبساطَها، وكثيرًا ما يجرُّ ذلك إلى الأَشَرِ والبَطَرِ، والسجودُ ذلٌّ للهِ وعبوديةٌ وخضوعٌ، فإذا تلقَّى به نعمتَه لِسرورِه وفرحِ النفس وانبساطِها، فكان جديرًا بدوامِ تلك النعمَةِ، وإذا تَلَقَّاها بالفرحِ الذي لا يحبُّه اللهُ، والأشَرِ والبطَرِ، كما يفعلُه الجهَّالُ عندما يُحدِثُ اللهُ لهم مِن النِّعَمِ، كانت سريعةَ الزوالِ، وَشِيكة الانتقالِ، وانقلبتْ نقمةً، وعادتِ استِدراجًا، وقد تقدَّم أَمْرُ النجاشيِّ، فإن اللهَ إذا أَحدَثَ لعبدِه نعمةً أَحَبَّ أَنْ يُحْدِثَ لها تواضعًا.

 

وقال ابنُ المغيرةِ: بُشِّر الحسنُ بموتِ الحجَّاجِ، وهو مُختفٍ، فخرَّ للهِ ساجدًا.

 

ومِن دقيقِ نِعمِ اللهِ على العبدِ، التي لا يكادُ يفطِنُ لها، أنَّه يُغلق عليه بابَه، فيرسلُ اللهُ إليه مَنْ يَطْرقُ عليه البابَ يسألُه شيئًا مِن القَتَتِ، ليعرِّفَه نعمتَه عليه.

 

وقال سلامُ بنُ أبي مُطيعٍ: دخلتُ على مريضٍ أَعُودُه، فإذا هو يَئِنُّ، فقلتُ له: اذكُرِ المطروحينَ على الطريقِ، اذكُرِ الذين لا مأوى لهم، ولا لهم مَنْ يخدمُهم، قال: ثم دخلتُ عليه بعد ذلك فسمعتُه يقول لنفسِه: اذكُري المطروحين في الطريقِ، اذكُري مَنْ لا مأوى له، ولا لهُمْ مَنْ يخدمُهم.

 

وقال عبدُ اللهِ بنُ أبي نوحٍ: قال لي رَجُلٌ على بعضِ السَّواحلِ: كم عاملْتَهُ تبارك اسمُه بما يكْرهُ فعَامَلَكَ بما تحبُّ؟ قلت: ما أُحصي ذلك كثرةً.

 

قال: فهل قصدتَ إليه في أمرِ كَرْبِكَ فخذَلَك؟ قلتُ: لا واللهِ، ولكنَّه أَحْسَنَ إليَّ وأعانني.

 

قال: فهل سألتَه شيئًا فلم يُعْطِكَهُ؟ قلتُ: هل منعني شيئًا سألتُه؟ ما سألتُه شيئًا قطُّ إلا أعطاني، ولا استعنتُ به إلا أعانني.

 

قال: أرأيتَ لو أنَّ بعضَ بني آدمَ فعلَ بك بعضَ هذه الخِلالِ، ما كان جزاؤهُ عندك؟ قلتُ: ما كنتُ أقدِّرُ له مكافأةً ولا جزاءً.

 

قال: فربُّك أحقُّ وأحرى أن تدأبَ نفسُك له في أداءِ شُكرِه، وهو المُحْسِنُ قديمًا وحديثًا إليك، واللهِ لَشُكْرُهُ أيسَرُ مِنْ مكافأة عبادِه، إنه تبارك وتعالى رَضِيَ مِن العبادِ بالحَمْدِ شُكْرًا.

 

وقال سفيانُ الثوريُّ: «ما كان اللهُ لِيُنْعِمَ على عبدٍ في الدُّنيا فيفضحَهُ في الآخرةِ، ويحِقُّ على المُنعِمِ أَنْ يُتِمَّ النعمةَ على مَنْ أنعمَ عليه».

 

وقال ابنُ أبي الحواري: قلتُ لأبي معاويةَ: ما أعظمَ النعمةَ علينا في التوحيدِ، نسألُ اللهَ ألَّا يَسْلبَنا إياهُ، قال: يحقُّ على المُنعِم أنْ يُتمَّ النعمةَ على مَنْ أَنعَمَ عليه، واللهُ أَكرَمُ مِن أَنْ يُنعِمَ بنعمةٍ إلَّا أتمَّها، ويَستَعمِلَ بعملٍ إلا قَبِلَه.

 

وقال ابنُ أبي الحواري: قالتْ لي امرأةٌ: أنا في بيتي قد شُغِلَ قلبي، قلتُ: وما هو؟ قالت: أريدُ أَنْ أعرفَ نِعَم اللهِ عليَّ في طرفةِ عينٍ، أو أعرفَ تقصيري عن شُكرِ النّعمةِ عليَّ في طرفةِ عينٍ، قلتُ: تُريدين ما لا تهتدي إليه عقولُنا.

 

وقال ابنُ زيدٍ: إنه لَيكُونُ في المجلسِ الرَّجُلُ الواحِدُ يحمدُ اللهَ عز وجل، فيقضيَ لذلك المجلسِ حوائجَهم كلَّهُمْ، قال: وفي بعضِ الكتبِ التي أنزلها اللهُ تعالى أنَّه قال: سُرُّوا عبديَ المؤمنَ، فكان لا يأتيه شيءٌ إلا قال: الحمدُ للهِ ما شاءَ اللهُ، قال: رَوِّعوا عبدي المؤمنَ، فكان لا يَطلعُ عليه طليعةٌ مِن طلائعِ المكروهِ إلا قال: الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ، فقال اللهُ تبارك وتعالى: إِنَّ عبدي يحمدُني حين روَّعْتُه كما يحمدُنِي حين سَرَرْتُه، أَدْخِلوا عبدي دارَ عِزِّي كما يحمدُني على كلِّ حالاتِهِ.

 

وقال وهبٌ: عَبَدَ اللهَ عابدٌ خمسينَ عامًا، فأوحى اللهُ إليه: إني قد غفرتُ لك، قال: أي ربِّ وما تغفرُ لي ولم أُذنِبْ؟ فأَذِنَ اللهُ لِعِرْقٍ في عُنِقِه يضربُ عليه، فلم يَنَمْ ولم يُصَلِّ، ثم سكنَ فنامَ، ثم أتاه ملكُ فشكا إليه فقال: ما لقيتُ مِن ضربانِ العِرْقِ، فقال المَلَكُ: إِنَّ ربَّك يقولُ: إنَّ عبادَتَك خمسينَ سَنةً تَعْدِلُ سكونَ العِرْقِ.

 

وذكر ابنُ أبي الدُّنيا: أنَّ داودَ قال: يا رَبَّ، أخبرني ما أدنى نِعمِك عليَّ، فأوحى اللهُ إليه: يا داود، تنفَّسْ، قال: هذا أدنى نِعمي عليك.

 

وبهذا يتبيَّنُ معنى الحديثِ، الذي رواه أبو داود مِن حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ وابنِ عبَّاسٍ: «إِنَّ اللهَ لو عذَّبَ أهلَ سماواتِه وأهلَ أرضِه لعذَّبَهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحمهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم مِن أعمالِهم».

 

والحديثُ الذي في الصحيح: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ»، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»[37]؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ العَبْدِ لَا تُوَافِي نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ.

 

أما قولُ بعضِ الفُقهاءِ: إِنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ يَحْمدَ اللهَ بأفضلِ أنواعِ الحمدِ، كان برُّ يَمينِه أَنْ يقولَ: الحمدُ للهِ حمدًا يُوافي نِعمَه ويكافئُ مزيدَه، فهذا ليس بحديثٍ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ، وإنما هو إسرائيليٌّ عن آدمَ، وصَحَّ منه: «حمدٌ لله غيرُ مكفي ولا مُودعٍ ولا مُستغني عنه ربَّنا»[38]، ولا يُمكنُ حمْدُ العبدِ وشكرُه أَنْ يوافيَ نِعمَةً مِن نِعَمِ اللهِ، فضْلًا عن موافاتِه جميعَ نِعمِهِ، ولا يكُونُ فعلُ العبدِ وحمدُه مكافئًا للمزيدِ، ولكن يُحْمل على وجهٍ يصحُّ، وهو أَنَّ الذي يَستَحقُّه اللهُ سُبْحَانَهُ مِن الحمدِ حمْدٌ يكُون مُوافيًا لِنِعمِه ومكافئًا لمزيدِه، وإنْ لم يَقْدِرِ العبدُ أَنْ يأتيَ به، كما إذا قال: الحمدُ للهِ ملءَ السماواتِ، وملءَ الأرضِ، وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ مِن شيءٍ بعدُ، وعددَ الرمالِ والترابِ والحصى والقَطرِ، وعددَ أنفاسِ الخلائقِ، وعددَ ما خَلَقَ اللهُ وما هو خالقٌ، فهذا إخبارٌ عما يستحِقُّ مِن الحمدِ، لا عمَّا يقعُ مِن العبدِ مِن الحمْدِ.

 

وقال أبو المليح: قال موسى: يا ربِّ، ما أفضلُ الشكرِ؟ قال: أَنْ تشكرَني على كلِّ حالٍ.

 

وقال بكرُ بنُ عبدِ اللهِ قلتُ لأخٍ لي: أوصِني، فقال: ما أدري ما أقولُ غيرَ أَنَّه ينبغي لهذا العبدِ ألا يَفْتُرَ مِن الحمدِ والاستغفارِ، فإِنَّ ابنَ آدمَ بينَ نعمةٍ وذَنْبٍ، ولا تَصْلحُ النعمةُ إلا بالحمدِ والشُّكرِ، ولا يصلح الذنبُ إلا بالتوبةِ والاستغفارِ، فأوسعني علمًا ما شئت.

 

وقال عبدُ العزيزِ بنُ أبي داود: رأيتُ في يدِ مُحمَّدِ بنِ واسعٍ قُرحةً، فكأنَّه رأى ما شَقَّ عليَّ منها، فقال لي: أتدري ماذا للهِ على هذه القرحةِ مِن نعمةٍ حين لم يجعلْها في حدقتي، ولا طَرفِ لساني، ولا طرفِ ذاكرتي، فهانت عليَّ قرحتُه.

 

وقال سَهْمُ بنُ سلمةَ: حُدِّثْتُ أَنَّ الرَّجُلَ إذا ذكرَ اسمَ اللهِ على أوَّلِ طعامِهِ وحَمِدَهُ على آخرِه، لم يُسألْ عن نعيمِ ذلك الطعامِ.

 

ويَدخُلُ على فضلِ الشُّكرِ على الصبرِ، أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يحبُّ أَنْ يُسألَ العافيةَ، وما يُسألُ شيئًا أَحبَّ عليه مِن العافيةِ، كما في المسند عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قام أبو بكرٍ رضي الله عنه على المِنْبرِ، ثُمَّ قال: «سَلُوا اللهَ العافيةَ؛ فإِنَّه لم يُعْطِ عبدًا بَعْدَ اليقينِ خيرًا مِن العافيةِ»[39].

 

وفي حديثٍ آخرَ: «إِنَّ الناسَ لم يُعطَوْا في هذه الدُّنيا شيئًا أفضلَ مِن العفوِ والعافيةِ، فسلوها اللهَ عز وجل».

 

وقال لعَمِّه العباس: «يا عمِّ أكثِرْ من الدُّعاءِ بالعافيةِ».

 

وفي الترمذي: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، علِّمني شيئًا أسألْهُ اللهَ؟ قال: «سلِ اللهَ العافيةَ» فمكثتُ أيامًا، ثم جئتُ فقلتُ: علِّمْنِي شيئًا أسألْهُ اللهَ؟ فقال لي: «يا عبَّاسُ، يا عمَّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سلِ اللهَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ»[40].

 

وكان عبدُ الأعلى التيميُّ يقولُ: «أكثِروا مِن سؤالِ اللهِ العافيةَ؛ فإنَّ المُبْتَلَى وإنِ اشتدَّ بلاؤه ليس بأحقَّ بالدُّعاء مِن المُعافَى الذي لا يَأمَنُ البلاءَ، وما المُبْتَلَوْنَ اليومَ إلا مِنْ أهلِ العافيةِ بالأمسِ، وما المُبْتَلَوْن بَعْدَ اليومِ إلا مِنْ أهلِ العافيةِ اليومَ.

 

ولو كان البلاءُ يجرُّ إلى خيرٍ ما كُنَّا مِن رجالِ البلاءِ، إِنَّه رُبَّ بلاءٍ قد أَجهَد في الدُّنيا وأَخزَى في الآخرةِ، فما يُؤمَنُ مَنْ أطالَ المقامَ على معصيةِ اللهِ أَنْ يكُونَ قد بَقيَ له في بقيَّةِ عُمُرِهِ مِن البلاءِ ما يجهدُه في الدُّنيا ويفضحُه في الآخرةِ، ثم يقولُ بعد ذلك: الحمدُ للهِ الذي إِنْ نعُدَّ نِعَمَهُ لا نُحْصِها، وإِنْ ندأبْ له عملًا لا نَجزِها، وإِنْ نُعمَّرْ فيها لا نُبْلِها».

 

وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا قد هَفتَ – أي: هُزِلَ - فصار مثلَ الفرْخِ، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل كنتَ تدعو الله بشيءٍ أو تسألُه إيَّاه؟» قال: نَعَمْ، كنتُ أقولُ: اللهُمَّ ما كنتَ معاقبني به في الآخرةِ فعجِّلْه لي في الدنيا، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَهُ، لَا تُطِيقُهُ وَلَا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»[41]، فدعا اللهَ له فشفاهُ.

 

وقال شيبانُ: كان الحسَنُ إذا جلسَ مَجْلِسًا يقولُ: «لك الحمدُ بالإسلامِ، ولك الحمدُ بالقرآنِ، ولك الحمدُ بالأهلِ والمالِ، بَسَطْتَ رزقَنَا، وأظهرْتَ أمننَا، وأحسنْتَ مُعافاتَنا، ومِن كلِّ ما سألناك أعطيتَنا، فلك الحمدُ كثيرًا كما تُنعِمُ كثيرًا، أعطيتَ خيرًا كثيرًا، وصَرَفْتَ شرًّا كثيرًا، فلِوجهِك الجليلِ الباقي الدائمِ الحمدُ».

 

وكان بعضُ السَّلفِ يقولُ: «اللهُمَّ ما أصبحَ بنا مِن نعمةٍ، أو عافيةٍ، أو كرامةٍ في دِينٍ، أو دُنيا جَرتْ علينا فيما مضى وهي جاريةٌ علينا فيما بَقِيَ، فإنها مِنْك وحدَك لا شريكَ لك، فلك الحمدُ بذلك علينا، ولك المَنُّ ولك الفضلُ، ولك الحمدُ عددَ ما أنعمتَ به علينا وعلى جميعِ خلقِكَ لا إلَه إلَّا أنتَ».

 

وقال مُجاهِدٌ: إذا كان ابنُ عُمَرَ في سَفرٍ، فطلعَ الفجرُ رفعَ صوتَه ونادى: «سَمعَ سامِعٌ بحمدِ اللهِ ونعمِهِ وحُسْنِ بلائه علينا» ثلاثًا، «اللهمَّ صاحِبْنا فأفضِلْ علينا، عائذٌ باللهِ مِن النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله» ثلاثًا.

 

وقال الحسنُ: «خَلَقَ اللهُ آدمَ حين خلقَهُ، فأخرجَ أهلَ الجَنَّةِ مِن صفحتِه اليُمنى، وأَخْرَجَ أهلَ النارِ مِن صفحتِه اليُسرى، فدَبُّوا على وجْهِ الأرضِ منهمُ الأعمى والأصمُّ المُبتلى، فقال آدم: يا رَبِّ ألَا سَوَّيتَ بين ولدي؟ قال: يا آدمُ إني أريدُ أن أُشْكَرَ».

 

وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قال حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، إِلَّا أدَّى شُكْرَ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ».

 

ويُذكَرُ عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه أَوصَى رجلًا بثلاثٍ، فقال: «أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ المَوْتِ؛ يَشْغَلْكَ عَمَّا سِوَاهُ، عَلَيْكَ بِالدَّعَاءِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَتَى يُسْتَجَابُ لَكَ، وَعَلَيْكَ بِالشُّكْرِ؛ فَإِنَّ الشُّكْرَ زِيَادَةٌ».

 

ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه كان إذا أكلَ قال: «الحمدُ للهِ الذي أطعمَني وسَقاني وهداني، وكلَّ بلاءٍ حسَنٍ أبلاني، الحمدُ للهِ الرزَّاقِ ذي القوةِ المتينِ، اللهُمَّ لا تَنْزِعُ مِنَّا صالحًا أعطيتَنَا ولا صالحًا رزقتنا، واجعلنا لكَ مِن الشَّاكرين».

 

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه إذا أكلَ قال: «الحمدُ للهِ الذي أطعمَ وسقَى وسوَّغَه وجعلَ له مَخْرَجًا»[42].

 

وكان عروةُ بنُ الزبيرِ إذا أُتِيَ بطعامٍ لم يزَل مُخمَّرًا حتى يقولَ هذه الكلماتِ: «الحمدُ للهِ الذي هدانا وأطعمنا وسقانا ونعَّمنا، اللهُ أكبرُ، اللهم ألْفَتْنا نعمتُك ونحنُ بكل شَرٍّ فأصبحنا وأمسينا بخيرٍ، نسألُ تمامَها وشكرَها، لا خيرَ إلَّا خيرُك، ولا إلهَ غيرُك، إِلهَ الصالحين وربَّ العالمين، الحمدُ للهِ، لا إله إلا اللهُ، ما شاءَ اللهُ، لا قوَّةَ إلا باللهِ، اللهم بارِك لنا فيما رزقْتَنا، وقِنا عذابَ النارِ».

 

وقال وهبُ بن مُنبّه: «رؤوس النِّعمِ ثلاثةٌ: فأوَّلها نعمةُ الإسلامِ التي لا تتمُّ نعمةٌ إلَّا بها، والثانيةُ العافيةُ التي لا تطيبُ الحياةُ إلَّا بها، والثالثةُ نِعمةُ الغِنى التي لا يتمُّ العيشُ إلا به».

 

ومَرَّ وهبٌ بمبتَلًى أعمى مجذومٍ مُقعدٍ عُريانٍ به وضَحٌ، وهو يقول: الحمدُ للهِ على نِعَمِه، فقال رجلٌ كان مع وهبٍ: أي شيء بَقِيَ عليك مِن النعمةِ تَحْمدُ اللهَ عليها؟ فقال له المبتلى: ارمِ ببصركِ إلى أهلِ المدينةِ، فانظرْ إلى كثرةِ أهلِها، أفلا أحمدُ اللهَ أنه ليس فيها أحدٌ يَعْرفُه غيري.

 

ويُذكَرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «إِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَحَمِدَهُ عِنْدَهَا فَقَدْ أَدَّى شُكْرَهَا».

 

وذكر عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ بختنصَر أَتى بدانيالَ، فأمرَ به فحُبِسَ في جُبٍّ، وأضرى[43] أسَدَين ثم خلَّى بينهما وبينه، ثم فتحَ عليه بعد خمسةِ أيامٍ فوجده قائمًا يُصلِّي والأسَدَانِ في ناحيةِ الجُبِّ لم يَعْرضا له.

 

فقال له: ما قلتَ حين دُفِعَ عنك؟

قال: قلتُ: «الحمدُ للهِ الذي لا يَنْسَى مَنْ ذكَرَه، والحمدُ للهِ الذي لا يُخيِّبُ مَنْ رجاه، والحمدُ للهِ الذي لا يَكِلُ مَنْ توكَّل عليه إلى غيرِه، والحمدُ للهِ الذي هو ثقتُنا حين تَنْقَطِعُ عنَّا الحِيَلُ، والحمدُ للهِ الذي هو رجاؤنا حين يسُوءُ ظنُّنا بأعمالِنا، والحمدُ للهِ الذي يَكْشِفُ عنَّا ضُرَّنا بَعْد كُرْبَتِنا، والحمدُ للهِ الذي يَجزي بالإحسانِ إحسانًا، والحمدُ للهِ الذي يَجزي بالصَّبرِ نجاةً».

 

وقال ابنُ سيرينَ: كان ابنُ عمرَ يُكْثِرُ النظرَ في المرآةِ، وتكونُ معه في الأسفارِ، فقلتُ له: ولم؟ قال: أَنظُر فما كان فيَّ وجهي من زينٌ وهو في وجهِ غيري شينٌ أحمدُ الله عليه.

 

وسئل أبو بكرِ بنِ أبي مريمَ: ما تمامُ النِّعمةِ؟ قال: «أَنْ تَضَعَ رِجْلًا على الصراط ورِجْلًا في الجَنَّةِ.

 

وقال بكرُ بنُ عبدِ اللهِ: يا ابنَ آدم، إنْ أردْتَ أن تعرفَ قَدْرَ ما أنعمَ اللهُ عليك فغمِّضْ عينيك.

 

وقال مقاتلٌ في قوله: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20]، قال: «أما الظاهرَةُ فالإسلامُ، وأما الباطنة فسترُه عليكم المعاصيَ».

 

وقال ابنُ شَوذَبَ: قال عبدُ اللهِ – يعني: ابنَ مسعودٍ رضي الله عنه: «إِنَّ للهِ على أهلِ النَّارِ مِنَّةً لو شاء أَنْ يُعذِّبَهم بأشدَّ منِ النَّارِ لعذَّبَهم».

 

وقال أبو سليمان الداراني: «جُلَساءُ الرَّحمنِ يومَ القيامةِ مَنْ جَعَلَ فيه خصالًا: الكرمُ، والسَّخاءُ، والحِلمُ، والرأفةُ، والرَّحمةُ، والشُّكرُ، والبِرُّ، والصبرُ».

 

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «مَنْ رأى صاحِبَ بلاءٍ فقال: الحمدُ للهِ الذي عافاني ممَّا ابتلاكَ به، وفضَّلني عليك وعلى جميعِ خَلْقِه تفضيلًا، فقد أدَّى شُكْرَ تلك النِّعمةِ».

 

وقال عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ: سمعتُ عبدَ الرحمنِ بنَ زيدٍ يقولُ: «الشكرُ يأخُذ بجِذْعِ الحمدِ وأصْلِه وفرْعِه، قال: يَنظرُ في نعمِ اللهِ: في بَدَنِه، وسَمْعِه، وبصرِه، ويديه، ورجليهِ، وغيرِ ذلك، ليس مِنْ هذا شيءٌ إلا فيه نعمةٌ مِن اللهِ، حقٌّ على العبدِ أن يَعملَ في النِّعمةِ التي في بَدَنِه للهِ في طاعتِه، ونعمةٍ أخرى في الرِّزقِ، وحقٌّ عليه أن يعملَ للهِ فيما أنعمَ عليه به مِنْ رِزقٍ بطاعته، فمَنْ عمِلَ بهذا كان قد أخَذ بجِذْعِ الشُّكرِ وأصْلِه وفرْعِه».

 

وقال كعبٌ: «ما أَنعَمَ اللهُ على عبدٍ مِن نعمةٍ في الدُّنيا، فشَكَرَها للهِ وتواضعَ بها للهِ، إلَّا أعطاهُ اللهُ نفْعَها في الدُّنيا، ورفعَ له بها في الأخرى، وما أَنعَمَ اللهُ على عبدٍ نعمةً في الدُّنيا فلم يشكُرْها للهِ ولم يتواضع بها، إلا عدمَه اللهُ نفْعَها في الدُّنيا، وفتحَ له طبقاتٍ مِن النارِ يُعَذِّبُه إِنْ شاءَ أو يتجاوزُ عنه».

 

وقال الحسنُ: «مَنْ لا يَرَى للهِ عليه نعمةً إلَّا في مَطْعمٍ أو مَشْربٍ أو لباسٍ، فقد قصر علمه وحضرَ عذابُه».

 

وقال الحسنُ يومًا لبكرٍ المُزَني: هاتِ يا أبا عبدِ اللهِ دعواتٍ لإخوانك، فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه، وصلَّى على النبيِّ، ثُمَّ قال: واللهِ ما أدري أيُّ النِّعْمَتَين أفضلُ عليَّ وعليكم: أَنِعْمةُ المسلَكِ أم نعمةُ المَخْرجِ إذا أخرجَهُ منا؟ قال الحسَنُ: إنها لمِنْ نعمةِ الطعامِ.

 

وقالت عائشةُ رضي الله عنها: «ما مِنْ عبدٍ يَشرَبُ الماءَ القَراحَ، فيَدْخلُ بغيرِ أذًى ويخرجُ بغيرِ أذًى، إلا وَجَبَ عليه الشُّكْرُ».

 

قال الحسَنُ: «يا لها من نعمةٍ تدخلُ كلَّ لذَّةٍ وتخرجُ مَسْرحًا، لقد كان مَلِكٌ مِن مُلوكِ هذه القريةِ يَرى الغلامَ مِنْ غِلمانِه يأتي الحَبَّ فيكتالُ منه ثُمَّ يُجرجِرُ قائمًا، فيقولُ: يا ليتَني مِثْلُكَ، ما يشربُ حتى يُقطعَ عنه العطشُ، فإذا شَرِبَ كان له في تلك الشَّربةِ موتاتٌ، يا لها مِنْ نِعْمَةٍ».

 

وكتبَ بعضُ العلماءِ إلى أَخٍ له: «أمَّا بَعْدُ؛ فقد أَصْبحَ بنا مِن نِعمِ اللهِ ما لا نُحْصيه مع كثرةِ ما نَعْصيهِ، فما نَدْري أيهما نشكُر: أجميلَ ما نَشَرَ، أم قبيحَ ما سَتَرَ».

 

وقِيلَ للحسنِ: ههنا رجلٌ لا يُجالسُ النَّاسَ، فجاءَ إليه فسألَهُ عن ذلِكَ فقال: إِنّي أُمسِي وأُصبِحُ بين ذنبٍ ونعمةٍ، فرأيتُ أَنْ أشغلَ نفسي عن النَّاسِ بالاستغفارِ من الذنبِ والشكرِ للهِ على نِعَمِه، فقال له الحسَنُ: أنت عندي يا عبدَ الله أفقهُ مِن الحسَنِ، فالزمْ ما أنتَ عليه.

 

وقال ابنُ المباركِ: سمعتُ عليَّ بنَ صالحٍ يقولُ في قولِه تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، قال: «أي: مِن طاعتِي».

 

والتَّحْقيقُ أنَّ الزيادة مِن النِّعمِ، وطاعتُه مِنْ أجلِّ نعمِه.

 

وذكر ابنُ أبي الدُّنيا أَنَّ محارِبَ بنَ دثارٍ كان يقومُ بالليلِ ويرفعُ صوتَهُ أحيانًا: «أنا الصغيرُ الذي ربَّيْتَهُ فلك الحمدُ، وأنا الضعيفُ الذي قوَّيته فلك الحمدُ، وأنا الفقيرُ الذي أغنيتَهُ فلك الحمدُ، وأنا الصُّعلوكُ الذي موَّلتَه فلك الحمدُ، وأنا العزَبُ الذي زوَّجتَهُ فلك الحمدُ، وأنا السَّاغِبُ الذي أشبَعْتَهُ فلك الحمدُ، وأنا العاري الذي كسَوْتَه فلك الحمدُ، وأنا المسافِرُ الذي صاحَبْتَهُ فلك الحمدُ، وأنا الغائِبُ الذي ردَدْتَه فلك الحمدُ، وأنا الراجِلُ الذي حملْتَهُ فلك الحمدُ، وأنا المريضُ الذي شفيتَهُ فلك الحمدُ، وأنا السائلُ الذي أعطيتَه فلك الحمدُ، وأنا الداعي الذي أجبْتَهُ فلك الحمدُ، ربَّنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا».

 

وكان بعضُ الخُطَباءِ يقولُ في خُطبتِه: «اختَطَّ لك الأنِفَ فأقامَهُ وأتمَّه فأحسَن تمامَهُ، ثم أدار منك الحدَقَة فجعلها بجفونٍ مُطبقةٍ، وبأشفارٍ مُعلَّقةٍ، ونقلك مِن طبقةٍ إلى طبقةٍ، وحنَّنَ عليك قلبَ الوالدين برقَّةٍ ومِقَةٍ، فنعمُه عليك مورِقَةٌ، وأياديه بك مُحْدِقَةٌ».

 

وكان بعضُ العلماءِ يقولُ في قولِه تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34]: «سُبحان مَنْ لم يجعلْ لحدِّ معرفةِ نعمِهِ إلا العِلمَ بالتقصيرِ عن معرفتِها، كما لم يجعلْ لحدِّ إدراكِه أكثرَ مِن العِلمِ أنَّه لا يُدرَكُ، فجعلَ معرِفَة نعمِه بالتقصيرِ عن معرفتِها شكرًا، كما شكرَ عِلمَ العالمينَ أنَّهم لا يُدرِكونه فجعلَه إيمانًا عِلمًا منه أَنَّ العبادَ لا يَتَجاوزون ذلك».

 

وقال ابنُ المباركِ: عن شبلٍ، عن أبي نُجيعٍ، عن مجاهدٍ في قولِه تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]، قال: «لم يأكلْ شيئًا إلا حَمِدَ اللهَ عليه، ولم يشرَبْ شَرابًا قطُّ إلا حَمِدَ اللهَ عليهِ، ولم يَبطشْ بشيءٍ قطُّ إلا حَمِدَ اللهَ عليه؛ فأثنى اللهُ عليه أَنَّه كان عبدًا شكورًا».

 

وقال محمد بنُ كعبٍ: «كان نوحٌ إذا أكلَ قال: الحمدُ للهِ، وإذا شَرِبَ قال: الحمدُ للهِ، وإذا لَبِسَ قال: الحمدُ للهِ، وإذا ركبَ قال: الحمدُ للهِ؛ فسمَّاه اللهُ عبدًا شكورًا».

 

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: بلَغَني عن بعضِ الحُكماءِ قال: «لو لم يُعَذِّبِ اللهُ على معصيتِه لكان ينبغي ألا يُعْصى لشكرِ نعمتِه».

 

وللهِ تبارك وتعالى على عبدِه نوعانِ مِن الحُقوقِ لا ينفكُّ عنهما:

أحدُهما: أمْرُه ونهْيُه اللذانِ هما محْضُ حقِّه عليه.

 

والثاني: شكْرُ نعمِه التي أَنعَمَ بها عليه، فهو سُبْحَانَهُ يُطالِبه بشكْرِ نعمِه، وبالقيامِ بأمرِه، فمشهدُ الواجبِ عليه لا يزالُ يشهدُه تقصيرَه وتفريطَه، وأنه مُحتاجٌ إلى عفْوِ اللهِ ومغفرتِه، فإِنْ لم يدَّارِكْهُ بذلك هَلَك، وكُلَّما كان أفقَهَ في دِينِ اللهِ كان شهودُه للواجبِ عليه أتمَّ وشهودُه لتقصيرِه أعظمَ، وليس الدِّينُ بمجرَّدِ ترْكِ المحرَّماتِ الظاهرةِ، بل بالقيامِ مع ذلك بالأوامرِ المحبوبةِ للهِ، وأكثرُ الدَّيَّانين لا يَعبؤون منها إلا بما شاركَهُم فيه عمومُ النَّاسِ، وأما الجهادُ، والأمرُ بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكرِ، والنصيحةُ للهِ ورسولِهِ وعبادِه، ونصرةُ اللهِ ورسولِهِ ودينِه وكتابِه، فهذه الواجباتُ لا تخطرُ ببالِهم، فضلًا عن أَنْ يريدوا فعْلَها، وفضلًا عن أَنْ يفعلوها، وأقلُّ الناسِ دينًا وأمقتُهم إلى اللهِ مَنْ تركَ هذه الواجباتِ، وإِنْ زهِدَ في الدُّنيا جميعِها، وقلَّ أَنْ ترى منهم مَنْ يُحمِّرُ وجهَه ويُمعِّرُه للهِ، ويغضبُ لحرماتِه، ويبذلُ عِرضَه في نُصرةِ دِينِه، وأصحابُ الكبائرِ أحسنُ حالًا عند اللهِ مِنْ هؤلاءِ.

 

وقد ذكرَ أبو عُمرَ وغيرُه: أَنَّ اللهَ تعالى أمَرَ ملكًا مِن الملائكةِ أَنْ يخسِفَ بقريةٍ، فقال: يا ربِّ إنَّ فيهم فلانًا العابدَ الزاهِدَ، قال: به فابدأْ، وأَسمِعني صوتَه، إِنَّه لم يتمعَّرْ وجهُه في يومٍ قَطُّ.

 

وأما شُهودُ النِّعمةِ، فإنه لا يَدعُ له رؤيةَ حسنةٍ مِن حسناتِه أصلًا، لو عمِلَ أعمالَ الثقلين، نِعَمُ اللهِ سُبْحَانَهُ أكثرُ مِن أعمالِه، وأدنى نعمةٍ مِن نعمِه تَسْتَنْفِدُ عملَهُ، فينبغي للعبدِ ألَّا يزال ينظرُ في حقِّ اللهِ عليه.

 

قال الإمامُ أحمدُ: حدَّثنا حجاجٌ، حدثنا جَرِيرُ بنُ حازمٍ، عن وَهْبٍ، قال: «بلَغَني أَنَّ نبيَّ اللهِ موسى؛ مرَّ برجُلٍ يدعو ويتضرَّعُ، فقال: يا ربِّ ارحمْه فإني قد رَحِمتُه، فأوحى اللهُ إليه: لو دعاني حتى تنقطعَ قُواه ما استُجيبَ له حتى ينظرَ في حقِّي عليه»، فمشاهدةُ العبدِ النعمةَ والواجبَ لا تدعُ له حسنةً يراها، ولا يزالُ مزريًا على نفسِه ذامًّا لها، وما أقربَهُ مِن الرَّحمةِ إذا أَعطى هذين المشهدين حقَّهما... واللهُ المستعانُ[44].

 

في الحُكمِ بين الفريقين، والفصلِ بين الطائفتين:

فيقولُ: كلُّ أمْرين طُلِبَتِ الموازنةُ بينهما، ومعرفةُ الراجحِ منهما على المرجوحِ فإِنَّ ذلك لا يُمكنُ إلا بعد معرفةِ كلٍّ منهما، وقد ذكرْنا حقيقةَ الصَّبرِ وأقسامَه وأنواعَه، ونذكرُ حقيقةَ الشُّكرِ وماهيتَهُ.

 

قال في الصِّحاحِ: الشُّكرُ الثناءُ على المُحسِنِ بما أَوْلَاكَهُ مِن المعروفِ، يُقال: شكرتُه وشكرتُ له، واللام أفصحُ، وقولُه تعالى: ﴿ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، ويحتملُ أَنْ يكونَ مصدرًا كالعُقودِ، وأنْ يكونَ جمعًا كالبُرودِ والكفُورِ، والشُّكرانُ خلافُ الكفرانِ، وتشكَّرْتُ له مثلُ شكرتُ له، والشَّكورُ مِن الدَّوابِّ ما يكفيه العلفُ القليلُ، واشتكَرَتِ السماءُ اشتدَّ وقْعُ مطرِها، واشتكَر الضَّرعُ امتلأ لبنًا، تقولُ منه: شكِرتِ النَّاقةُ بالكسرِ تشكرُ شكرًا فهي شِكرةٌ، وشكرتِ الشجرةُ تشكر شكرًا إذا خرج منها الشكِيرُ وهو ما ينبتُ حولَ الشجرةِ مِن أصلِها.

 

فتأمَّلْ هذا الاشتقاقَ، وطابِقْ بينه وبين الشُّكرِ المأمورِ به، وبين الشُّكرِ الذي هو جزاءُ الربِّ الشَّكورِ، كيف نجدُ في الجميعِ معنى الزيادةِ والنماءِ، ويُقالُ أيضًا: دابَّةٌ شكورٌ إذا أظهرَتْ مِن السِّمَنِ فوقَ ما تُعطَى مِن العَلَفِ.

 

وشُكرُ العبدِ يدورُ على ثلاثةِ أركانٍ، لا يكُونُ شَكورًا إلا بمجموعِها:

أحدُها: اعترافُه بنعمةِ اللهِ عليه.

والثاني: الثَّناءُ عليه بها.

والثالث: الاستعانةُ بها على مرضَاتِهِ.

 

وأما قولُ النَّاسِ في الشُّكرِ، فقالت طائفةٌ: هو الاعترافُ بنعمةِ المُنعِمِ على وجهِ الخُضوعِ، وقيل: الشكرُ هو الثناءُ على المُحسِنِ بذكْرِ إحسانِه إليه، فشكْرُ العبدِ ثناؤه عليه بذكْرِ إحسانِه إليه.

 

وقِيلَ: شُكْر النعمةِ مشاهدةُ المِنَّةِ وحفظُ الحُرْمَةِ والقيامُ بالخِدْمةِ.

 

وقِيلَ: شكْرُ النِّعمةِ أَنْ تَرى نفسَك فيها طفيليًّا، وقِيلَ: الشُّكرُ معرفةُ العَجْزِ عن الشُّكْرِ، ويُقال: الشُّكْرُ على الشكْرِ أتمُّ مِنَ الشُّكْرِ، وذلك أن ترى شكْرَك بتوفيقِه، وذلك التوفيقُ مِن أجلِّ النِّعمِ عليك، وتشكرُ على الشكْرِ، ثُمَّ تشكرُه على الشُّكْرِ، ألَّا ترى نفسَك للنعمةِ أهلًا، وقِيلَ: الشكرُ استفراغُ الطاقةِ في الطاعةِ.

 

وقِيلَ: الشاكِرُ الذي يشكرُ على الموجودِ، والشَّكور الذي يشكر على المفقودِ.

 

وقِيلَ: الشاكِرُ الذي يشكرُ على الرَّفْدِ، والشَّكور الذي يشكر على الرَّدِّ.

 

وقِيلَ: الشاكِرُ الذي يشكرُ على النَّفعِ، والشَّكور الذي يشكر على المَنْعِ.

 

وقِيلَ: الشاكِرُ الذي يشكرُ على العطاءِ، والشكور الذي يشكرُ على البلاءِ.

 

وقال الجُنيدُ: كنتُ بين يدي السَّري ألعبُ وأنا ابنُ سبعِ سنينَ، وبينهما جماعةٌ يتكلَّمون في الشّكرِ، فقال لي: يا غلامُ، ما الشكرُ؟ فقلتُ: ألَّا تعصي الله بنعمِه، فقال: يوشكُ أَنْ يكونَ حظُّك مِن اللهِ لسانَك، فلا أزالُ أبكي على هذهِ الكلمةِ التي قالها السريُّ.

 

وقال الشِّبلي: الشكْرُ رؤيةُ المُنعِمِ لا رؤيةُ النِّعمِ، وهذا ليس بجيِّدٍ بل مِن تمامِ الشُّكْرِ أَنْ تشهَدَ النِّعمةَ مِن النِّعمِ.

 

وقِيلَ: الشكرُ قيدُ الموجودِ وصيدُ المفقودِ.

 

وقال أبو عثمان: شكْرُ العامَّةِ على المَطْعَمِ والمَلْبَسِ، وشُكرُ الخواصِّ على ما يَرِدُ على قلوبِهم مِن المعاني.

 

وحبسَ السلطانُ رجُلًا، فأرسلَ إليه صاحبُه اشكُرِ اللهَ، فضُرِبَ، فأرسلَ إليه اشكُرِ اللهَ، فجيءَ بمحبوسٍ مجوسيٍّ مبطونٍ، فقُيِّدَ، وجُعِلَ حلقةٌ مِن قيدِه في رجلِه، وحلقةٌ في الرَّجُلِ المذكورِ، فكان المجوسيُّ يقوم بالليلِ مراتٍ، فيحتاجُ الرَّجُلُ أن يقفَ على رأسِهِ حتى يفرغَ، فكتب إليه صاحبُه اشكُرِ اللهَ، فقال له: إلى متي تقولُ: اشكُرِ اللهَ؟ وأيُّ بلاءٍ فوقَ هذا؟ فقال: لو وُضِعَ الزِّنارُ الذي في وسطِه في وَسطِك كما وُضِعَ القيدُ الذي في رِجْلِه في رِجْلِك ماذا كنتَ تصنعُ؟ فاشكرِ اللهَ.

 

ودخل رَجُلٌ على سهلِ بنِ عبدِ اللهِ، فقال: اللِّصُّ دخَل داري وأخذَ متاعي، فقال: اشكُرِ اللهَ، فلو دخل اللِّصُّ قلبك - وهو الشيطانُ - وأفسدَ عليك التوحيدَ، ماذا كنتَ تصنعُ؟

 

وقِيلَ: الشُّكرُ التلذُّذُ بثنائهِ على ما لم يَستَوجِبْهُ مِن عطائِه.

 

وقِيلَ: إذا قصُرَتْ يدُك عن المكافأةِ فليَطُلْ لِسانُكَ بالشُّكرِ.

 

وقِيلَ: أربعةٌ لا ثمرةَ لهم: مُشاورةُ الأصمِّ، ووضعُ النِّعمةِ عند مَنْ لا يشكرُها، والبَذْرُ في السِّباخِ، والسِّراجُ في الشمسِ.

 

والشكرُ يتعلَّقُ بالقلبِ واللسانِ والجوارحِ، فالقلبُ للمعرفةِ والمحبَّةِ، واللسانُ للثناءِ والحمدِ، والجوارحُ لاستعمالِها في طاعةِ المشكورِ وكفِّها عن معاصيه.

 

وقال الشَّاعِرُ:

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً
يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ المُحَجَّبَا

والشُّكرُ أخصُّ بالأفعالِ، والحمدُ أخصُّ بالأقوالِ، وسببُ الحَمْدِ أعمُّ مِن سَببِ الشُّكْرِ.

 

ومُتَعلَّقُ الشُّكْرِ وما به الشُّكرُ أعمُّ مما به الحمدُ، فما يُحمَدُ الربُّ تعالى عليه أعمُّ مما يُشكرُ عليه، فإنه يُحمَدُ على أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه ونِعَمِهِ، ويُشكَرُ على نِعَمِهِ، وما يُحمَدُ به أخصُّ مما يُشكرُ به، فإنَّه يُشكرُ بالقلبِ واللسانِ والجوارحِ ويُحمَدُ بالقلبِ واللسانِ.

 

إذا عُرِفَ هذا، فكلٌّ مِنَ الصَّبرِ والشُّكْرِ داخِلٌ في حقيقةِ الآخرِ، ولا يُمكِنُ وجودُه إلا به، وإنما يُعبَّرُ عن أحدِهما باسمِه الخاصِّ بِهِ باعتبارِ الأغلبِ عليه والأظهرِ منه، وإلا فحقيقةُ الشُّكرِ إنما يلتئِمُ مِن الصَّبرِ والإرادةِ والفعلِ، فإِنَّ الشُّكْرَ هو العملُ بطاعَةِ اللهِ وترْكُ معصيَتِه، والصبرُ أصلُ ذلك، فالصَّبرُ على الطاعةِ وعن المعصيةِ هو عينُ الشُّكرِ، وإذا كان الصَّبرُ مأمورًا به، فأداؤُه هو الشُّكْرُ.

 

فإِنْ قِيلَ: فهذا يُفهَمُ منه اتحادُ الصَّبرِ والشكرِ، وإنهما لمسمَّى واحدٍ وهذا مُحالٌ عقلًا ولغةً وعُرفًا، وقد فَرَّقَ اللهُ سُبْحَانَهُ بينهما.

 

قِيلَ: بل هما معنيانِ مُتغايرانِ، وإنَّما بيَّنَّا تلازمَهما وافتقارَ كلِّ واحدٍ منهما في وجودِ ماهيتِه إلى الآخرِ، ومتى تجرَّد الشكرُ عن الصَّبرِ بطلَ كونُه شُكرًا، وإذا تجرَّدَ الشُّكرُ عن الصَّبرِ بطلَ كونُه صبرًا، أما الأوَّلُ فظاهرٌ، وأما الثاني إذا تجرَّدَ عن الشُّكْرِ كان كُفورًا، ومنافاةُ الكُفورِ للصَّبرِ أعظمُ مِن منافاةِ السّخُوطِ.

 

فإِنْ قِيلَ: بل ههنا قسمٌ آخرُ، وهو ألا يكونَ كَفورًا ولا شَكورًا، بل صابرًا على مَضَضٍ وكراهةٍ شديدةٍ، فلم يأتِ بحقيقةِ الشُّكْرِ، ولم يخرُجْ عن ماهيةِ الصَّبْرِ.

 

قِيلَ: كلامُنا في الصَّبرِ المأمورِ به الذي هو طاعةٌ، ولا في الصَّبرِ الذي هو تجلُّدٌ كصبرِ البهائمِ، وصبرُ الطاعةِ لا يأتي به إلا شاكِرٌ، ولكن اندرَج شُكرُه في صبرِه فكان الحكمُ للصَّبرِ، كما اندرجَ صبرُ الشُّكورِ في شكرِه، فكان الحكمُ للشُّكرِ، فمقاماتُ الإيمانِ لا تُعدمُ بالتنقُّلِ فيها، بل تندرِجُ ويَنطوي الأدنى في الأعلى، كما يَندرِجُ الإيمانُ في الإحسانِ، وكما يَندرِجُ الصَّبرُ في مقاماتِ الرِّضا لا أَنَّ الصبرَ يزولُ، ويندرِجُ الرِّضا في التفويضِ، ويندرِجُ الخوفُ والرَّجاءُ في الحُبِّ لا أنهما يزولانِ، فالمقدورُ الواحدُ يتعلَّقُ به الشكرُ والصبرُ، سواء كان محبوبًا أو مكروهًا، فالفقرُ مثلًا يتعلَّقُ به الصَّبرُ، وهو أخصُّ به لما فيه مِن الكراهَةِ، ويتعلَّقُ به الشُّكرُ لما فيه مِن النِّعمَةِ، فمَنْ غلبَ شُهودُ نعمتِه وتلذَّذَ به واستراحَ واطمأنَّ إليه عدَّه نعمةً يشكرُ اللهَ، ومَنْ غلبَ شُهودُ ما فيه مِنَ الابتلاءِ والضِّيقِ والحاجةِ عدَّه بليةً يصبرُ عليها، وعكسُه الغِنى.

 

على أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ابتلى العبادَ بالنِّعمِ كما ابتلاهم بالمصائبِ، وعدَّ ذلك كلَّه ابتلاءً.

 

فقال: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35].

 

وقال: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15، 16].

 

وقال: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7].

 

وقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].

 

وقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7].

 

فأَخبَرَ سُبْحَانَهُ أنَّه خَلَقَ العالمَ العُلويَّ والسُّفليَّ، وقدَّرَ أجَلَ الخَلْقِ، وخلَقَ ما على الأرضِ، للابتلاءِ والاختبارِ، وهذا الابتلاءُ إنما هو ابتلاءُ صبْرِ العبادِ وشكْرِهم في الخيرِ والشَّرِّ والسرَّاءِ والضرَّاءِ، فالابتلاءُ مِن النِّعمِ مِنَ الغنى والعافيةِ والجاهِ والقُدرةِ وتأتِّي الأسبابِ أعظمُ الابتلاءين، والصبرُ على طاعةِ اللهِ أشقُّ الصَّبرين، كما قال الصحابةُ رضي الله عنهم: ابتُلِينا بالضرَّاءِ فصبَرْنا، وابتُلينا بالسرَّاءِ فلم نصبِرْ، والنعمةُ بالفقرِ والمرضِ وقبضِ الدُّنيا وأسبابِها وأذى الخَلْقِ، وقد يكُونُ أعظمَ النعمتين، وفرضُ الشكرِ عليها أوجبُ مِن الشكْرِ على أضدَادِها.

 

فالربُّ تعالى يَبتلي بنِعمِه، ويُنعِمُ بابتلائِه، غيرَ أَنَّ الصبرَ والشُّكْرَ حالتانِ لازمتانِ للعبدِ في أمْرِ الربِّ ونهْيِه وقضائِه وقدَرِهِ، لا يستغني عنهما طرفةَ عينٍ.

 

والسؤالُ عن أيِّهما أفضلُ، كالسؤالِ عن الحسِّ والحركةِ أيُّهما أفضلُ، وعن الطعامِ والشرابِ أيُّهما أفضلُ، وعن خوفِ العبدِ ورجائِه أيُّهما أفضلُ، فالمأمورُ به لا يُؤدَّى إلا بصبرٍ وشُكرٍ، والمحظورُ لا يُترك إلا بصبرٍ وشُكرٍ، وأما المَقدورُ الذي يُقدَّرُ على العبدِ مِن المصائبِ، فمتى صَبَرَ عليه اندرجَ شكرُه في صبرِه، كما يندرِجُ صبرُ الشَّاكِرِ في شكْرِه.

 

ومما يوضِّحُ هذا أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ امتَحَنَ العبدَ بنفسِه وهواه، وأوجبَ عليه جهادَهُما في اللهِ، فهو في كلِّ وقتٍ في مجاهدةِ نفسِه حتى تأتيَ بالشُّكْرِ المأمورِ به، ويصبِرُ عَنِ الهوى المنهيِّ عن طاعتِه، فلا ينفكُّ العبدُ عنهما غنيًّا كان أو فقيرًا، معافًى أو مُبتَلًى.

 

وهذه هي مسألَةُ الغنيِّ الشَّاكِر والفقيرِ الصابرِ أيُّهما أفضلُ؟ وللناسِ فيها ثلاثةُ أقوالٍ، وهي التي حكاها أبو الفرَجِ بنُ الجوزي وغيرُه في عمومِ الصَّبرِ والشُّكْرِ، أيُّهما أفضلُ، وقد احتجَّتْ كلُّ فرْقةٍ بحُجَجٍ وأدلَّةٍ على قولِها.

 

والتحقيقُ أَنْ يُقالَ: أفضلُهما أتقاهما للهِ تعالى، فإنْ فُرِضَ استواؤُهما في التقوى استوَيا في الفضلِ، فإنَّ الله سُبْحَانَهُ لم يُفضِّلْ بين الفقرِ والغِنى، كما لم يُفضِّلْ بالعافيةِ والبلاءِ، وإنما فضَّلَ بالتقوى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].

 

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ»[45].

 

والتقوى مبنيَّةٌ على أصْلَين: الصَّبرُ والشُّكْرُ، وكلٌّ مِنَ الغَنِيِّ والفقيرِ لا بُدَّ له منهما، فمَنْ كان صبرُه وشكرُه أتمَّ كان أفضلَ[46].



[1] أخرجه البخاري (6099) في الأدب، باب: الصبر على الأذى، ومسلم (2804) في صفات المنافقين، باب: لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

[2] صحيح: وقد تقدَّم قبل قليل.

[3] لم أجده.

[4] صحيح: وقد تقدَّم.

[5] صحيح: وقد تقدَّم وهو بالمعنى هنا.

[6] صحيح: وقد تقدَّم، وهو لفظ الحديث السابق.

[7] صحيح: أخرجه ابن ماجه (3792) في الأدب، باب: فضل الذكْر، وأحمد في مسنده (2/ 540)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (1906): «صحيح».

[8] صحيح: وقد تقدَّم.

[9] حسَن: أخرجه الترمذي (3010)، وأحمد (14467) بسند حسَن، وقال الترمذي: حسَن غريب.

[10] صحيح: أخرجه الترمذي (2472) في صفة القيامة، باب: (15)، وابن ماجه (151) في المقدِّمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده (3/ 120، 286)، وابن حبان في صحيحه (6560) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (5125): صحيح.

[11] لعلَّه يُشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (1905) في الإمارة، باب: مَن قاتَلَ للرِّياء والسُّمعة استحقَّ النار، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[12] هو والد جابر، صاحب الحديث السابق.

[13] حسَن: وهو يُشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود (4547) في الديات، باب: في دية الخطأ شبه العمد، و (4588)، باب: دية الخطأ شبه العمد، مِن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الألباني في صحيح سُنن أبي داود: «حسن» اهـ، وفي الباب عن غيره.

[14] أخرجه البخاري (2365) في المساقاة، باب: فضل سقي الماء، ومسلم (2242) في السلام، باب: تحريم قتْل الهرَّة، وفي البِرِّ والصِّلة، مِن حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[15] عدة الصابرين (ص: 65).

[16] صحيح: أخرجه الترمذي (2486) في صفة القيامة، باب: رقم (15)، وابن ماجه (1764) في الصيام، باب: فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، وأحمد في مسنده (2/ 283، 289)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (3942): «صحيح».

[17] حسَن: أخرجه ابن ماجه (3375) في الشربة، باب: مدمن الخمر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح سُنن ابن ماجه: «حسَن».

[18] أخرجه البخاري (1904) في الصوم، باب: هل يقول: إني صائم إذا شُتم، ومسلم (1151) في الصيام، باب: فضل الصيام، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[19] صحيح: أخرجه النسائي (4/ 165) في الصيام، باب: ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، مِن حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح سُنن النسائي: «صحيح».

[20] أخرجه البخاري (1894) في الصوم، باب: فضل الصوم، ومسلم (1151) في الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم، وفي باب: فضل الصيام، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[21] صحيح: أخرجه البخاري (1903) في الصوم، باب: مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّور، والعمل به في الصوم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[22] صحيح: أخرجه مسلم (1826) في الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[23] صحيح: وقد تقدَّم.

[24] أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819).

[25] صحيح: أخرجه أبو داود (1522) في الصلاة، باب: في الاستغفار، والنسائي (3/ 53) في السهو، باب: نوع آخر مِن الدعاء، وقال الألباني في صحيح سُنن أبي داود: «صحيح، وهو ليس عند الترمذي، كما قال المصنف رحمه الله».

[26] أخرجه مسلم (2734) في الذكْر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، مِن حديث أنس رضي الله عنه.

[27] صحيح: وقد تقدَّم، وانظر ما بعده.

[28] حسَن: أخرج طرفَهُ الأول النسائي (5/ 79) في الزكاة، باب: الاحتيال في الصدقة، وابن ماجه (3605) في اللباس، باب: البسْ ما شئتَ ما أخطأك سرَف أو مخيلة، وبتمامه عند أحمد في مسنده (2/ 181، 182)، والحاكم في مستدركه (4/ 150)، وقال الألباني في صحيح سُنن النسائي: حسَن.

[29] صحيح: وقد تقدَّم.

[30] أخرجه البخاري (29) في الإيمان، باب: كفران العشير، وكفر بعد كفر، ومسلم (884) في أوَّل كتاب العيدين، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[31] حسَن: أخرجه الترمذي (3291) في التفسير، باب: ومن سورة الرحمن، وقال الألباني في صحيح سُنن الترمذي: حسَن.

[32] ذكره المتَّقي الهندي في كنز العمال (15/ 40850) ونسبه للنسائي، وابن ماجه، وابن السني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي، قلتُ: الذي عند ابن ماجه (3283) مختصرًا عن هذا، وعن أبي سعيد، وليس أبو هريرة رضي الله عنه.

[33] أخرجه البيهقي، وابن عساكر، عن ابن عباس، كما في كنز العمال (15/ 43467).

[34] مرسل: فالحسَن، هو البصري، تابعيٌّ مشهور.

[35] لم أجده هكذا، لكن في صحيح مسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللِه عَلَيْكُمْ».

[36] أخرجه أحمد في مسنده (1/ 191) بسند حسَن.

[37] صحيح: أخرجه البخاري (5673) في المرضى، باب: تمنِّي المريض الموت، ومسلم (2816) في صفة القيامة، باب: لن يَدخل أحدٌ الجَنَّةَ بعَمله، بل برحمة الله تعالى، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[38] تقدَّمَ.

[39] حسَن صحيح: أخرجه الترمذي (3558) في الدَّعوات، باب: رقم (118)، وأحمد في مسنده (1/ 7)، وقال الألباني في صحيح سُنن الترمذي: حسَن صحيح.

[40] أخرجه أحمد في مسنده (1/ 209)، والترمذي (3514) وقال: هذا حديث صحيح.

[41] صحيح: أخرجه مسلم (2688) في الذكْر والدُّعاء، باب: كراهة الدُّعاء بتعجيل العقوبة في الدُّنيا.

[42] صحيح: أخرجه أبو داود (3851) في الأطعمة، باب: ما يقول الرجُل إذا طعِم، وقال الألباني في صحيح الجامع (4681): صحيح.

[43] أي: جَوَّع.

[44] عدة الصابرين (ص: 144).

[45] رجاله رجال الصحيح، أخرجه أحمد في مسنده (5/ 411) عن أبي نضرة، عمَّن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الهيثمي في المجمع (3/ 269): «رجاله رجال الصحيح».

[46] عدة الصابرين (ص: 188).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • معاني أسماء الله الحسنى: {العظيم، الملك، المالك، المليك، مالك الملك}
  • معاني أسماء الله: القدوس، السبوح، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز
  • معاني أسماء الله الحسنى: الجبار، المتكبر، العليم، السميع، البصير، القادر
  • معاني أسماء الله: القوي، المتين، القاهر، القهار، القريب، الوارث

مختارات من الشبكة

  • مخطوطة كشف المعاني في شرح حرز المعاني(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • المعاني المهملة في بعض شواهد علم المعاني(مقالة - حضارة الكلمة)
  • شرح مائة المعاني والبيان (علم المعاني - أحوال الإسناد الخبري)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة كشف معاني البديع في بيان مشكلات المعاني(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • اختلاق الأوجه والمعاني في كتب حروف المعاني (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شرح أسماء الله الحسنى أو (إعلام اللبيبة الحسنا بمعاني أسماء الله الحسنى) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • علوم ضمنها زيني زاده في كتاب الفوائد الشافية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الحمل على المعنى في اللغة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • معاني أسماء الله الحسنى: الحليم، الرؤوف، اللطيف، المجيد(مقالة - آفاق الشريعة)
  • معاني أسماء الله الحسنى ومقتضاها (الحليم)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب