يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي والرواية عن المحدثين الضعفاء (11/12)

يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي والرواية عن المحدثين الضعفاء (11/12)

4 - موقف الإمامَين من الرُّواة على ضوْءِ ما نُقِل عنْهُما:

خصَّصنا الفصل الثَّاني لإبانة مصادِر الضَّعف لدى المحدِّثين الذين تكلَّم فيهم الإمامان: يحيى بن سعيد القطَّان، وعبدالرحمن بن مهْدي، وكان حصيلة الموقِف النَّقْدي لهما أن ظهَرَت أمامنا ثلاثةُ مَحاور لتعامُلِهم مع هؤلاء المحدِّثين، فهناك الرُّواة الذين أعْرَضَا عن الرِّواية عنهُم بالكلِّيَّة، والرواة الَّذين روى عنْهم أحدُهُما وأعْرض الآخر عن الرِّواية عنهم، وأخيرًا رواة حدَّث عنْهما الإمامان أو أحدُهُما في بداية الأمر، ثُمَّ توقَّفا بالرِّواية عنهم؛ لقرائنَ جديدة توفَّرت لديْهِم عن هؤلاء الرواة.

لذا سنحاول الآن اقتِطاف ثِمار السَّبر النَّقْدي للرُّواة في الفصل الثاني؛ لبيان المزيد من منهج الإمامين في الرِّواية عن المحدِّثين، ولكي نمهِّد الطَّريق أمام إصدار حكم دقيق بشأْن دلالة العبارات التي تداوَلَهَا أئمَّة الشَّأن عند نقْدِهم للرِّجال، على ضوء ما ذهب إليْه ابن القطَّان وابن مهدي من الرِّواية عن المحدِّث الفلاني أو الإعراض عنْه.

وقد وضعْنا نصب أعيُنِنا الأهداف التالية:

1 - الموازنة بيْن ما ذهب إليْه الإمامان في نقْدِهم لرواة الحديث من جهة، والرِّوايات المنقولة عن بقيَّة أساطين نقْدِ الرِّجال؛ كشُعْبة بن الحجَّاج، ويحيى بن معين، وأحْمد بن حنبل، وغيرِهم.

2 - تَحديد دلالة كلِّ عبارة، ومدى مطابقتِها لما ذهب إليه بقيَّة النقَّاد.

3 - إرْساء محدّدات اصطلاحيَّة لكلِّ عبارة، مع بيان المساحة التي تشْملها في دائرة نقَّاد الرِّجال.

1 - 4 - رواة الحديث الَّذين اتَّفق الإمامان على الإعراض عن الرِّواية عنْهم:

إذا ألقينا نظرةً فاحصة على تراجِم الرواة الَّذين اتَّفق الإمامان بالإعراض عن الرواية عنْهم، فإنَّنا نجد بينهم مَن قد حاز على توثيق أساطينِ هذا الفنِّ؛ كشعبة، ويحيى بن معين، وآخرين اختُلِف فيهم بين توثيق وتضعيف، وفئة ثالثة ضعِّفوا إلاَّ أنَّ النقَّاد لم يتوقَّفوا في الرِّواية عنْهم، كذلك هناك فئة أخيرة اتَّفق جهابذة الرِّجال بأقوالِهم عنْهم مع ما نقل عن ابن القطَّان وابن مهدي.

فمِن رواة الحديث الَّذين وُثِّقوا، ونقلت بعض الروايات في تَجريحهم، نذكر: إبراهيم بن العلاء الغنوي، أشعث بن سوار الكندي، جابر بن يزيد الجُعْفي، الحسن بن صالح بن حيّ الهمْداني، عبدالحميد بن بهرام الفزاري، ومبارك بن فضالة البصري.

أمَّا مَن تطابَق الحُكم النقْدي لأساطين هذا الفنِّ عليْهم من رواة الحديث، مع ما نُقِل من إعراض الإمامين بالرِّواية عنهم، فنذْكُر منهم: أبان بن أبي عيَّاش، إبراهيم بن يزيد الخوزي، إسماعيل بن رافع المديني، إسماعيل بن مسلم المكِّي، أصبغ بن نَباتة الحنْظلي، بِشر بن نُمَيْر القُشَيري، ثابت بن أبي صفيَّة الثُّمالي، ثويْر بن أبي فاختة، جُويبِر بن سعيد البَلْخي، الحسن بن دينار التميمي، داود بن يزيد الأَوْدي، سالم بن عبدالله الخيَّاط، السَّرِي بن إسماعيل الهمْداني، سليْمان بن يسير الكوفي، الصَّلت بن دينار، طريف بن شهاب السَّعدي، طلحة بن عمرو الحَضْرمي، عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عبدالوهاب بن مُجاهِد بن جبر المكِّي، عُبيدة بن معتِّب الضبِّي، عثمان بن مِقْسم البري، عمارة بن جوين العبدي، عمرو بن عبيد بن باب، الفضل بن عيسى الرَّقَاشي، المثنَّى بن الصبَّاح، محمَّد بن السَّائب المكِّي، محمَّد بن سالم الهمْداني، محمد بن عبيدالله بن ميْسرة، مسلم بن كَيْسان الضَّبي، ميمون القصَّاب الكوفي، نفيع بن الحارث الأعمى، يعقوب بن عطاء بن أبي رَباح، ويونس بن خباب الأسيدي.

أمَّا بقية المحدِّثين، فقد ضعَّف بعضهم دون توثيق، أو وثَّقهم البعض، وضعَّفهم آخرون، بَيْدَ أنَّ النُّقَّاد لم يُعْرضوا عنِ الرواية عنهم.

2 - 4 - الرواة الذين توقَّف ابن القطَّان في الرِّواية عنهم:

يقترن اسم الإمام يحيى بن القطَّان في كتب علوم الحديث بمعيار التشدُّد في نقد الرِّجال؛ لذا فليس بمستغربٍ أن نجد بين قائمة أسماء رُواة الحديث، الذين توقَّف في الرواية عنهم مَن أجمع أساطينُ الحديث ونُقَّادُه على توثيقه.

ومِمَّن أثار ضجَّةً في تضعيف ابن القطَّان له: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي، وعاصم بن سليمان الأحول، اللَّذان كانا من الثقات الحُفَّاظ، وكذلك أعرض صاحبنا عن جملة من المحدِّثين الثقات، وبعضُهم قد اجتاز قنطرة الشيخين: البخاري ومسلم، وبعضهم مِمَّن وثقهم جهابذة النُّقَّاد؛ كابن حنبل، وابن معين، وروى عنهم ابن مهدي، والنسائي - في بعض الأحيان - على تشدُّده وتعنُّته في الرِّجال، بَيْدَ أنَّ قائمته لم تخلُ من ضعفاء اتُّهِموا بعدم الضبط أو البدعة والدعوة إلى بدعتهم، وغيرها من الأمور التي تخرم العدالة.

فمِن الثقاتِ الذين أعرض عن الرِّواية عنهم: أبان بن عبدالله بن أبي حازم، حرب بن شدَّاد القصَّاب، شهر بن حَوْشَب الأشعري، عمر بن عامر السُّلمي، محمد بن إسحاق بن يسار، محمَّد بن عمرو بن علقمة اللَّيْثي، وهمام بن يحيى العوذي.

وإذا أردْنا أن نقفَ على مدار تشدُّده في إلْصاق تُهمةِ الضَّعف بهذه الطبقة من الرُّواة، لوجدناه يدور حولَ تشدُّده في ضبط الراوي للأخبار، والتدليس في الرِّوايات، أو اختلاطه بأَخَرَةٍ، مِمَّا نجم عنه اختلاطُ حديثه الجديد بالقديم، فَصَعُب تمييز صحيحِه مِن سقيمه.

3 - 4 - الرُّواة الذين تركهم ابن القطَّان وروى عنهم ابن مهدي:

يتجلَّى الفرق واضحًا بين المنهج النقديِّ الذي اعتمده كلٌّ من يحيى بن القطَّان، وعبدالرحمن بن مهدي في هذه الفِئة من المحدِّثين.

فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ إعراض ابن القطَّان عن الرِّواية عن هؤلاءِ - يَعكِس تشدُّدَه في نقد الرِّجال، واعتمادَه منهجًا نقديًّا صارمًا في صيرفتهم، ويكاد الرِّجال الذين أعرض عنهم صاحبُنا، وروى عنهم ابن مهدي قد نُقِل توثيقُهم بالاتفاق في بعض المواضع، أو عن بعض الأئمَّة في مواضعَ أخرى، مع استثناءات محدودة؛ مثل: صالح بن أبي الخضر البصري، وعبدالله بن عمر بن حفص، وعبدالله بن محمَّد بن عقيل، وعمران بن داود بن القطَّان، والليث بن أبي سُليم، ويزيد بن أبان الرَّقَاشي.

وتَعنُّتُ ابن القطَّان بالإعراض عن هؤلاءِ الرِّجال له ما يُبرِّرُه وَفقَ منظورِه الشخصيِّ في نقد الرِّجال، باستثناء عدم توفُّر قرائن بين أيدينا تُبرِّر تضعيفَه لإسرائيل بن يونس السَّبيعي، الإمام المتقن، ويأتي بعدَه حرب بن شدَّاد.

4 - 4 - الرُّواة الذين حدَّث عنهم ابن القطَّان ثم تركهم:

وتَضمُّ هذه القائمة جملةً من المحدِّثين، الذين توفَّرت ليحيى بن القطَّان - بعد فترة من روايته عنهم - ما يجعله يُعيدُ النَّظر في صيرفتهم بمعيارٍ أشدَّ حداثةً، فينجم عن ذلك توقُّفه في الرِّواية عنهم، ويبدو أنَّ إعراضَه عن الرِّواية عن جابر الجُعفي كان نتيجةً لكثرة تدليسه في الرِّوايات، أمَّا تركُه للرِّواية عن عمرو بن عبيد فناجمٌ عن الضُّغوط، وكثرة نكير أئمَّة الحديث على رِوايته عن هذا المبتدع – في نظرهم - فاضطر مرغمًا إلى الإعراض عن روايته، وأمَّا تركه لرواية موسى بن يسار، ويحيى بن عبيدالله بن موهب، فيرجع إلى وقوفه على مواطن الضَّعف في مروياتهم؛ مِمَّا يجعلهما يفتقرانِ إلى أهلية اجتياز قنطرتِه، فأعرض عنهم بلا تردُّد.

5 - 4 - مَن تركه ابن القطَّان، ثم عاد فحدَّث عنه:

ويقع في هذه القائمة الراوي إسماعيل بن عبدالملك بن أبي الصفير الأسدي، فتضعيف ابن القطَّان له في البداية له ما يُبرِّره؛ لضعفِه، بَيْدَ أنَّ روايته عن سُفيانَ موثوقةٌ، يمكن الرُّكون إلى صِحتها، فعاد للرواية عنه في مساحة محدَّدة من الرِّوايات التي تقتصر على مساحة مروياته عن سفيان؛ لكثرة ملازمته إيَّاه، ووقوفه على أصوله الصَّحيحة التي تنأى عنها مخاوف الشكِّ والوهم.

6 - 4 - الرُّواة الذين تركهم ابن مهدي:

لم تخلُ قائمة الرُّواة الذين توقَّف الإمامُ ابن مهديٍّ في الرِّواية عنهم مِمَّن قد وُثِّق، أو أخرج له الشيخان في صحيحيهما، أو أصحاب الكتب الأربعة، منهم: أبان بن أبي حازم البجلي، وإسماعيل بن عيَّاش العنسي، الحسن بن صالح بن حي، زفر بن الهُذيل بن قيس، علي بن صالح الهَمْداني، عنبسة بن سعيد القطَّان، فليح بن سليمان المدني، كامل بن العلاء السَّعدي، ومسلمة بن علقمة المازني.

ولا يخرج تضعيفُ هؤلاءِ عن دائرة المعيار النقديِّ الذي اعتمدَه في صيرفته للرِّجال، والذي يختلف بين ناقدٍ وآخرَ، فتَضعيفُه للحسن بن صالح بن حي؛ بسبب تشيُّعه وتركِه لصلاة الجمعة؛ لتشدُّدِه في هذا الجانب، وإعراضه عن الرِّواية عن زفر بن الهُذيل؛ لأنَّه كان في عدادِ مدرسة أصحاب الرأي الذين يناوئهم بشدَّةٍ أهلُ الحديث، وهو مِن عِدادهم.

7 - 4 - الرُّواة الذين تركهم ابن مهدي، وروى عنهم ابن القطَّان:

لا يظهر لدينا واضحًا من تراجم الرِّجال الذين يقعون في هذه الدَّائرة ما يُلْقِي الضَّوء على الاختلاف بين الإمامين في الحُكم على الرِّجال، فمَن تركهم ابن مهدي، قد ضُعِّفوا من أئمَّة الشأن؛ لِعِللٍ تقع في ساحتي الدِّراية والرِّواية، ولا عَلاقة لها ببدعة، أو تنافُس شخصي نَجَم عن معاصرة، أو اختلافٍ في العقيدة والرَّأي.

إذًا؛ ليس هناك ما يُبرِّر فِعلَه بتركهم، بينما قد روى عنهم ابن القطَّان - رغمَ تشدُّده - سوى أنَّ لكلِّ ناقد دائرةً يقع داخلَ حدودها الرِّجال الذين نالوا توثيقَه بمعياره النقديِّ، ومَن يقع خارجَها فهو ضعيفٌ، لا يميل إلى الرِّواية عنه.

8 - 4 - الرُّواة الذين حدَّث عنهم ابن مهدي، ثم أعرض عنهم:

ويبدو من قائمة هؤلاءِ الرُّواة أنَّ ابن مهدي قد أصبح أكثرَ صرامةً في نقد الرِّجال، فأعرض عمَّن روى عنهم في البداية متجاوزًا لبعض مواطن الخلل الملتصقِ بهم أو بمروياتهم، ثم عاد فغرْبَلهم بمعيارٍ أكثرَ تشدُّدًا، فلم يَسْلَموا من تضعيفه، فأعرض عن الرِّواية عنهم.

5 - إعادة صياغة مفردات المنهج النقدي للإمامين:

ذكرْنا في بداية هذا الفصل ما توفَّر لدينا من مفرداتٍ مبثوثة في كتب الجرح والتعديل، ومصطلح الحديث وعلومه حولَ المنهج النقديِّ ليحيى بن سعيد القطَّان، وعبدالرحمن بن مهدي، بَيْدَ أنَّ سَبرَنَا لمواقفهم من الرُّواة بين قَبولٍ وإعراض أثْمَر عن الوقوف على مفردات جديدة، يمكن إضافتُها كَلَبِناتٍ إضافية إلى بناء منهجهم النقديِّ، مِمَّا يُوضِّح الصورة، ويكشف اللَّبْس؛ لذا سنحاول بيانَ ما تمَّ التوصل إليه عن كلٍّ منهم، إضافةً إلى ما ذكرناه في الفِقرتين (2، 3) في بداية هذا الفصل.