• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    ماذا سيخسر العالم بموتك؟ (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    فقه الطهارة والصلاة والصيام للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    ثمرة محبة الله للعبد (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    خطبة: القلق من المستقبل
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    فوائد وعبر من قصة يوشع بن نون عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    خطبة: المخدرات والمسكرات
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    {وما النصر إلا من عند الله} ورسائل للمسلمين
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرزاق، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة
    عبد رب الصالحين أبو ضيف العتموني
  •  
    فضل الصبر على المدين
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    تفسير قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ...
    سعيد مصطفى دياب
  •  
    محاسن الإرث في الإسلام (خطبة)
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    تفسير: (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    علامات الساعة (2)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    ما جاء في فصل الصيف
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

الفتح المبين في الحديبية

الفتح المبين في الحديبية
د. محمد زيتون

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 31/7/2012 ميلادي - 12/9/1433 هجري

الزيارات: 49731

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الفتح المبين في الحديبية


مضى على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة ستُّ سنواتٍ منذ هجرته، قضاها في نضالٍ مستمرٍّ ضدَّ القوى التي ناوَأته، من مشركي مكة وغيرهم من اليهود.

 

وقد تمكَّن خلال هذه الفترة من تأمين الدولة الإسلامية الناشئة، وتطهير المدينة -عاصمتِها- من اليهود، ورَدِّ كل مَن تحدِّثه نفسُه بالاعتداءِ عليها، أو الوقوفِ في وجهِ الدعوة الإسلامية.

 

وعندما أقبل شهر "ذو القعدة الحرام" من السنة السادسة من الهجرة، أعلن الرسول - عليه الصلاة والسلام - في أصحابه وفيمَن يحيط بالمدينة من قبائل العرب، أنه خارج مع أصحابه إلى مكة معتمرًا، ومعظِّمًا للبيت الحرام الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا، والذي يتوجَّه المسلمون إليه في صلاتهم، بعد أن ولَّى الله وجوهَهم شَطْرَه: ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة : 144].

 

إن في اعتمار المسلمين إلى البيت الحرام عودةٌ إلى المكان الذي أُكْرِه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على الخروج منه منذ ست سنوات، وإن زيارة البيت مسموحٌ بها لكلِّ عرب الجزيرة على اختلاف أديانهم وعقائدهم، فيكون للمسلمين مثلما لعرب الجزيرة من الطواف حول البيت الحرام وتعظيمه، وقد قصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة في الشهر الحرام، وساق الهَدْي أمامه، دليلاً على أنه إنما خرج معتمرًا لا يريد حربًا، وإنما يريد أداء النُّسُك، بل زاد حرصًا على إظهار قصده، فخرج بالسيوف فقط في قربها، ليس معه معدَّات لقتال.

 

إنه لا يبغي حربًا بل سلمًا، ومن يدري؟ فلعله اتخذ ذلك وسيلة لتغيير العلاقة الحربية القائمة بينه وبين قريش منذ ست سنوات سُفِكت فيها الدماء، لعل قريشًا تعود إلى رشدها، وتفكِّر في أمرها، فيقودها التفكير إلى هدايتها، أو إلى طرْق سُبلاً أخرى للسلام، فيها صلاحُها وصلاحُ المسلمين، ودعوتهم في ظلالها، فإن أَبَت قريش، فقد أعلن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج على العرب جميعًا تعنُّت قريش وبغْيها بمنْع المسلمين في الشهر الحرام، وصدهم عن تعظيم البيت الحرام، وهو ما لا يحل عند العرب جميعًا، ولعل هذا يدعو العرب جميعًا إلى التفكير من جديد في أمر الإسلام والمسلمين.

 

وقد خرج الرسول -عليه السلام- من المدينة ومعه ألف وأربعمائة من المسلمين، تتقدَّمهم سبعون بَدَنة هديةً لبيت الله الحرام، وأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- حَذَره، فبعث بين يديه عينًا له من خُزَاعة يُخبره عن قريش[1]، وسار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مُلَبِّين، حتى وصل إلى عُسْفان، فلَقِيَه عينُه، فأخبره بأن قريشًا قد علمت بخروجه قاصدًا مكة، فاجتمع رأيها على منعِه من دخولها عليهم عَنْوَة، وقدمت جماعة من فرسانها إلى ذي طُوًى؛ ليمنعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -عليه السلام- معلِّقًا على منع قريش له، وتصدِّيها لحربه مع انتصاره عليها في المواقع التي خاضتها ضده: ((يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خَلُّوا بيني وبين سائر العرب؛ فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا، قاتلوا وبهم قوَّة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة[2]؟)).

 

ولم يُرِد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتصدَّى لخيل قريش، فغيَّر طريقه، سالكًا طريق المرار مع صعوبته وشدته، حتى نزل الحديبية - التي تبعد عن مكة من ناحية الشمال ما يقرب من خمسة عشرَ كيلو مترًا - وهنا يأتي توجيه إلهيٌّ إلى الرسول -عليه السلام- بالحرص على المسالمة مهما كانت الظروف، فقد بركت ناقةُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- القَصْواء، وقال الناس: خَلأَتْ - مثل الحران للفرس – فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما خَلأَتْ، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة، يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتُهم إياها))، ثم قال للناس: ((انزلوا))، وأُخْبِر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقلَّة الماء في المكان الذي نزل فيه، فأخرج الرسول - عليه السلام - سهمًا من كِنانته، وأعطاه "لنَاجية بن عُمير" سائق هدي رسول الله - عليه السلام - فغَرَزه في جوف قَليبٍ هناك، فجاش الماء بالرِّيِّ، حتى ضرب الناس عليه بعَطَن[3].

 

السفارة بين قريش والرسول - عليه الصلاة والسلام -:

صار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على بُعْد مرحلة من مكة، فرأت قريش أن تبعث الرسل إليه؛ لتتبيَّن حقيقة قصده، ومقدار استعداده وقوته، ربما ينجحون في ردِّه عن مكة بدون حرب، ثم لكي تستطيع أن تستعدي العدد الكثير من العرب، لمقاتلته ودفْعه عن مكة، عندما يتبيَّن لهم أنه لا يقبل التفاهم دون تحقيق ما يريد.

 

وكان أول رسل قريش إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - "بُديل بن وَرْقاء" مع رجال من خُزَاعة، أتوه فكلموه وسألوه: ما الذي جاء بك؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربًا، وإنما جاء زائرًا للبيت، ومعظِّمًا لحُرمته، فرجعوا إلى قريش؛ ليبيِّنوا لهم أن محمدًا لم يأت لحربهم وقتالهم، وإنما جاء زائرًا للبيت، وإن قريشًا تتعجَّل الحكم على محمد وأصحابه، وإن من الخير أن يتركوه وأصحابه يطوفون بالبيت العتيق، لكنَّ قريشًا اتَّهموهم، وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً، فو الله لا يدخلها علينا عَنْوَة أبدًا، ولا تحدَّثُ بذلك عنا العرب.

 

ثم أرسلت قريش "مِكْرِز بن حَفْص"، فرجع بما رجع به "بُدَيل" وأصحابه، فأرسلت قريش سيد الأحابيش "الحُلَيس بن عَلْقمة"، فلما رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقبلاً، أمر بإطلاق الهدي؛ ليكون خيرَ دليلٍ على قصدِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من القدوم إلى مكة، فلما رأى "الحُلَيس" الهدي، تأثَّرت نفسه، وعاد قبل أن يصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليحذِّر قريشًا من منْع محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من زيارة البيت الحرام.

 

استعانت قريش عند ذلك "بعُرْوة بن مسعود الثَّقفي"، فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَمِيله ويُحذِّره، وقال له: أَيْ محمد، أرأيتَ إن استأصلتَ قومَك، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك، وإن تكن الأخرى، فو الله إني لأَرَى وجوهًا وأَوْشابًا من الناس خَلْقًا أن يفرُّوا ويدَعوك"، فأنكر أبو بكر على عُرْوَة رميَهم بالفرار، وكان "المغيرة بن شُعبة" يمنع يد "عُرْوَة" عندما كان يحاول أن يمس لِحْيَة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعاد عروة إلى قريش، وقد امتلأ إجلالاً بما رأى من تعظيم المسلمين للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخبر قريشًا بأن محمدًا ما جاء للحرب، وإنما جاء معظِّمًا للبيت، ومع ذلك تمسَّكت قريش بمنعه من دخول مكة.

 

وأثناء ذلك اقترب بعض فرسان قريش من مواقع المسلمين، فقُبِض عليهم، وأُحْضِروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبالَغ الرسول في حرصه على السِّلْم، وعفا عنهم.

 

وقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرسل إلى قريش مَن يبلِّغها بقصده، ويبيِّن لها هدفه، لعلها تَقْتنع بذلك، فتخلِّي بينه وبين البيت الحرام، فلا تُسْفَك الدماء في الشهر الحرام والبلاد الحرام، بل يحفظ لهما حُرمتهما، وقد اختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- "عثمان بن عفَّان" ليقوم بهذه المهمة؛ لِمَا له من صلات القرابة في مكة - والتي تحميه إذا ما تعرَّض لسوء - فذهب إليهم، ودخل مكة في جوار "أبان بن سعيد بن العاص"، واستطاع "عثمان" أن يبلغ أبا سفيان وزعماء قريش هدف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من القدوم إلى مكة، ولكنَّ قريشًا استمرَّت في عنادها، وأصرَّت على منع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من دخولهم مكة عليهم عَنْوَة، وطال مكث "عثمان" في مكة، وشاع بين المسلمين أن عثمان قد قُتِل.

 

هنا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : ((لا نبرح حتى نُنَاجِز القوم))، ودعا أصحابه لمبايعته - وهو تحت شجرة في هذا الوادي - على مناجزة القوم، وعدم الفرار حتى الموت؛ انتقامًا لغدرهم بعثمان، فبايعوه بقلوب ثابتة الإيمان، راسخة العقيدة، مُمتلئة بالحماس لمناجزة الغادرين، وهي "بيعة الرضوان" التي ذكرها الله بقوله: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وبعد مبايعة المسلمين ضَرَب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإحدى يديه على الأخرى، وقال: ((هذه لعثمان)) كأنه حاضرٌ معهم بيعة الرضوان.

 

كان ذلك إيذانًا بانطلاق شَرَارة القتال في الشهر الحرام والبلد الحرام، غير أن عثمان عاد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد احتباسه، يبيِّن للرسول -صلى الله عليه وسلم- وجهة نظر قريش، في أنها ترى أن دخول المسلمين مكة هذا العام، سيُضعف من منزلتها ومكانتها بين العرب، وهي لا تريد خوض غمار الحرب في الأشهر الحرم، ولكنها إذا اضطرت إليها خاضتها؛ حفاظًا على منزلتها ومكانتها، ورغَّبت قريش في الصلح، وأرسلت "سُهَيل بن عمرو"، وقالت له: "ائت محمدًا، فَصَالِحْه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه، فو الله، لا تحدَّثُ العرب عنا أنه دخلها علينا عَنْوَة أبدًا"[4]، وجَرَت بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسُهَيل مفاوضات، تجلَّت فيها رغبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحرصه على إقرار السلام، والبعد عن الحرب والقتال، وانتهت المفاوضات إلى شروط الصلح التالية:

1- إيقاف القتال بين المسلمين وقريش عشر سنين، يَأْمَن فيهنَّ الناس، ويكف بعضهم عن بعض.

 

2- من أتى محمدًا مَن قريش بغير إذن وليِّه، رَدَّه عليهم، ومَن جاء قريشًا ممن مع محمد، لم يردُّوه عليه.

 

3- ليس هناك تصافٍ أو مودة بين الفريقين، وإنما القلوب منطوية على ما فيها، ولكن لا سَرِقة ولا خيانة.

 

4- مَن أحبَّ أن يدخل في عَقْد محمد وعهده، دخل فيه، ومَن أحبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، دخل فيه.

 

5- يَرْجع محمد وأصحابُه عامَهم هذا لا يدخلون مكة، فإذا كان العام القادم، خرَجت قريش من مكة ثلاثة أيام، ثم يدخلها المسلمون، فيُقيمون بها ثلاثة أيام ليس معهم إلا سلاح الراكب: السيوف في القِرَب".

 

وقد تساهل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع مفاوِض قريش أثناء كتابة وثيقة الصلح، حتى إن كثيرًا من المسلمين تألَّموا لذلك، ورأوا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد تنازل في الصلح عن كثيرٍ مما كان يجب أن يَحْصلوا عليه، وخاصة في شرط رَدِّ مَن جاء إلى المسلمين ناجيًا من اضطهاد قريش؛ مثل "أبي جَنْدَل"، وغيره من المستضعفين، ولكن الرسول - عليه الصلاة والسلام - وَفَى بعهده، وقال لأبي جندل: ((اصبر واحتَسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نَغْدِر بهم))[5].

 

وبعد أن تمَّ الصلح، طلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه أن يتحلَّلوا ويَحْلِقوا، ولكن الغمَّ الذي يشعرون به - لِما في شروط الصلح من إِجْحَافٍ بهم - جعلهم يتأخَّرون عن تنفيذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم.

 

ودخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على زوجه "أم سلمة"، فأخبرها بما لقِي من الناس، فكانت مشورتها الحكيمة له - والتي تحفظها لها الأيام - دليلاً على وجود الحكمة في الرجال والنساء، قالت له: "يا نبي الله، أتحبُّ ذلك، اخرجْ ثم لا تكلِّم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحَر بَدَنَتك، وتدعو حالقك فيحلقَك"، فقام، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم كلمة، حتى فعل ذلك[6]، فلما رأى المسلمون ذلك، قاموا مُسرعين يَنْحَرون هَدْيَهم، ويَحْلِق بعضهم بعضًا، حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا غمًّا لِمَا حلَّ بهم من شروط الصلح، ولتأخُّرِهم في تنفيذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

نتائج صلح الحديبية:

ظن كثير من المسلمين لأول وَهْلَة، أن شروط صلح الحديبية فيها كثير من الغَبْن والضَّيْم على المسلمين، حتى راجع عمرُ أبا بكر في ذلك، فقال له أبو بكر: الزم غَرْزَه - أي رسول الله - فإني أشهد أنه رسول الله، وراجع عمرُ رسولَ الله، وقال له: عَلاَمَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا؟! فقال له: ((أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيَّعني)).

 

والحقيقة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد سَمَا فوق الساسة والقادة والحكماء، عندما قَبِل هذه الشروط، فقد كان ينظر إلى الأُفق البعيد بثقة وعزيمة، تُحيط به السكينة والطُّمَأنينة، ولذلك قال لعمر: ((أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيَّعني)).

 

وقد تحقَّق ذلك عقب توقيع الصلح بالنسبة لمستقبل الإسلام والمسلمين، فكان توقيعه اعترافَ قريش بالدولة الإسلامية وقيامها، ثم إنها اعترفت بحق المسلمين في زيارة البيت وإقامة شعائرهم فيه، فأصبح دينُهم من الأديان المعتَرف بها في الجزيرة، وكانت الهُدنة بين المسلمين وقريش من أعظم الفتوح، فقد أَمِن الناس بعضهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار، وحادثوهم في الدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرةً آمنين، وظهَر مَن كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهُدْنة مَن شاء الله أن يدخل، ولهذا سمَّاه الله: فتحًا مبينًا.

 

فقد دخل في السنتين التاليتين لصلح الحديبية مثلُ ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر[7]، فقد كان مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية ألفٌ وأربعمائة، وعندما خرج بعد ذلك بسنتين لفتح مكة، كان جيشه يضم عشرة آلاف مسلم.

 

وصدق الله عندما سمَّى ذلك بالفتح: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح : 1 - 3].

 

أما الشرط الذي أثار حفيظة المسلمين بردهم مَن جاء إليهم مسلمًا إلى الكفار، فقد تحقَّق فيهم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن الله سيجعل لهم فرجًا ومخرجًا، عندما صار "أبو جَنْدل" و"أبو بصير" والمستضعفون معهما، يهدِّدون تجارة قريش، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه، فهو آمِن، فآواهم رسول الله، فقدِموا عليه المدينة.

 

لقد كان صلح الحديبية تحولاً للعلاقة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش من الحرب والقتال، إلى السلم والأمان، وإلى تحكيم العقل بعد أن فشِل السيف في حسم هذه العلاقة، وكان كسبًا للمسلمين وتثبيتًا لهم، ونشرًا الإسلام، ورفعًا لرأيته في داخل الجزيرة وتمهيدًا؛ لكي يمتد شعاعه إلى خارج الجزيرة بمخاطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد الصلح لأمراء وملوك ورؤساء الدول على أطراف الجزيرة وخارجها، فكيف كان ذلك؟

 

عالمية الدعوة الإسلامية:

بعد عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من صلح الحديبية، خرج على أصحابه، فقال لهم: ((إني بُعِثت رحمةً وكافةً، فأَدُّوا عنِّي يرحمكم الله، ولا تختلفوا عليَّ كاختلاف الحوارِيِّين على عيسى ابن مريم))، قالوا: يا رسول الله، وكيف كان اختلافهم؟ قال: ((دعا إلى مثل ما دعوتكم إليه، فأما مَن قَرُب به، فأجاب وسلَّم، وأما مَن بَعُد به، فكَرِهَ وأبى، فشكا ذلك منهم عيسى إلى الله - عز وجل - فأصبحوا من ليلتهم تلك، وكل رجل منهم يتكلَّم بلغة القوم الذين بُعِث إليهم، فقال عيسى: هذا أمر قد عزَم الله لكم عليه، فامضوا))[8].

 

ولم يُحْجِم أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المهمة التي كُلِّف بها؛ سواء وُجِّه إلى أطراف الجزيرة، أم إلى خارجها: فذهب "دِحْيَة بن خليفة الكَلْبِي" إلى قَيْصر الروم، و"حاطب بن أبي بَلْتَعة" إلى المُقَوقِس في مصر، و"شجاع بن وهب" إلى الحارث بن أبي شِمْر الغَسَّاني، و"عبدالله بن حُذَافة السَّهْمِي" إلى كسرى، و"عمرو ابن أمية الضمري" إلى النجاشي، و"سَلِيط بن عمرو" إلى هَوْذَة بن علي الحنفي صاحب اليَمامة، و"العلاء بن الحضرمي" إلى المنذر بن سَاوَى صاحب البحرين، كما أرسل بعد ذلك "عمرو بن العاص" إلى جَيْفَر بن جَلَنْدِي، وعبَّاد بن جَلَنْدِي الأزْديين صاحبي عمان.

 

وكان كلُّ رسول يحمل كتابًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الملك أو الأمير الذي وُجِّه إليه، وفي الكتاب دعوة صريحة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك الأمير أو الملك؛ لكي يتبع الهُدَى، ويؤمن ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقرَّ بواحدنية الله، هو ومَن تحت حكمه، فإن أبى، فعليه إثمه وإثمه مَن هم تحت حكمه وسلطانه.

 

ويكفي أن نذكر كتابًا من هذه الكتب، فقد كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قيصر كتابًا، يقول فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على مَن اتبع الهدى.

 

أما بعدُ:

فإني أدعوك بدَعَاية الإسلام، أَسْلِم تَسْلَم، يؤتِك الله أجْرك مرتين؛ فإن تولَّيتَ فإن عليك إثمَ الأَكَّارِين - الفلاحين.

 

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران : 64])).

 

إن هذه الكتب دعوة صريحة إلى الهداية الإسلامية، بدون سلب لسلطة أحد من الحكام، وقد اختلف موقف كل حاكم من هذه الدعوة.

 

فنجد الصغار أو التابعين من العرب للروم، يَرُدُّون ردَّا خَشِنًا، فقد قال الحارث الغساني صاحب دمشق، عندما قرأ كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : مَن ينزع مني ملكي، أنا سائر إليه، وأخذ يستعد لقتال المسلمين.

 

بينما نجد التابعين للروم من غير العرب كالمُقَوْقِس يَرُدُّ رَدًّا جميلاً، فقد أجاب بخطاب يقول فيه: لمحمد بن عبدالله من المُقَوقس عظيم القِبْط، سلام عليك.

 

أما بعدُ:

فقد قرأتُ كتابك، وفهمتُ ما ذكرتَ فيه، وتدعو إليه، وقد علمتُ أن نبيًّا قد بقِي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسولَك، وبعثتُ لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القِبْط، وبثياب، وأهديتُ لك بغلةً تركبها[9].

 

أما من هم تحت سلطان الفرس من العرب، فقد رَدُّوا إلى البحرين المنذر بن سَاوَى بقبوله للإسلام، وأسلم جميع العرب بالبحرين، وأقرَّ اليهود والنصارى والمجوس بالبحرين بدفع الجزية[10].

 

ورَدَّ هَوْذَة بن علي ملك اليمامة - وكان نصرانيًّا - بإرسال وفد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعرض عليه قَبول الإسلام، والقدوم إلى الرسول لنُصرته، بشرط أن يكون الأمر له من بعده، وإلا قصَد حربه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((لا، ولا كرامة، اللهم اكْفنيه))، فمات بعد قليل[11].

 

وكانت الصلات بين المسلمين والحبشة منذ إعلان الدعوة، من العوامل التي جعلت النجاشي يَرُدُّ رَدًّا كريمًا،ٍ بل يذكر الطبري[12] قبول النجاشي للإسلام، وعرضه القدوم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن رغب، فهو يشهد أن ما جاء به هو الحق.

 

بهذه الإجابات رَدَّت الولايات والممالك الصغيرة المستقلة أو التابعة للدولتين العظميين آنذاك فارس والروم.

 

أما هِرَقْل ملك الروم، فقد أتاه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في أَوْج انتصاره على الفرس، وكان قادمًا إلى بيت المقدس، شكر الله على انتصاره، ويذكر المؤرخون: أن هرقل حاول أن يستقصي المعلومات عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم حاول أن يكتسب ثقة كبار رجال المملكة، عارضًا عليهم متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أنهم ثاروا عليه، فأحضر رسولَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إليه، وأعلمه بأن صاحبه نبي مرسل، وأنه الذي كان النصارى ينتظرونه ويجدونه في كتابهم، إلا أنه يخاف الرومَ على نفسه، ولولا ذلك لاتَّبعه[13]، وهكذا فضَّل هِرَقْل مُلْكَه على الهداية إلى الإسلام، فزال ملكه من الشام في حياته على أيدي المسلمين بعد بضع سنين.

 

أما كِسْرى عظيم فارس، فقد رَدَّ ردًّا قبيحًا، فمزق كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندما علِم -صلى الله عليه وسلم- الرسول بذلك، قال: ((مزَّق الله مُلكه))، وقد تمادى كِسْرَى في غيِّه، فكتب إلى بَاذان عامله على اليمن أن يبعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحجاز رجلين جَلْدين؛ ليأتياه به، ونفَّذ بَاذان ما طلبه كِسْرَى، وقدِم مبعوثا باذان إلى الطائف، والتَقيا برجال من قريش، فسألاهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هو بالمدينة، وقد فرِح القرشيون لثورة كِسْرَى على الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستبشروا، وقالوا: قد نَصَب له كِسْرَى ملك الملوك، كُفِيتم الرجل[14].

 

وعندما وصل مبعوثا باذان إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبره أحدهما بأن شَاهِنْشَاه ملك الملوك كِسْرَى، قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك مَن يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلتَ، كَتَب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفُّه عنك، وإن أبيتَ، فهو مَن قد علِمت! فهو مُهلكك، ومهلك قومك، ومخرِّب بلادك.

 

وتعجَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وقاحة مبعوثي باذان، وأمرهما بالعودة من حيث أتيا، وأن يخبرا والي اليمن بأن الله قد سلَّط على كِسْرَى مَن قتله لعشر ليالٍ من "جُمَادي الأولى" من سنة سبع من الهجرة، وأن دين الإسلام وسلطانه سيبلغ ما بلغ مُلْك كِسْرَى، وينتهي إلى منتهى الخُفِّ والحافر، وأن يخبره بأنه إن أسلم، أعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما تحت يده وملكه على قومه من الأبناء.

 

وقد شعر باذان بالصدق في رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: ما هذا بكلام مَلِك، وإني لأرى الرجل نبيًّا، وقد تحقَّق له ذلك عندما قدِم الخبر إليه من فارس بقتل كِسْرَى، فأسلم باذان، وأسلم الأبناء معه من فارس الذين كانوا معه باليمن، وكان إسلام باذان عاملاً على نشر الإسلام في اليمن، حيث تحوَّلت إلى نقطة ارتكاز قوية للإسلام في جنوب الجزيرة العربية.

 

هذه لمحةٌ خاطفةٌ إلى كُتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والأمراء، وهي لا تقتصر أهميتها على توسيع محيط الدعوة إلى هذه الإمارات والإمبراطوريات، وإنما تتركَّز الأهمية القصوى لهذه الكتب، في رسم الطريق السليم الذي ستسير فيه الدعوة لمن يأتي من بعد الرسول - عليه السلام - وفي توضيح المهمَّة الكبرى المُلْقَاة على كاهل أتباعه، ثم وضْع الأسس المتينة أمام الأمة بالنسبة للناس جميعًا، بقطع النظر عن الإمارات الصغيرة أو الممالك الكبيرة، فهم حملة هداية السماء، وواجبهم هو تبليغ هذه الهداية، بحيث لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا تصل إلى قلوبهم رهبة أو خشية، عندما يقفوا أمام هذه الممالك وجيوشها الضخمة وجهًا لوجهٍ، لأجل تبليغ الدعوة إلى مَن في سلطانهم، وتحت حكمهم وتصرُّفهم، غير مُنْصِتين إلى ما قد يجيب به هؤلاء الملوك أو الأمراء.

 

ألم تكن قريش وكثير من قبائل العرب في الماضي، تستهزئ بهم وتسخر منهم، فتحمَّلوا ذلك بصبر وشجاعة، إلى أن وضعت الحرب أَوْزَارها في صلح الحديبية، واعترفوا بهم؟

 

فليجأ المسلمون إلى غير العرب من الفرس والروم غير آبِهِينَ بما قد يُبْدِيه بعضهم من سخرية أو استهزاء، أو تحدٍّ ومحاربة.

 

وبذلك كانت هذه الكتب مَعْلَمًا على طريق الدعوة، وتخطيطًا لمستقبلها الذي يجب أن تسير فيه، مُتَخَطِّيَة كل ما قد يعترضها في المستقبل من الصعاب والمشقات، ما دامت تسير في الطريق الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

عمرة القضاء:

خلال العام الذي أُجِّلت فيه زيارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه للبيت الحرام، أنفذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كُتبه إلى الملوك والأمراء، وتمكَّن المسلمون من خَضْد شوكة اليهود في خيبر، والانتصار عليهم، وشَلِّ حركتهم؛ حتى لا يكونوا أداة قوية من المسلمين.

 

وعندما أوشك العام السابع للهجرة على الانتهاء، توجَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في "ذي القعدة" إلى مكة، وقد بلغ تَعدادهم ألفين، خرجوا يسوقون الهَدْي، وترتفع أصواتهم بالتلبية تعظيمًا لله ولبيته الحرام، ولم يأخذ المسلمون معهم سوى السيوف في القِرَب، ولكن الرسول - عليه السلام - كان يخشى الغدر، فحمَل السلاح، والدروع، والرماح، وقَدَّم مائة فارس أمامه، عليها "محمد بن مَسْلَمَة"، وكانوا طليعة له، على ألا يتخطَّوا حَرم مكة، وقدم السلاح إلى بطن "يَأْجَج"؛ حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلَّف عليه "أَوْس بن خَوْلي الأنصاري" في مائتي رجل[15]، وأمرهم باليقظة؛ ليتمكَّنوا من نجدة المسلمين إذا حاوَل المشركون الغدر بهم.

 

سار المسلمون في طريقهم، يدفعهم الشوق، ويملؤهم الفرح، وخاصة المهاجرين لعودتهم لزيارة بيت الله الحرام، ومشاهدة مهْد طفولتهم وصباهم وهم آمنون مطمئنون.

 

وخرجت قريش من مكة؛ حتى لا يدخلها محمد -عليه السلام- حسَب شروط صلح الحديبية، ولكنهم أطلُّوا من قِمَم الجبال على المسلمين، وهم يدخلون مكة محيطين بالرسول - عليه الصلاة والسلام - وعندما رأوا البيت الحرام، ارتفعت أصواتهم بتلبية الله وحده، على نُصرته لهم: لبيك اللهم لبيك، لا إله إلا الله وحدَه، صدق وعدَه، ونصر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزاب وحدَه.

 

وعندما دخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسجد اضطبع[16] بردائه، وأخرج عَضُدَه اليمنى، ثم قال: رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن عند الحجر الأسود، وهرول، وهرول أصحابه معه، حتى إذا استلم الركن اليماني مَشى، حتى استلم الحجر الأسود مهرولاً من جديد ثلاثة أطواف، ومشى سائرها، ثم سعى بين الصفا والمروة، ونحر الهدْي تقرُّبًا إلى الله تعالى، ومكث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في مكة ثلاثة أيام، يصلُّون في البيت الحرام، ويؤذِّن "بلال" على ظهر الكعبة، ولا يصيبهم أذًى، أو نصَبٌ، ولا يتعرض لهم أحد بسوءٍ.

 

وقد تزوَّج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث الهِلاَليَّة.

 

وكانت الأيام الثلاثة قد انتهت، فأتاه سُهَيل بن عمرو، وحُوَيطب بن عبد العُزَّى، وقالا له: قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، وأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يزيد من صلات الأمان والتقارب بينه وبين أهل مكة؛ لعله يتمكن بالطريق السلمي من فتح مغاليق قلوبهم، وأن يزيل النفور بين المسلمين والمشركين، فقال لهم: ما عليكم لو تركتموني، فأعرَست بين أظهركم، فصَنعنا لكم طعامًا فحضرتموه؟ قالا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا، فغادر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة قاصدًا المدينة، التزامًا منهم بالوفاء بالصلح الذي وقع بينهم.

 

وقد كان لعمرة القضاء أثرٌ كبير في نفوس كثير من أهل مكة؛ حيث حملت عددًا من كبرائهم على اعتناق الإسلام، وعلى رأسهم "خالد بن الوليد" فارس قريش، و"عمرو بن العاص"، و"عثمان بن طلحة" حارس الكعبة، فقَدِموا إلى المدينة، وأعلنوا إسلامهم، وانضموا إلى صفوف المسلمين.



[1] زاد المعاد؛ لابن القيم، ج 2، ص 123.

[2] ابن هشام السيرة 3/ 309 .

[3] الطبري 2/ 624 .

[4] انظر: طبقات ابن سعد 2/ 70، ابن القيم زاد المعاد 2/ 126.

[5] ابن هشام السيرة 2/ 318.

[6] انظر الطبري 2/ 637.

[7] انظر: ابن القيم زاد المعاد 2/ 130، الطبري 1/ 638، ابن هشام 2/ 322 .

[8] الطبري 2/ 645.

[9] فقه السيرة؛ الشيخ محمد الغزالي، ص 387.

[10] الكامل؛ لابن الأثير 2/ 215.

[11] الكامل؛ لابن الأثير 2/ 215.

[12] الطبري 2/ 652.

[13] الطبري 2/ 650.

[14] نفس المراجع 2/ 655.

[15] الطبقات؛ لابن سعد 2/ 87.

[16] اضطبع بردائه: أدخل بعضه تحت عضده اليمنى، وجعل طرفه على مَنكبه الأيسر.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • صلح الحديبية- دراسة دعوية
  • صلح الحديبية
  • أحداث صلح الحديبية وموقف قريش من المسلمين
  • صلح الحديبية والمفاوضات بين المسلمين والمشركين
  • عمرة القضاء
  • الوفاء والحلم وإيثار الحق في غزوة الحديبية
  • حديث صلح الحديبية
  • سياسة الحوار في صلح الحديبية
  • الفتح المبين على كتاب نور اليقين للعلامة محمد راغب الطباخ

مختارات من الشبكة

  • فتحان في رمضان!(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الحديبية الفتح المبين والنصر العظيم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الفتح المبين في أحكام التعليم والمعلمين (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفتح المبين بشرح منظومة أحمد بن عماد الدين(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفتح المبين في شرح الأربعين (النسخة 24)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفتح المبين بشرح الأربعين (النسخة 23)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفتح المبين لشرح الأربعين (النسخة 20)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفتح المبين بشرح الأربعين (النسخة 22)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفتح المبين بشرح الأربعين (النسخة 21)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفتح المبين بشرح الأربعين (النسخة 20)(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب