• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / عقيدة وتوحيد
علامة باركود

القادر - القدير - المقتدر جل جلاله، وتقدست أسماؤه

القادر - القدير - المقتدر جل جلاله، وتقدست أسماؤه
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 11/2/2024 ميلادي - 1/8/1445 هجري

الزيارات: 4003

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الْقَادِرُ - الْقَدِيرُ - الْمُقْتَدِرُ

جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ


 

الدِّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (القَادِرِ):

القَادِرُ في اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَدَرَ يَقْدِرُ فَهُوَ قَادِرٌ، يُقَالُ: قَدَرْتُ الأَمْرَ أقْدُرُهُ وأُقَدِّرُه إذا نَظَرْتَ فِيه ودَبَّرْتَه.

وَقدْرُ كُلِّ شَيْءٍ وَمِقْدَارُه مِقْيَاسُهُ، وقَدَرَ الشَّيْءَ بالشَّيْءِ وقَدَّرَهُ قَاسَهُ.

 

والتَّقْدِيرُ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ المعَانِي، أَحَدِها: التَّرْوِيَةُ والتَّفْكِيرُ في تَسْوِيَةِ أَمْرٍ وَتَهْيِئَتِهِ، والثَّانِي: تَقْدِيرُهُ بِعَلَامَاتٍ يَقْطَعُهُ عليها، والثَّالِثِ: أَنْ تَنْوِيَ أَمْرًا بِعَقْدِكَ تَقُولُ: قَدَّرْتُ أَمْرَ كذا وكذا أَيْ نَوَيْتُه وعَقدْتُ عَلَيهِ، ويُقَالُ: قَدَرْتُ لأَمْرِ كذا أَقَدِرُ لَه إِذا نَظَرْتَ فيه ودَبَّرْتَه وقَايَسْتَه[1].

 

والقَادِرُ سبحانه وتعالى هُوَ الذِي يُقَدِّرُ المقَادِيرَ في عِلْمِهِ، وعِلْمُهُ المرتبةُ الأُولَى مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فاللهُ عز وجل قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ تَصْنِيعِهِ وتَكوِينِهِ، ونَظَّمَ أُمُورَ الخَلْقِ قَبْلَ إيجادِهِ وإمْدَادِهِ، ثُمَّ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ هَذِهِ الَمعْلُومَاتِ وَدَوَّنَها بالقَلَمِ فِي كَلِمَاتٍ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مَهْمَا عَظُمَ شَأْنُهُ أَوْ قَلَّ حَجْمُهُ كَتَبَ اللهُ مَا يَخُصُّهُ في اللَّوْحِ المحْفُوظِ، ثُمَّ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وقُدْرَتِهِ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ وَاقِعًا عَلَى مَا سَبَقَ فِي تَقْدِيرِه، ولذلكَ فَإِنَّ القَدَرَ عِنْدَ السَّلَفِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْدِيرِ والقُدْرَةِ، فَبِدَايَتُه فِي التَّقْدِيرِ وهو عِلْمُ حِسَابِ المقَادِيرِ، أو العِلْمِ الجَامِعِ التَّامِّ لحِسَابِ النِّظَامِ العَامِ الذي يَسيرُ عليه الكونُ مِنْ بِدَايَتِهِ إلى نِهَايَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21].

 

وَقَالَ أَيْضًا: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].

 

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرِوٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»[2]، وفي رواية الترمذي: «قَدَّرَ اللهُ الَمَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ»[3].

 

فالقَادِرُ هُوَ الذِي قَدَّرَ المقَادِيرَ قَبْلَ الخَلْقِ والتَّصْوِيرِ، والقَادِرُ دِلَالتُه تَتَوَجَّهُ إلى المرتبةِ الأولَى مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ، وهي العِلْمُ والتَّقْدِيرُ وإِمْكَانِيَّةُ تَحْقِيقِ الُمقَدَّرِ، ولذلكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس: 81].

 

وَقَالَ سُبْحَانَهُ أَيْضًا: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ [المعارج: 40، 41]، فالآياتُ تَتَعَلَّقُ بإمْكَانِيَّةِ تَحْقِيقِ المقَدَّرِ.

 

وقَالَ أيضًا: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 95].

 

الدِّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (القَدِيرِ):

القَدِيرُ في اللُّغَةِ مِنْ صِيَغِ المبَالَغَةِ، فَعِيل مِنْ القَادِرِ، فِعْلُهُ قَدَّرَ يُقَدِّرُ تَقْدِيرًا.

 

قال ابنُ مَنْظُورٍ: «القَادِرُ والقَدِيرُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ عز وجل يَكُونَانِ مِنَ القُدْرَةِ وَيَكُونَانِ مِنَ التَّقْدِيرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148] مِنَ القُدْرَةِ، فاللهُ عز وجل عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، واللهُ سُبْحَانَهُ مُقَدِّرُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَاضِيهُ»[4].

 

قَالَ ابنُ الأثيرِ: «في أسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى القَادِرُ والُمقْتَدِرُ والقَدِيرُ، فالقَادِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَدَرَ يَقْدِرُ، والقَدِيرُ فَعِيلٌ مِنْهُ، وَهُوَ للمُبَالَغَةِ، والمقْتَدِرُ مُفْتَعِلٌ مِنِ اقْتَدَرَ، وَهُوَ أَبْلَغُ»[5].

 

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: «القَدِيرُ أَبْلَغُ فِي الوَصْفِ مِنَ القَادِرِ؛ لأَنَّ القَادِرَ اسْمُ الفَاعِلِ مِنْ قَدَرَ يَقْدِرُ فَهُوَ قَادِرٌ، وَقَدِيرٌ فَعِيلٌ، وَفَعِيلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ المبَالَغَةِ»[6].

 

والقَدِيرُ سبحانه وتعالى هُوَ الذِي يَتَوَلَّى تَنْفِيذَ المقَادِيرِ، ويَخْلُقُهَا عَلَى ما جَاءَ في سَابِقِ التَّقْدِيرِ؛ فَمَرَاتِبُ القَدَرِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: العِلْمُ والكِتَابَةُ والمشِيئَةُ والخَلْقُ، والمقْصُودُ بهذِهِ المرَاتِبِ المراحِل التي يَمُرُّ بها المخْلُوقُ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومَةٌ فِي عِلْمِ اللهِ في الأزلِ إلى الوَاقِعِ المشهودِ، وهذه المراحلُ تُسَمَّى عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مَرَاتِبَ القَدَرِ، فَلا بُدَّ لخَلْقِ الشَّيْءِ وصِنَاعَتِهِ مِنَ العِلْمِ والكِتَابَةِ والمشِيئَةِ ومُبَاشَرَةِ التَّصْنِيعِ والفِعْلِ، وللهِ الَمثَلُ الأَعْلَى إذا كَانَ الُمصَنِّعُ الذي يُشَيِّدُ البُنْيَانَ لا بُدَّ أَنْ يَبْدَأَ مَشْرُوعَهُ أَوَّلًا بِفِكْرَةٍ فِي الأذْهَانِ، ومَعْلُومَاتٍ مَدْرُوسَةٍ بِدِقَّةٍ وَإِتْقَانٍ، دَرَسَها جَيِّدًا وَقَامَ بِتَقْدِيرِ حِسَابَاتِهِ، وضَبْطِ أُمُورِهِ وإِمْكَانِيَّاتِهِ، ثُمَّ يَقُوُمُ بِكِتَابَةِ هَذِهِ المعْلُومَاتِ، ويَخُطُّ لها في بِضْعِ وَرَقَاتٍ، أَنْوَاعًا مِنَ الرُّسُومَاتِ، التي يُمْكِنُ أَنْ يُخَاطِبَ مِنْ خِلَالِها مُخْتَلَفِ الجِهَاتِ، ثُمَّ يَتَوَقَّفُ الأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَتِهِ أَوْ إِرَادَتِهِ فِي التَّنْفِيذِ، وتَوْقِيتِ الفِعْلِ إِنْ تَوَفَّرَتْ لَدَيْهِ القُدْرَةُ والإمْكَانِيَّاتُ، ثُمَّ يَبْدَأُ فِي التَّنْفِيذِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ البُنْيَانُ، كَمَا قَدَّرَ لَهُ فِي الأَذْهَانِ، فإذا كَانَتْ هَذِهِ مَرَاحِلَ تَصْنِيعِ الأشْيَاءِ بَيْنَ المخْلُوقَاتِ بِحُكْمِ العَقْلِ والفِطْرَةِ، فاللهُ سُبْحَانَهُ وله المثَلُ الأَعْلَى مُنْفَرِدٌ بِمَرَاتِبِ القَضَاءِ والقَدَرِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وهي عِنْدَ السَّلَفِ الَمرَاحِلُ التي يَمُرُّ بِهَا المخْلُوقُ مِنَ العِلْمِ الأَزَلِي إلى أَنْ يُصْبِحَ وَاقِعًا مَخْلُوقًا مَشْهُودًا، أَوْ مِنَ التَّقْدِيرِ إلى المقْدُورِ، وهي عندهم أَرْبَعُ مَرَاتِبَ تَشْمَلُ كُلَّ صَغِيرَةٍ وكَبِيرَةٍ فِي الوُجُودِ[7].

 

فالقَادِرُ سُبْحَانَهُ هو الذِي يُقَدِّرُ المقَادِيرَ في عِلْمِهِ، وعِلْمُهُ المرْتَبَةُ الأُولَى مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، حَيْثُ قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ تَصْنِيعِهِ وتَكْوِينِهِ، ونَظَّمَ أُمُورَ الخَلْقِ قَبْلَ إيجَادِهِ وإمْدَادِهِ، فالقَادِرُ يَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيرِ فِي المرْتَبَةِ الأُولَى، أَمَّا القَدِيرُ فَيَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ وتنفيذ المقَدَّرِ في المرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ، فالقَدِيرُ هو الذِي يَخْلُقُ وِفْقَ سَابِقِ التَّقْدِيرِ، والقَدَرُ مِنَ التَّقْدِيرِ والقُدْرَةِ مَعًا، فَبِدَايَتُهُ في التَّقْدِيرِ وَنِهَايَتُهُ فِي القُدْرَةِ وتَحْقِيقِ المقَدَّرِ، ولذلك يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38]، فالقَدِيرُ هو المتَّصِفُ بالقُدْرَةِ.

 

وَيَذْكُرُ ابنُ القَيِّم أَنَّ القَضَاءَ والقَدَرَ مَنْشَؤُهُ عَنْ عِلْمِ الرَّبِّ وقُدْرَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الإِمَامُ أحمدُ: «القَدَرُ قُدْرَةُ اللهِ»[8]، واسْتَحْسَنَ ابنُ عَقيلٍ هذا الكلامَ مِنَ الإمَامِ أَحْمَدَ غَايَةَ الاسْتِحْسَانِ، ولهذا كَانَ المنْكِرُونَ للقَدَرِ فِرْقَتَينِ: فِرْقَةً كَذَّبَتْ بالعِلْمِ السَّابِقِ وَنَفَتْهُ، وَهُمْ غُلَاتُهم الذِين كَفَّرَهُمُ السَّلَفُ والأئِمَةُ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُمُ الصَّحَابَةُ، وفِرْقَةً جَحَدَتْ كَمَالَ القُدْرَةِ، وَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ العِبَادَةِ مَقْدُورَةٍ للهِ تَعَالَى، وَصَرَّحَتْ بِأَنَّ اللهَ لا يَقْدِرُ عَلَيْهَا ولا يَخْلُقُها، فَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ كَمَالَ قُدْرَةِ الرَّبِّ وَتَوْحِيدِهِ في اسْمِهِ القَدِيرِ، وأَنْكَرَتِ الأُخْرَى كَمَالَ عِلْمِهِ وَتَوْحِيدِهِ في اسْمِهِ القَادِرِ[9].

 

الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الأَسْمَاءِ[10]:

قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: «(القَدِيرُ) أَبْلَغُ في الوَصْفِ بالقُدْرَةِ مِنْ القَادِرِ؛ لأَنَّ القَادِرُ اسْمُ الفَاعِلِ مِنْ: قَدَرَ يَقْدِرُ فَهُوَ قَادِرٌ، وَ (قَدِيرٌ): فَعِيلٌ، وَفَعِيلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ الُمبَالَغَةِ، وَأَكْثُرُ مَا يَجِيءُ (فَعِيلٌ) اسْمَ الفَاعِلِ مِـمَّا كَانَ فِعْلُهُ عَلَى فِعْلٍ غَيْرِ مُتَعدٍّ، نَحْوَ: ظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ، وَشَرُفَ فهو شَرِيفٌ، يُرادُ بِذَلِكَ الُمبَالَغَةُ فِي الوَصْفِ بالظُّرْفِ والشَّرَفِ، وكذلك جَمِيعُ مَا جَاءَ عَلَى (فَعِيلٍ) إِنَّمَا هُوَ للمُبَالَغَةِ في الوَصْفِ»[11].

 

وَقَالَ ابنُ الأثيرِ: «في أسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى: (القَادِرُ، والُمقْتَدِرُ، والقَدِيرُ) فالقَادِرُ اسْمُ الفَاعِلِ مِنْ قَدَرَ يَقْدِرُ، والقَدِيرُ فَعِيلٌ مِنْهُ، وهو للمُبَالَغَةِ، والُمقْتَدِرُ: مُفْتَعِلٌ مِنِ اقْتَدَرَ، وهو أَبْلَغُ»[12].

 

وُرُودُ الأسْمَاءِ في القُرْآنِ الكَرِيمِ:

وَرَدَ اسْمُهُ (القَادِرُ) اثْنَتَي عَشْرَةَ مَرَّةً، خَمْسٌ مِنْها بِصِيغَةِ الجَمْعِ، ونُورِدُ مِنْهَا: قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 65].

 

وَقَوْلَهُ: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 95].

 

وَقَوْلَهُ: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس: 81].

 

وَقَوْلَهُ: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات: 20 - 23].

 

وَأَمَّا اسْمُهُ (القَدِيرُ) فَوَرَدَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ مَرَّةً مِنْها:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20].

 

وَقَوُلُهُ: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149].

 

وقَوْلُهُ: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة: 40].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: 17].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحج: 6].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39].

 

وقَوْله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر: 44].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1].

 

وَأَمَّا (الُمقْتَدِرُ) فَقَدَ وَرَدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وهي:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ [الزخرف: 41، 42].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 42].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54، 55].

مَعْنَى الأسْمَاءِ في حَقِّ اللهِ تَعَالَى....


أَمَّا (القَادِرُ):

فَقَالَ الزَّجَّاجُ: «(القَادِرُ): اللهُ القَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُهُ مَطْلُوبٌ، والقَادِرُ مِنَّا - وإنِ اسْتَحَقَّ هذا الوصْفَ - فإِنَّ قُدْرَتَهَ مُسْتَعَارَةٌ، وهي عِنْدَه وَدِيعَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ عَلِيه العَجْزُ في حَالٍ، والقُدْرَةُ في أُخْرَى.

 

واللهُ تَعَالَى هو القَادِرُ، فلَا يَتَطَرَّقُ عليه العَجْزُ، ولا يَفُوتُهُ شَيْءٌ»[13].

 

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: «(القَادِرُ): هو مِنَ القُدْرَةِ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: قَدَرَ يَقْدِرُ قُدْرَةً فهو قَادِرٌ وقَدِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 27]، ووَصَفَ اللهُ نَفْسَهُ بأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَرَادَهُ، لا يَعْتَرِضُهُ عَجْزٌ، ولا فُتُورٌ.

 

وَقَدْ يَكُونُ القَادِرُ بِمَعْنَى المُقَدِّرِ للشَّيْءِ، يُقَالُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَرْتُهُ بِمَعْنَىً وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات: 23] أي: نِعْمَ الُمقَدِّرُونَ، وعَلَى هذا يُتَأَوَّلُ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87]؛ أَيْ: لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيهِ الَخطِيئَةَ أَوِ العُقُوبَةَ؛ إِذْ لا يَجُوزُ عَلَى نَبيِّ اللهِ أَنْ يَظُنَّ عَدَمَ قُدْرَةِ اللهِ عز وجل فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ»[14].

 

وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(القَادِرُ) قَالَ اللهُ عز وجل: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، وَقَالَ: ﴿بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأحقاف: 33]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، بَلْ تَيَسَّرَ لَهُ مَا يُرِيدُ عَلَى مَا يُرِيدُ؛ لأَنَّ أَفْعَالَهُ قَدْ ظَهَرَتْ، وَلَا يَظْهَرُ الفِعْلُ اخْتِيَارًا إِلَّا مِنْ قَادِرٍ غَيْرِ عَاجِزٍ، كَمَا لَا يَظْهَرُ إلا مِنْ حَيٍّ عَالمٍ»[15].

 

وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: «هو الذِي له القُدْرَةُ الشَّامِلَةُ، والقُدْرَةُ له صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ»[16].

 

وَأَمَّا (القَدِيرُ):

فَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20]: «وإنَّمَا وَصَفَ اللهُ نَفْسَهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ - بالقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ في هذا الَموْضِعِ؛ لأَنَّهُ حَذَّرَ الُمنَافِقِينَ بَأْسَهُ وسَطْوَتَهُ، وأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بِهِم مُحْيطٌ، وَعَلَى إِذْهَابِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِم قَدِيرٌ، ثُمَّ قَالَ: فاتَّقُونِي أَيُّها المُنَافِقُونَ، واحْذَرُوا خدَاعِي وَخِدَاعَ رَسُولِي وَأَهْلَ الإِيمَانِ بِي، لَا أُحِلُّ بِكم نِقْمَتِي، فَإِنِّي عَلَى ذلك وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَشْيَاءِ قَدِيرٌ.

 

وَمَعْنَى (قَدِيرٍ) قَادِرٌ، كَمَا مَعْنَى (عَلِيمٍ): عَالِمٌ، عَلَى مَا وَصَفْتُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَائِرِهِ مِنْ زِيَادَةِ مَعْنَى (فَعِيلٍ) عَلَى فَاعِلٍ في الَمدْحِ والذَّمِّ»[17].

 

وَقَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 106]: «أَلَمْ تَعْلَمْ يَا محمدُ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى تَعْوِيضِهِ مِمَّا نَسَخْتُ مِنْ أَحْكَامِي، وَغَيَّرْتُهُ مِنْ فَرَائِضِي، التي كُنْتُ افْتَرَضْتُها عليك ما أَشَاءُ، مِمَّا هُوَ خَيْرٌ لك وَلِعِبَادِي الُمؤْمِنِينَ مَعَكَ، وَأَنْفَعُ لَكَ وَلهم، إمَّا عَاجِلًا وإمَّا آجِلًا في الآخِرَةِ، أَوْ بِأَنْ أُبَدِّلَ لَكَ ولهم مَكَانَهُ مِثْلَهُ في النَّفْعِ لَهُمْ عَاجِلًا في الدُّنْيَا وآجِلًا في الآخِرَةِ، وشَبِيهَهُ في الِخفَّةِ عَلَيكَ وعليهم، فاعْلَمْ يا محمدُ أَنِّي عَلَى ذلك وعلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 

وَمَعْنَى قَوْلِهِ (قَدِيرٍ) في هذا الَموْضِعِ: قَوِيٌّ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ قَدَرْتُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، إذا قَوِيتُ عَلَيْهِ، أقْدِرُ عليه، وَأَقْدرُ عليه قُدْرَةً وَقِدرانًا ومَقْدِرَةً، وَبَنُو مُرَّةَ مِنْ غَطَفَانَ تَقُولُ: قَدِرْتُ عليه بِكَسْرِ الدَّالِ.

 

فَأَمَّا (التَّقْدِيرُ) مِنْ قَوْلِ القَائِلِ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ مِنْهُ: قَدَرْتُهُ أُقْدُرُهُ قَدْرًا وقَدَرًا»[18].

وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(القَدِيرُ) وهو: التَّامُّ القُدْرَةِ، لا يُلابِسُ قُدْرَتَهُ عَجْزٌ بِوَجْهٍ»[19].

 

وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ:

وَهُوَ القَدِيرُ وليس يُعْجِزُهُ إذا
مَا رَامَ شَيْئًا قَطُّ ذُو سُلْطَانِ[20]

 

وَقَالَ السَّعْدِيُّ: «(القَدِيرُ) كَامِلُ القُدْرَةِ، بِقُدْرَتِهِ أَوْجَدَ الُموْجُودَاتِ، وَبِقُدْرَتِهِ دَبَّرَهَا، وبِقُدْرَتِهِ سَوَّاها وأَحْكَمَهَا، وبِقُدْرَتِهِ يُحْيِي ويُمِيتُ، ويَبْعَثُ العِبَادَ للجَزَاءِ، ويُجَازِي الُمحْسِنَ بإحْسَانِهِ، والُمسَيءَ بِإسَاءَتِهِ، الذِي إذا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ، وبِقُدْرَتِهِ يُقَلِّبُ القُلُوبَ ويُصَرِّفُها عَلَى مَا يَشَاءُ ويُرِيدُ»[21].

 

وأَمَّا (الُمقْتَدِرُ):

فَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ في قَوْلِهِ تَعَالَى: «﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55]، يَقُولُ عِنْدَ ذِي مِلْكٍ مُقْتَدِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ، وهو اللهُ ذو القُوَّةِ الَمتِينُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»[22].

 

وَقاَلَ الزَّجَّاجُ: «(الُمقْتَدِرُ) مُبَالَغَةٌ فِي الوَصْفِ بالقُدْرَةِ، والأَصْلُ في العَرَبِيَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ اللَّفْظِ زِيَادَةُ الَمعْنَى، فَلَمَّا قُلْتَ: اقْتَدَرَ، أَفَادَتْ زِيَادَةُ اللَّفْظِ زِيَادةَ الَمعْنَى»[23].

 

وَقَالَ الخَطَّابِيُ: «(الُمقْتَدِرُ): هو التَّامُّ القُدْرَةِ الذي لا يَمْتَنِعُ عليه شَيْءٌ[24] ولا يَحْتَجِزُ عنه بَمنَعةٍ وقوةٍ.

 

وَوَزْنُهُ: مُفْتَعِلٌ مِنْ القُدْرَةِ، إلَّا أَنَّ الاقْتِدَارَ أَبْلَغُ وأَعَمُّ؛ لأَنَّهُ يَقْتَضِي الإِطْلَاقَ، والقُدْرَةُ قَدْ يَدْخُلُها نَوْعٌ مِنْ التَّضْمِينِ بالَمقْدُورِ عليه، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾؛ أَيْ: قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ»[25].

 

وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(المُقتَدِرُ) وهو الُمظْهِرُ قُدْرَتَهُ بِفِعْلِ مَا يَقْدِرُ عليه، وَقَدْ كَانَ ذلك مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمْضَاهُ، وإِنْ كَانَ يَقْدِرُ على أَشْيَاءٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَفْعَلْها، وَلَوْ شَاءَ لَفَعَلها، فاسْتَحَقَّ بذلك أَنْ يُسَمَّى: مُقْتَدِرًا»[26].

 

ثَمَرَاتُ الإِيمَانُ بهذِهِ الأَسْمَاءِ:

1- اتَّفَقَ الُمسْلِمُونَ وَسَائِرُ أَهْلِ الِملَلِ عَلَى أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ[27]، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ ولا في السَّمَاءِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر: 44].

 

فَلا يَمْتَنِعُ عَليهِ شَيْءٌ جَلَّ وَعَلَا، ولاَ يَفُوتُهُ مَطْلُوبٌ، بَلْ لَهُ القُدْرَةُ الشَّامِلَةُ الكَامِلَةُ، وَهَذا مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ ذَا قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ، ولم تَزَلْ قُدْرَتُهُ مُوْجُودَةً قَائِمَةً بِهِ مُوجِبَةً له حُكْمَ القَادِرِينَ.

 

وَمَعْنَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى: قُدْرَتُهُ عَلَى الفِعْلِ، والفِعْلُ نَوْعَانِ: لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، فَالأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ هِي تَقُومُ بالفَاعِلِ ولا تَتَعَدَّى إلى مَفْعُولٍ، وَقَدْ ذُكِرَ النَّوْعَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الحديد: 4]، كَمَا بَيَّنَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله فَقَالَ:

«فَالاسْتِوَاءُ والإتْيَانُ والَمجِيءُ والنُّزُولُ ونَحْوُ ذَلِكَ أَفْعَالٌ لَازِمَةٌ لا تَتَعَدَّى إلى مَفْعُولٍ، بَلْ هي قَائِمَةٌ بالفَاعِلِ، والخَلْقُ والرِّزْقُ والإمَاتَةُ والإحْيَاءُ والإعْطَاءُ والَمنْعُ والُهدَى والنَّصْرُ والتَّنْزِيلُ ونَحْوُ ذلك تَتَعَدَّى إلى مَفْعُولٍ».

 

ثُمَّ بَيَّنَ اخْتِلَافَ النَّاسِ في هذا فَقَالَ:

«والنَّاسُ في هَذَينِ النَّوْعَينِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

فَمِنْهُم مَنْ لا يُثْبِتُ فِعْلًا قَائِمًا بالفَاعِلِ، لا لازِمًا ولا مُتَعَدِّيًا، أَمَّا الَّلازِمُ فهو عِنْدَهُ مُنْتَفٍ، وأَمَّا الُمتَعَدِّي كَالخَلْقِ فَيَقُولُ: الخَلْقُ هو الَمخْلُوقُ! أَوْ مَعْنَى غَيْرِ المَخْلُوقِ! وهَذَاَ قَوْلُ الجَهْمِيَّةِ والُمعْتَزِلَةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُم كَالأشْعَرِيِّ وَمُتَّبِعِيهِ، وهذا أَوَّلُ قَوْلَي القَاضِي أبي يَعْلَى، وَقَوْلُ ابنِ عَقِيلٍ.

 

والقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الفِعْلَ الُمتَعَدِّي قَائِمٌ بِنَفْسِهِ دُونَ اللَّازِمِ فَيَقُولُونَ: الخَلْقُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هو الَمخْلُوقُ، وَهُم عَلَى قَوْلَين: منهم مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الفِعْلَ حَادِثًا، ومنهم مَنْ يَجْعَلُهُ قَدِيمًا فَيَقُولُ: التَّخْلِيقُ والتَّكْوِينُ أَزَلِيٌّ!

 

والقَوْلُ الثَّالِثُ: إثْبَاتُ الفِعْلَيْنِ: اللَّازِمِ والُمتَعَدِّي كَمَا دَلَّ عليه القُرْآنُ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ، وهو قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وهو قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ الاخْتِيَارِيَّةُ - كَأَصَّحَابِ أبي مُعَاذٍ، وَزُهَيْرٍ البَابِيِّ، وَدَاودَ بِنِ عَليٍّ، وَالكَرَّامِيَّةِ، وغَيْرِهم مِنَ الطَّوَائِفِ، وإنْ كَانَتْ الكَرَّامِيَّةُ يَقُولُونَ بِأَنَّ النُّزُولَ وَالإتْيَانَ أَفْعَالٌ تَقُومُ به - وهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِنَفْسِهِ وَيَجِيءَ وَيَنْزِلَ ويَسْتَوِيَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الأَفْعَالِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الكَمَالُ.

 

وَقَدْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ هذا القولِ بِأَنَّهُ يِتَحَرَّكُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حَرْبٌ الكَرْمَانِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، وسَمَّى منهم: أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وَسَعِيدَ بنَ مَنْصُورٍ، وإسْحَاقَ ابنَ إبْرَاهِيمَ، وغَيْرَهم، وكَذِلِكَ ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَجَعَلَ نَفْيَ الحَرَكَةِ عَنِ اللهِ عز وجل مِنْ أَقْوَالِ الجَهْمِيَّةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا السَّلَفُ، وقَالَ: كُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ، وَمَا لَا يَتَحَرَّكُ فَلَيْسَ بِحَيٍّ، وقَالَ بَعْضُهم: إذا قَالَ لَكَ الجَهْمِيُّ: أَنَا كَافِرٌ بِرَبٍّ يَتَحَرَّكُ، فَقُلْ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

 

وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الأَفْعَالَ غَيْرَ مُمْكِنَةٍ، وَلَا مُقْدُورَةٍ لَهُ، فَقَدْ جَعَلَهُ دُوَنَ الجَمَادِ - وإنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ بِنَفْسِهِ - فَهُوَ يَقْبَلُ الحَرَكَةَ في الجُمْلَةِ، وهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ، وَلَا تُمْكِنُهُ الحَرَكَةُ، والحَرَكَةُ والفِعْلُ صِفَةُ كَمَالٍ، كالعِلْمِ والقُدْرَةِ والإرَادَةِ، فالذينَ يَنْفُون تلك الصِّفَاتِ سَلَبُوهُ صِفَاتِ الكَمَالِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الكُلَّابِيَّة».

 

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا قَادِرًا لَلَزَمَ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا جَاهِلًا أَصَمَّ أَعْمَى أَخْرَسَ عَاجِزًا، وَهَذِهِ نَقَائِصُ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عنَهْاَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ مَنْ هُوَ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ عَالِمٌ قَاِدرٌ مُتَحِرِّكٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُوَنَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ كُلَّ كَمَالٍ في الَمخْلُوقِ هُوَ مِنْ كَمَالِ الخَالِقِ.

 

وَقَالَ: «وأيضًا فَيُقَالُ لَهم: رَبُّ العَالَمِينَ إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الاتِّصَافَ بالحَياةِ والعِلْمِ ونَحْوَ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهِ كَانَ دُونَ الأَعْمَى الأَصَمِّ الأَبْكَمِ، وإِنْ قَبَلَها ولَمْ يَتَّصِفْ بها كَانَ مَا يَتَّصِفُ بِهَا أَكْمَلَ مِنْهُ، فَجَعَلُوه دُونَ الإنسانِ والبهائمِ، وهَكَذَا يُقَالُ لَهم في أَنْوَاعِ الفِعْلِ القَائِمِ بِهِ: كِالإِتْيَانِ والَمجِيءِ والنُّزولِ وجِنْسِ الحَرَكَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْبَلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ كَانَتِ الأَجْسَامُ التي تَقْبَلُ الحَرَكَةَ وَلَمْ تَتَحَرَّكْ أَكْمَلَ مِنْهُ، وَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ مَا يَتَحَرَّكُ أَكْمَلَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الحَرَكَةَ كَمَالٌ للمُتَحَرِّكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِنَفْسِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ التَحَرُّكُ، وَما يَقْبَلُ الحَرَكَةَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُها.

 

والنُّفَاةُ عُمْدَتُهم أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الحَرَكَةَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا، وَيلْزَمُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى! ثُمَّ ادَّعَوا نَفْيَ ذلك! وفي نَفْيِهِ نَقَائِصُ لا تَتَنَاهَى!

 

والُمثْبِتُونَ لذلك يَقُولوُنُ: هذا هو الكَمَالُ، كَمَا قَالَ السَّلَفُ: لَمْ يَزَلِ اللهُ مُتَكَلِّمًا إذا شَاءَ، كَمَا قَالَ ذلك ابنُ الُمبَارَكِ وَأَحَمْدُ بنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهما، وَذَكَرَ البُخاريُّ عَنْ نُعَيمِ بنِ حَمَّادٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: الحَيُّ هُوَ الفَعَّالُ، وَمَا لَيْسَ بِفَعَّالٍ فَلَيْسَ بِحَيٍّ[28].

 

وَقَدْ عُرِفَ بُطْلَانُ قُوْلِ الجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهم بامْتِنَاعِ دَوَامِ الفِعْلِ والحَوَادِثِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هذا الَموْضِعِ.

 

والَمقْصُودُ هَهُنَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَهُ قَادِرًا عَلَى هَذِهِ الأَفْعَالِ، وهي أَصْلُ الفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ - عَلَى قُوْلِهم - بَلْ وَلَا عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ قالَ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91]: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ في رواية الوالِبي عَنهْ: «هَذِهِ فِي الكُفَّارِ، فَأَمَّا مَنْ آمَنَ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ فَقَدْ قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ»[29].

 

وَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَمَا وَصَفُوهُ حَقَّ وَصْفِهِ، وَهَذِهِ الكَلِمَةُ ذَكَرَهَا اللهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي الرَّدِّ عَلَى المُعَطِّلَةِ، وعَلَى الُمشْرِكِينَ، وعَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِنْزَالَ شَيْءٍ عَلَى البَشَرِ، فَقَالَ في الأَنْعَامِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91].

 

وَقَالَ فِي الحَجِّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، إلى قوله تعالى ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 73 - 74].

 

وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].

 

وَقَدْ ثَبُتَ في الصحيحينِ منْ حَدِيثِ ابنِ مسعودٍ: «أَنَّ حَبْرًا مِنْ اليَهُودِ قَالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُحمدُ! إِنَّ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ، والأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، والجِبَالَ والشَّجَر عَلَى إِصْبَعٍ، والَماءَ والثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، وَيَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الآية».

 

وفي الصحيحينِ أَيْضًا عن أبي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ويَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، أَيْنَ مِلُوكُ الأَرْضِ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الُمتَكَبِّرُونَ؟».

 

وكذلك في الصحيحينِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: «يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الُمتَكَبِّرُونَ؟».

 

وفي لَفْظٍ لمُسلِمٍ قَالَ: «يَأْخُذُ الجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَاوَاتِهِ وأَرْضَهُ بِيَدِيهِ جَمِيعًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُهُما ويَبْسُطُهما، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، أَنَا الجَبَّارُ، وَأَنَا الَملِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟! وَأَيْنَ الُمتَكَبِّروُنَ؟!» وَيَمِيلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، حَتَى نَظَرَتُ إلى الِمنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هو بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟

 

وفي السُّنَنِ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولَِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ، لا يَمُرُّ بآيَةِ رَحْمَةٍ إلا وَقَفَ فَسَأَلَ، ولا يَمُرُّ بِآيةِ عَذَابٍ إلا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رِكُوعِهِ: «سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ والَملَكُوتِ والكِبْرِيَاءِ والعَظَمَةِ»، ثُمَّ يَسْجُدُ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذلك، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً» رَواه أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، والترمذيُّ في الشَّمَائِلِ[30].

 

فَقَالَ في هذا الحَدِيثِ: «سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ والُملَكُوت والكِبْرِيَاءِ والعَظَمَةِ» وَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ نُوزِعَ الرَّبُّ فيها، كَمَا قَالَ: «أَيْنَ الُملُوكُ؟! أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟! أَيْنَ الُمتَكَبِّرُونَ؟!».

 

وَقَالَ عز وجل: «العَظَمَةُ إزَارِي، والكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْها عَذَّبْتُهُ»[31].

 

وَنُفَاةُ الصِّفَاتِ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهم لَا يُمْسِكَ شَيْئًا، وَلَا يَقْبِضُهُ وَلَا يَطْوِيهِ، بَلْ كُلٌّ مُمْتَنِعٌ عَليهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَيْضًا في الحَقِيقَةِ يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ لِوَجْهَينِ:

أَحَدُهما: إِنَّ الإنْزَالَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ، واللهُ تَعَالَى عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي العُلوِّ فَلَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 114]، ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر: 1]، إلى غَيْرِ ذلك.

 

وقَوْلُهم: إنَّهُ خَلَقَهُ في مَخْلُوقٍ ونَزَلَ مِنْهُ بَاطِلٌ؛ لَأَنَّهُ قَالَ: ﴿مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾، وَلَمْ يَجِئْ هذا في غَيْرِ القُرْآنِ، والحَدِيدُ ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُطْلَقًا، ولَمْ يَقُلْ مِنْهُ، وهو مُنَزَّلٌ مِنَ الجِبَالِ، والَمطَرُ أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، والُمرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّحَابِ، وهو الُمزْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ﴾ [الواقعة: 69].

 

والثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مَخْلُوقٍ لَكَانَ صِفَةً لَهُ وكَلَامًا له؛ فَإِنَّ الصِّفَةَ إذا قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُها عَلَى ذَلِكَ الَمحلِّ، ولأَنَّ اللهَ لا يَتَّصِفُ بالَمخْلُوقَاتِ، وَلَوِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ لاتَّصَفَ بِأَنَّهُ مُصَوِّتٌ إِذَا خَلَقَ الأَصْوَاتَ وَمُتَحَرِّكٌ إِذَا خَلَقَ الحَرَكَاتِ في غَيْرِهِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ...».

 

إِلَى أَنْ قَالَ: «فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الجَهْمِيَّةَ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَأَنَّهُم دَاخِلُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا قُدْرَتَه لَا عَلَى فِعْلٍ، وَلَا عَلَى الكَلاَمِ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا عَلَى نُزُولِهِ، وَعَلَى إِنْزَالِهِ مِنْهُ شَيْئًا، فَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ التَّصْدِيقِ بِقُدْرَةِ اللهِ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِيرًا لَمْ يَكُنْ قَوِيًّا، وَيَلْزَمُهم أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا، فَيَلْزَمهُم الدُّخُولُ في قَوْلِهِ: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 73، 74].

 

فَهُمْ يَنْفُونَ حَقِيقَةَ قُدْرَتِهِ فِي الأَزَلِ، وحَقِيقَةُ قَوْلِهم: إِنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، والقُدْرَةُ التي يُثْبِتُونَها لا حَقِيقَةَ لَهَا.

 

وَهَذَا أَصْلٌّ مهُمٌّ، مَنْ تَصَوَّرَهُ عَرَفَ حَقِيقَةَ الأَقْوَالِ البَاطِلَةِ، وَمَا يَلْزَمُها مِنْ اللَّوَازِمِ، وعَرَفَ الحَقَّ الذِي دَلَّ عليهِ صَحِيحُ الَمنْقُولِ، وصَرِيحُ الَمعْقُولِ، لا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الأصُولِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ كُلِّ الأصُولِ، والضَّالُّونَ فيها لَّما ضَيَّعُوا الأُصُولَ حُرِمُوا الوُصُولَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَحَقَّقَتِ الحَقَائِقُ، وَأُعْطِيَ النَّظَرُ والاسْتِدْلَالُ حَقَّهُ مِنَ التَّمَامِ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ هو الحَقُّ، وهو الُموَافِقُ للمَعْقُولِ الصَّرِيحِ الذي لَمْ يَشْتَبِهْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُسَمَّى مَعْقُولًا وهو مُشْتَبِهٌ مُخْتَلِطٌ.

 

كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ [الأنعام: 159]، قَالَ: «هُمْ أَهْلُ البِدَعِ والشُّبُهَاتِ، فَهُمْ فِي أُمُورٍ مُبْتَدَعَةٍ في الشَّرْعِ، مُشْتَبِهَةٍ في العَقْلِ».

 

إِلَى أَنْ قَالَ: «والَمقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى تَنَازُعِ النَّاسِ في مَسْأَلَةَ (القُدْرَةِ)، وفي الحَقِيقَةِ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لا يُثْبِتُ للهِ قُدْرَةً، وَلَا يُثْبِتُهُ قَادِرًا، فَالجَهْمِيَّةُ - وَمَنْ تَبِعَهم - والُمعْتَزِلَةُ والقَدَرِيَّةُ والُمجَبِّرَةُ والنَّافِيَة حَقِيقَةُ قَوْلِهم: إِنَّهُ لَيْسَ قَادِرًا وَلَيْسَ لَهُ الُملْكُ، فإِنَّ الُملْكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هو القُدْرَةَ أو الَمقْدُورَ أَوْ كِلاهُما.

 

وعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَابُدَّ مِنَ القُدْرَةِ، فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ له القُدْرَةَ حَقِيقَةً لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مُلْكًا! كَمَا لا يُثْبِتُونَ لَهُ حَمْدًا!»[32].

 

2- فِي وُجُودِ الَمخْلُوقَاتِ، التي لا تُحْصَى بتَعَدُّدِ أَشْكَالِها وبِتَنَوُّعِ أَصْنَافِها، بُرْهَانٌ سَاطِعٌ وَآيةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ بَيَانَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ جَمَّةٍ مِنْ كِتَابِهِ.

 

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ في تَتِمَّةِ كَلَامِهِ السَّابِقِ:

«والَمقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَدْلٌ لَا يَظْلِمُ، وَعَدْلُهُ إِحْسَانُهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكُلُّ مَا خَلَقَهُ فهو إِحْسَانٌ إلى عِبَادِهِ، ولهذا كَانَ مُسْتَحِقًّا للحَمْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، ولِهذَا لَـمَّا ذَكَرَ فِي سُوَرَةِ النَّجْمِ أَنْوَاعًا مِنْ مَقْدُورَاتِهِ[33] ثُمَّ قَالَ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأَنْعُمَ؛ مِثْلُ إِهْلَاكِ الأُمَمِ الُمكَذِّبَةِ للرُّسُلِ، فإِنَّ في ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَنَصْرِهِ للرُّسُلِ، وَتَحْقِيقِ مَا جَاؤُوا بِهِ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ في مُتَابَعَتِهم، والشَّقَاوَةَ في مُخَالَفَتِهم مَا هو مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ.

 

وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ في سُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ هُوَ مِنْ آلائِهِ مِنْ وُجُوهٍ:

مِنْها أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيهِ، وَعَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَغَيْرِ ذلك، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الإِيمَانُ والعِلْمُ وذِكْرُ الرَّبِّ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ أَفْضَلُ ما أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ في الدُّنْيَا، وكُلُّ مَخْلُوقٍ يُعِين عليها ويَدُلُّ عليها، هذا مَعَ ما في الَمخْلُوقَاتِ مِنَ المنَافِعِ لِعِبَادِهِ غَيرِ الاسْتِدْلَالِ بها، فإنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ لَّما يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُه مِنَ الآيَةِ، وقَالَ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾، والآلاءُ: هِي النِّعَمُ، والنِّعَمُ كُلُّها مِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْسِهِ الُمقَدَّسَةِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَنُعُوتِهِ وَمَعَانِي أَسْمَائِهِ، فَهِيَ آلاءُ آيَاتِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ آلَائِهِ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ آياتِهِ فَهُوَ مِنْ آلَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ وَالِهدَايَةَ والدِّلَالَةَ على الرَّبِّ تَعَالَى وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَدِينِهِ، والهُدَى أَفْضَلُ النِّعَمِ.

 

وأيضًا: فِفِيها نِعَمٌ وَمَنَافِعُ لِعِبَادِهِ غَيْرُ الاسْتِدْلَالِ، كَمَا فِي خَلْقِ الشَّمْسِ والقَمَرِ والسَّحَابِ والمَطَرِ والحَيَوَانِ والنَّبَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّها مِنْ آياتِهِ، وفيها نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ غَيْرُ الاسْتِدْلَالِ، فَهِيَ تُوجِبُ الشُّكْرَ لما فيها مِنَ النِّعَمِ، وَتَوجِبُ التَّذَكُّرَ لِمَا فيها مِنَ الدَّلَائِلِ.

 

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62].

 

وَقَالَ: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8]، فَإِنَّ العَبْدَ يَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ دَاعِي الشُّكْرِ ودَاعِي العِلْمِ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ دَاعٍ إلى شُكْرِها، وقَدْ جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إليها، واللهُ تَعَالَى هو الُمنْعِمُ الُمحْسِنُ الَّذِي مَا بِالعِبَادِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ.

 

وَقَدْ ذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: 63] الآية، فَهَذِهِ فِي كَشْفِ الضُّرِّ، وفي النِّعَمِ قَالَ: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82]، أَيْ: شُكْرُكم وشُكْرُ ما رَزَقَكم اللهُ ونَصِيبُكم تَجْعَلُونَهُ تَكْذِيبًا، وَهُو الاسْتِسْقَاءُ بالأَنْوَاءِ»[34].

 

3- اخْتَلَفَ النَّاسُ في تَفْسِيرِ ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20]، مَعَ تَصْدِيقِهِم بِخَبَرِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الُممْتَنِعُ لِذَاتِهِ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّينِ! قَالَهُ طَائِفَةٌ، مِنْهُمُ ابنُ حَزْمٍ.

 

وَطَائِفَةٌ تَقُولُ: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ يُخَصُّ مِنْهُ الُممْتَنِعُ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الَمقْدُورِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ!

 

وَقَدْ حَكَى القَوْلَينِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله وَخَطَّأَهما، ثُمَّ قَالَ: «والصَّوَابُ وَهُوَ القَوْلُ الثَّالِثُ الذي عليه عَامَّةُ النُّظَّارِ، وهو: أَنَّ «الُممْتَنِعَ لِذَاتِهِ» لَيْسَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ في الَمعْدُومِ؛ فإنَّ الُممْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ تَحْقُّقُهُ في الخَارِجِ، ولا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ ثَابِتًا في الخَارِجِ، ولَكِنْ يُقَدَّرُ اجْتِمَاعُهما في الذِّهْنِ، ثُمَّ يُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الخَارِجِ؛ إِذْ كَانَ يَمْتَنِعُ تَحْقُّقُهُ فِي الأَعْيَانِ، وتَصَوُّرُهُ في الأَذْهَانِ، إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ الحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الشَّيْءِ، فَهَلْ يُمْكِنُ فِي الخَارِجِ أَنْ يَجْتَمِعَ السَّوَادُ والبَيَاضُ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، كَمَا تَجْتَمِعَ الحَرَكَةُ والسُّكُونُ، فَيُقَالُ: هَذَا غَيْرُ مُـمْكِنٍ، فَيُقَدَّرُ اجْتِمَاعُ نَظِيرِ الُممْكِنِ ثُمَّ يُحْكَمُ بامْتِنَاعِهِ، وَأَمَّا نَفْسُ اجْتِمَاعِ البَيَاضِ والسَّوَادِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُمْكِنُ ولا يُعْقَلُ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لا في الأَعْيَانِ ولا في الأَذْهَانِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1]».

 

ثُمَّ قَالَ: «الَمسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ المَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الخَارِجِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ.

 

وَقَدْ يُطْلِقُونَ إِنَّ الشَّيْءَ هو الَموْجُودُ، فَيُقَالُ عَلَى هَذَا: فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا إِلَّا عَلَى مَوْجُودٍ، ومَا لَمْ يَخْلُقْهُ لا يَكُونُ قَادِرًا عليه، وهذا قُوْلُ بَعْضِ أَهْلِ البِدَعِ، قَالُوا: لا يَكُونُ قَادِرًا إلا على مَا أَرَادَهُ دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ، ويُحْكَى هذا عنْ تِلْمِيذِ النظَامِ».

 

إِلَى أَنْ قَالَ: «والتَحْقِيقُ أَنَّ الشَيْءَ اسْمٌ لِـمَا يُوجَدُ فِي الأَعْيَانِ ولِمَا يُتَصَوَّرُ في الأَذْهَانِ، فَمَا قَدَّرَهُ اللهُ وعَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هو شَيْءٌ في التَّقْدِيرِ والعِلْمِ والكِتَابِ وإنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا في الخَارِجِ، ومِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، ولَفْظُ الشَّيْءِ في الآيةِ يَتَنَاوَلُ هذا وهذا، فهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ - مَا وُجِدَ وكُلُّ ما تَصَوَّرَهُ الذِّهْنُ مَوْجُودًا، إِنْ تَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا - قَدِيرٌ، لا يُسْتَثْنَى من ذلك شَيْءٌ، ولا يُزَادُ عليه شَيْءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4].

 

وَقَالَ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: 65].

 

وَقَدْ ثَبُتَ في الصحيحين أَنَّهَا لمَّا نَزَلَتْ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أعُوذ بوجْهكَ» فَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: 65] الآية قَالَ: «هَاتَانِ أَهْونُ».

 

فهو قَادِرٌ عَلَى الأُولَيَينِ وإنْ لَمْ يَفْعَلْهما، وقَالَ: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18].

 

قَالَ الُمفْسِّرُونَ: لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَذْهَبَ بِهِ حتى تَمُوتُوا عَطَشًا، وَتَهْلِكَ مَوَاشِيكُم، وتَخْرُبَ أَرَاضِيكُمْ، ومَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 68 - 82]، وَهَذَا يَدَلُّ على أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا لا يَفْعَلُهُ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ جَعَلَ الَماءَ أُجَاجًا وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ.

 

وَمِثْلُ هذا: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: 13].

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: 99].

 

﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة: 253]، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَ أَشْيَاءَ وهو لَمْ يَفْعَلْها، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عليها لَكَانَ إذا شَاءَها لَمْ يُمْكِنْهُ فِعْلُها.

 

الَمسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَيَدْخُلُ في ذلك أَفْعَالُ العِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ العِبَادِ، وَأَكْثَرُ الُمعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَ العَبْدِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ.

 

الَمسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ في ذلك أَفْعَالُ نَفْسِهِ، وَقَدْ نَطَقَتِ النُّصُوصُ بهذا، وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: 81]، ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4]، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.

 

والقُدْرَةُ على الأَعْيَانِ جَاءَتْ في مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ [ق: 16].

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ [البلد: 5]، وَجَاءَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي الكِتَابِ والسُّنَّةِ.

 

أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ [الزخرف: 41]، فَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْدِرُ عليهم أَنْفُسِهم، وهذا نَصٌّ فِي قُدْرَتِهِ على الأَعْيَانِ الَمفْعُولَةِ.

 

وقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: 45].

 

و﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ بِمْفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الجَبَّارُ عَلَيْهِمُ الُمسَيْطِرُ، وذلك يَسْتَلْزِمُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87] - عَلَى قَوْلِ الحَسَنِ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ جَعَلَهُ مِنَ القُدْرَةِ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ.

 

وَكَذَلِكَ قَوْلُ المُوصِي لِأَهْلِهِ: «لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، فَلَمَّا حَرَّقُوه أَعَادَهُ اللهُ تَعَالَى وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبُّ! فَغَفَرَ لَهُ»[35]، وهو كَانَ مخطئًا فِي قَوْلِهِ: «لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي» كَمَا يَدُلُّ عَلَىْهِ الحَدِيثُ، وَأَنَّ اللهَ قَدِرَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لِخَشْيَتِهِ وَإِيمَانِهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ هذا الجَهْلَ والخَطَأَ الذي وَقَعَ مِنْهُ.

 

وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات: 20 - 23] عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ القُدْرَةِ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ القُدْرَةَ عَلَى الَمخْلُوقِينَ وإنْ كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أيضًا على خَلْقِهِ، فالقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِهِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ، والقُدْرَةُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِهِ، وَجَاءَ أَيْضًا الحَدِيثُ مَنْصُوصًا فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأبي مَسْعُودٍ لمَّا رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدَهُ: «للهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا»[36]، فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ قُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى عَيْنِ العَبْدِ، وَأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ قُدْرَةِ العَبْدِ».

 

ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي قُدْرَةِ الرَّبِ والعَبْدِ فَقَالَ:

«وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قُدْرَةِ الرَّبِّ وَالعَبْدِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كِلا النَّوْعَينِ يَتَنَاوَلُ الفِعْلَ القَائِمَ بالفَاعِلِ وَيَتَنَاوَلُ مَقْدُورَهُ، وهذا أَصَحُّ الأَقْوَالِ، وبه نَطَقَ الكِتَابُ والسُّنَّةُ، وهو: أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ القُدْرَتَينِ يَتَنَاوَلُ الفِعْلَ القَائِمَ بالقَادِرِ ومَقْدُورِهِ الُمبَايِنِ لَهُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْضُ مَا دَلَّ على ذلك في قُدْرَةِ الرَّبِّ.

 

وَأَمَّا قُدْرَةُ العَبْدِ: فَذِكْرُ قُدْرَتِهِ عَلَى الأَفْعَالِ القَائِمَةِ به كَثِيرَةٌ، وهذا مُتَّفَقٌ عَليه بَيْنَ النَّاسِ الذي يُثْبِتُونَ للعَبْدِ قُدْرَةً، مِثْل قَوْلِهِ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: 42] الآية.

 

وَقَوْلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطَعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِك»[37].

 

وَأَمَّا الُمبَايِنُ لَمحِلِّ القُدْرَةِ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدِيرًا﴾ [الفتح: 20، 21]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدَرُوا على الأَوَّلِ، وهَذِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْها وَقَتًا آخَرَ، وَهَذِهِ قُدْرَةٌ عَلَى الأَعْيَانِ، وقَوْلِهِ: ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ [القلم: 25 - 32].

 

وَأَيْضًا فَالقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الَمفْعُولَاتِ الخَارِجَةَ مَصْنُوعَةٌ لهم، ومَا كَانَ مَصْنُوعًا لهم فَهُوَ مَقْدُورٌ بِالضَّرُورَةِ والاتِّفَاقِ، والُمنَازِعُ يَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ خَارِجًا عَنْ مَحِلِّ قُدْرَتِهم مَصْنُوعًا لهم، وهذا خِلَافُ القُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [هود: 37]، وقال: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ [هود: 38]، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الفُلْكَ مَخْلُوقَةٌ مَعَ كَوْنِهَا مَصْنُوعَةٌ لبني آدَمَ، وَجَعَلَها مِنْ آيَاتِهِ، فَقَالَ: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: 41]، ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ [الحج: 65][38]، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ [الزخرف: 12]، وَقَالَ: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 95، 96].

 

فَجَعَلَ الأَصْنَامَ مَنْحُوتَةً مَعْمُولَةً لهم، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُهُمُ، وَخَالِقُ مَعْمُولَهم؛ فَإِنَّ (مَا) هَهُنَا بِمَعْنَى: الذي، والُمرَادُ خَلَقَ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الأَصْنَامِ، وَإِذَا كَانَ خَالِقًا للمَعْمُولِ وفيه أَثَرُ الفِعْلِ دَلَّ على أَنَّه خَالِقٌ لِأَفْعَالِ العِبَادِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ فَضَعِيفٌ جِدًّا.

 

وَقِيلَ: بَلِ الرَّبُّ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى الَمخْلُوقِ الُمنْفَصِلِ، لا يَقُومُ به فِعْلٌ يَقْدِرُ عليه، والعَبْدُ لا يَقْدِرُ إلا على ما يَقُومُ بذاتِهِ، لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وهذا قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ ومَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَتْبَاعِ الأَئِمَّةِ: كالقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وابنِ عقيلٍ الزاغَونِي، وغَيْرهم.

 

وَقِيلَ: إِنَّ العَبْدَ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَالرَّبُّ لا يَقْدِرُ إلا على الُمنْفَصِلِ وهو قَوْلُ الُمعْتَزِلَةِ، وقِيلَ: إِنَّ كِلَيْهِمَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ دُونَ الُمنْفَصِلِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَ: كِلَاهما يَقْدِرُ على الُمنْفَصِلِ دُونَ الُمتَّصِلِ[39].



[1] انظر: النهاية في غريب الحديث (4/ 22)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص: 657)، واشتقاق أسماء الله للزجاج (ص: 137)، ولسان العرب (5/ 74).

[2] أخرجه مسلم (2653).

[3] الترمذي (2156).

[4] لسان العرب (5/ 74)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص: 657)، والفائق (3/ 8).

[5] النهاية في غريب الحديث (4/ 22).

[6] اشتقاق أسماء الله (ص: 48).

[7] انظر تفصيل هذه المراتب في: شفاء العليل (ص: 29)، وما بعدها.

[8] شفاء العليل (28).

[9] النونية (1/ 257).

[10] النهج الأسمى (2/ 110 - 131).

[11] اشتقاق أسماء الله للزجاجي (ص: 48).

[12] النهاية (4/ 22).

[13] تفسير الأسماء (ص: 59).

[14] شأن الدعاء (ص: 86).

[15] المنهاج (1/ 191) وذكره ضمْن الأسماء التي تتبع إثباتَ الابتداعِ والاختراع له، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 21).

[16] الاعتقاد (ص: 63).

[17] جامع البيان (1/ 124).

[18] المصدر السابق (1/ 383).

[19] المنهاج (1/ 198) وذكره في الأسماء التي تتبع نفيَ التشبيه عن الله تعالى جدُّه، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 41).

[20] النونية (2/ 218).

[21] تيسير الكريم (5/ 301).

[22] جامع البيان (27/ 67).

[23] تفسير الأسماء (ص: 59).

[24] إلى هنا قاله البيهقي في الاعتقاد (ص: 63).

[25] شأن الدعاء (ص: 86).

[26] المنهاج (1/ 194)، وذكره في الأسماء التي تتبع إثباتَ الابتداعِ والاختراع، ونقله البيهقي (ص: 28).

[27] حكى هذا الاتفاقَ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في مجموع الفتاوى (8/ 7) وسيأتي ذكر اختلافهم في تفسير (الشيء).

[28] انظره في: خلْق أفعال العباد للبخاري مع اختلاف يَسير (ص: 117) بتحقيق الشيخ بدر البدر.

[29] أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 177) عن معاوية بن صالح بن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس به. ولم يذكر رواية الوالبي، وهو علي بن ربيعة: ثقة، وعزَاه السيوطي في الدر (3/ 313) إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

[30] وسنده عندهم حسَن.

[31] أخرجه أبو داود (4/ 490) وابن ماجه (2/ 4174) وغيرهما عن أبي هريرة، وسندُه صحيح، وأخرجه مسلم (4/ 2023) بنحوه عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة.

[32] مجموع الفتاوى (8/ 18 - 30) مختصرًا.

[33] وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾ [النجم: 42 - 55]، وفيها مِن ذكْر قُدْرته وفعْلِه وتصرُّفه في الخلْق والإيجاد، والبعْث والمعاد، وإهلاك الأمم والإيعاد، لذكْرَى لِمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بأنه الله الواحد القادر على كل شيء.

[34] مجموع الفتاوى (8/ 31 - 32).

[35] أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء (6/ 494) وفي الرقاق، باب الخوف مِن الله (11/ 312، 313)، والنسائي في الجنائز (4/ 113) عن ربعي بن خراش، عن حذيفة به، وفي التوحيد (132/ 466)، والنسائي (4/ 113) عن أبي هريرة به، ورواه البخاري (6/ 514)، (13/ 466، 467) عن أبي سعيد الخدري به.

[36] رواه مسلم في كتاب الإيمان (3/ 1280، 1281)، وأحمد (4/ 120).

[37] أخرجه البخاري في تقصير الصلاة (2/ 587) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

[38] في مطبوعة الفتاوى: ﴿ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ... ﴾ وهو خطأ، فالآية أولها: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحج: 65].

[39] مجموع الفتاوى (8/ 7 - 18).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • المجيد جل جلاله، وتقدست أسماؤه (1)
  • المحيط جل جلاله، وتقدست أسماؤه
  • المعطي جل جلاله، وتقدست أسماؤه (1)
  • المقيت جل جلاله، وتقدست أسماؤه (1)

مختارات من الشبكة

  • معاني أسماء الله الحسنى ومقتضاها (القادر القدير المقتدر)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • اسم الله القادر - القدير - المقتدر (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • اسم الله القادر - القدير - المقتدر (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القادر القدير المقتدر جل جلاله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • معاني أسماء الله الحسنى: الجبار، المتكبر، العليم، السميع، البصير، القادر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إلى محبي الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله (مطوية)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • اللسانيات واللغة العربية: نماذج تركيبية ودلالية لعبد القادر الفاسي الفهري(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الأرناؤوطيان شعيب وعبد القادر(مقالة - موقع أ. أيمن بن أحمد ذوالغنى)
  • ثبت لطائف الوجدان في مرويات أبي فارس الوزان (ثبت مرويات الدكتور إبراهيم عبد القادر الوزان) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الشيخ عبد القادر الأرناؤوط(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب